الهجرات المتعددة للحبشة
كانت الهجرة إلى أرض الحبشة مرتين، فكان عدد المهاجرين في المرة الأولى اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، ثم رجعوا عندما بلغهم عن المشركين سجودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قراءة سورة والنجم، فلقوا من المشركين أشد مما عهدوا، فهاجروا ثانية.
سبب العودة
وكان سبب رجوع الأولين الاثني عشر رجلاً ومن ذكر معهم من النساء، فيما روي:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يومًا على المشركين: {وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ} [النجم: 1] حتى بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ} [النجم: 19-20] ألقى الشيطان كلمتين على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد وسجد القوم جميعاً، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، و يقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ تراباً فسجد عليه، و يقال:
كلاهما فعل ذلك، فرضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فأما إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك، فكَبرُ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم، حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبر يل فعرض عليه السورة، فقال جبر يل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قلت على الله ما لم يقل“، فأوحى الله إليه: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] إلى قوله {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الإسراء: 75].
قالوا: ففشت تلك السجدة في الناس حتى بلغت أرض الحبشة، فقال القوم: عشائرنا أحب إلينا، فخرجوا راجعين، حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركباناً من كنانة، فسألوهم عن قريش، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير، فتابعه الملأ، ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم في الرجوع إلى أرضالحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا مكة، فندخل فننظر ما فيه قريش ويُحدث عهدًا من أراد بأهله، ثم يرجع، فدخلوا مكة، ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا
ابن مسعود ، فإنه مكث يسيراً ثم رجع إلى أرض الحبشة.
وقت رجوع المهاجرين
قال الواقدي: وكانوا خرجوا في رجب سنة خمس، فأقاموا شعبان وشهر رمضان، وكانت السجدة في شهر رمضان، فقدموا في شوال سنة خمس. قال السهيلي: ذكر هذا الخبر يعني خبر هذه السجدة: موسى بن عقبة، وابن إسحاق من غير طر يق البكائي.
الكلام حول صحة هذه الواقعة
وأهل الأصول يدفعون هذا الحديث بالحجة، ومن صححه قال فيه أقوالًا:
منها: أن الشيطان قال ذلك وأشاعه، والرسول لم ينطق به، وهذا جيد، لولا أن في حديثهم أن جبر يل قال لمحمد: ما أتيتك بهذا.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها من قبل نفسه، وعنى بها الملائكة أن شفاعتهم ترتجى.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها حاكياً عن الكفرة، وأنهم يقولون ذلك، فقالها متعجباً من كفرهم، قال: والحديث على ما خيلت غير مقطوع بصحته.
قلت: بلغني عن الحافظ عبد العظيم المنذري رحمه الله أنه كان يرد هذا الحديث من جهة الرواة بالكلية، وكان شيخنا الحافظ عبد المؤمن الدمياطي يخالفه في ذلك. والذي عندي في هذا الخبر أن جار مجرى ما يذُكر من أخبار هذا الباب من المغازي والسير. والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق وما لا حكم فيه من أخبار المغازي، وما يجرى
مجرى ذلك، وأنه يقبل فيها من لا يقبل في الحلال والحرام لعدم تعلق الأحكام بها، وأما هذا الخبر فينبغي بهذا الاعتبار أن يرد إلى ما يتعلق به إلا أن يثبت بسند لا مطعن فيه بوجه ولا سبيل إلى ذلك، فيرجع إلى تأويله.