بشارة الأنبياء بسيد المرسلين
قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس، وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به، والتصديق له، والنصر على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه، يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
{وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي} – أي ثقل ما حملتكم من عهدي- {قَالُوۤاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81].
فأخذ الله الميثاق عليهم جميعاً بالتصديق له والنصر، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم، وصدقهم من أهل هذين الكتابين.
نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمه عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم:
أنه كان من بدء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام رؤيا، فشق ذلك عليه، فذكر ذلك لصاحبته خديجة بنت خو يلد، فقالت له: أبشر فإن الله لا يصنع بك إلا خيراً، فذكر لها أنه رأى أن بطنه أخرج فطهر وغسل ثم أعيد كما كان، قالت: هذا خير فأبشر، ثم استعلن به جبر يل فأجلسه على ما شاء الله أن يجلسه عليه، وبشره برسالة ربه حتى اطمأن، ثم قال: اقرأ؟ قال: كيف أقرأ؟ قال: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ (3) ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ} [العلق: 1-4] . فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه، واتبع الذي جاء به جبر يل من عند الله، وانصرف إلى أهله، فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك الذي كنت أحدثك ورأيته في المنام، فإنه جبريل استعلن، فأخبرها بالذي جاءه من الله عز جل وسمع فقالت: أبشر فو الله لا يفعل الله بك إلا خيراً، فاقبل الذي أتاك الله، وأبشر فإنك رسول الله حقًّا .
طمأنة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم
وعن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة:
“إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر“، قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل ذلك بك، فو الله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكرت خديجة له، فقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده وقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة، فانطلقا إليه فقصا عليه، فقال: إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء من خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هارباً في الأرض، فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد يا محمد، قل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد للهّٰ رب العالمين، حتى بلغ: ولا الضالين، قال: لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: اثبت؛ فأنا أشهد أنك الذي بشَرّ به ابنُ مريم، وإنك على مثل ناموس موسى وإنك نبي مرسل، وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك، فلما توفي ورقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد رأيت القَسَّ في الجنة وعليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني ” يعني ورقة. عن أبي سلمة، قال: سألت جابر بن عبد الله، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، فنظرت عن يساري فلم أر شيئاً، فنظرت من خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً بين السماء والأرض، فأتيت خديجة فقلت: دثروني ، وصبوا عليَّ ماء باردًا، فدثروني وصبوا علي ماء باردا، فنزلت هذه الآية: {يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1-3].
أول ما نزل من القرآن العظيم
أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، أنها قالت:
كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلَقِ الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه- وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله و يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملَكَ ، فقال: اقرأ، فقال: “ما أنا بقارئ، قال: فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني“، فقال: اقرأ، قلت: “ما أنا بقارئ، قال: فأخذني، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال“: اقرأ، قلت: “ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ (3) ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ (4) عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-4] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: “زملوني زملوني“، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة: “أي خديجة ما لي، وأخبرها الخبر، قال: لقد خشيت على نفسي“، قالت له خديجة: كلا أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمِل الكَلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق.
عرضه على ورقة بن نوفل
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تًنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي و يكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي عم: اسمع من ابن أخيك، قال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذََعاً ، يا ليتني أكون حيًاّ حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَوَمخرجي هم ؟» قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عوُدِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرًا. .
أحوال النبي قبل نزول الوحي
وعن عبيد بن عمير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية – والتحنث التبرر- فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة، فيطوف به سبعاً أو ما شاء الله، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته وذلك الشهر رمضان، خرج صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبر يل بأمر الله تعالى.
النبي يحدث بقصة نزول جبريل
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ، قلت: ما أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت:
ماذا أقرأ، ما أقول ذلك إلا افتداء مًنه أن يعود لي بمثل ما صنع، قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، فقرأتها ثم انتهى، فانصرف عني وهببتُ من نومي، فكأنما كتب في قلبي كتاباً، فخرجت، حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جبر يل، رفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صَافٍّ قديمه في أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه فما أقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية
منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفًا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثتَْ خديجة رسُُلهَا في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مضَُيفًِّا إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي! ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمي واثبت، فو الذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذا الأمة، ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، وكان قد تنصر، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذي نفسي بيده لئن كنتِ صدقتنِي يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت، فرجعت خديجة إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع ما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتَكُذَبَنهّ ولتؤُذيَنهّ ولتَقُاتلنََهّ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقبل يأفوخه“، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
ٺثبت السيدة خديجة
عن خديجة، أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أي ابن عم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: “نعم“، قالت: فإذا جاء فأخبرني به، فجاءه جبر يل عليه السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ يا خديجة، هذا جبر يل قد جاءني“، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: “نعم“، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، قال: فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه؟ قال: “نعم“، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال: “نعم“، قال: فتحسرت فألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه، قال: “لا“، قالت: يا ابن عم، اثبت وأبشر، فو الله إنه لملَكَ ما هذا بشيطان
ما حدث للجن
عن ابن عباس، قال:
كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه، فلما رموا بالشهب وحيل بينهم وبين خبر السماء، قالوا: ما هذا إلا لشيء حدث في الأرض، وشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال: ما هذا إلا لأمر حدث، فأتوني من تربة كل أرض، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون علم ذلك، فأتوه من تربة كل أرض، فكان يشمها ويرمي بها، حتى أتاه الذين توجهوا إلى تهامة بتربة من تربة مكة فشمها، وقال: من هاهنا يحدث الحدث، فنظروا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث، ثم انطلقوا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وطائفة معه من أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بهم صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فولوا إلى قومهم منذرين، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد ، وذكر تمام الخبر.
وقت نزول جبريل بالرسالة
وكان نزول جبر يل له عليه السلام فيما ذكر يوم الإثنين لسبع في رمضان، وقيل لسبع عشرة مضت منه رواه البراء بن عازب وغيره. وعن أبي هريرة أنه كان في السابع والعشرين من رجب، وقال أبو عمر: يوم الإثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، وقد قيل غير ذلك.