وفي ليلته أمسى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم مرتحلاً في طريق الهجرة الشريفة عند منطقة كرُاع الغميم، …
فأدركتهم صلاة المغرب فصلوّا، ولما نزل ظلام الليل رأى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم برُيدة بن الحصُيب الأسلمي، وكان على شركه ومعه 70 فارسًا أو 80 من قبيلته بني سهم لعله كان يبحث عن النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم طمعاً في جائزة قريش.
فقال له رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “من أنت؟“، قال: “أنا برُيدة”، فالتفت صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم إلى أبي بكر وقال-وكان صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم يُحب التفاؤل بالأسماء الجميلة-: “برَدُ أمرنا وصَلحُ“، ثم قال: “ثم ممن؟” -يعني من أي عائلة؟- قال برُيدة: “من أسلم”، فقال صلى اللهّٰ عليه وسلم لأبي بكر: “سَلمِتَْ”، ثم قال: “ثم ممن؟” -يعني من أي قبيلة؟- فقال برُيدة: “من بني سهم”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لأبي بكر: “خرج سهمك”، ثم سأل برُيدة النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم فقال: “فمن أنت؟”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “محمد بن عبد اللهّٰ رسول اللهّٰ”، ثم عرض عليه رسول اللهّٰ صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام وعلى من معه، فقال برُيدة: “أشهد أن لا إله إلا اللهّٰ وأنك عبده ورسوله” وأسلم من معه جميعاً، ثم صلىّ النبي العشاء فصلوّا خلفه وعلمّ برُيدة شيئاً من القرآن.
ثم قال برُيدة للنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “يا رسول اللهّٰ لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، ففكّ برُيدة عمامته ثم شدها في رمُح ثم مشي بين يدي النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وقال: ”تنزل على من يا نبي اللهّٰ؟” فقال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “إن ناقتي هذه مأمورة”، فقال برُيدة: “الحمد للهّٰ الذي أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين” -يعني قبيلته-، والظاهر من الروايات أن برُيدة أكمل المسير قليلا مع النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم الطريق حتى عسفان، واللهّٰ أعلم.
ثم واصل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم طر يق هجرته الشريفة، بعد هذا اللقاء مع برُيدة ومن معه من بني سهم في حدود الساعة 9 مساءاً بعد العشاء، قاطعين حوالي 17 كم إلى أن وصلوا أسفل عسُفان في ثلاث ساعات ونصف تقريباً، ثم 25 كم أخرى إلى أن وصلوا أسفل أمج في حوالي خمس ساعات ووصلوها وقت صلاة الصبح تقريباً، فصلوّا بها أو قريباً منها، ثم بعد صلاة الصبح أكملوا السير 25 كم أخرى في حوالي خمس ساعات إلى أن وصلوا أول قدُيدًا عند خيمتا أم معبد الخزاعية في حدود وقت الضحى.
واسم أم معبد الخزاعية: عاتكة بنت خالد، امرأة قو ية، كانت خيمتها على الطر يق تجلس فيها تسقي وتطعم من يمر بها على الطر يق، فطلبوا أن يشتروا منها تمراً ولحماً، وكان بها فقر وقلَِةّ في هذا الوقت من السنة، فقالت أم مَعبدَ: “واللهّٰ ما عندنا من شيء، ولو كان عندنا لضيَفّناكم به وما احتجتم للشراء!”.
فنظر رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم إلى شاة في جانب الخيمة يبدو عليها الضعف فقال: “ما هذه الشاة يا أم معبد؟“، قالت: “شاة خلَفّها الضعف عن الغنم”، قال: “هل بها من لبن؟“، قالت: “هي أضعف من ذلك”، قال: “أتأذنين إلي أن أحلبها؟”، فردَّت متُعجِّبة: “نعم!، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها!”، فأخذها رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ومسح بيده ضرعها وقال: ”بسم اللهّٰ، اللهم بارك لها في شاتها!“، فامتلأ ضرعها باللبن وباعدت بين رجليها، فطلب النبي صلى اللهّٰ عليه وسلم إناءاً كبيرا لصبّ اللبن، واحتلبها، فتدفَقّ اللبن من ضرعها في الإناء حتى علَتَهْ الرغوة، ثم سقى أم معبد حتى روُِيتَ، ثم سقى من معه، ثم شرب هو صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم آخرهم وقال: “ساقي القوم آخِرهُمُ”، ثم زادوا من السُقيا مرات حتى اكتفوا جميعاً، ثم احتلبها صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ثانية حًتى ملأ الإناء لأم معبد وتركه لها.
و يظهر من بعض الروايات أنه صلى اللهّٰ عليه وسلم عرض عليها الإسلام فأسلمت مكانها، و يؤيد ذلك ما ذكُر من أنَهّ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم “بايعها، ثم انصرف عنها”، وسيأتي ذكر أنها غالباً أسلمت بعد ذلك حين قدمت على النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم واللهّٰ أعلى وأعلم.
ثم ارتحلوا من عند خيمتي أم معبد، وأكملوا الطر يق في وادي قدُيد قليلاً حوالي 5 كم في ساعة أخرى تقريباً من السير قبل أن يقفوا للاستراحة بقُديد، فصلوّا ثم استراح رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم راحة القيلولة قليلا قبل أن يكُملوا مسيرهم.
وبعد أن خرجوا من عندها بقليل جاء زوجها معه عنزات نحيفة هز يلة كان يرعاها، فدُهِش لما رأى إناء اللبن وزادت دهشته لما رأى الشاة قد امتلأ ضرعها، فقال: “من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عزباء ولا حلوبة -شاة تُحلب- في البيت؟”، قالت: “لا واللهّٰ!، إلا أنه مر بنا رجل مبارك” ووصفت له حال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وما كان من وقوفه وأصحابه عندها، فقال لها: صِفيِهِ لي يا أم معبد؟، فقالت: “رأيت رجلاً ظاهِر اَلوضََاءةَ، أبلْجََ الوجه، حَسَنَ الخلَقْ، لم تعَبِه ثُجلْةَ، ولم تزَْرِ به صُعلةَ، وسيم، قسيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وَطَف، وفي صَوْتهِِ صَحلَ، وفي عنُقُهِِ سَطَع، وفي لِحيْتَهِِ كثَاَفةَ، أزَجُّ أقرن، إن صَمتََ فعليه الوقَاَر، وإن تكلم سَماَه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلُو المنطق، فصَْل لا نزر ولا هذر، كأن مَنطِْقَه خُرزات نظم يتحدرن، رَبعْةَ، لا تشنؤهُ مُن طول، ولا تقتحمه عين عن قصِرَ، غصُنٌ بين غصُنين فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفُّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند”.
قال زوجها أبو معبد: “هذا واللهّٰ صاحب قريش الذي ذكُر لنا من أمره ما ذكُر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت لذلك سبيلاً”.
وسار النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ومن معه قاطعين حوالي 5 كم أخرى في ساعة تقريباً، حتى خرجوا من قدُيد في منطقة تقاطع بين الطر يق الذي يسيرون فيه والطر يق العام الذي تمشي فيه القوافل -طر يق الجادة العظمى- وكان ذلك في حدود وقت العصر تقريباً، فلمحهم من بعيد رجل من بني مدلج -قبيلة سرُاقة بن مالك-، ثم مشى حتى وقف عند نادٍ يجتمع فيه قومه وفيهم سرُاقة بن مالك المدلجي، فقال الرجل : “واللهّٰ لقد رأيت ثلاثة راكبون، مروا علي منذ قليل إني لأراهم محمدًا وأصحابه”، فأومأ إليه سرُاقة بعينه: أن اسُكُت، ثم قال له: “إنما هم بنو فلان يبتغون ضالةّ لهم” -وقصد سرُاقة أن يصرفهم عن البحث حتى يفوز هو بجائزة قريش-، قال الرجل : “لعلهّ!”، وسكت، ثم انتظر سرُاقة قليلاً ثم قام فدخل بيته، ثم أمر أن يُخرِْجوا له فرسه في الوادي دون أن يشعر بهم أحد، وأخذ سلاحه وخرج من الباب الخلفي لبيته.
وكان النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ورفقاؤه قد ساروا من عند التقاطع مع الطر يق العام حوالي 5 كم أخرى في ساعة تقريباً إلى وادي كلُيََةّ شمال غرب قدَُيد، قبل أن يلُاحقهم سرُاقة بن مالك في قلب الوادي.
وكان مع سرُاقة قدِاح يستقسم بها، والقدِاح قطع خشبيةّ عريضة بطول شِبر تقريباً يكتبون على كل واحدة منها شيئاً مثل: “افعل” وأخرى “لا تفعل”، ويخلطونهم ثم يختارون واحدة بعد تلاوة تعويذة معينّة، ثم يفعلون ما فيها، وهذا نوع من، المقُامرة الجاهلية في اتخاذ القرارات المصير ية بدلًا من تحكيم العقل وكان يعملها الكهّان، وهي محرمّة، بخلاف القُرعة فكانت من بين قدِاحه مكتوب فيها “لا يضره”، فلبس سرُاقة لبس الحرب من درع وسيف وغير ذلك، ثم ركب فرسه واستقسم بالقدَِاح فخرج القدِاح الذي فيه “لا يضره” وهو مالم يكن يريده سرُاقة!، فقد كان يطمع في جائزة قريش، فأصر على أن يلحق بالنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم برغم ما أشارت عليه قدِاحه ألّا يفعل! وحينما كان يجري بفرسه، عثر الفرس ووقع سرُاقة من فوقه، فتعجّب جدًا وأخرج قدِاحه ليستقسم بها مرّة أخرى فخرجت “لا يضره” مرّة أخرى، فأصر مجددًا على أن يتبّع النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم غير عابئا بما تخبره به قدِاحه.
فركب فرسه مرة أخرى منطلقًا في أثر النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فلماّ رآهم من بعيد ورآه أبو بكر، قال يا رسول اللهّٰ: “هذا الطلب قد لحقنا!؟”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “لا تحزن إن اللهّٰ معنا”، فلماّ كان سرُاقة منهم على بعُد 10 أمتار تقريباً، وكان النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم مشتغلا بقراءة القرآن لا يلتفت، قال أبو بكر مجددا: “يا رسول اللهّٰ هذا الطلب قد لحقنا…” وبكى أبو بكر، قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “لم تبكي؟“، قال: “أما واللهّٰ ما على نفسي أبكي ولكن عليك أبكي”، فدعا صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم على سرُاقة وقال: “اللهم اكفناه بما شئت!” فتعثرّ فرسه مرّة أخرى وغاصت يدا الفرس في الأرض!، ووقع سرُاقة من على الفرس! فناداهم سرُاقة وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي في مكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك…”، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: “لا حاجة لي فيها”، فانتزع الفرس يديه من الأرض وخرج معهما دخان كالإعصار، فتعجّب سرُاقة، وقال عن نفسه: “فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منُع مني، وأنه منتصر على قرُيش”.
ثم قال سرُاقة: “أنا سرُاقة بن جُعشمُ، انظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه ”، فقال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لأبي بكر: “قل له وما تبتغي مناّ؟“، فسأله أبو بكر، فردَّ سرُاقة: “تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “اكتب له يا أبا بكر“، فكتب له أبو بكر في رقُعة ثم ألقاه له، فأخذه سرُاقة فوضع الكتاب في كنانته، وقيل كان مما قاله له الرسول صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم أما يكفيك أن تلبس سواري كسرى يا سرُاقة؟، قال: كسرى بن هرمز؟، قال: نعم كسرى بن هرمز!، ثم رجع فسكت سرُاقة ولم يذكر شيئاً مما كان وكلَمّا وجد أحد بني قومه خارجًا للبحث كان يقول لهم: ”لقد كفيتكم هذه الجهة فلم أجد فيها أحدًا، فابحثوا في غيرها” فيصدَّقوه، وكان ذلك قبُيل الغروب بقليل تقريباً، ثم أكملوا المسير يسيراً في وادي كُليََةّ قبل أن يقفوا للاستراحة أوّل الليل بعد أن اطمأنوا أن كفاهم اللهّٰ سرُاقة وأمثاله من الباحثين عن جائزة قريش، واللهّٰ أعلى وأعلم.