وفي صبيحته كانت بنو تميم -وهم على شركهم- قد خرجت لملاحقة عُيينة بن حصن الفزاري بعد أن أخذ منهم الأسرى ولم يكن رجالهم …
عند البيوت لمّا باغتهم عُيينة، فخرجوا على إثره وقد علموا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسله ردًا على ما فعلوه مع خُزاعة، فدخل وفدهم المدينة المنوّرة وقت الضُّحى قُبيل الظُّهر، وهم عشرة:
– عُطارد بن الحاجب بن زرارة
– الزبرقان بن بدر
– قيس بن عاصم
– قيس بن الحارث
– نُعيم بن سعد
– عمرو بن الأهتم
– رياح بن الحارث بن مجاشع
– الأقرع بن حابس
فسألوا عن أسراهم وسباياهم، فأخبرهم الناس بمكانهم فذهبوا ينظرون إليهم فبكى الصبيان والنساء فرجعوا وجلسوا بالمسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم المؤمنين عائشة عليها السلام وقد أذّن بلال رضي الله عنه لصلاة الظهر، والناس ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة، ولم يقدروا على الصبر حتى يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوا ينادونه من وراء حُجرُاته صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: “يا محمد اخرج إلينا”، فقام إليهم بلال وقال: “إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج الآن”، والناس ينظرون إلى وفد تميم وقد علا صوتهم ينادون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون يضربون كفًا بكف على عدم صبر هؤلاء دقائق معدودة، فلمّا خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجهًا ناحية مقدّمة المسجد للصلاة، فأقام بلال رضي الله عنه الصلاة، و تعلق وفد تميم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يكلمونه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم وبعد إقامة بلال قليلًا، وهم يقولون: “أتيناك بخطيبنا وشاعرنا فاسمع منا!”، فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مضى فصلى بالناس الظهر، ثم انصرف إلى بيته فصلى ركعتين، ثم خرج فجلس في صحن المسجد وقدموا عليه، وجلس الناس حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ممن حضر عُيينة بن حصن الذي لاحق بنو تميم وأسر منهم.
وتقدَّم منه عُطارد بن الحاجب فخطب فقال: “الحمد لله الذي له الفضل علينا، والذي جعلنا ملوكًا، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم مالًا وأكثرهم عددًا، فمن مثلنا في الناس؟، ألسنا برءوس الناس وذوي فضلهم؟، فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا ولو شئنا لأكثرنا من الكلام ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله، قول قولي هذا لأن يؤتى بقول هو أفضل من قولنا”، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لثابت بن قيس رضي الله عنه -وكان هجوري الصوت، ولم يكن ثابت مستعدًا ولا هيّأ ماذا يقول، إذ فوجئ-: “قم فأجب خطيبهم”، فقام ثابت رضي الله عنه فقالك” الحمد لله الذي فطر السموات والأرض خلقه، قضى فيها أمره، ووسع كل شيء علمه، فلم يك شيء إلا من فضله، ثم كان مما قدر الله أن جعلنا ملوكا، واصطفى لنا من خلقه رسولا، أكرمهم نسبًا، وأحسنهم زيّا، وأصدقهم حديثًا، أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده فدعا إلى الإيمان فآمن المهاجرون من قومه وذوي رحمه أصبح الناس وجهًا، وأفضل الناس فعالًا، ثم كنّا أول الناس إجابة حين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن أنصار الله ورسوله نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله مُنع منا ماله ودمه، ومن كفر بالله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات”، ثم جلس، فقالوا: “يا محمد الله ائذن لشاعرنا”، فأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقام شاعرهم الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الملوك فلا حي يقاربنا *** فينا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم *** عند النهاب وفضل الخير يتبع
ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا *** من السديف إذا لم يؤنس القزع
وننحر الكوم عبطًا في أرومتنا *** للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنبر أن يوضع في وسط المسجد ليُنشد عليه حسّان رضي الله عنه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أجبهم يا حسّان بن ثابت»، فقام حسّان رضي الله عنه فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم *** قد شرعوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته *** تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم *** أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك فيهم غير محدثة *** إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم *** عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
ولا يضنّون عن جار بفضلهم *** ولا ينالهم في مطمع طبع
إن كان في الناس سباقون بعدهم *** فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم *** إذا تفرقت الأهواء والشيع
أعفة ذكرت في الوحي عفّتهم *** لا يطمعون ولا يرديهمُ طمع
كأنهم في الوغى والموت مكتنع *** أسد ببيشة في أرساغها فدع
لا يفخرون إذا نالوا عدوّهم ** وإن أصيبوا فلا خور ولا جُزُع
إذا نصبنا لحيّ لم ندب لهم *** كما يدب إلى الوحشية الذرع
نسموا إذا الحرب نالتنا مخالبها *** إذا الزعانف من أطرافها خشعوا
خذ منهم ما أتى عفوًا إذا غضبوا *** ولا يكن همّك الأمر الذي منعوا
فإن في حربهم فاترك عداوتهم *** سمّا عريضًا عليه الصاب والسّلع
أهدى لهم مدحه قلب يؤازره *** فيما أحب لسان حائك صنع
وأنهم أفضل الأحياء كلهم *** إن جد بالناس جد القول أو شمعوا
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله ليؤيد حسّان بروح القُدُس ما دافع عن نبيّه»، وسُرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخطبة ثابت وشعر حسّان، واختلى وفد تميم بعضهم مع بعض فقالوا: “تعلمن والله إن هذا الرجل مؤيد مصنوع له، والله لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا، ولهم أحلم منّا! -أكثر حلمًا وهدوءًا-”، فأسلموا واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عُطارد على صدقات أموالهم يأتي بها كل عام، وكانوا ممن ارتدوا بعد انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من عاد للإسلام ومنهم عُطارد.
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطي الوفود العطايا والهدايا إذا انصرفوا، فأمر بلال أن يعطيهم، فلمّا أجازهم -أعطاهم الجوائز-، قال: “هل بقي منكم أحد لم نُجزه؟”، قالوا: “غلام في الرّحل -عند الإبل-”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أرسلوه نجزه»، فقال قيس بن عاصم: “إنّه غلام لا شرف له!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «وإن كان، فإنّه وافد وله حق!»، ووقف عمرو بن الأهتم -وهو من بني تميم الوافدين- يهجو عاصم بن قيس على مقالته في شأن الغُلام، فكان أن أعطى كل واحد فيهم اثنتي عشرة أوقية ونشّ [^1] -وهي 500 درهم فضّة، أو تقريبًا 1500 جرام من الفضّة-، ثم أعطى الغلام وهو أصغرهم خمس أواق -وهي 200 درهم فضّة، أو تقريبًا 600 جرام من الفضّة.
وأنزل المولى عز وجل على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم آيات بيّنات تبيّن للنّاس والمؤمنين التأدب مع حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيفيّة مخاطبته الآيات من سورة الحجرات {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات:2-4]، وعلمّنا أن مجرّد رفع الصوت فوق صوت النبي هو محبطة للأعمال، وكان قيس بن ثابت رضي الله عنه خطيبًا مفوّهًا من خطباءه صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صوته جهوريًا، فكان يخفض صوته إذا خطب في حضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول تلك الآية.
[^1]: النّش؛ يساوي نصف أوقية، والأوقية تساوي أربعون درهمًا والدرهم حوالي 3 جرام فضّة، والخمسمائة درهم بتقدير وقت كتابة هذه اليوميّات حوالي 13500 جنيه مصري أو 840 دولار، وهو مبلغ جيد جدًا للفرد، انظر الموازين والمكاييل الشرعيّة أ.د علي جمعة محمد.