غزوة الأحزاب (حصار الأحزاب للمدينة المنورة – اليوم السادس)
إسلام نُعيم بن مسعود الأشجعي الغطفاني رضي الله عنه
وفي ليلته بين المغرب والعشاء، جاء نُعيم بن مسعود إلى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده يُصَلّي، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم جلس ثم قال: «ما جاء بك يا نُعيم؟»، قال نُعيم: “إني جئت أُصدّقك وأشهد أن ما جئت به حق، فمُرني ما شئت يا رسول الله فوالله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له قومي، لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم”. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما استطعت أن تُخَذِّل عنّا فخذِّل» -من إضعاف العدو-، قال نُعيم: “أفعل، ولكن يا رسول الله، أقول -بالخداع يعني- فأذن لي”، فقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «قل ما بدا لك فأنت في حِلّ» -لأنّ الحرب خُدعة، وهي من المواطن التي يُباح فيها الكذب والخداع للعدو-.
فخرج نُعيم وسار حوالي 6.5 كم حتى وصل ديار بني قُريظة جنوب المدينة، فلمّا رأوه رحبوا به وأكرموه وعرضوا عليه الطّعام والشراب، وكان نُعيم صديقًا لبني قُريظة وقائدهم كعب بن أسد خاصّة، فكانت يقيم عنده الأيّام يأكل ويشرب معهم، فقال نُعيم: “إني لم آت لشيء من هذا؛ إنما جئتكم خوفًا عليكم وناصحًا لكم، لأشير عليكم برأي وقد عرفتم ودّي إياكم وما بيني وبينكم”، قالوا: “عرفنا ذلك، وأنت عندنا على ما تُحب من الصدق والبرّ”، قال: “ولا تخبروا أحدًا أنّي جئت إليكم أكلمكم”، قالوا: “نفعل”، قال: “إن أمر هذا الرجل بلاء -يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، صنع ما قد رأيتم ببني قينقاع وبني النضير وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال. وكان ابن أبي الحُقيق قد سار فينا -لأن نُعيم من غطفان- فاجتمعنا معه لنصركم وأرى الأمر قد تطاول كما ترون، وإنكم والله ما أنت وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة، أما قريش فهم قوم جاءوا سيّارة حتى نزلوا حيث رأيتم فإن وجدوا فُرصة انتهزوها، وإن كانت الحرب أو أصابهم ما يكرهون عادوا إلى بلادهم، وأنتم لا تقدرون على ذلك، فالبلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وقد أرهقهم محمد، اجتمعوا يقاتلونه بالأمس عند الخندق فقتل قائدهم عمرو بن عبد وُد، فهربوا منه وقد كثرت فيهم الجراحات، وهم لا يستغنون عنكم في أي هجوم مؤثر لأنّكم في الجهة الداخلية لجيش محمد كما تعرفون، فلا تقاتلوا مع قُريش ولا غطفان حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم تستوثقون به منهم ألا يتركوكم”، قالوا: “أشرت بالرأي علينا والنصح”، وشكروه وقالوا: “سنفعل ما أشرت علينا به”، قال: “ولكن لا تخبروا أحدًا أنّي نصحت لكم”، قالوا: “نفعل!”.
ثم ذهب إلى أبي سفيان بن حرب وهو جالس في رجال من قريش فقال: “يا أبا سفيان جئتك بنصيحة فلا تخبروا أحدًا بنصحي لكم”، قال أبو سفيان: “أفعل”، قال نُعيم: “تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وأرادوا إصلاحه ومراجعته. أرسَلوا إليه وأنا عندهم إنا سنأخذ من قُريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلًا نسلمهم إليك تقتلهم، وترد إخواننا بني النضير إلى ديارهم بعد أن أجليتهم، وننصرك على قُريش ونقاتلهم حتى نردّهم عنك. فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهنًا فلا تدفعوا إليهم أحدًا واحذروهم على اشرافكم، ولا تخبروا أحدًا أني جئتكم أو نصحت لكم، ولا تذكروا مما قلت لكم حرفًا”، قالوا: “لا نذكره لأحد”.
ثم ذهب إلى غطفان -وهي قبيلته- فقال لهم مثل ما قال لقريش، ثم قال: “فاحذروا أن تدفعوا إلى اليهود أحد من رجالكم”.
وأرسلت اليهود غزال بن السمؤال إلى أبي سفيان بن حرب وقادة قُريش يقول: “إن بقائكم قد طال ولم تصنعوا شيئًا، وليس الذي تصنعون برأي إنكم لو وعدتمونا يومًا تزحفون فيه إلى محمد، فتأتون من وجه وتأتي غطفان من وجه ونخرج نحن من وجه آخر لم يُفلت من بعضنا. ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا رهنًا من أشرافكم يكونون عندنا، فإنا نخاف إن مستكم الحرب وأصابكم ما تكرهون ذهبتم وتركتمونا في عقُر دارنا وقد عادينا محمدًا”، فلم يردّوا عليه بشيء وقال أبو سُفيان لنفسه ولمن معه: “هذا ما قال نُعيم”.
ثم خرج نُعيم إلى بني قُريظة فقال: “يا معشر بني قريظة أنا عند أبي سفيان حتى جاء رسولكم إليه يطلب منه الرّهان فلم يردّ عليه فلمّا انصرف قال: لو طلبوا مني عنزة صغيرة رهانًا ما أعطيتهم، أفأعطيهم أشراف قريش يدفعونهم لمحمد فيقتلهم!!”، ثم قال لهم: “هذا ما كان فانظروا ما أنتم فاعلون حتى تأخذوا الرهن فإنكم إن لم تقاتلوا محمدًا وانصرف أبو سفيان تكونوا على عهدكم وميثاقكم السابق مع محمد”، قالو: “ترجو ذلك يا نُعيم؟ -يعني تعتقد سيقرنا محمد على عهدنا الأول بعدما حصل، لو لم نُقاتله؟-، قال نُعيم: “نعم”، قال كعب بن أسد: “فإنا لا نُقاتله، والله لقد كنت لهذا كارهًا، ولكن حُيي بن أخطب رجل مشؤوم”.
قال الزبير بن باطا: “إن انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل من إلا السيف”، قال نُعيم: “لا تخش ذلك”، قال الزبير: “بلى والتوراة، لو هاجمت قريش وغطفان واشتدّت المعركة ليخرجن اليهود إلى محمد ولا يطلبون رهنًا، فإن قريش لا تعطينا رهنًا أبدًا، وعلى أي وجه تعطينا قريش الرهن وعددهم أكثر من عددنا، ومعهم الخيل والسلاح، وليس معنا مثلهم، وهم يقدرون على الهرب ولا نقدر عليه، وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يُعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف فأبى مُحمد إلا السيف فهم ينصرفون بغير شيء”.
وقال أبو سفيان لقريش: “يا معشر قريش إن الأرض جدباء وهلكت دوابّنا وخيلنا، وغدرت اليهود وكذبت، ولا داعي للإقامة، فانصرفوا”، قالوا: “فتأكد من اليهود وما فعلوا”، وقد كانوا دبّروا لهجوم مُجمع مع غطفان ليلة السبت، فأرسلوا عكرمة بن أبي جهل إلى بني قُريظة وغربت الشمس وهو هناك.