وفي ليلته صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالمسلمين المغرب والعشاء عند #~~~أطم الشيخين~~~# وقد جهّز الجيش وعرض مُقاتلته ورتّبه، …
وأمر محمد بن مسلمة أن يحرس الجيش ومعه خمسون مُقاتلًا يطوفون بالمُعسكر ليلًا، وكانوا يرون المشركين من بعيد وقد جعلوا عكرمة بن أبي جهل على حراستهم الليلة وخيلهم لا تهدأ وتقترب طلائعهم حتى يجدوا محمد بن مسلمة فيعودون.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حين صلّى العِشاء: «من يحفظنا الليلة؟»، فقام رجُل فقال: “أنا يا رسول الله”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أنت؟»، قال: “ذكوان بن عبد قيس”، قال: «اجلس»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من رجل يحفظنا الليلة؟»، فقام رجُل فقال: “أنا”، فقال: «من أنت؟»، قال: “أنا أبو سبع”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اجلس»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من رجل يحفظنا الليلة؟»، فقام رجل فقال: “أنا”، قال: «ومن أنت؟»، قال: “ابن عبد قيس”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اجلس»، ثم سكت صلى الله عليه وآله وسلم مُدَّة، ثم قال: «قوموا ثلاثتكم»، فقام ذكوان بن عبد قيس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أين صاحباك؟»، فقال ذكوان: “أنا الذي كُنت أجبتك الليلة”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فاذهب حفظك الله»، فلبس ذكوان درعه ووقف يحرس مركز القيادة حيث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لا يُفارقه.
ونام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حتى وقت السَّحَر -قبل الفجر- فقام ولبس درعًا واحدة، ثم قال: «أين الأدلّاء؟ من رجُل يدُلُّنا على الطريق ويُخرجنا على القوم من كثب -قريب منهم-؟»، فقال أبو حثمة الحارثي: “أنا يا رسول الله”، وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فرسه وسار به أبو حثمة وبالجيش في مزارع المدينة وبين النخل حتى مرّ بمزرعة مِربع بن قيظي وكان أعمى البصر مُنافقًا، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مزرعته قام يرميهم بالتُّراب يقول: “إن كنت رسول الله فلا تدخل مزرعتي!”، فضربه سعد بن زيد الأشهلي بقوسه في رأسه فنزل الدّم، فأغضب ذلك بعض بني حارثة -من المنافقين- قائلًا: “هي عداوتكم يا بني عبد الأشهل لنا لا تدعونها أبدًا” ، فقال أُسيد بن حُضير رضي الله عنه: “لا والله، ولكنه نفاقكم، والله لولا أني لا أدري ما يوافق النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم من ذلك لضربت عُنُقه وعُنُق من هو على مثل رأيه!”، فأُسكِتوا.
وأثناء سيرهم حرّك فَرَس أبو بُردة بن نيار ذيله فأصاب سيفه وهو في غمده قد علّقه في وسطه، فأخرجه من غِمدِه يختبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا صاحب السيف، أدخل سيفك، فإني أخال السيوف ستُسَل فيكثُر سَلّها»، وكان صلى الله عليه وآله وسلَّم يُحب التفاؤل بالخير.
وكان المشركون قد علموا بتحرُّك المسلمين فتحرّكوا وقد عبّأوا جيشهم، وسار المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حتى نزلوا عند جبل أُحُد وقت صلاة الصُّبح، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بلالًا فأذّن وأقام وهم يرون المشركين، فصلّى بأصحابه الصبح صفوفًا، وانسلخ عبد الله بن أُبي بن سلول المُنافق بالكتيبة التي معه من اليهود والمنافقين وتحرّك عائدًا للمدينة، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه فقال: “أذكركم الله ودينكم ونبيكم، وما شرطتم له أن تدافعوا عنه دفاعكم عن أنفسكم وأولادكم ونسائكم”، فقال ابن أُبي: “ما أرى يكون بينهم قِتال، ولئن أطعتني يا أبا جابر لترجعن، فإنّ أهل الرأي والشرف قد رجعوا، ونحن ناصروه في مدينتنا، وقد خالفنا وأشرتُ عليه بالرأي فأبى إلا طواعية الغِلمان”، ورفض عبد الله بن أبي الرجوع، فقال لهم أبو جابر رضي الله عنه: “أبعدكم الله، إن الله سيغني النّبي والمؤمنين عن نصركم”، فانصرف عبد الله بن أُبي وهو يقول: “أيعصيني ويُطيع الولدان؟”، وانصرف عبد الله بن عمرو بن حرام يعدو حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو يُسوّي الصفوف للقتال.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الرُّماة -وهم خمسون راميًا- أن يكونوا فوق #~~~جبيل عينين~~~# -واسمه الآن جبل الرُّماة-، يقودهم عبد الله بن جُبير رضي الله عنه، فيكونوا كاشفين لأرض المعركة كلها، ويعطيهم الجيش ظهره فيكون ظهره محميًا بالرُّماة ويُقاتلوا العدة من أمامهم وعن يمينهم ويسارهم ويأمنون ظهورهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم جبل عينين خلف ظهر الجيش، ومن خلفه جبل أُحُد فتكون الشَّمس عند طلوعها حتى وقت الظهيرة خلف ظهورهم، وتكون في وجه عدوهم، ويكونوا بذلك أيضًا مُستقبلين المدينة المنوَّرَة ناظرين إليها.
وتقدَّم المشركون بجيشهم، فكان المسلمون بينهم وبين جبيل عينين، وجبل أُحُد، وكانت الشمس في وجههم واستدبروا المدينة المنوَّرة رغمًا عنهم حتى يواجهوا المسلمين، فكان التخطيط النبوي والسبق لأرض المعركة مهمًا في التهيئة لها، وهو صلى الله عليه وآله وسلَّم يمشي على رجليه يسوّي تلك الصفوف ويهيئ أصحابه للقتال، فيقول: «تقدّم يا فلان، تأخّر يا فلان»، حتى إنّه ليرى كتف الرجل خارجًا عن الصف فيؤخره، حتى إذا استووا سأل من معه ممن جعله طلائع تنظر للعدو فقال: «من يحمل لواء المشركين؟»، قيل: “بنو عبد الدار يا رسول الله”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «نحن أحق بالوفاء منهم، أين مصعب بن عُمير -وهو من بني عبد الدار-»، فقال مُصعب: “ها أنا ذا يا رسول الله”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: «خذ اللواء»، فأخذه مُصعب وتقدّم به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
وكان قزمان من المنافقين قد مكث في المدينة لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى أُحُد، فعيّرته النساء، فقلن: “يا قُزمان، قد خرج الرجال وبقيت يا قُزمان، ألا تستحي مما صنعت؟ ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار”، فغضب فدخل بيته فأخرج قوسه وجعبته وسيفه وكان يُعرف بالشجاعة، وخرج يعدو حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو يسوّي الصفوف، فدخل مع المسلمين فكان في الصف الأول.
ولمّا استوت الصفوف وعرف كل من المسلمين موقعه ورفع أصحاب الرايات راياتهم، خطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يا أيها الناس، أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذُخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد، شديد كربه، قليل من يصبر عليه إلا من عَزَم الله رُشْدَه، فإنّ الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله وعليكم بالذي أمركم به، فإني حريص على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يُحب الله، ولا يُعطي عليه النصر ولا الظفر، يا أيها الناس جُدِّد في صدري أنّ من كان على حرام فرَّق الله بينه وبينه، ومن رغب له عنه غفر الله ذنبه، ومن صلى علي صلّى الله عليه وملائكته عشرًا، ومن أحسن من مُسلم أو كافِر وقع أجره على الله في عاجل دُنياه وآجل آخرته، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجُمعة يوم الجُمعة إلا صبيًّا أو امرأة أو عبدًا مملوكًا، ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد، ما أعلم عمل يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يُقرّبكم إلى النّار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنّه قد نفث في رُوعي الروح الأمين أنّه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، لا يُنقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتّقوا الله ربكم وأجملوا في طلب الرِّزق، ولا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنّه لا يُقدر على ما عنده إلا بطاعته، قد بين لكم الحلال والحرام غير أنّ بينهما شبهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا من عصم، فمن تركها حفظ عرضه ودينه ومن وقع فيها كان كالراعي إلى جنب الحِمى أوشك أن يقع فيه، وليس مَلِك إلا وله حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد، والسلام عليكم».
وتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلى الرُّماة وهم فوق جبل عينين، فقال: «احموا لنا ظهورنا، فإنّا نخاف أن نؤتى من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نَهزِمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتَل فلا تُعينونا ولا تدفعوا عنّا، اللهم إنّي أشهدك عليهم، وارشقوا خيلهم بالنّبل، فإنّ الخيل ال تُقدِم على النّبل».
وتقدَّم جيش المُشركين والنساء تسير أمامهم يضربن بالدفوف والطبول ويطفن بالصفوف، حتى رجعن فكنّ في آخر الصفوف لمّا اقتربوا من المسلمين، وهم يذكّرون المشركين بقتلاهم في بدر ويحثّونهم على القتال ويحرضونهم، حتى لا يفروا من المعركة، يقلن:
نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق
إن تُقبِلوا نُعانِق *** وإن تُدبروا نُفارِق
فِراق غير وامِق -مُحِب-
وكان قائد ميمنة جيشهم خالد بن الوليد، وقائد الميسرة عكرمة بن أبي جهل، وقد قسّموا الفرسان على الجانبين بقيادة صفوان أميّة، على كل جانب مائة فارس، وفيهم مائة رامٍ يقودهم عبد الله أبي ربيعة، وكان لواء الجيش مع طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار، وقيادة الجيش لأبي سفيان بن حرب، فصاح أبو سفيان قائلًا: “يا بني عبد الدار، نحن نعرف أنّكم أحق باللواء منّا، إنّا إنما أُتينا يوم بدر من اللواء، وإنما يؤتى القوم من قبل لوائهم، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه، أو اتركوه لنا، فإنّا قوم مستميتون نطلب ثأرًا حديث العهد، إذا زالت الألوية فما قوام الناس وبقاؤهم بعدها؟!”، فغضبت بنو عبد الدار من كلام أبي سفيان وقالوا: “نحن نسلم لوائنا؟؟ لا كان هذا أبدًا!، أما المحافظة عليه فسترى!”، وأغلظوا الكلام لأبي سفيان، فقال: “فنجعل لواء آخر؟”، قالوا: “نعم، ولا يحمله إلا رجل من بني عبد الدار، لا كان غير ذلك أبدًا!”.
وكان أبو عامر الفاسق -من مُنافقي الأوس- قد خرج إلى مكّة مع جماعة من المنافقين فرافق جيش المشركين، ولمّا اصطفّوا للقتال نادى في قومه من المُسلمين، تقدّم بمجموعته من المُنافقين وهم جميعًا في ناحية جيش المشركين، فقال: “يا آل أوس، أنا أبو عامر”، فقالوا: “لا مرحبًا بك ولا أهلًا يا فاسق”، فقال: “لقد أصاب قومي بعدي شرّ!”، فقذف المسلمين بالحجارة وقذفوه، ثم انصرف عائدًا لجيش المشركين، وتقدّم طلحة بن أبي طلحة من جيش المشركين يقول: “من يبارز؟”، فتقدّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: “هل لك في البراز؟”، قال طلحة: “نعم”، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عند الراية وعليه ملابس الحرب ينظر، فبارزه علي ففلق رأسه فوقع، فتركه علي وعاد للصف، فقالوا: “هلا أجهزت عليه؟”، قال علي رضي الله عنه: “استقبلني بعورته، فعطفني عليه الرَّحِم وقد علمت أنّ الله تبارك وتعالى سيقتله فهو كبش الكتيبة -كما في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-.
والتحم الجيشان وأجهزوا على طلحة بن أبي طلحة، وكبَّرَ المسلمون، فأخذ لواء المشركين عثمان بن أبي طلحة -أبو شيبة- وهو يقول وخلفه النساء:
إنّ على أهل اللواء حقًا *** أن تُخضب الصعدة أو تندقّا
فقتدّم باللواء والنساء يُحرِّضن ويضربن الطبول والدفوف، فتقدَّم إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فضربه ضربة قطعت يده وكتفه حتى وصلت إلى فخذه، ثم تركه وهو يقول: “أنا ابن ساقي الحجيج”، ثم حمل اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص، فأصاب حنجرته، ثم تقدّم فأجهز عليه، ثم حمل لواءهم مسافع بن طلحة بن أبي طلحة فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وقال: “خذها وأنا ابن أبي الأقلح”، فقتله، فحملوه إلى معسكر المشركين إلى أمّه سُلافة بنت سعد ابن الشهيد، فقالت: “من أصاباك؟”، قال: “لا أدري، سمعته يقول: خذها وأنا ابن أبي الأقلح”، قالت سُلافة: “أقلحي والله، من قومي!”، ثم حمل لواءهم كِلاب بن طلحة بن أبي طلحة فقتله الزبير بن العوام رضي الله عنه، ثم حمله الجُلاس بن طلحة بن ابي طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم حمله شُريح بن قارظ، فقُتِل، ثم حمله صؤاب من عبيد بني عبد الدار، فقتله قزمان المُنافِق، فهؤلاء تسعة من المشركين من قبيلة بني عبد الدار كلما حمله واحد قُتِل.
وانهزم المشركين هزيمة مُنكرة بعد قتل أصحاب لواءهم، وهربوا في كل ناحية، ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفوف والفرح حين بدأت المعركة، وهند بنت عُتبة -زوجة أبي سفيان- ومن معها من نساء المشركين يهربن لا يدرين أين يذهبن، وخالد بن الوليد يقود خيّالة المشركين وكلّما أتى من ميسرة المسلمين يهجم عليهم بمن معه من الفرسان قذفه الرُّماة من فوق الجبل فردّوه خائبًا، وانتهت الجولة الأولى من المعركة بهزيمة منكرة لجيش المشركين حتى تقدّم المسلمين فدخلوا معسكر المشركين وأخذوا ما معهم، وأخذوا أسلحة القتلى، فنظر الرُّماة من فوق الجُبيل فقال بعضهم لبعض: “لم تُقيمون هاهنا في غير شيء؟، قد هزم الله العدو، وهؤلاء إخوانكم يجمعون غنائم القتلى، فهلُمّ ندخل معهم معسكر المشركين نأخذ معهم”، فقال البعض الآخر يذكّرونهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: “ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لكم: احموا ظهورنا، فلا تبرحوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتَل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، احموا ظهورنا”، قال الآخرون: “لم يُرِد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- هذا، وقد أذل الله المشركين، وهزمهم، فادخلوا العسكر، فاغنموا مع إخوانكم”، فلمّا رأى قائدهم عبد الله بن جبير الخلاف قد دبّ فيهم، أمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلَّم وعدم مُخالفة أمره، فعصى بعضهم ونزلوا إلى ساحة المعركة مُخالفين الأمر النبوي وأمر قائدهم المُباشر، ولم يبق مع عبد الله بن جُبير إلا عدد قليل لا يبلغون العشرة، وقد كانوا خمسون راميًا، وكان ممن بقي الحارث بن أنس بن رافع رضي الله عنه يقول لهم: “يا قوم اذكروا عهد نبيّكم إليكم، وأطيعوا أميركم”، فرفضوا وانطلقوا وتركوا الجبل خاليًا إلا من المجموعة القليلة الباقية.
وكان اليمان حُسيل بن جابر -أبو حذيفة بن اليمان- ورفاعة بن وقش رضي الله عنهما شيخين كبيرين قد مكثا في المدينة في الحصون مع النساء، فقال أحدهما للآخر: “لا أبا لك!، ما نستبقي لأنفسنا؟، فوالله ما نحن إلا موتى اليوم أو غدًا، فما بقي من أجلنا قدر عطش دابّة، فلو أخذنا أسيافنا فلحقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لعل الله يرزقنا الشهادة!”، فلحقا بالمسلمين في النّهار، ودخلا في الجيش يقاتلان مع المسلمين.
ولمّا غادر الرُّماة أماكنهم من فوق الجبل، اختلّت موازين المعركة، فلاحظ خالد بن الوليد ومجموعة فرسان المشركين معه ذلك الفراغ على الجبل، فانقضّوا على من بقي من الرُّماة على الجبل حتى أجهزوا عليهم، وجائتهم الأمداد بمجموعة عِكرمة بن أبي جهل من الفرسان وطوّقوا المسلمين من كل جانب، وقُتِل عبد الله بن جُبير رضي الله عنه ونزل أبو بردة بن نيار وجُعال بن سُراقة بعد قتل قائدهم يشتبكون في ساحة المعركة بعد أن تحوّلت من هزيمة ساحقة للمشركين إلى هرج وفوضى في جيش المسلمين، وكرّ كل من هرب من المشركين لمّا رأوا هذا الحال، وفوجئ الرُّماة وهم يجمعون الغنائم بمجموعات خيول المشركين يقودها خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل تهجم عليهم ويقتلون فيهم وهم على غير استعداد وقد ظنّوا المعركة انتهت، فتركوا الغنائم وولّى بعضهم هاربين.
وكان مُصعب بن عُمير رضي الله عنه به شبه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فجاء ابن قمئة لعنه الله وهو على فرس له إلى مُصعب وهو يحمل اللواء فضرب يده اليمنى، فأخذ اللواء باليُسرى، فقطعها أيضًا ثم أجهز عليه وهو يقول: “خُذها وأنا ابن قميئة”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أقمأه الله»، وأسرع رجلان من بني عبد الدار من المسلمين يأخذان اللواء: سويبط بن حرملة، وأبو الرُّوم، حتى لا يسقط على الأرض، وظلّ مع أبي الرُّوم حتى عاد به للمدينة المنوَّرَة بعد انتهاء المعركة، ونادى المُشركون: “يا للعُزّى، يا آل هُبَل”، وأخذوا يقتلون في المسلمين، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ثابت، وهو يقول: «أنا ابن العواتك من سُلَيْم»، ثم يقول: «أنا النَّبيُّ لا كَذِب، أنا ابن عبد المُطَّلِب».
وكان أربعة من مُجرمي قُريش قد تعاهدوا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، وهُم: عبد الله بن شهاب، وعُتبة بن أبي وقاص، وابن قميئة، وأُبَيّ بن خَلَف، فرمى عتبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بأحجار، فكسر رباعيته السُّفلى اليُمنى -من الأسنان القواطع- وأدمى شفتيه الشريفتين، ورماه ابن قميئة بحجارة فغاص زرد المغفر -درع منسوج من زرد معدني يلبس على الرأس- في خدّه الشريف، وابن قميئة يقول: “دلوني على محمد، فوالذي يُحلف به لئن رأيته لأقتلنه”، فضرب كتفه الشريفة فوقع في حُفرة أمامه فأصيبت رُكبتاه الشريفتان ولم تصنع ضربته في كتفه الشريف شيئًا إلا الألم الشديد، وأبو بشير المازني رضي الله عنه يصيح من بعيد لهول ما يرى -وهو غُلام صغير السنّ- حتى رأى النّاس جائت إليه صلى الله عليه وآله وسلَّم، فانتهض صلى الله عليه وآله وسلَّم وطلحة بن عبيد الله يحمله آخذ بحضنه من روائه وعليّ آخذ بيديه حتى استوى قائمًا صلى الله عليه وآله وسلَّم، وقد سال الدمّ على لحيته الشريفة من شفتيه وخدّه الشريف.
وأقبل أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم مُسرعًا، فوجد أبا عُبيدة بن الجرّاح يعدو كأنّه يطير فرآه أبو بكر ولم ينتبه له فقال: “اللهم اجعله طلحة بن عبيد الله”، فوجده أبا عُبيدة بن الجرّاح، قال أبو عُبيدة: “أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، فأنزع الحلقة من وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم”، فتركه أبو بكر، فأخذ أبو عُبيدة بأسنانه حلقة المغفر المغروزة في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فنزعها فانخلعت معها سنّته، وسقط على ظهره، ثم أخذ الحلقة الأُخرى بسنّته الأخرى فانخلعت أيضًا رضي الله عنه، وجعل الدم يسيل من وجنته الشريفة، فأسرع مالك بن سنان -والد أبو سعيد الخُدري- رضي الله عنه يوقف النزيف بفمه، بشفط الدمّ النازل، ثم بلعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مجه -يعني ابصقه من فمك-»، فقال مالك بن سنان: “والله لا أمجّه أبدًا”، ثم تقدَّم رضي الله عنه مستمرًا في القتال،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي، فلينظر إلى مالك بن سنان»، فقال بعضهم لمالك: “تشرب الدمّ!”، قال: “نعم أشرب دم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «من مسّ دمه دمي، لم تُصبه النّار»، وتقدَّم عبد الله بن شهاب الزُّهري -من مُجرمي قُريش- يقول: “دلّوني على محمد، فلا نجوت إن نجا!”، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بجانبه لا يراه!، ثم جاوزه وهو لا يدري، فقال له صفوان ابن أُمَيَّة: “كان محمد بجانبك!”، قال عبد الله بن شهاب: “والله ما رأيته، أحلف بالله إنه لممنوع منّا!”.
وكان مُخيريق اليهودي من علماء اليهود بالمدينة، فقال لليهود: “يا معشر اليهود، والله إنكم لتعلمون أنّ محمدًا نبيّ، وأنّ نصره عليكم لحق”، قالوا: “إنّ اليوم يوم سبت!”، قال مُخيريق: “لا سبت!”، وأخذ سلاحه وقال لأهله: “إن قُتلت فأموالي لمُحمّد يضعها حيث أراه الله”، ثم انطلق فلحقهم في المعركة فقاتل مع المسلمين، وقُتِل.
ولمّا رأى سعد بن أبي وقّاص ما فعل أخوه المُشْرِك -عُتبة بن أبي وقّاص- بالنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ثار، وتتبّعه في صفوف المشركين فلا يجده ثم يعود إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وقد كاد يودي بحياة نفسه، وعُتبة يهرب منه في كل مرَّة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا عبد الله ما تُريد؟ تريد أن تقتل نفسك؟»، فامتنع سعد عن الإيغال في صفوف المشركين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم داعيًا على من حاول قتله: «اللهم لا يحولَنّ الحول على أحدٍ منهم»[^1]، وقاتل طلحة بن عُبيد الله ببسالة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقيه بنفسه، وضُرِبَت يده فقطع إصبعه فقال: “حَسّ” -مُتألِّمًا-، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو قلت: بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون»، وشُلَّت إصبعه، وتقدَّم المسلمون يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: “ساعدوا أخاكم -يعني طلحة بن عُبيد الله-“، فانطلقوا إليه يساعدونه وينقذونه رضي الله عنه وقد أصابته بضع عشرة ضربة، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول عنه: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عُبيد الله».
ولمّا قتل ابن قميئة مُصعب ابن عُمير وهو يظُنّ أنّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وعاد للمشركين يصيح فيهم: “قتلت محمدًا”، وتصوَّر إبليس اللعين في صورة جُعال بن سُراقة وصرخ في المسلمين: “إن محمدًا قد قُتِل”، يعيدها ثلاث مرات، فظنّه الناس جُعال ابن سُراقة وهو يُقاتِل معهم وإلى جنبه أبو بردة بن نيار وخوّات بن جُبير، وتقدّم بعض المُسلمين يُريد قتل جُعال بن سُراقة، فشهد له أبو بردة وخوّات أنّه كان بجوارهما حين صاح ذلك الصائح، وأنّه غيره، وأُسقِط في يد المسلمين وتفرّقوا في كل ناحية، وصعدوا جبل أُحُد، وخففت هذه الصيحة وكلام ابن قميئة من حدّة هجوم المشركين ظنًّا منهم أنّهم أصابوا ما يريدون.
وزادت الفوضى في جيش المسلمين واختلطوا حتى أنهم صاروا يقتلون ويضربون بعضهم بعضًا ولا يدرون من التسرُّع والدهش، فجُرِح أُسيد بن حُضير رضي الله عنه جُرحين، ضربه أبو بُردة ولا يدري، وكرّ أبو زعنة فضرب أبا بُردة ضربتين ولا يدري! رضي الله عنهم، واجتمعوا على اليمان حُسيل بن جابر -أبو حُذيفة بن اليمان- وهو شيخ كبير لا يعرفه كثير من المسلمين، فقتلوه في الفوضى؛ اجتمعت عليه سيوفهم ولا يدرون، وحذيفة يصرخ فيهم يقول: “أبي، أبي”، حتى قُتِل رضي الله عنه، فقال حُذيفة: “يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ما صنعتم”، و قتله المشركون صاحبه الشيخ الآخر رفاعة بن وقش رضي الله عنه.
وخاف النّاس جدًا لظنّهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قُتِل، حتى قال بعضهم لبعض: “أشعرت أن رسول الله قد قُتِل؟”، قال: “إن كان محمد قد قتل، فإنّ الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم” ونهضوا يقاتلون بعدما خارت عزائمهم.
وكان أوّل من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرفه من عينيه؛ كعب بن مالك رضي الله عنه، فأخذ يصيح وهو يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يعلم النّاس أنّه بخير، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يشير بإصبعه على فيه أن أُسكُت -حتى لا يعرف المشركون مكانه-، ثم انسحبوا بنظام ناحية جبل أُحُد ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «إليّ يا فُلان، إليّ يا فٌلان -يُناديهم بأسمائهم-، أنا رسول الله»، فاجتمع إليه مجموعة من المهاجرين والأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، والحُباب بن المُنذِر، وأبو دُجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمّة، وسهل بن حنيف، وأُسيد بن حُضير، وسعد بن مُعاذ، وسعد بن عُبادة، ومحمد بن مسلمة، كلّهم يحفّون به صلى الله عليه وآله وسلَّم يقولون: “وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك”.
وأدرك أُبَيّ بن خلف المسلمين وهم ينسحبون ناحية شِعب جبل أُحُد، وهو يقول: “أين محمد، لا نجوت إن نجا”، فقال المسلمون: “يا رسول الله، يتصدّى له رجل منّا؟”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوه»، فلمّا اقترب منهم، تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الحربة من الحارث بن الصمة، وطعنه في ترقوته طعنة أوقعته عن فرسه، فولّى هاربًا إلى المشركين وما به سوى خدش صغير في عنقه يقول: “قتلني والله محمد!”، فيقول له من معه: “ذهب والله فؤادك، والله ما بك من بأس”، قال: “إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني!”.
وصعد المسلمون في الجبل بعد أن دخلو الشِّعب، فتقدَّم المشركون يحاولون صعود الجبل يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اللهم لا ينبغي لهم أن يعلونا»، فخرج لهم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وجماعة من المهاجرين فيهم سعد بن أبي وقّاص يرمونهم بالسِّهام ويضربون من تقدَّم منهم بالحِراب وقاتلوهم حتى هبطوا من الجبل.
وعاد المشركون لأرض المعركة يُمَثِّلون بالجُثَث، ففتحت هند بنت عُتبة بطن حمزة رضي الله عنه وأخرجت كَبِدِه ولاكتها بأسنانها ثم ألقتها، وقطع نساء المشركون الأنوف والآذان من القتلى يجعلونها خلاخيل في أرجلهم، وارتحل المُشرِكون من ميدان المعركة، وخرج بعض الأبطال من المسلمين يوقف ما استطاع هذه الانتهاكات الإجراميّة في حقّ القتلى والتمثيل بجثثهم رضي الله عنهم، فخرج كعب بن مالك رضي الله عنه فوجد رجُلًا من المُشركين يلبس عُدّة الحرب الكاملة يطوف بقتلى المُسلمين، وعلى بُعد قد كَمِن له بطل من أبطال المُسلمين ينتظره وعُدَّته وسِلاحه أضعف وأقل، فهجم المسلم عليه وتضاربا فضربه المُسلِم ضربة قضت عليه، والتفت إلى كعب بن مالك وقد كشف خوذته مظهرًا وجهه يقول: “كيف ترى يا كعب؟، أنا أبو دجانة”، ولمّا استقرّ المسلمون عند الجبل خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأتى بماء من بئر يُسَمّى المهراس، فلم يستسغه فصبّته فاطمة عليها السلام على وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأسه وفاطمة تغسله، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اشتدّ غضب الله على قوم أدموا وجه نبيّهم»، ولمّا رأت فاطمة رضي الله عنها أنّ النزيف لا يتوقف من أثر جُرحه صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه الشريف أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها بوجهه الشريف فتوقف الدمّ، وجاء محمد بن مسلمة رضي الله عنه بماء عذب، فشرب منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير.
ولمّا تهيّأ المشركون للانصراف عن أرض المعركة وبعضهم يظنّ أنّه قتل محمدًا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، دخل أبو سفيان إلى الشِّعب وصعد ناحية من الجبل ونادى: “أفيكم محمد؟”، فلم يجبه أحد، ثم نادى: “أفيكم ابن أبي قُحافة؟”، فلم يجيبوه، فقال: “أفيكم عمر بن الخطّاب؟”، فلم يجيبوه، وقد أشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اسكتوا، فلمّا لم يجد أبو سفيان الإجابة قال بأعلى صوته: “أمّا هؤلاء فقد كُفيتموهم -يعني ماتوا-”، فلم يتمالك عمر بن الخطّاب نفسه أن صاح: “يا عدوّ الله إن الذي ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك”، قال أبو سفيان: “قد كان فيكم مُثَلَة لم آمر بها، ولم تسؤني…أُعلُ هُبَل”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا تجيبوه؟»، فقالوا: “ما نقول يا رسول الله؟”، فقال: «قولوا: الله أعلى وأجلّ»، فقالوها، ثم قال أبو سفيان: “لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا تجيبوه؟»، قالوا: “ما نقول يا رسول الله؟”، قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»، فقالوها، ثم قال أبو سفيان: “أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال”، فأجابه عُمَر: “لا سواء، قتلانا في الجنَّة وقتلاكم في النَّار”، قال أبو سفيان: “هَلُمّ إليّ يا عُمَر”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ائته فانظر ما شأنه؟»، فجاءه عُمَر، فقال أبو سفيان: “أنشدك بالله يا عُمَر، أقتلنا مُحمَّدًا؟”، قال عُمَر: “اللهم لا، وإنّه ليسمع كلامك الآن!”، قال أبو سفيان: “أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ”، وانصرف عنه عُمَر.
ولمّا انصرف أبو سفيان من عند جبل أُحُد نادى: “موعدكم بدر الصفراء العام القابل”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من أصحابه: «قل: نعم، هو بيننا وبينك موعد».
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم علي بن أبي طالب خلف المشركين فقال: “اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا جنبوا الخيل، وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها، ثم لأناجزنّهم”، فخرج عليّ رضي الله عنه خلفهم على الفرس سائرًا حوالي 10 كم نصف ساعة تقريبًا حتى تأكَّدَ أنّهم قد توجّهوا ناحية ذي الحُلَيْفة وقد امتطوا الإبل وساقوا الخيل، فعاد مُسرِعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم سائرًا حوالي 10 كم في نصف ساعة أُخرى حتى وصل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم فأخبره أنَّهم قد جاوزوا ذي الحُليْفَة متوجهين إلى مَكَّة.
ودخل وقت الظُّهر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بلالًا أن يؤذن ويُقيم، ثم صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الظهر قاعدًا من أثر إصابته في ركبته، وصلّى خلفه النّاس قعودًا أيضًا، ثم خرجت النساء اللاتي كُنّ حضرن مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم المعركة ماكثات في المُعسكر، وفيهنّ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها، وأم سُلَيْم بنت ملحان، وأم سليط، وأم أيمن رضي الله عنهنّ ومعهم المسلمين يتفقّدون الجرحى والقتلى فشمّرن أرجلهن يأتين بقِرَب الماء يفرغونه في أفواه الجرحى ويرجعان يملآنه فيفرغانه في أفواه الجرحى.
وتفقَّد المسلمون الجرحى فوجدوا مُخيريق اليهودي مقتولًا فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «مُخيريق خير يهود»، ووجدوا قزمان المُنافِق به رَمَق وقد كثُرت جِراحه وقاتل قتالًا شديدًا حتى قتل وحده ثمانية من المشركين، فحملوه إلى دار بني ظفر بالمدينة، وبشّره المسلمون، فقال: “والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت”، فلمّا اشتدّت جِراحه ذبح نفسه، وسُئل عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: “هو من أهل النار”، وكان في الجرحى الأصيرم عمرو بن ثابت وبه رمق ينازع الموت، وكانوا يعرضون عليه الإسلام قبل ذلك فيرفضه، فقالوا: “يا أصيرم ما الذي جاء بك، خفت على قومك؟ أم رغبة في الإسلام؟”، فقال: “بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصابني ما ترون”، ومات رضي الله عنه مكانه ولم يُصَلِّ قط، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال: «هو من أهل الجنَّة».
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه يبحث عن سعد بن الربيع في القتلى والجرحى، وقال له: «إن رأيته أقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجدك؟»، فأخذ زيد رضي الله عنه يطوف بين القتلى فوجده رضي الله عنه وبه آخر رمق، وفي جسمه سبعون ضربة، ما بين طعنة رُمح وضربة سيف ورمية سهم، فقال: “يا سعد، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرئك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟”، قال سعد: “وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام، قل له: يا رسول الله، أجد ريح الجنّة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيكم عين تظرف”، ثم فاضت روحه إلى باريها.
وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فوقف على الشهداء وقال: «أنا شهيد على هؤلاء، إنه ما من جريح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة، يدمى جرحه اللون لون الدم، والريح ريح المسك»، وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة المنوَّرَة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بردّهم ودفنهم حيث قُتِلوا، وأن لا يُغَسَّلوا، وأن يدفنوا بثيابهم بعد خلع عُدَّة الحرب من عليهم، وكان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، وكان يسأل: “أيّهم أكثر أخذًا للقُرآن؟”، فيجعله قبل صاحبه في اللحد، ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من الصداقة والمحبّة.
وكانت النساء قد خرجن من المدينة يستقبلنه صلى الله عليه وآله وسلَّم، فخرجت أوّل من خرجت السُّميراء بنت قيس من بني دينار إلى أُحُد فيمن خرجن من النّساء بعد المعركة يستقبلن الجيش، فالتقت بعض المسلمين فنعوا لها ابناها: النُّعمان بن عمرو، وسُلَيم بن الحارث رضي الله عنهما، فقالت: “ما فعل رسول الله؟”، قالوا: “خيرًا، هو بحمد الله على ما تُحبّين”، قالت: “أروني أنظر إليه”، فأشاروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فأسرعت إليه وقالت: “كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل -يعني هيّنة-”، فحملت ابناها على جمل لها وعادت للمدينة المنوَّرَة، فلقيتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالطّريق فقالت: “ما وراءك؟”، قالت السميراء: “أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمد الله فبخير لم يمُت، واتخذ الله من المؤمنين شهداء”، قالت عائشة: “من هؤلاء معكِ؟”، قالت: “ابناي”، وانصرفت تدفنهما بالمدينة، وجاءها أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بردّهم ليدفنوا حيث استشهدوا، فأعادتهم.
وكانوا قد وضعوا حنظلة رضي الله عنه ليدفنوه، فلم يجدوا جثمانه، فبحثوا فوجده في ناحية يقطر منه الماء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال: «إن الملائكة تغسِّله»، ثم قال: «اسألوا أهله ما شأنه؟»، فسألوا امرأته، فأخبرتهم أنّه لمّا نادى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم للخروج كان جُنُبًا فخرج مُبادِرًا ولم يكن قد اغتسل من جنابته، فسُمِّيَ: غسيل الملائكة.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يسأل: “ما فعل عمّي حمزة؟”، فبحثوا عنه ووجدوه، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ما فعلته هند بنت عبتة من تمثيل بجثَّة عمّه حمزة رضي الله عنه اشتدّ حُزنه، وبكى بُكاءًا شديدًا وقال: “ما وقفت موقفًا قط أغيظ إليّ من هذا الموقف”، وجاءت عمّته صفيّة رضي الله عنها لتنظر إلى أخيها حمزة رضي الله عنه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الزبير بن العوّام ابنها يصرفها فقال: “يا أمّي إنّ في النّاس تكشُّفًا -يعني بعض القتلى عوراتهم مكشوفة وممثل بهم- فارجعي”، فقالت: “ما أنا بفاعلة حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”، فلمّا رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: “يا رسول الله أين ابن أمّي حمزة؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هو في الناس»، قالت: “لا أرجع حتى أنظر إليه”، ووقفت عنده تبكي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يبكي لبكائها وهو يقول: «لا أصاب بمثلك أبدًا»، وقال: «لولا أن يحزن ذلك نساءنا، لتركناه للعافية حتى يحشر يوم القيامة من بطون السِّباع وحواصل الطير»، ثم قال: «أبشري: أتاني جبريل فأخبرني أنّ حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله».
ولمّا كفّنوا بعض الشهداء لم يجدوا ما يسترهم، ومنهم مصعب بن عُمير رضي الله عنه، فكفّنوه بثوب إذا غطّوا رأسه بدت رجلاه وإذا غطّوا رجله بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «غطّوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر -والإذخِر نبات صحراوي معروف له استخدامات طبيّة-».
ولمّا انتهوا من دفن الشهداء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل»، فوقفوا خلفه صفوفًا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم لك الحمد كلّه، اللهم لا قابض بما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا ومضل لما هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إين عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منتعنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذي يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق».
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بالجيش عائدين للمدينة المنوَّرَة،، فاستقبلته في الطريق حمنة بنت جحش -زوجة مُصعب بن عُمير- رضي الله عنهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا حمنة احتسبي»، قالت: “من يا رسول الله؟”، قال: «خالك حمزة»، قالت: “إنّا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئًا له الشهادة”، ثم قال لها: «احتسبي»، قالت: “من يا رسول الله؟”، قال: «أخوكِ»، قالت: “إنّا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له ورحمه، هنيئًا له الجنّة”، ثم قال لها: «احتسبي»، قالت: “من يا رسول الله؟”، قال: «مُصعب بن عُمير»، قالت: “واحزناه، واعقراه”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن للزوج من المرأة مكانًا ما هو لأحد»، ثم قال لها: «لم قُلتِ هذا؟»، قالت: “يا رسول الله ذكرت يُتم بنيه فراعني”، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لأولاده أن يخلف الله عليهم خيرًا.
وخرجت لاستقباله صلى الله عليه وآله وسلَّم أيضًا أم سعد بن معاذ مُسرعة على جمل لها، وسعد ابنها آخذ بلجام الجمل، فقال سعد: “يا رسول الله أمّي”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مرحبًا بها»، ووقف لها فعزّاها بابنها عمرو بن معُاذ رضي الله عنه، فقالت: “أما إذ رأيتك سالمًا فقد استقللت المُصيبة”، ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أم سعد، أبشري وبشّري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنّة جميعًا، وقد شفعوا في أهلهم جميعًا»، قالت: “رضينا يا رسول الله!، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟، يا رسول الله ادع لمن خلفوا منهم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا»، وغربت الشمس والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم والمسلمون قد دخلوا المدينة المنوَّرَة.
[^1]: فجُرح عُتبة في أُحُد ومات في جُرحه، وأمّا ابن قميئة فقالوا ذهب يحلب شاة فنطحته بقرنها فقتلته فوجد ميّتًا بين الجِبال لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عليهما.