وفي ليلته أمسى زيد بن حارثة ومن معه من جيش المسلمين #~~~قريب من مُؤتَة~~~#، فصلوا المغرب والعشاء ثم ساروا حوالي 25 كم …
في خمس ساعات تقريبًا حتى وصلوا #~~~مُؤتَة~~~# وقت صلاة الصُّبح فصلوه بها أو قريبًا منها، ووجدوا جيش البيزنطيّين والغساسنة ومعهم مالا طاقة لهم به من العدد والسلاح والخيل وقد كان بعض فرسانهم على خيول مكسوّة بالدّيباج ويلبسون العتاد الذهبي، حتى برق الذّهب في عيني أبي هُريرة رضي الله عنه، فخاف، فرآه ثابت
بن أرقم رضي الله عنه فقال: “يا أبا هريرة مالك؟ كأنك ترى جموعًا كثيرة؟”، قال أبو هريرة: “نعم”، قال ثابت: “لو رأيتنا ببدر!، إنا لم نُنصر بالكثرة!”.واحتدم القتال بين الفريقين في معركة غير متكافئة بالمرّة، وسار زيد بن حارثة رضي الله عنه حاملًا اللواء يقاتل وهو في يده، وقُتِل رضي الله عنه، فبادر جعفر فقفز عن فرسه وضرب عرقوبيها -ركبتيها- بسيفه -حتى لا يأخذها العدو-، وحمل الراية من زيد، وقاتل قتالًا شديدًا، فقطع العدو يده التي يحمل بها اللواء، فحملها بالأُخرى، فقطعها أيضًا، فأمسكها بعضديه، حتى ضربه رجل من الروم البيزنطيين فقطعه نصفين، وكان رضي الله عنه ابن ثلاث وثلاثين سنة قمريّة، ووقع اللواء.
وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم بين أصحابه على المنبر -وكان قد صُنع له صلى الله عليه وآله وسلَّم منبر بعد خيبر أثناء تجديد المسجد وتوسعته-، فكشف الله له ميدان المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يُشاهد ما يجري: «أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا، فقال زيد: الآن حين استُحِكم الإيمان في قُلُوب المؤمنين تُحبب إلي الدنيا!، فمضى في القتال حتى استشهد»، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقال: «استغفروا له فقد دخل الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمنّاه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استُحِكم الإيمان في قلوب المؤمنين تُمنيني الدُّنيا ثم مضى حتى استُشهِد»، فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: «استغفروا لأخيكم فهو شهيد دخل الجنة، فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة»، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بُرهة، فتغيّرت وجوه الأنصار لعلمهم أنّ ابن رَوَاحة هو من سيحمل اللواء بعد جعفر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد ودخل الجنّة مُعترضًا»، فامتقع وجه الأنصار وأصابهم همّ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أصابته الجراح»، قالوا: “يا رسول الله، ما اعتراضه؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لمّا أصابته الجِراح تردد، فعاتب نفسه، فتشجّع فقاتل فاستُشهِد فدخل الجنّة»، فهدأ الأنصار واستبشروا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «رأيت جعفرًا مَلِكًا يطير في الجنّة تدمى قادمتاه، ورأيت زيدًا دون ذلك -أقلّ منه في المنزلة-، فقُلت: ما كُنت أظُنّ أن زيدًا دون جعفر؟!»، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: “إن زيدًا ليس بدون جعفر، ولكنّا فضلنا جعفرًا لقرابته منك”[^1].
وقفز ثابت بن أرقم رضي الله عنه فأخذ اللواء ورفعه من على الأرض، وهو يصيح بالنّاس ليجتمعوا عنده، والمسلمون يجتمعون حوله وهُم منهزمون بعد مقتل ابن رَوَاحة، فنظر فوجد خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقال ثابت: “خذ اللواء يا أبا سليمان”، فقال خالد: “لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل كبير وقد شهدت بدرًا”، قال ثابت: “خذه يا رجل، فوالله ما أخذته إلا لك!”، وقال ثابت للنّاس: “اصطلحتم على خالد؟”، قالوا: “نعم!”، فأخذه خالد وحمله مُدّة والمشركون يلاحقونه، فثبت لهم وتردد المشركون في التقدّم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهو بالمدينة: «أخذ الراية سيف من سيوف الله»، فهجم المسلمون عليهم هجمة ثم داهمتهم الجموع الكثيرة، فوجههم خالد بن الوليد فانحاش بهم مبتعدًا عن ميدان المعركة، وقد وجد المعركة لن تفضي إلا إلى إفناء جيش المسلمين، ولم يُلاحقهم العدو، وغربت الشمس وهم هناك.
وذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، بعدما عَلِم بمقتله، ودخل فوجد زوجته -أسماء بنت عُميس- قد أعدّت طعامًا، وعجنت عجينًا، وقد غسلت وجوه أولاده وطيّبتهم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا أسماء، أين بنو جعفر؟»، فجاءت بهم إليه، فضمّهم وشمّهم ثم ذرفت عيناه فبكى صلى الله عليه وآله وسلم، ومسح على رؤوسهم، ولحيته تقطر بالدّموع، فقالت أسماء: “أي رسول الله، لعلّك بلغك عن جعفر شيء؟”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم، قُتِل اليوم»، فقامت أسماء تصيح واجتمع إليها النّساء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يا أسماء لا تقولي هُجرًا -يعني لا تقولي مُنكرًا- ولا تضربي صدرًا»، ثم قال: «اللهم إن جعفرًا قد قدم إلى أحسن ثواب، فاخلفه في ذُريّته بأحسن ما خلفت أحدًا من عبادك في ذريّته»، ثم قال: «يا أسماء ألا أبشّرك؟»، قالت: “بلى”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنّة»، قالت: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فأعلِم النّاس ذلك”، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ معه عبد الله بن جعفر وهو يمسح على رأسه، ثم صعد المنبر وأجلسه أمامه على الدرجة السُّفلى والحُزن يُعرف عليه، فتكلَّم فقال: «إنّ المرء كثيرٌ بأخيه وابن عمّه، ألا إنّ جعفرًا قد استشهد وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنّة»، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل بيته وأرسل إلى أخيه عون بن جعفر أن يأتوا به، فتغدّوا عنده صنعته سلمى خادمته صلى الله عليه وآله وسلَّم من شعير مجروش مطبوخ بالزّيت والفُلفُل، وسار صلى الله عليه وآله وسلَّم حتى دخل ابنته فاطمة عليها السلام وهي تقول: “واعمّاه!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «على مثل جعفر فلتبك الباكية»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لأهله: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم».
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال: “يا رسول الله إنّ النساء قد عنيننا بما يبكين -يعني لا نقدر على إسكاتهنّ”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «فارجع إليهنّ فأسكِتهُنّ، فإن أبينَ فاحثُ في أفواههن التُّراب»، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه في نفسها: “أبعدك الله، ما تركت نَفْسَك، وما تستطيع أن تُطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم”، وصدقت رضي الله عنها!.
[^1]: وأدلّة فضل قرابته صلى الله عليه وآله وسلّم كثيرة جدًا، وهذا من أبلغها، فمن تساوى معهم في المنزلة والمكانة في الجنّة كانوا أعلى منه عند الله، لشرف القرابة والنِّسبة إلى حضرته صلى الله عليه وآله وسلَّم، فهي أشرف نسبة، وتنفع صاحبها إن شاء الله، ما توُفِّي على الإيمان، قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور:21].