كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث الحارث بن عُمير الأزدي إلى ملك #~~~بُصْرَى~~~# بكتاب، فلمّا نزل #~~~مُؤتَة~~~#، …
تعرّض له شُرحبيل بن عمر الغسّاني -وهو ملك العرب الغساسنة، ووالي الرُّوم الشرقيّين على منطقة البلقاء وهي الأردن-، فقال له: “أين تُريد؟”، قال: “الشّام”، قال: “لعلّك من رُسُل محمد؟”، قال: “نعم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم”، فأمر به أن يُربَط وقُتِل مربوطًا، وهذه من أشنع الجرائم قتل السُّفراء وهي إعلان الحرب والإمعان في الإجرام.
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وكان السَّفير الوحيد الذي قُتل من سُفراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، واشتدّ الخبر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبر النّاس بمقتل الحارث بن عُمير، ومن قَتَلَه، وأمرهم أن يخرجوا لقتال الغساسنة وولاة أمورهم من الروم الشرقييّن الذين أظهروا أشدّ العداوة وقتلوا السُّفراء.
فتجمّع المسلمون في جيش قوامه ثلاثة آلاف مُقاتل وعسكروا بـ#~~~الجَرْف~~~# على بُعد حوالي 6 كم شمال المدينة المنوَّرَة، فلمّا صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم الظُّهر، جلس وجلس أصحابه، وجاء النُّعمان بن فنحص اليهودي [^1] فوقف يسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو يتكلَّم مع قادة الجيش، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «زيد بن حارثة أمير النّاس، فإن قُتِل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أُصيب جعفر فعبد الله بن رَوَاحة، فإن أُصيب عبد الله بن رَوَاحة، فليرتض المسلمون من بينهم رجُلًا فليجعلوه عليهم» [^2]، فقال النُّعمان بن فنحص اليهودي: “أبا القاسم إن كُنت نبيًا فسمَّيْت من سمَّيت قليلًا أو كثيرًا أُصيبوا جميعًا، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرّجُل على القوم ثم قالوا: إن أُصيب فُلان فلو سمّى مائة أُصيبوا جميعًا”، وجعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة ينصحه: “اعهد -اترك وصيّة لأهلك- فإنّك لا ترجع إلى محمدٍ أبدًا إن كان نبيًا!”، قال زيد رضي الله عنه: “فأشهد أنّه نبي صادق بارّ”.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواء أبيض لزيد بن حارثة، ووقف يوصي الأُمراء فقال:”أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اُغزوا بسم الله، في سبيل الله، فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشّام، من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلُوا، وستجدون فيها رجالًا في الصّوامع مُعتزلين للنّاس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيرًا مُرضعًا ولا كبيرًا فانيًا، ولا تغرقُنّ نخلًا، ولا تقطعن شجرًا، ولا تهدموا بيتًا، وإذا لقيت عدوّك من المُشركين فادعُهُم إلى إحدى ثلاث، فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم، ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحوّّل من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أنّ لهم ما للمُهاجرين وعليهم ما على المُهاجرين وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المُسلمين، يجري عليهم حُكم الله ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيء، إلا أن يُجاهدوا مع المُسلمين، فإن أبوا، فادعهم إلى إعطاء الجِزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإن أنت حاصرت حصن أو مدينة فأرادوك أن تستنزلهم على حُكم الله فلا تستنزلهم على حُكم الله، ولكن أنزلهم على حُكمك، فإنك لا تدري أتُصيب حُكم الله فيهم أم لا، وإن حاصرت أهل حصن أو مدينة فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمّة رسوله، فلا تجعل لهم ذمّة الله ولا ذمّة رسوله، ولكن اجعل لهم ذِمَّتَك وذِمّة أبيك وذِمَّة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذمّتكم وذمم آبائكم خير لكم من أن تخفروا ذمّة الله وذمّة رسوله”[^3].
وودّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أُمراء الجيش، فلمّا ودّع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، قال عبد الله: “يا رسول الله مُرني بشيء أحفظه عنك!”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنك قادم غدًا بلدًا السّجود به قليل فأكثر السّجود»، قال عبد الله: “زدني يا رسول الله”، قال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «اذكر الله فإنّه عون لك على ما تطلب»، فقام عبد الله من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، حتى إذا مضى ذاهبًا رجع فقال: “يا رسول الله إن الله وتر يحب الوتر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «يا ابن رَوَاحة ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشرًا أن تُحسن واحدة»، فقال ابن رَوَاحة رضي الله عنه: “لا أسألك عن شيء بعدها!”.
ومشى النّاس يودّعون أُمراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ويدعون لهم، والجيش يودِّع أهل المدينة، ونادى المسلمون الجيش قائلين: “دفع الله عنكم وردّكم صالحين غانمين”، فأنشد ابن روَاحَة رضي الله عنه يقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فَرْعٍ تقذف الزّبَدَا
وانطلق الجيش فساروا من الجَرْف حوالي 25 كم في خمس ساعات تقريبًا حتى وصلوا #~~~البتراء~~~#، وغربت الشمس وهم في الطريق.
[^1]: وهو من جملة الأدلّة على بقاء أفراد اليهود بالمدينة المنوَّرَة كمواطنين عاديّين تحت المظلّة الدستوريّة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوّل ما قَدِم المدينة المنوَّرَة بكتابة وثيقة المدينة، ما يفيد بقاء المواطنة على حالها، وبقاء هؤلاء المواطنون بلا إشكال حتى الانتقال الشريف دليل دامغ على ذلك، فالمدينة لجميع أهلها ما داموا غير مفرّقين ولا مُرجفين بين أهلها، بغضّ النظر عن الدِّيْن.
[^2]: وهذا دليل على مشروعيّة اختيار الأمير من بين المُسلمين بطريق الاختيار الجمعي، إذا لم يُحدِّد النّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم الأمير أو يُعطِ معايير لذلك، وفيه إشارة إلى ما سيحدث بعد انتقاله الشريف من اتّفاق النّاس على هذا المبدأ الدستوري المُهمّ، بخلاف ما ذهبت إليه بعض المذاهب الفكريّة الإسلاميّة الأخرى.
[^3]: وهذا ميثاق عظيم وتشريع فخيم للحرب وإدارتها والمسموح فيها وكيفيّة التعامل مع العدو، وهو في غاية الأهميّة لفهم المنهج النبوي في هذا الصدد.