وفي ليلته دخلت ماوية -وهي من مشركات مكة- على خبيب رضي الله عنه وهو في الأسر في بيتها ب#~~~مكة المكرمة~~~# “الكعبة المشرفة”، …
وقد أسره بنو لحيان وباعوه لأهل مكة، وكان في بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذيل، فأخبرته أنهم يقتلونه اليوم، تقول ماوية -وأسلمت بعد ذلك-: “فما رأيته اكترث لذلك -لم يهتم-!”، فقال: “ابعثي لي بحديدة -شفرة حلاقة-، استصلح بها” -يريد أن يموت نظيفًا رضي الله عنه وقد نظف شعر جسمه!-، فبعثت إليه موسى مع ابن لها، فلمّا ذهب الغلام إلى خبيب، صرخت في نفسها وقالت: “أدرك والله الرجل ثأره!!، أي شيء صنعت؟!!، بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة فيقتله ويقول: رجل برجل!”.
فلمّا أتاه ابنها بالحديدة تناولها منه، ووضعها على فخذه، ثم قال ممازحًا له: “وأبيك إنك لجريء!، أما خشيت أمك غدري حين بعثتك بحديدة، وأنتم تريدون قتلي؟”، وكانت ماوية قد لحقت ابنها ووصلت عند الباب فسمعت ما قاله خبيب، فقالت: “يا خبيب إنما أمنتك بأمان الله، وأعطيتك بإلهك، ولم أعطك لتقتل ابني!”، فقال خبيب رضي الله عنه: “ما كنت لأقتله، وما نستحل في ديننا الغدر!”.
فأخبرته ماوية أنّهم سيخرجونه ليقتلوه بالغداة -ما بين الفجر وشروق الشمس-، فلمّا كان الفجر وقد تجهز خبيب رضي الله عنه للقتل، فخرجوا به وبزيد بن الدّثنة رضي الله عنهما مكبلين بالحديد فساروا حوالي 5 كم في ساعة تقريبًا حتى وصلوا #~~~التنعيم~~~# خارج الحرم المكي، وخرج معهم الرجال والنساء والصبيان والعبيد من مشركي مكة، وهم إما موتور يريد أن يتشفى بالنظر لقتل من قتل أهله أو مخالف للإسلام يريد التشفي في المسلمين.
فخرجوا به وبزيد بن الدّثنة رضي الله عنه، والتقيا وهما في الطريق للتنعيم، وأوصى كل منهما صاحبه بالصبر على ما أصابه ثم افترقا، فقد جعلوا قتل كل منهما في مكان، وكانوا قد أحضروا خشبة طويلة يعلقون عليها خبيب ليقتلوه، فحفروا لها يثبتونها في الأرض، وأخرى لزيد رضي الله عنهما، فلمّا انتهوا من الحفر وذهبوا يربطون خبيب عليها ويرفعونها، قال: “هل تتركونني أصلي ركعتين؟”، قالوا: “نعم”، فركع ركعتين خفيفتين لم يطول فيهما، ثم قال: “أما والله لولا أن تقولوا أني خفت الموت لاستكثرت من الصلاة!”، ثم دعا عليه رضي الله عنه فقال: “اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدًا”، وكان ممن حضر قتله معاوية بن أبي سفيان وأبيه وهما على شركهما، فاضطجع أبو سفيان على الأرض وجذب ابنه معاوية بشدة خوفًا من دعوة خبيب، ووقع معاوية على ظهره -وقيل ظل يشتكي من أثرها زمانًا- وكان أهل الجاهلية يرون أن الاضجاع على الأرض يمنع أثر الدعوة، وأما حويطب بن عبد العزى فقد أدخل أصابعه في أذنه وجرى هربًا حتى لا تصيبه دعوة خبيب، وحكيم ابن حزام -ولم يُسلم- فقد هرب واختبأ بين الشجر، واختبأ جبير بن مطعم خلف الناس بعيدًا عن مواجهة خبيب، كلهم يريد ألا تصيبه دعوة خبيب.
فلمّا صلى الركعتين حملوه إلى الخشبة، وجعلوا وجهها إلى المدينة وربطوه بها جيدًا، ثم قالوا: “ارجع عن الإسلام نتركك!”، قال: “لا والله، ما أحب أني رجعت عن الإسلام، وأن لي ما في الأرض جميعًا!”، قالوا: “فتحب أن محمدًا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟”، قال: “والله ما أُحب أن يشاك محمد بشوكة وأنا جالس في بيتي!”، فأخذوا يصرخون فيه: “ارجع يا خبيب، ارجع يا خبيب، ارجع يا خبيب!”، فقال: “لا أرجع أبدًا!”، قالوا: “أما واللات والعزى، لئن لم تفعل لنقتلنك”، قال خبيب: “إن قتلي في الله لقليل”، فلمّا رأوا صبره وثباته، وقد جعلوا وجهه ناحية المدينة فقال: “أمّا صرفكم وجهي عن القبلة، فإن الله يقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ} [البقرة:115]، ثم قال: “اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس ها هنا أحد يبلغ رسولك السلام عني، فبلغه أنت عني السلام”.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس بعد صلاة الصبح في المسجد يتحدث إلى أصحابه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه الوحي، كأنّه لا يكون مع من حوله ويغمض عينيه، ويعرفونها إذا ما رأوه صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، فلمّا سُرّي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، … هذا جبريل يقرئني السلام من خبيب، خبيب قتلته قريش».
ثم دعا مشركو مكة أبناء من قتل ببدر، أربعون غلامًا فأعطوهم رماحًا فقذفوه بها، فطعنته طعنًا خفيفًا فاستدار في خشبته فصار وجهه للكعبة، فقال: “الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين”، فجاء عقبة بن الحارث بن عامر وكان غلامًا صغيرًا فأخذ رجل من بني عبد الدار اسمه أبو ميسرة بيده وجعل يطعن خبيب بالحربة وهو ممسك بيد عقبة بن الحارث -وأسلم بعد ذلك-، ثم أتى رجل اسمه أبو سروعة فطعنه فأخرجها من ظهره، فأخذ رضي الله عنه يردد الشهادتين حتى لفظ أنفاسه.
وأتوا بزيد بن الدثنة رضي الله عنه يربطوه على خشبته، فقال: “أصلي ركعتين”، فتركوه يصلي، ثم ربطوه على الخشبة، وجعلوا يقولون له: “ارجع عن دينك المحدث واتبع دين آبائك ونتركك”، فقال: “لا والله لا أفارق ديني أبدًا!”، قالوا: “أيسرك أن محمدًا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟، قال: “ما يسرني أن محمدًا يشاك بشوكة وأنا في بيتي”، وفي هذا قال أبو سفيان بن حرب -ولم يسلم بعد-: “لا، ما رأينا أصحاب رجل قط أشد حبا له من أصحاب محمد لمحمد”، ثم قتلوه رضي الله عنه، وكان الذي قتله نسطاس غلام صفوان بن أميّة -وأسلما بعد ذلك كليهما-.
فكان خبيب بن عدي وزيد بن الدّثنة رضي الله عنهما أول من سنّ ركعتين قبل القتل.
ولمّا طارت الأخبار بمقتل خبيب وصاحبه، وعرفها أهل المدينة، قال المنافقون: “ويح هؤلاء المقتولين لاهم باتوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم!”، فأنزل الله عز وجل في شأنهم: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ} {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ} [البقرة:204-205].