وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مَكَّة المُكَرَّمة وقد فتحها الله عليه بغير قِتال، إلا مُناوشات قليلة هنا وهناك اضطرت لها …
كتيبة خالد بن الوليد مع المُشركون ممن أصَرّ على مُقاومة دخول المُسلمين، فبات صلى الله عليه وآله وسلم ب#~~~الحُجُون~~~#، ولمّا أصبح انشغل المُسلمون بتنظيف الكعبة وما حولها من آثار الشِّرك، فكُسِّرَت الأصنام ورُفعت حطامها من حول الكعبة المُشَرَّفة، ووقف المُسلمون يُكَسِّرون صنما إساف ونائلة، وكان أهل الجاهلية يعبدونهما ويذبحون عندهما ويحلقون رءوسهم إذا حجّوا أو اعتمروا، فلّما كُسِّرا خرج من أحدهما امرأة شمطاء سوداء عريانة ناشرة الشعر تضرب وجهها وتدعو بالويل، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: «تلك نائلة يئست أن تُعبد في بلادكم أبدًا».
وفي ليلته أيضًا رجع أبو سفيان بن حرب إلى بيته وقد هاله مشهد الفتح، فلمّا دخل على امرأته هند بنت عتبة قال: “أترين هذا من الله؟”، قالت: “نعم هذا من الله!”، فلمّا كان الصباح وذهب أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه: «قلت لهند هذا من الله؟»، فقالت: نعم هذا من الله، قال أبو سفيان: “أشهد أنك عبد الله ورسوله والذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند!”.
بعث تميم بن أسد الخزاعي لتجديد أنصاب الحرم الشريف
وبعث صلى الله عليه وآله وسلَّم تميم بن أسد الخُزاعي وأمره بتجديد أنصاب الحَرَم الشريف، وأنصاب الحَرَم هي علامات حجريّة على الحدود الجغرافيَّة لمَكَّة المُكَرَّمة، فما داخلها الحَرَم وما خارجها الحِلّ، وهي حُدود توقيفيَّة حددها المولى عزّ وجل لنبيّه إبراهيم عليه السلام حين رفع القواعد، فأمره جبريل عليه السلام ببنائها في أماكن مُحدَّدة لتكون علامات وفواصل جغرافيَّة للحرم الشريف، وجدَّدها من بعده نبي الله إسماعيل عليه السلام ولم تُحرَّك، ثم حفيده قُصَيّ، ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتجديدها يوم الفتح، وهي ما تزال قائمة للآن في أماكنها يتولى حُكّام الحرمين الشريفين تجديدها كلّما احتاجت لذلك، وتُرى الآن على حدود مَكَّة مكتوب عليها “حدّ الحرَم”، وهذه الحدود هي حدود مائيّة دقيقة جدًا.
وفيه دخل إلى مَكَّة رجل من المُشركين يُسمَّى “جُنيدب بن الأدلع” من قبيلة هُذيل بعد وقت الظهيرة، كان قد قَتَل رجُلًا من المُشركين قديمًا يُسمَّى “أحمر بأسًا” من قبيلة أسلم، وجده نائمًا فقتله [^1]، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القتال وأمَّن أهل مَكَّة بخلاف من صدر في حقهم أحكامًا قضائيّة -وتقدم ذكرهم-، فلمّا دخل جُنَيدِب رآه من المُسلمين جُندُب بن الأعجم الأسلمي -وكان من قبيلة أحمر بأسًا المقتول-، فقال: “جُنيدب بن الأدلع، قاتل أحمر بأسًا!”، فقال جُنيدب: “نعم”، فخرج جُندُب يجري ويجمع قومه عليه، فأوَّل من لقي منهم خِراش بن أُمَيَّة الكعبي وكلاهما مُسلم -جُندُب وخِراش-، والنّاس مُلتَفُّون حول جُنيدب -المُشرِك- يُحدّثهم كيف قَتَل أحمر بأسًا هذا، وبينما هم مُجتمعون عليه، سارع خِراش ابن أُميّة بسيفه إليه ولوَّح به في الهواء لينصرف الناس عنه ويبتعدوا، فلمّا ابتعدوا طعنه خِراش بن أميَّة بالسيف في بطنه، وجُنيدب هذا مُستند إلى جدار من جُدُر مَكَّة، فجحظت عيناه وصرخ قائلًا: “قد فعلتموها يا معشر خُزاعة!”، ووقع ميّتًا، فسمع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، فقام خطيبًا في النَّاس فقال: «أيّها الناس، إنّ الله حرّم مكَّة يوم خلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين -أبو قبيس وقُعيقعان-، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحدٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلِّغ شاهدكم غائبكم. فإن قال قائل: قد قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولوا: إن الله قد أحلَّها لرسوله ولم يُحلَّها لكم! يا معشر خُزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر القتل إن نفع، وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينَّه -أعطي أهله ديَّته-! فمن قُتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار، إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله -ديَّته-»، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني كعب من قبيلة خُزاعة التي منها خِراش، أن تُؤدي ديَّته لأهله برغم كونه مُشركًا، وغضب غضبًا شديدًا مما فعل خِراش بن أميَّة، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لو كنت قاتلًا مؤمنًا بكافر، لقتلت خِراشًا بالهُذَليّ»، وكانت ديَّته مائة من الإبل، وكان أوّل قتيل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدفع ديَّته في الإسلام.
وأمر صلى الله عليه وآله وسلم بلالًا أن يؤذّن لصلاة الظُّهر فوق ظهر الكعبة، فصعد بلال فوقها، والمُشركون قد صعدوا فوق رءوس الجبال، وقد فرّ عُظماؤهم خوفًا من القتل، فلمّا أذَّن بلال ورفع صوته كأشد ما يكون وبلغ “أشهد أن محمدًا رسول الله”، سمعته جويريّة بنت أبي جهل، ولعلّها أسلمت اليوم غالبًا، ولمّا يدخل الإيمان قلبها، فقالت: “قد لعَمري رفع لك ذكرك! -أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم- أما الصلاة فسنُصلّي، والله لا نُحب من قَتَل الأحبّة أبدًا؛ ولقد كان جاء أبي الذي جاء محمدًا من النُّبُوَّة فردّها ولم يُرد خِلاف قومه”.
وقال عتَّاب وخالد بن أسيد: “الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا اليوم، فيكون منه ما يغيظه!”.
وقال الحارث بن هشام: “واثُكلاه! ليتني مت قبل هذا اليوم، أسمع بلالًا ينهق فوق الكعبة!”، ثم قال: “أما والله لو أعلم أنّه محق لاتبعته”.
وقال الحكم بن أبي العاص: “هذا والله الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جُمَح على بِنيَة أبي طَلْحَة -يقصد الكعبة ونسبها لأبي طلحة باعتبار السدانة في ولده-“.
وقال سُهيل بن عمرو -وكان قد خرَجَ من بيته بعد أن أمَّنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم-: “إن كان هذا سُخط الله فسيُغيّره، وإن كان رضاء الله فسيُقِرُّه”.
وقال أبو سفيان بن حرب: “أمّا أنا فلا أقول شيئًا، لو قُلت شيئًا لأخبرته هذه الحصباء -حصى الأرض-!”.
فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قالوا، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرهم بما قالوا، فقال الحارث وعتَّاب: “نشهد أنّك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك!”، وأسلما من وقتها.
وجاء رجل من قُريش للحارث بن هشام: “ألا ترى هذا العبد أين صعد؟”، فقال: “دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره”.