وفي ليلته أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون قد عادوا من غزوة أُحُد، فصلّوا المغرب، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم …
لفاطمة ابنته -عليها السلام- وقد ناولها سيفه: «اغسلي هذا من دمه يا بُنَيَّة، فوالله لقد صدقني اليوم»، وناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه سيفه أيضًا وقال: “وهذا أيضًا، فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لئن كنت صدقت القتال، لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة».
وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُفَكِّر في موقف المشركين وتحرُّكهم سريعًا عائدين لمكّة، وقد تبيّن له صلى الله عليه وآله وسلم أنّهم لا بُدّ أن يفطنوا لخطأهم العسكري بسرعة رحيلهم بعد المعركة وعدم استئصالهم المسلمين أو دخولهم المدينة، وكأن غرضهم كان ضربة المعركة ثم الهروب على إثرها مُباشرة، وأنّ كبرائهم لا بُدّ وأن يتنبهوا لهذا الخطأ الفادح.
وصلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين الصبح، ثم عاد لبيته، والمسلمون في حالة صحيّة صعبة، فقد كثرت جراحاتهم وأعيتهم المعركة وأكثر كبار الصحابة قد باتوا في المسجد، إلّا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ارتأى أنّ مُلاحقة العدوّ ضروريّة حتى لا يفكِّر بالعودة -ولا بُدّ أنّهم سيفكرون بالعودة-، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بلالا أن يُنادي: «إن رسول الله يأمركم بطلب عدوّكم ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس».
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من المسلمين طليعة يلحقون بالمشركين يعرفون أخبارهم، فانقطع نعل أحدهما وأسرع الآخران فلحقا بالمشركين عند #~~~حمراء الأسد~~~#، وهم يتناقشون في الرّجوع لاستئصال المسلمين وقد فطنوا لخطأهم العسكري -كما ارتأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم-، وهم يقولون لبعضهم: “لا محمدًا أصبتم، ولا الكواعب أردفتم -يعني لم تأخذوا نساء المسلمين سبايا-، فبئس ما صنعتم”، وقد أجمع بعضهم الرجوع للمدينة واستئصال المسلمين، وعكرمة بن أبي جهل يقول لهم: “ما صنعنا شيئًا، أصبنا أشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم!”، وثبّطهم صفوان بن أُميّة يقول: “يا قوم لا تفعلوا، فإنّ القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلّف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم”، وقبضوا على الطليعة من المسلمين اللذان أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتلوهما، وتحرّكوا بجيشهم ولم يستقرّوا على رأي بعد.
وجاء جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “يا رسول الله إن مُناديًا نادى ألا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس، وقد كُنت حريصًا على الحضور ولكنّ أبي خلّفني على أخوات لي، وقال: يا بُنيّ لا ينبغي لي ولك أن ندعهن ولا رجل عندهن وأخاف عليهن وهن نسيات ضِعاف، وأنا خارج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعل الله يرزقني الشهادة. فتخلَّفتُ عليهن فاستأثره الله علي بالشهادة وكنت رجوتها، فأذن لي يا رسول الله أن أسير معك”، فأذِن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأذن لغيره، وكان اللواء كما هو معقود فطلبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطاه عليًا عليه السلام.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهو مجروح في وجهه من أثر الحلقتين، وفي جبهته عند منابت الشَّعر، وقد كُسِر جزء من رباعيته -السِّن القواطع- السفلى اليُمنى، وشفته متورمة من باطنها، وكتفه الأيمن يؤلمه من أثر ضربة ابن قميئة، وركبتاه مخدوشتان من أثر الوقعة في الحفرة، فدخل المسجد فصلّى ركعتين، وقد احتشد النّاس، فصلّى ركعتين ثم ركب فرسه، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قد جاء يرى متى يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلمّا جاء وجده صلى الله عليه وآله وسلم يركب فرسه وعليه كامل ملابس الحرب، فقال له: «يا طلحة سِلاحك -يعني أين سلاحك-»، فقال طلحة: “قريبًا”، وخرج يعدو إلى بيته، فلبس سلاحه ودرعه، وأخذ سيفه وأسرع يلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبه تسع جراحات، فلمّا لحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ترى أين القوم الآن؟»، قال طلحة: “هُم بـ#~~~السيالة~~~#”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منّا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أرشدهم صفوان، وما كان برشيد، والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم الحجارة -يعني جهّزنا لهم السلاح والحجارة التي سنقذفهم بها- ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب -يعني بدرًا-».
فخرج سعد بن مُعاذ رضي الله عنه راجعًا إلى ديار قومه -بني عبد الأشهل- يأمرهم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والجراح فيهم شديدة، وهو يقول: “إن رسول الله يأمركم أن تطلبوا عدوّكم”، قال أُسيد بن حُضير رضي الله عنه -وكان به سبع جراحات يُداويها-:”سمعًا وطاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم”، وأخذ سِلاحه، ولم يُكمل مُداواة جِراحه فلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
وجاء سعد بن عُبادة رضي الله عنه إلى قومه -بني ساعدة-، فلبسوا أسلحتهم ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء أبو قتادة إلى أهل منطقة #~~~خُربى~~~# وهم يداوون جراحاتهم يقول: “هذا مُنادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوّكم”، فتواثبوا إلى أسلحتهم ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرج من بني سَلِمَة أربعون جريحًا، منهم الطّفيل بن نُعمان به ثلاثة عشر جُرحًا، وخِراش بن الصمّة به عشر جراحات، وكعب بن مالك به بضعة عشر جُرحًا، وقطبة بن عامر بن حديدة به تسع جراحات، حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند #~~~بئر أبي عنبة~~~# وقد لبسوا سلاحهم وأدرعتهم، واصطفّوا أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فلمّا رآهم والجراحات فيهم فاشية قال: «اللهم ارحم بني سَلِمَة».
وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين حتى نزلوا حمراء الأسد، فوجدوا الرجلين المسلمين وقد قتلتهما قريش، فدفنوهما هناك، وجاء معبد بن أبي معبد الخُزاعي -ولم يُسلِم بعد- إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -وكانت خُزاعة مؤمنهم وكافرهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينصرونه على قريش-، فقال: “يا محمد، لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت بغيرك”، ثم أسرع معبد المسير يلحق بجيش المشركين يفتّ في أعضادهم يردّهم عن المسلمين.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين أن يجمعوا الحطب وأن يوقدوا النيران الكثيرة، حتى إذا ما حلّ الظلام سمعت العرب بمعسكرهم وخافوهم، وأتى سعد بن عبادة رضي الله عنه بجِمال فذبحها للمسلمين يأكلون منها، فذبح اليوم اثنان أو ثلاثة، وغربت الشمس وهم هناك.