غزوة الغابة وهي ذو قَرَد
وفي ليلته قُبيل الفجر أغار عُيينة بن حصن الفزاري الغطفاني ومعه أربعون فارسًا على إبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم التي ترعى في …
#~~~الغابة~~~# شمال المدينة المنوَّرة، وكان أبا ذر الغفاري رضي الله عنه عند الإبل ومعه ابنه قد حلبوا النُّوق وصلوا المغرب والعشاء وناموا، فلمّا كان الليل هجم عليهم عُيينة ومن معه ففكّوا الإبل، وهم يحومون حولهم بالخيل، فقام ابن أبي ذر رضي الله عنه يتصدى لهم فقتلوه، وأخذوا زوجة أبي ذرّ رضي الله عنه، وصاح عُيينة ومن معه في الإبل بعد فكّها واقتادوها هاربين.
وكانت الإبل عشرون لقحة -ناقة حلوب غزيرة اللبن- وكانت ترعى قبل ذلك قريبًا من #~~~جبال البيضاء~~~# أقصى غرب الغابة فقرّبوها لمّا أجدبت، وكان الرُّعاة يأتون بلبنها كل يوم عند المغرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
وكان أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه قد استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أن يكون في البادية مع الإبل يشرب من لبنها -وكان رضي الله عنه يُحب العُزلة-، فيأخذ ابنه وامرأته ويخرجون للبادية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إني أخاف عليك من هذه الضاحية أن تُغير عليك، ونحن لا نأمن عُيينة بن حصن وذويه، هي في طرف من أطرافهم»، فألحّ عليه أبو ذر رضي الله عنه وقال: “يا رسول الله ائذن لي”، فلمّا أكثر الإلحاح قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لكأنّي بك قد قُتل ابنك، وأُخِذت امرأتُك، وجئت تتوكأ على عاصك»، ثم تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذهب.
وفي ليلته كان المقداد بن عمرو رضي الله عنه بالمدينة المنورة قد رجع إلى بيته لينام، فوجد فرسه -واسمها سبحة- تحرّك أرجلها وتصهل كثيرًا، فقام لها عدّة مرات ينظر في موضع طعامها لعلها جائعة فيجده مملوء علفًا، فيعرض عليها الماء فلا تشرب، فيقول: “إن لها لشأنًا!”، ثم خرج رضي الله عنه ليُصلّي الصبح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فركب فرسه ولبس سلاحه وانطلق للمسجد، فلم يجد شيئًا غريبًا، فصلى ثم عاد لبيته.
وخرج سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه بعد صلاة الصُّبح إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغابة يأتي إليه بلبنها، فركب فرسه وسار حوالي 14 كم في نصف ساعة تقريبًا حتى وصل الغابة، فوجد أحد رُعاة إبل عبد الرحمن بن عوف، فأخبر سلمة أنّ عُيينة قد أغار ليلًا على لِقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أربعون فارسًا، وقد رأوا لهم مددًا بعد ذلك.
فركب سَلَمة فَرَسه وأسرع العدو به حوالي 13 كم في ثُلُث السّاعة تقريبًا حتى وصل #~~~ثنيّة الوداع~~~# فوقف على الثنيّة بقُرب جبل سَلْع، ثم نادى بأعلى صوته فأسمع أهل المدينة كلها: “يا صباحاه…، يا صباحاه…، يا صباحاه…، الفزع…، الفزع…، الفزع”، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقد لبس ملابس الحرب، فوقف عند باب المسجد، فكان أوّل من خرج المقداد بن عمرو رضي الله عنه وعليه ملابس الحرب، راكبًا فَرَسه شاهرًا سيفه، فعقد له النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم في رُمحه لواء الحرب، وقال: «امض حتى تلحقك الخيول، إنّا على أَثَرِك»، فخرج المقداد رضي الله عنه وهو يرجو الشهادة.
وكان أبا ذر الغفاري رضي الله عنه قد سار من الغابة إلى المدينة المنوَّرَة حوالي 14 كم في ثلاث ساعات تقريبًا حتى وصل عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فرآه قد لبس ملابس الحرب ووصله الخبر، فأخبره بما حدث معه والنّبي صلى الله عليه وآله وسلّم يتبسَّم -إذ حدث ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلَّم تمامًا، فقد قتلوا ابنه وأخذوا امرأته وجاء يتوكأ على عصاه!-.
وكان سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه في بيته حين سمع نداء الحرب، فلبس درعه وأخذ سلاحه، وركب فرسًا قويًّا سريعًا عنده -اسمه النّجل-، وأسرع حتى وصل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم قد لبس درعه وسلاحه وخوذته فلا يُرى إلا عينيه، والفرسان قد خرجوا يعدون ناحية الغابة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم راية الحرب، وقال له: «يا سعد امضِ، قد استعملتك على الخيل حتى ألحقك إن شاء الله»، فانطلق سعد رضي الله عنه يلحق بهم.
ولمّا سُمع النداء للحرب بالمدينة، كان فرس لمحمود بن مسلمة رضي الله عنه يُسمّى ذا اللمة سمع صهيل الخيل، وكان فرسًا قويًا سريعًا، فصهل الفرس وأخذ يذهب ويجيء في مكانه، فرآه بعض نساء الدّار، فقُلن لمحرز بن نضلة رضي الله عنه: “يا محرز هل لك في ركوب هذا الفرس؟، فإنه كما ترى فرس قوي وسريع في الحرب، فتلحق بالخيل؟”، ومرّ بهم وهم يتكلّمون سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم الراية، فركب محرز رضي الله عنه وانطلق فسبق الفرسان وأدرك القوم، فطاعنهم بالرُّمح، وطعنه مَسعَدَة الفزاري فقتله، فأخذ رُمحه وأفلت الفرس من مَسعَدَة وانطلق يعدو عائدًا لأصحابه بالمدينة المنوَّرَة.
وخرج أبو عيّاش الزرقي رضي الله عنه على فرس له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو أعطيت فرسك من هو أفرس منك فتتبع الخيول»، قال أبو عيّاش: “أنا يا رسول الله أفرس الناس”، ثم ضرب فرسه فلم يركض به أكثر من 30 مترًا حتى وقع من على الفَرَس!، فأعطاه لغيره.
ووصل نداء الحرب إلى بني عمرو بن عوف جنوب المدينة المنوَّرَة فتلاحق المُشاة والفرسان ومن معهم الإبل حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ثم أسرعوا ناحية الغابة، واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه يرعى شئون المدينة المنورة لحين عودته، ثم ركب صلى الله عليه وآله وسلم ومعه من تلاحق خلفه إلى الغابة.
ووصل فرس محمود بن مسلمة رضي الله عنه إلى الدار فقالت أم عامر بنت يزيد: “أُصيب والله!”، ثم قالوا لرجل من أقاربهم: “الحق بالخيل، واطمئن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعُد إلينا سريعًا”، فانطلق الرجل بالفرس وعاد فأخبرهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحمدو الله تعالى.
وكان أبو قتادة رضي الله عنه يغسل رأسه قد في بيته، قد غسل نصفها، فسمع فرسه تصهل وتبحث بحافرها في الأرض، فقال: “هذه حرب قد حضرت”، فلم يغسل بقيّتها، وانطلق مُسرعًا -وكان يلبس بُردة وهي العباءة-، فركب فرسه حتى وصل عند النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده يُنادي: “الفزع…الفزع…الفزع”، وانطلق يلحق بالمقداد رضي الله عنه.
وانطلق سلمة بن الأكوع عائدًا للغابة يلحق بالعدو على فرسه، فلمّا اقترب منهم نزل عن فرسه، وأخذ يعدو خلفهم -وكان عدّاءًا سريعًا ماهرًا بالرّماية-، فيناورهم وهو على رجليه ويرميهم بالنّبل، ثم يعدوا فلا يلحقونه، فيرميهم مرّة أخرى ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع *** واليوم يوم الرّضّع
ويعدوا حتى يعلوا تبّة يقتربون منها ثم يرمي عليهم ويقول: “قفوا قليلًا، يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار”، فيغيظهم، فيكرّون راجعين إليه فيعدو هاربًا فلا يلحقوه، وهكذا، حتى وصلوا #~~~ذا قرد~~~#.
وأطلق المقداد لفرسه العنان قاطعًا حوالي 20 كم في نصف ساعة تقريبًا حتى أدرك آخر العدو وكانت معهم الإبل -إذ هي أبطأ من الخيل-، وكان في آخر الأعداء فرس ضعيف لا يقوى على العدو، فتركه صاحبه وأخذه أحد أصحاب الخيل القويّة خلفه وانطلقوا، فلحق المقداد الفرس الضعيف فأخذه فربط في عُنُقه علامة وتركه، وقال: “إن مرّ به أحد فأخذه، جئته بعلامتي فيه”، وأدرك المقداد أطراف العدو من آخرها وفيهم مَسعَدَة الفزاري -عمّ عُيينة بن حِصن-، فطعنه المقداد رضي الله عنه بالرُّمح الذي فيه اللواء، فأفلت مَسعَدَة وكرّ راجعًا ناحية المقداد يضربه بالرُّمح، فتفادى المقداد الضربة آخذًا الرُّمح بعضُديه حتى كسره، فانطلق مَسعَدة هاربًا لا يلحق به المقداد.
ورفع المقداد اللواء وهو يجري بفرسه عسى أن تلحق به بقيّة خيل المسلمين فيرونه، فإذ بأبي قتادة رضي الله عنه وقد وضع شارة صفراء على رأسه، فسار بجوار المقداد ليفهم منه الوضع، وهم يبصرون مَسعَدة من بعيد، قال أبو قتادة للمقداد بعدما عرف بأنّ مسعَدَة قتل محرزًا رضي الله عنه: “يا أبا معبد أنا أموت أو أقتل قاتل محرز”، ثم ضرب فرسه فانطلق فسبق المقداد رضي الله عنه حتى لم يعد يراه، ولحق مَسعَدة وطعنه وهو يقول: “خذها وأنا ابن الخزرجي”، فوقع مسعَدَة قتيلًا، ثم لحق المقداد بأبي قتادة رضي الله عنهما فوجده يخلع عبائته، فقال المقداد: “ما تصنع؟”، قال أبو قتادة: “خيرًا، أصنع كما صنعت بالفَرَس!”، فوضع العبائة على جُثَّة مَسعَدَة حتى لا يأخذ سِلاحه ودرعه غيره من المسلمين كما فعل المقداد بالفَرَس الضعيف إذ جعل عليه علامة، ووضع أبو قتادة أيضًا علامة على فرس مسعَدَة كذلك ثم انطلق مجددًا يلحق بالعدو.
ومرّ سعد بن زيد رضي الله عنه فوجد فرسًا ضعيفًا وحده، فيقول: “ما هذا؟”،ثم يمُرّ على مَسعَدَة قتيلًا مُغطّى بعباءة أبي قتادة، ثم محرز بن نضلة قتيلًا رضي الله عنه فأحزنه ذلك، ولحق بالمقداد ومُعاذ بن ماعص وقد تلاحقهم بفرسه رضي الله عنه، ثم يلحقوا جميعًا بأبي قتادة وسلمة بن الأكوع وهم يناوشون العدو من خلفه، وسلمة رضي الله عنه يرشقهم بالنّبل ويعدو فلا يلحقوه، ويسبقهم فيرميهم، واقتربوا جميعًا من أطراف العدو، فقتل سعد بن زيد رضي الله عنه حُبيب بن عُيينة الفزاري، وأخذ فرسه، وأدركهم عبّاد بن بشر وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما على فرسيهما، فناوشا معهم العدو وقتلا أوثار الفزاري وابنه عمرو بن أوثار.
واستنقذ الفرسان من العدو عشر لقائح -جمع لقحة-، وأفلت عُيينة ومن معه بالبقية وهي عشر أيضًا، وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ومعه المُشاة وراكبي الإبل حوالي 6 كم في ساعة تقريبًا حتى وصلوا عند #~~~جبل أُحُد~~~#، ثم حوالي 16 كم في ثلاث ساعات تقريبًا حتى وصلوا #~~~وادي النُّقَمي~~~#، ومرّوا بالقتلى، فقال أحدهم: “هذه بُردة أبي قتادة!”، فقال آخر: “هذا أبو قتادة قتيل”، وقال ثالث: “إنّا لله وإنّ إليه راجعون!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا، ولكنّه قتيل أبي قتادة، وجعل عليه بُردته لتعرفوا أنّه قتيله، فخلّوا بين أبي قتادة وبين قتيله وسَلبه وفرسه -اتركوا أشياءه-».
ثم حوالي 15 كم في ثلاث ساعات أخرى حتى وصلوا ذي قَرَد وقت الظهيرة -حوالي الواحدة ظُهرًا-، وجاء سعد بن زيد رضي الله عنه وقد أخذ سلاح قتيل أبا قتادة -ولم يعرف-، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا والله، أبو قتادة قتله، ادفعه إليه»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رأى أبا قتادة: «أفلح وجهك»، قال أبو قتادة: “ووجهك يا رسول الله”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قتلت مسعَدَة؟»، قال أبو قتادة: “نعم”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فما هذ الذي بوجهك؟»، قال أبو قتادة: “سهم رُميت به يا رسول الله”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اقترب مني»، فاقترب أبو قتادة بصق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جُرحه في وجهه -فما وجعه ولا خرج منه قيح أبدًا بعد ذلك-، ودعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «اللهم بارك له في شَعره وبشَره -بشرته-»[^1].
وقال سلمة بن الأكوع: “يا رسول الله إن القوم عِطاش، وليس لهم ماء حتى يصلوا إلى منطقة كذا وكذا، فلو بعثتني في مائة رجل، استنقذت ما بقي معهم من الإبل، وقضينا عليهم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ملكت فأسجح -يعني قدرت فاعف-!»[^2]، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّهم ليُقِرّون في بلادهم الآن -يعني قد وصلوا ديارهم ولا داعي لتعقبهم-»، وكان جُملة من خرج لذي قَرَد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة مُقاتل.
وأرسل سعد بن عُبادة رضي الله عنه ابنه قيس بن سعد ومعه عشرة من الإبل يأكل منها المسلمون أثناء إقامتهم، وأحمال من التمر، فذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره أنّ أباه قد خرج في ثلاثمائة فارس يحرسون المدينة المنوَّرة حتى عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا قيس، بعثك أبوك فارسًا، وقوّى المجاهدين -بالطعام-، وحرس المدينة من العدو، اللهم ارحم سعدًا وآل سعد، نعم المرء سعد بن عُبادة»، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أن تُقَسَّم الإبل فأخذ كل مائة واحدة يأكلون منها، ووزّع عليهم التمر، وغربت الشمس وهم هناك.
[^1]: فمات رضي الله عنه بعد ذلك بكثير وعنده سبعون عامًا وكأنّه شابّ في مُقتبل العُمر ببركة دُعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له.
[^2]: وهذه أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلَّم في الحرب: “العفو عند المقدرة”، خصوصًا أنّ من سرقوا واعتدوا قد سرقوا مِلكَه صلى الله عليه وآله وسلم لا مِلك المسلمين، فعفا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسامح في حقّ نفسه الشريفة، ولم يتنازل في القضاء بالحق لمن كان له حق، فدلّ على عظيم الأخلاق وأشرفها أن يتجاوز الإنسان في حقّه، وأمّا ما ولّاه الله من قيام بحقوق النّاس فهذا لا تنازل فيه إلا أن يُسامحوا ويعفوا من تلقاء أنفسهم عن طيب خاطر.