وفيه استمرّت إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه جيش المسلمين محاصرًا ثقيف وفلول هوازن وقد تحصّنوا بحصن …
#~~~الطائف~~~#، ولمّا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدّتهم على المسلمين وبراعة تأمين الحصن، أراد أن يخرجهم من وكرهم، فأمر بتقطيع أشجار العنب الخاصة بهم وتحريقها -وكانت خارج الحصن-، وهي رؤوس أموالهم، إن أُحرقت أو قطّعت لا أقل من سنة إلى ثلاث سنوات لإعادة استزراعها وإثمارها، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم كل فرد من أفراد الجيش بقطع خمس أشجار، وقال صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين: «من قطع حبلة فله حبلة في الجنة» -يعني كل من قطع شجرة عنب فله مثلها في الجنّة-، فجعل المسلمون يسرعون في قطعها. وجاء عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “يا رسول الله إنّه لم يؤكل ثمره”، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقطعوا ما أكلوا ثمره.
وتقدّم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شُعبة ناحية الحصن إلى ثقيف فقالا: “أمّنوا حتى نتكلم”، فأمنوهما، وطلبا من ثقيف استدعاء نساء قُريش المتزوّجات من الثقفيين وتعشن في الحصن، يخافون عليهن السّبي، وكانت منهم آمنة بنت أبي سفيان بن حرب، كانت متزوجة عُروة بن مسعود الثقفي ولها منه أولاد -ولم يكن عُروة حاضرًا تلك الحرب، فقد كان ب#~~~جرش~~~# يتعلم صناعة الدبابات والمنجنيق- كما ذكرنا، والفراسية بنت سويد بن عمرو بن ثعلبة كانت زوجة قارب بن الأسود، ولها منه أولاد، وامرأة أخرى، فرفضت النساء أن تخرج إليهما، فقال لهما الأسود بن مسعود الثقفي: “يا أبا سفيان ويا مُغيرة، ألا ندلكما على خير مما جئتما له؟، إن مال بني الأسود حيث قد علمتما، ليس بالطائف مالٌ أبعد رشاء ولا أشدّ مؤنة منه ولا أبعد عمارة، وإن محمدًا إن قطعه لم يُعمر أبدًا فكلماه ليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل”.
ونادى عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه سفيان بن عبد الله الثقفي -من مشركي ثقيف- ممن يقف فوق سور الحصن، فقال عُمر: “والله لنقطعنّ أبا عيالك -يعني مصدر اقتصادكم وأموالكم-“، قال سُفيان: “إذًا لا تذهبون بالماء والتراب!” -يقصد فلن تستفيدوا شيئًا بعد فتح الطائف لأنّه لن يكون فيه مال بعدما قطعتم وحرّقتم الأعناب، فلمّا نظر سُفيان ووجد المسلمين مُجدّين في قطعها وقد أسرعوا في ذلك، ارتعب ونادى: “يا مُحمد لم تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم كما زعمت!”، وكلّمه أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شُعبة فيما قاله الأسود بن مسعود الثقفي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنّي أدعها لله وللرحم»، وأمر المسلمين بترك أعنابهم.
وكان رجل من مشركي ثقيف يقف فوق سور الحصن يقول: “روحوا -ارحلوا- رِعاء الشاء، روحوا جلابيب مُحمد، روحوا عبيد محمد، أترونا نتباءس على أعناب أصبتموها من زروعنا؟”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اللهم روّح مروّحًا إلى النار» -يعني هذا الذي يسب المسلمين ويقول لهم روحوا-، فأصاب الرجل سهم من المسلمين فوقع من فوق الحصن ميّتًا، فسُرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأراح الله المسلمين منه.
وكان أبو مِحْجَن -من رُماة ثقيف وهو على شِركِه- يقف فوق الحصن يرمي المسلمين بسكاكين حادّة فتصيب وتقتل، والمسلمون يردّون عليه، وكان من أمهر رُماتهم لو سلط النصل على أحد قلّما أخطأه، وكان رجل من المُسلمين من قبيلة مُزينة يقول لصاحبه: “إن افتتحنا الطائف فعليك بنساء بني قارب فإنهن أجمل إن أمسكت، وأكثر فداءً إن فاديت -يعني نساء جميلة لو كانت من نصيبك، ولو طلب أهلها فداءها بالمال إن أُسِرت دفعوا لفداءها الأموال الكثيرة-“، وكان يقف بجواره المغيرة بن شُعبة الثقفي -وهو مُسلم ومن المتقدمين في الإسلام- وثقيف هم قومه، فلمّا سمع كلام المُزني غار على نساء قومه، فقال للمُزَني: “يا أخا مُزينة، ارمِ هذا الرجل -مُشيرًا إلى أبي محجن الثقفي فوق الحصن-“، والمغيرة يعلم أنّ أبا محجن لو انتبه للمُزني لقتله لمهارته في الرمي، فرمى المُزني أبا محجن فلم يصبه، فرماه أبو محجن فقتله، فقال المُغيرة: “كان يُمنّي الرِجال بنساء بني قارب!”، فانتبه عبد الله بن عمرو بن عوف المُزني وكان واقفًا قد سمع ما دار من البداية، فقال: “قاتلك الله يا مُغيرة!، أنت والله عرضّته لهذا، وإن كان الله تبارك وتعالى قد ساق له الشهادة. أنت والله مُنافق، والله لولا الإسلام ما تركتك حتى أغتالك!!”، وجعل يقول: “إن معنا الداهية وما نشعُر!، والله لا أُكلِّمُك أبدًا”، وطلب المُغيرة بن شُعبة من الرجل ألا يفضحه، فقال الرجل: “لا والله أبدًا” [^1]، ورمى أبو محجن عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بسهم فجُرح جرحًا شديدًا وخرج السهم من الجُرح فاحتفظ به أبو بكر الصديق رضي الله عنه عنده، وأسلم أبو محجن بعد ذلك [^2].
[^1]: المُغيرة بن شُعبة كان يخالطه في غالب أحيانه عُنف وتَسَرُّع، وقد بدر منه عدّة مواقف لم يرتضيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا المسلمون، فقَبْل أن يُسلم قتل ثلاثة عشر رجلًا من بني مالك من قبيلة ثقيف -قبيلته-، وأخذ أموالهم وجاء مُسلمًا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها ومعه الأموال -بعد غزوة الخندق-، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «هذا غدر»، ولم يَقْبَله منه، وقَبِلَ بإسلامه، وقد ذكرنا طرفًا من هذه القصّة في صُلح الحديبيّة إذ كان السبب في دفع ديّات القتلى وإصلاح الأمر عمّه عُروة بن مسعود الثقفي، وكان من أشراف ثقيف -وسيأتي إسلامه بعد حصار الطائف وعودته داعيًا لقومه، ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان عُروة رضي الله عنه ممن فاوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صُلح الحديبيّة واشتدّ عليه ابن أخيه المُغيرة أثناء التفاوض، وسيأتي تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمُغيرة على سوء تصرفه في وفادة قومه في سنة تسع، حيث قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين طلب المُغيرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستضيف بنفسه وفد قومه -ثقيف- المسلمون في بيته بالمدينة فرفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: «لا آمنك عليهم»، وهذا معنى دقيق من حضرته صلى الله عليه وآله وسلم في التفريق بين الفعل والفاعل، وبَلَغ عُمر بن الخطّاب في خلافته قصّة المُزَنِي مع المُغيرة في حصار الطائف، وكان قد استعمل المُغيرة في الكوفة، فعزله وقال: “والله ما كان المُغيرة بأهل أن يُولَّى وهذا فعله!”.
[^2]: مات عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد ذلك بسنوات في خلافة أبي بكر الصديق متأثرًا بذلك الجُرح بعد ورمه ووجود خُرَّاج فيه، ووفد أبو محجن -بن حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي- على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته، فذكر أبو بكر النصل وأخرجه لأبي محجن، فقال: “يا أبا محجن هل تعرف هذا المشقص؟”، قال أبو محجن: “وكيف لا أعرفه وأنا بريت قدحه ورصفته ورميت به ابنك؟، فالحمد لله الذي أكرمه على يديّ ولم يُهنّي على يديه!” -يعني كونه مات شهيدًا مُتأثرًا بجراحه، وبقاء أبي محجن حتى أسلم ولم يمت على الكفر-.