وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتحلًا في طريق عمرة الحديبية وقد خرج الرَّكب معه من وادي #~~~مرّ الظهران~~~# …
متوجهين إلى مكة المكرَّمة، يدلّهم على طريق #~~~ثنيَّة ذات الحنظل~~~#، عمرو بن نهم الأسلمي، فلمّا وصلوا عندها وقت العشاء تقريبًا أو بعده قليلًا، نظر لها النَّبي صلى الله عليه وآله وسلَّم وقال: «هذه ثنيَّة ذات الحنظل؟»، فقال عمرو: “نعم يا رسول الله!”، فسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفه الرَّكب على ثنيَّة ذات الحنظل، فلمّا وضعت ناقته صلى الله عليه وآله وسلم حافرها بَرَكت مكانها، فظنَّ الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد توقَّف، فقالوا: “حَل، حَل!”، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لم يتوقَّف، فقالوا: “خلأت القصواء!-امتنعت عن السير ورفضت الانقياد-“، فقال لهم صلى الله عليه وآله وسلم: «إنها ما خلأت وما هو لها بعادة، لكنَّها حبسها حابس الفيل!، أما والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خُطَّة يسألوني فيها صلة الرحم وتعظيم حُرمَة الله إلا أعطيتهم إيّاها»، ثم زجروا الناقة فقامت وسارت راجعة مبتعدة عن مكَّة وعن ثنيَّة ذات الحنظل، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم النَّاس أن يعودوا، فساروا راجعين حوالي 11 كم تقريبًا في ساعتين حتى نزلوا #~~~الحُدَيْبيَة~~~#.
ولمّا نزلوا الحُدَيبية لم يجدوا بها ماءًا، فاشتكى الناس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فأخرج النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم سَهْمًا من كِنَانَته وأعطاه ناجية بن جُندب الأسلمي راعي إبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره أن ينزل به في بئر من تلك الآبار القليلة الماء فغرزه في جوفه، فتدفَّق الماء وارتفع في البئر، واستقر المسلمون بالحُدَيْبيَة اليوم، وغربت الشمس وهم بها.
ولمّا نزل صلى الله عليه وآله وسلم الحُدَيْبيَة أهدى له عمرو بن سالم وبُسر بن سُفيان الخُزاعيَّان غنمًا وجمالًا، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عُبادة جِمالًا أيضًا وكان صديقًا له، فجاء سعد بالغنم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن عمرًا أهداها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وعمرو قد أهدى لنا ما تَرَى -يعني الجِمال إلى جانب الغنم التي أرسلها مع سعد-، فبارك الله في عمرو!، ثم أمر صلى الله عليه وآله وسلم بالجِمال فنُحِرَت وقُسِّمَت في أصحابه، وفرَّق الغنم على أصحابه عن آخرها.
تحكي السيدة أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت معه، قالت: “فدخل علينا من لحم الجُزُر-الجِمال- مثل ما دخل على رجل من الركب، وشرِكنا في شاة فدخل علينا بعضُها، وكان الذي جاء بالهديَّة غُلامٌ منهم -من قبيلة خُزَاعَة-، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه، والغُلام يلبس ملابس بسيطة قديمة باليَة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا غُلام، أين تركت أهلك؟، قال: تركتهم قريبًا ب#~~~ضجنان~~~# وما والاه، فقال: كيف تركت البلاد؟، قال الغلام: تركتُها قد تيسّرَت، قد أَمشر عِضاهُها، وأعذَقَ إِذخِرُها، وأَسْلَب ثُمامُها، وأَبْقَل حَمْضُها، وانبلَّت الأَرضُ فتشبّعت شاتُها إلى الليل، وشَبع بعيرها إلى الليل ممّا جَمَع من خوص وضَمْدِ الأرض وبَقْل، وتركت مياههم كثيرة تُشرِع فيها الماشية، وحاجة الماشية إلى الماء قليل لرطوبة الأرض.
فأَعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فصاحة الغُلام وحُسن وصفه، فأمر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسوة جديدة، فكُسِيَ الغُلام وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي أُريد أن أمسَّ يدك أطلب بذلك البركة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادْنُ-اقترِب-!، فاقترب الغُلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ يدَه الشريفة فقبَّلَها، ومسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه وقال: بارك الله فيك!، وقيل إنّ هذا الغُلام قد طال به العُمر وكان له فضل وحال في قبيلته حتى تُوفّيَ زمن الوليد بن عبد الملك.