لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بدر منتصرا على المشركين، كان زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما قد …
سبقا الجيش مبشرين لأهل المدينة بهذا النصر العظيم، الفارق في حياة المسلمين والدعوة الإسلامية.
وكانا قد طافا يصيحان بأهل المدينة وقُباء يخبران بنصر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين، وأنّه قُتل منهم فلان وفلان من أشراف قريش، وسمع الخبر كعب بن الأشرف وهو من يهود بني النضير -أمّه يهوديّة وأبوه من قبيلة طيء- فكذَّبه وظل يردد: “هؤلاء أشراف العرب وسادة قريش كيف يقتلهم محمد؟ والله إن كان قتلهم كما يقال فبطن الأرض خير من ظهرها! – أي أن الموت أهون من هذا الخبر- “.
ولمّا تأكد من صحة الخبر وأن البشارة التي جاء بها زيد وعبد الله رضي الله عنهما صحيحة، خرج مسرعًا من المدينة المنورة إلى مكة، فنزل عند عبد المطلب بن وادعة وزوجه عاتكة بنت أسيد فأكرماه وأحسنا استضافته، وكان -كعب بن الأشرف هذا- شاعرًا، فأخذ يهجو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويمتدح قريش وينعي من مات في بدر بأشعاره حتى يثير غضب قريش فيثأروا لقتلاهم.
ووصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقالة كعب وتحريشه بالمسلمين وحربه إياهم بالشعر -حربًا إعلاميّة-، فدعا عليه قائلًا: «اللهم اكفني ابن الأشراف بما شئت»، واستدعى حسان بن ثابت رضي الله عنه، وأمره بالرّد، فهجا عبد المطلب وزوجته، فبلغهما هجاء حسان فألقت عاتكة متعلقات كعب من بيتها وقالت لزوجها: “ليرحل هذا اليهودي من عندنا، فقد تسبب في هجائنا!”، وهكذا فعل مع كعب كل قوم يذهب إليهم في مكة.
حتى كان أن ذهب إلى بعض كبار مشركي قريش، وفيهم أبو سفيان بن حرب، فقالوا له: “يا كعب أنت من أهل الكتاب، ونحن مالنا كتاب، ترى أن دين محمد وما جاء به هو الحق أم ديننا؟”، قال: “وما دينكم؟”، قالوا: “نكرم الحجيج والضيف ونخدم بيت الله ونطوف حوله ومحمد قد ترك دين آبائه وقطع الرحم!”، فقال: “والله أنتم على الحق!”، قالوا: “لعلك جئت تخدعنا متحالفًا مع المسلمين ضدنا، فإن كنت تقنع بما تقول فاسجد لهذين الصنمين!”، فسجد لهما، واتفقوا مع كعب على قتال المسلمين بعد أن اطمئنوا إليه، فعاد للمدينة مرة أخرى ينتظر قدوم قريش ليعينهم على حرب المسلمين، وجعل يقول الشعر يغازل نساء المسلمين ويتكلم في أعراضهن بهتانًا بشعره -منهن أم الفضل بنت الحارث- ويسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ويحرض عليهم أهل المدينة من المشركين واليهود والمنافقين ليحاربوهم ويقتلوهم.
وفي هذا اليوم أعلم المولى عزّ وجل نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان من شأن كعب وأنزل فيه وفي قريش قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} {لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ} [آل عمران 23-28] ، فتلاه صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وأخبرهم بما كان من كعب وقال: «من لابن الأشرف؟ -يعني من يقتله؟-، فإنه استعلن بعداوتنا وهجائنا -أظهر العداء وسب المسلمين- وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا -وهي الخيانة العظمى لميثاق المدينة الذي يقتضي المواطنة والسلام [^1]- ورجع أخبث ما كان، وقد أخبرني الله بذلك»، فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: “أنا أقتله”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «فافعل إن قدرت على ذلك»، فذهب محمد بن مسلمة ليدبر كيف يقتل كعب بن الأشرف.
[^1]: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قدم المدينة المنورة، كتب بين أهلها ميثاقًا -وهو دستور المدينة بالمعنى المعاصر-، وضع فيه أساسًا لما يُعرف الآن بـ”المواطنة”، ومما فيه أن اليهود أمّة مع الناس لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وأنهم جميعًا يدًا واحدة على عدوّهم -عدّو الوطن وهي المدينة المنوّرة- وأقرّوا جميعًا هذا الميثاق -بما في ذلك اليهود والمشركون-، حتى خرج المسلمون في بدر وكان النصر لهم، وهذا بالمصطلح المعاصر هو وقت الحرب، وما قام به كعب بن الأشرف من هروبه إلى مكة وهجاءه المسلمين ثم عودته انتظارًا لنصر المشركين على المسلمين هو خيانة عظمى وقت الحرب، وعقوبة ذلك في جميع النظم القديمة والمعاصرة هي الإعدام، فما كان من الحاكم -وهو حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم- إلا أن ينفذ الحكم في المجرمين خصوصًا مستغلي الآلة الإعلاميّة -الشعر، كما كان من بن الأشرف- لتشويه الصورة والإرجاف بين الناس!