وفيه بلغ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان من فعل خالد وقتله بني جذيمة قبل أن يقدم عليه خالد، فرفع صلى الله عليه وآله وسلم يديه …
إلى السماء حتى رُئي بياض إبطيه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» [^1].
وفي ليلته أمسى خالد بن الوليد ومن معه ب#~~~مكة المكرمة~~~# عائدين من #~~~الغُمَيْصَاء~~~# أرض بني جذيمة، وقد قتل خالد منهم من قتل برغم كونهم مسلمين، وكذلك فعل من كان معه في السريّة من بني سُلَيْم، وأمّا من كان معه من المهاجرون والأنصار فأطلقوا أسراهم ونهوه فلم ينته. فلمّا قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرف المسلمون بما فعله خالد، عاب عبد الرحمن بن عوف على خالد تصرفه فقال: “يا خالد أخذت بأمر الجاهلية!، قتلتهم بعمّك الفاكِه قاتلك الله!!”، وأعانه عُمر بن الخطاب على خالد بن الوليد ووبّخه معه، فقال خالد: “أخذتهم بقتل أبيك!” -وكان بعضهم قد قتل أبو عبد الرحمن بن عوف في الجاهليّة-، قال عبد الرحمن: “كذبت والله، لقد قتلتُ قاتل أبي بيدي وأشهدت على قتله عثمان بن عفان، ثم التفت إلى عثمان بن عفان، فقال: “أنشدك الله…هل علمت أني قتلت قاتل أبي؟”، قال عثمان: “اللهم نعم”، ثم قال عبد الرحمن: “ويحك يا خالد!، ولو لم أقتل قاتل أبي…كيف تقتل قومًا مُسلمين بأبي في الجاهليّة؟؟”، قال خالد: “ومن أخبرك أنهم أسلموا؟”، قال عبد الرحمن: “أهل السريّة كلهم يخبروننا أنك وجدتهم قد بنوا المساجد وأقروا بالإسلام، ثم حملتهم على السيف!”، قال خالد: “جاءني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أغير عليهم فأغرت بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم”، فقال عبد الرحمن: “كذبت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!”، وغالظ عبد الرحمن وأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خالد وغضب عليه، وبلغه ما صنع بعبد الرحمن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «يا خالد…ذروا لي أصحابي، متى يُنك أنف المرء يُنكى [^2] -والمقصود: قد جرحت عبد الرحمن وآذيته-، لو كان أحدٌ ذهبًا تُنفقه قيراطًا قيراطًا في سبيل الله لم تُدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن بن عوف!».
وقال عمر بن الخطاب لخالد: “ويحك يا خالد!، أخذت بني جذيمة بالذي كان من أمر الجاهليّة، أوليس الإسلام قد محا ما كان قبله في الجاهليّة؟”، فقال خالد: “يا أبا حفص، والله ما أخذتهم إلا بالحق…أغرت على قوم مشركين وامتنعوا، فلم يكن لي بُد -إذ امتنعوا- من قتالهم فأسرتهم ثم حملتهم على السيف”، فقال عُمَر: “أي رجل تعلم عبد الله بن عُمر؟”، قال خالد: “أعلمه والله رجلًا صالحًا”، قال عُمر: “فهو أخبرني غير الذي أخبرتني وكان معك في الجيش”، قال خالد: “فإني أستغفر الله وأتوب إليه!”، فانكسر عنه عُمر وقال: “ويحك!، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لك”.
ودخل عمّار بن ياسر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده خالد بن الوليد، فقال عمّار: “يا رسول الله لقد حمش قومًا -ساقهم بغضب وقتلهم- قد صلّوا وأسلموا -يقصد بني جذيمة-“، ثم قال في خالد بن الوليد كلامًا شديدًا وخالد ساكت لا يتكلم، فلمّا قام عمّار انتقده خالد بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مه يا خالد!، لا تقع بأبي اليقظان فإنه من يعاده يعاده الله، ومن يبغضه يبغضه الله، ومن يسفهه يسفهه الله».
[^1]: وهذه دقيقة هامّة، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعلّمنا هنا كيف نميّز بين الفعل والفاعل بميزان من ذهب، وهذا القول منه صلى الله عليه وآله وسلم يتجلى فيه الإنصاف والرحمة، فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد»، ولم يقل: “من خالد”، فالمُتَبَرَّى منه الفعل، لا خالد نفسه!، فالجريمة مُنكرة ومتبرأ منها، والفاعل مرحوم ومطالب بالاستغفار والرجوع وإصلاح ما أفسد، وسيأتي مدحه صلى الله عليه وآله وسلم لخالد في مواطن أخرى، إذًا هو صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا تفريق الأحكام، ويعلمنا كيف أن البشر ليسوا معصومون، ثم إنّه صلى الله عليه وآله وسلم أرسل عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه لإصلاح ما كان من خالد، ولماذا عليّ؟، ناهيك عن فضله رضي الله عنه ورتبته في أصحابه، فإن عليّ هو ابن عمّه وزوج ابنته ومن عادة العرب أن من يؤدي عنهم رجال من أهل بيوتهم، وإرساله علي رضي الله عنه لبني جذيمة تطييبا لخاطرهم ومواساة لهم على هذه الفاجعة كأنّه يريد أن يرسل إليهم رسالة أنّه أرسل إليهم أخاه ليربّت عليهم ويهدئ بالهم، فما كان من علي عليه السلام إلا أنه تضلع بهذه المهمة على أتمّ وجه، فدفع الديّات كما سيأتي وردّ السبايا وأعطاهم ما بقي من المال احتياطًا، فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: “أصبت وأحسنت”؛ أصاب في الإصلاح، وأحسن في الزيادة فكان على الهدي النبويّ الشريف رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
[^2]: “متى يُنك أنف المرء يُنكى”، تعبير مُرَكَّب، معناه “من أُصِيْبَت أنْفه هُزِم”، والمقصود بالأنف موضع العِزّة من الإنسان، و”نكى، يُنك” من النكاية والنكء وهما الأذيّة والتجريح، فمن نال من عِزَّة أخيه هزمه وجرحه، والمقصود “لقد آذيته وجرحته بكلامك”.