ذكر أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع من جوف الليل فاستغفر لهم. فعن أبي مويهية مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: …
«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له في جوف الليل، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي»، قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم، قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، لو تعلمون ما نجاكم الله منه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها والأخيرة شر من الأولى»، قال: ثم أقبل عليّ، وقال: «يا أبا مويهية هل علمت أني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي، فاخترت لقاء ربي والجنة» أي وفي رواية: أن أبا مويهية قال له: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها، ثم الجنة. قال «لا، والله يا أبا مويهية لقد اخترت لقاء ربي والجنة»، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فلما أصبح ابتدىء بوجعه من يومه ذلك ابتدأه الصداع أي وفي رواية «ذهب بعد ذلك إلى قتلى أحد فصلى عليهم، فرجع معصوب الرأس، فكان ذلك بدء الوجع الذي مات فيه» وفي رواية: «رجع من جنازة بالبقيع» .
قالت عائشة رضي الله عنها: لما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وارأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أنا وارأساه قال: لو كان ذلك وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك وأكفنك وأدفنك» وفي لفظ: «وما يضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك»، فقلت: واثكلاه. والله: إنك لتحب موتي، فلو كان ذلك لظللت يومك معرسا ببعض أزواجك، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أنا وارأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبيك وأخيك فأقص أمري وأعهد عهدي فلا يطمع في الدنيا طامع» . وفي لفظ: «ثم قلت يأبي الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبي المؤمنون» وفي رواية: أنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وفي رواية: «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ائتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم، قال: أبي الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر» .
قال ابن كثير رحمه الله: وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها فضل الصديق رضي الله عنه من بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولعل خطبته صلى الله عليه وسلم هذه كانت عوضا عما أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في الكتاب.
وفي رواية أنه اجتمع عنده صلى الله عليه وسلم رجال، فقال صلى الله عليه وسلم: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده»، فقال بعضهم: أي وهو سيدنا عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه الوجع وعندكم القرآن، أي وإنما قال ذلك رضي الله عنه تخفيفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتفعت أصواتهم، فأمرهم بالخروج من عنده.
وجاء أن العباس رضي الله عنه قال لعلي كرم الله وجهه: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح من مرضه هذا فإني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، أي وفي رواية: خرج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الذي مات فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده عمه العباس رضي الله عنهما. وقال له: والله أنت بعد ثلاث عبد العصي، وإني لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجعه هذا بعد ثلاث إلا ميتا، فإني رأيت في وجهه ما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال عليّ كرم الله وجهه: والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله عنها: وصار صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه فاشتدّ به المرض عند ميمونة رضي الله عنها، وقيل في بيت زينب رضي الله عنها، وقيل في بيت ريحانة رضي الله عنها، قالت عائشة رضي الله عنها: فدعا صلى الله عليه وسلم نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي فأذنّ له، وفي رواية: صار يقول وهو في بيت ميمونة أين أنا غدا أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة رضي الله عنها. وفي البخاري يقول: «أين أنا اليوم أين أنا غدا؟» استبطأ ليوم عائشة رضي الله عنها، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة.
وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النساء في مرضه فاجتمعن، فقال: «إني لا أستطيع أن أدور بينكن، فإن رأيتن أن تأذنّ لي فأكون في بيت عائشة» فعلتن: فأذنّ له قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله معتمدا عليهما الفضل بن العباس ورجل آخر، وفي رواية بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر، وفي رواية بين أسامة ورجل آخر عاصبا رأسه الشريف تخط قدماه الأرض حتى دخل بيتي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الرجل الذي لم تمسه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي فإنه كان بينها وبين عليّ ما يقع بين الأحماء، وقد صرحت بذلك لما أرادت أن تتوجه من البصرة بعد انقضاء وقعة الجمل وخرج الناس ومن جملتهم علي كرم الله وجهه لتوديعها، حيث قالت: والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال عليّ: أيها الناس صدقت والله وبرت، ما كان بيننا وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وقد تقدم ذلك.
ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، فقال: هريقوا عليّ من سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدناه صلى الله عليه وسلم في مخضب إناء من حجر ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: حسبكم حسبكم، وفي لفظ: حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن: أي وصب المياه المذكورة له دخل في دفع السم. أي فإنه صلى الله عليه وسلم صار يقول لعائشة: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أسممته بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم». فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه الشريف حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، أي دعا لهم فأكثر الصلاة عليهم واستغفر لهم. ثم قال: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده؟ فاختار ذلك العبد ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعرف أن نفسه يريد. أي فبكى أبو بكر فقال: نفديك بأنفسنا وأبنائنا. فقال: «على رسلك يا أبا بكر» . أي وفي رواية قال: «يا أبا بكر لا تبك، أيها الناس إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» وهذا حديث صحيح جاء عن بضعة عشر صحابيا، ولكثرة طرقه عدّ من المتواتر.
وفي أخرى: «إن أعظم الناس عليّ منا في صحبته وذات يده أبو بكر» وفي أخرى: «فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة» أي وفي الحديث «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيت شرا استغفرت لكم» أي وهذا بيان للثاني لاستغناء الأول عن البيان، ومعلوم أن خيرا وشرا هنا ليسا أفعل تفضيل الذي يوصل بمن حتى يلزم التناقض، بل المراد أن ذلك فضيلة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «انظروا هذه الأبواب اللاصقة في المسجد»، أي وفي لفظ: هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا باب أبي بكر. أي وفي لفظ: إلا ما كان من باب أبي بكر، فإني وجدت عليه نورا.
وفي لفظ: «سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر» فإن المراد بالأبواب الخوخ؟ «فإني لا أعلم أن أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه» أي وفي لفظ: «أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» وفي لفظ: «لا تؤذوني في صاحبي ولولا أن الله سماه صاحبا لا تخذته خليلا، ألا فسدوا كل خوخة إلا خوخة بن أبي قحافة» أي وجاء في الحديث: «لكل نبي خليل من أمته، وإن خليلي أبو بكر، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا» وفي رواية «وإن خليلي عثمان بن عفان» وجاء «لكل نبي خليل، وخليلي سعد بن معاذ» .
وفي أسباب النزول للثعالبي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا وله خليل ألا وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن خليلي أبو بكر» وفي رواية الجامع الصغير «خليلي من هذه الأمة أويس القرني» ولعل هذا كان قبل أن يقول صلى الله عليه وسلم في مرض موته قبل موته بخمسة أيام «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا، لكن خلة الإسلام أفضل» . وفي رواية: «ولكن أخوة الإسلام ومودته» وفي رواية: «لكن أخي وصاحبي» .
وجمع بأن الأول: أي إثبات الخلة لغير الله محمول على نوع منها ونفيها عن غير الله محمول على كمالها.
ثم لا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا» يدلّ على أن مقام الخلة أرقى من مقام المحبة، وأن المحبة والخلة ليسا سواء خلافا لمن زعم ذلك.
أي ولا مانع أن يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم مما يدل على أن مقام المحبة من مقام الخلة: أي الذي يدلّ عليه ما جاء: «ألا قائل قولا غير هجر؟ إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله، وأنا سيد ولد آدم يوم القيامة» وعند ذلك: أي إغلاق الأبواب، قال الناس أغلق أبوابنا وترك باب خليله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر، وأني أرى على باب أبي بكر نورا، وأرى على أبوابكم ظلمة، لقد قلتم كذبت»، وقال أبو بكر صدقت، وأمسكتم الأموال وجاد لي بماله، وخذلتموني وواساني. أي ولعل قولهم وترك باب خليله لا ينافي ما تقدم من عدم اتخاذه خليلا.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، قال عمر: يا رسول الله دعني أفتح كوة أنظر إليك حيث تخرج إلى الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا»، وقال العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد يعني أبا بكر وما بالك سددت أبوب رجال في المسجد؟ فقال: «يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمي». وفي لفظ: ما أنا سددتها، ولكن الله سدها.
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بسد الأبواب إلا باب علي. قال الترمذي حديث غريب. وقال ابن الجوزي: هو موضوع وضعه الرافضة ليقابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. وجمع بعضهم بأن قصة علي متقدمة على هذا الوقت، وأن الناس كان لكل بيت بابان باب يفتح وباب يفتح خارجه إلا بيت علي كرم الله وجهه، فإنه لم يكن له إلا باب من المسجد، وليس له باب من خارج، فأمر صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب: أي التي تفتح للمسجد. أي بتضييقها وصيرورتها خوخا إلا باب علي كرم الله وجهه، فإن عليا لم يكن له إلا باب واحد ليس له طريق غيره كما تقدم، فلم يأمر صلى الله عليه وسلم بجعله خوخة، ثم بعد ذلك أمر صلى الله عليه وسلم بسد الخوخ إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وقول بعضهم حتى خوخة علي كرم الله وجهه، فيه نظر لما علمت أن عليا كرم الله وجهه لم يكن له إلا باب واحد، فالباب في قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس المراد به حقيقته بل الخوخة. وفي قصة علي كرم الله وجهه المراد به حقيقته.
أقول: ومما يدل على ما تقدم قصة علي كرم الله وجهه ما روي عنه قال:
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن سد بابك، قال: سمعا وطاعة فسد بابه، ثم أرسل إلى عمر، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ففعلا، وأمرت الناس ففعلوا، وامتنع حمزة، فقلت: يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة، فقال صلى الله عليه وسلم: «قل لحمزة فليحول بابه»، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحول بابك فحوله، وعند ذلك قالوا: يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي، فقال: «ما أنا سددت أبوابكم ولكن الله سدها» وفي رواية: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب عليّ ولكن الله فتح باب عليّ وسد أبوابكم» .
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أما بعد، فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيكم قائلكم، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشيء فاتبعته، إنما أنا عبد مأمور ما أمرت به فعلت {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىۤ إِلَيَّ إِنِّيۤ} [يونس:15] و معلوم أن حمزة رضي الله تعالى عنه قتل يوم أحد، فقصة علي كرم الله وجهه متقدمة جدا على قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
وعلى كون المراد بسد الأبواب تضييقها وجعلها خوخا يشكل ما جاء: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فقال العباس: يا رسول الله قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج، قال: «ما أمرت بشيء من ذلك، فسدها كلها غير باب علي» فعلى تقدير صحة ذلك يحتاج إلى الجواب عنه، وعلى هذا الجمع يلزم أن يكون باب علي كرم الله وجهه استمر مفتوحا في المسجد مع خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لما علم أنه لم يكن لعلي باب آخر من غير المسجد.
وحينئذ قد توقف في قول بعضهم في سد الخوخ إلا خوخة أبي بكر إشارة إلى استحلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره، لكن في تاريخ ابن كثير رحمه الله: وهذا: أي سد جميع الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب عليّ لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره صلى الله عليه وسلم في مرض الموت بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا باب أبي بكر، لأن في حال حياته صلى الله عليه وسلم كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تحتاج إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها صلى الله عليه وسلم فأبقى صلى الله عليه وسلم باب عليّ كرم الله وجهه لذلك رفقا بها، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فزالت هذه العلة فاحتيج إلى فتح باب الصديق رضي الله تعالى عنه لأجل خروجه إلى المسجد ليصلي بالمسلمين، لأنه الخليفة بعده عليه الصلاة والسلام هذا كلامه. وهو يفيد أن باب علي كرم الله وجهه سد مع سد الخوخ ولم يبق إلا خوخة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وجعل لبيت علي كرم الله وجهه باب من الخارج.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا يحل لأحد جنب مكث في المسجد غيري وغيرك» .
وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته «إنه لا يحلّ المسجد لجنب ولا لحائض إلا لمحمد وأزواجه وعليّ وفاطمة بنت محمد، ألا هل بينت لكم أن لا تضلوا» قال الحافظ ابن كثير: وهذا أي الثاني إسناده غريب وفيه ضعف هذا كلامه، والمراد المكث في المسجد لا المرور به والاستطراق منه فإن ذلك لكل أحد.
ثم رأيت الحافظ السيوطي رحمه الله أشار إلى ذلك، وذكر أن مثل علي كرم الله وجهه فيما ذكر ولداه الحسن والحسين حيث قال: وكذا علي بن أبي طالب والحسن والحسين اختصوا بجواز المكث في المسجد مع الجنابة والله أعلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرا إنهم كانوا عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته هذه: «أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدع الله له»، فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لنؤوم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ويحك أيها الرجل، لقد سترك الله لو سترت على نفسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا، وأذهب عنه النوم إذا شاء» .
قال ابن كثير: في إسناده ومتنه غرابة شديدة. وأمر صلى الله عليه وسلم في مرضه أبا بكر أن يصلي بالناس، قال: وكانت تلك الصلاة صلاة العشاء، وقد أذن بلال، وقال ضعوا لي ماء في المخضب: أي وهو شبه الإجانة من نحاس، فاغتسل فيه، أي وهذا مع ما سبق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان له مخضب من حجر ومخضب من نحاس.
ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» فقلنا: لا هم ينتظرونك، أي وعند ذلك قال ضعوا إلى ماء في المخضب، فاغتسل ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال «أصلى الناس؟» قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لي ماء في المخضب فاغتسل»، ثم أراد أن يذهب فأغمي عليه ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس ملمومة في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه لعمر: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أنت أحق بذلك.
وفي رواية: أن بلالا رضي الله تعالى عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فقال: الصلاة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أستطيع الصلاة خارجا، ومر عمر بن الخطاب فليصل، بالناس»، فخرج بلال رضي الله تعالى عنه وهو يبكي، فقال له المسلمون: ما وراءك يا بلال؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع الصلاة خارجا، فبكوا بكاء شديدا، وقال لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم بين يدي أبي بكر أبدا، فأدخل على نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أبا بكر على الباب، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم بلال رضي الله عنه تعالى فأخبره بذلك، فقال: نعم ما رأى، مر أبا بكر فليصل بالناس، فخرج إلى أبي بكر فأمره أن يصلي فصلى بالناس.
وفي رواية فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت: إن أبا بكر رجل أسيف: أي رقيق القلب إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فقال صلى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر فليصل بالناس»، فعاودته، فقال:«مروا أبا بكر فليصل بالناس»، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء. فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحفصة: «مه إنكن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» . وفي لفظ: «إنكن لأنتن صواحب يوسف عليه الصلاة والسلام» فقالت حفصة رضي الله تعالى عنها لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا ومروا أبا بكر فليصل بالناس : أي مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهي زليخا أظهرت خلاف ما تبطن، وظهرت للنساء اللاتي جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام فيعذرنها في حبه والنبي صلى الله عليه وسلم فهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تظهر كراهة ذلك مع محبتها له باطنا هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ.
والمنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه حيث قام مقامه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عنها رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما حملني على كثرة مراجعتي له صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه.
وفي رواية: إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يزداد وجعا طافوا بالمسجد وأشفقوا من موته صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه الفضل رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه علي كرم الله وجهه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس رضي الله تعالى عنه فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا وإني لاحق بربي وإنكم لا حقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم بخير، فإن الله يقول: {وَٱلْعَصْرِ} * {إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ} [العصر:1،2] السورة وإن الأمور تجري بإذن الله، ولا يحملكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الديار، ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا فإني فرطكم وأنتم لا حقوني بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليّ غدا فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي: أيها الناس إن الذنوب تغير النعم، فإذا بر الناس برتهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوا أئمتهم» وفي الحديث: «حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم» .
وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى خيرية الموت بأنه فرط، فخير صفة لا أفعل تفضيل حتى يشكل بأنه يقتضي أن حياتي خير لكم من مماتي ومماتي خير لكم من حياتي كما مر، ثم لا زال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس سبع عشرة صلاة، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤتما به ركعة ثانية من صلاة الصبح، ثم قضى الركعة الثانية: أي أتى بها منفردا.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لم يقبض نبي حتى يؤمه رجل من قومه» أي وقد قال ذلك صلى الله عليه وسلم لما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف كما تقدم في تبوك.
قال: وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة.
أي وأبو بكر في الصلاة. فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره. وفي رواية عن يمينه، وأنه صلى الله عليه وسلم دفع في ظهر أبي بكر وقال: صل بالناس أي ومنعه من التأخر، فجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي قائما كبقية الصحابة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا.
وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم مقتديا بأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وحينئذ لا يحسن التفريع على ذلك بما جاء في لفظ: فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفي لفظ: يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم صلوا خلف أبي بكر وأبو بكر يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصار يسمع الصحابة التكبير، وقد بوب البخاري على ذلك: «باب من أسمع الناس تكبير الإمام» ، وقال بعد ذلك «باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم بالناس بالمأموم» فإن منعه صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه من التأخر مع صلاته على يسار أبي بكر أو على يمينه يدل على أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يقتد بالنبي صلى الله عليه وسلم بل استمر إماما، إذ لا يجوز عندنا أن يقتدي أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع تقدم أبي بكر عليه صلى الله عليه وسلم في الموقف. وحينئذ يخالف ذلك قول فقهائنا إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اقتدائهم بأبي بكر، وجعلوه دليلا على جواز الصلاة بإمامين على التعاقب إذ لا يحسن ذلك إلا أن يكون أبو بكر رضي الله تعالى عنه تأخر ونوى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. إلا أن يقال يجوز أن تكون صلاته صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر تكررت، ففي مرة منعه صلى الله عليه وسلم من التأخر واقتدى به، وفي مرة تأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن موقفه، واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، واقتدى الناس بالنبي بعد اقتدائهم بأبي بكر، وصار أبو بكر يسمع الناس التكبير، ولا ينافي ذلك قول البخاري الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم، لجواز أن يكون المراد يقتدون ويتبعون تكبير المأموم، ثم رأيت الترمذي رحمه الله تعالى صرح بتعدد صلاته صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه حيث قال: ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبي بكر مقتديا به في مرضه الذي مات فيه ثلاث مرات، ولا ينكر هذا إلا جاهل لا علم له بالرواية هذا كلامه.
وبه يردّ قول البيهقي رحمه الله: والذي دلت عليه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلفه في تلك الأيام التي كان يصلي بالناس فيها مرة، وصلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه خلفه صلى الله عليه وسلم مرة، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه ذلك يوما لعبد الله بن زمعة بن الأسود: «مر الناس فليصلوا»: أي صلاة الصبح. وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه غائبا، فقدّم عبد الله عمر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس، فلما سمع رسول الله صوته أخرج رأسه الشريف حتى أطلعه للناس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لا، لا، لا»، ثلاث مرات، ليصلّ بهم ابن أبي قحافة، فانتفضت الصفوف، وانصرف عمر رضي الله تعالى عنه: أي من الصلاة، فما برح القوم حتى طلع ابن أبي قحافة فتقدم وصلى بالناس الصبح. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت عمر رضي الله تعالى عنه قال: «أليس هذا صوت عمر؟» فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون». وفي لفظ: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، قال ذلك ثلاثا. قال في السيرة الهشامية: فبعث صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فجاء بعد أن صلى عمر رضي الله تعالى عنه تلك الصلاة فصلى بالناس.
وقد يقال: المراد عمر تلك الصلاة نوى تلك الصلاة ودخل فيها، فلا يخالف ما تقدم من انتقاض الصفوف، وانصراف عمر رضي الله تعالى عنه من الصلاة. وقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن زمعة: ويحك ماذا صنعت يا بن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا، فقال عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه: ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن حيث لم أر أبا بكر ورأيتك أحق من حضر بالصلاة، وفي آخر يوم أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الستارة والناس خلف أبي بكر، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن امكثوا، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من هيئة المسلمين في صلاتهم سرورا منه صلى الله عليه وسلم بذلك، وذلك يوم الاثنين يوم موته صلى الله عليه وسلم ثم ألقى الستارة.
وفي السيرة الهشامية: لما كان يوم الاثنين قبض الله تبارك وتعالى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى الناس وهم يصلون الصبح، فرفع الستر وفتح الباب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على باب عائشة رضي الله تعالى عنها، فكاد المسلمون يقتتلون في صلاتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فرحا به، فأشار إليهم: أن اثبتوا على صلاتكم، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، وفيها في رواية أنه لما كان يوم الاثنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح أبو بكر يصلي بالناس، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الناس، فعرف أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن الناس لم يصيبوا ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكص عن مصلاه، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظهره، وقال: «صل بالناس» وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه على يمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه فصلى قاعدا، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس رافعا صوته حتى خرج من باب المسجد يقول: «أيها الناس سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إني والله ما تمسكون عليّ بشيء، إني لم أحل إلا ما حل القرآن ولم أحل إلا ما حرم القرآن» .
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله قد أراك أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب، واليوم يوم بنت خارجة أفآتيها؟ قال «نعم»، ثم دخل صلى الله عليه وسلم، وخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى أهله بالسنح، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات. وقد أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يصلي بالناس قبل مرضه، فإنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء بعد أن صلى الظهر وقد وقع بين طائفتين من بني عمرو بن عوف تشاجر حتى تراموا بالحجارة ليصلح بينهم، فقال صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله تعالى عنه: «إن حضرت صلاة العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصلّ بالناس»، فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال، ثم أقام ثم أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه فتقدم وصلى بالناس، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر فصفح الناس: أي صفقوا، فلما كثر ذلك التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه فأراد التأخر، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم أن يكون على حاله، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته؟ قال: «يا أبا بكر ما يمنعك إذ أو مأت إليك أن لا تكون ثبتّ»، فقال أبو بكر: يا رسول الله لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: «إذا نابكم في صلاتكم شيء فلتسبح الرجال ولتصفق النساء».
وهذا استدل به القاضي عياض رحمه الله على أنه لا يجوز لأحد أن يؤمه صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يصلح للتقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولا في غيرها لا لعذر ولا لغيره.
وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك، ولا يكون أحد شافعا له صلى الله عليه وسلم: وقد قال صلى الله عليه وسلم «أئمتكم شفعاؤكم» وحينئذ يحتاج للجواب عن صلاته صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه ركعة، وسيأتي الجواب عن ذلك، ولعل هذه المرة كانت في اليوم الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم.
فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الغداة، ورأى المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برىء ففرحوا فرحا شديدا، ثم جلس صلى الله عليه وسلم في مصلاه يحدثهم حتى أضحى، ثم قام صلى الله عليه وسلم إلى بيته فلم يتفرق الناس من مجلسهم حتى سمعوا صياح الناس، وهبّ يقلب الماء ظنا أنه غشي عليه وابتدر المسلمون الباب فسبقهم العباس رضي الله تعالى عنه، فدخل وأغلق الباب دونهم. فلم يلبث أن خرج إليهم فنعى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا عباس ما أدركت منه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أدركته وهو يقول: جلال ربي الرفيع، قد بلغت، ثم قضى، فكان هذا آخر شيء تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأيته في الإمتاع نقل هذا القول الذي قدمته عن البيهقي.
وذكر في رواية أخرى: لم يزل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يصلي بالناس حتى كانت ليلة الاثنين، فأقلع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعك وأصبح مفيقا، فعمد إلى صلاة الصبح يتوكأ على الفضل وعلى غلام له يدعى ثوبان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقد شهد الناس مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ركعة من صلاة الصبح، وقام ليأتي بالركعة الأخرى، فجاء إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ينفرجون له حتى قام إلى جنب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فاستأخر أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه فقدمه في مصلاه وجلس صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من صلاته أتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة. ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد فجلس إلى ذلك الجذع، واجتمع إليه المسلمون يسلمون عليه ويدعون له بالعافية ثم قام صلى الله عليه وسلم فدخل إلى بيت عائشة، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: الحمد لله قد أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم معافى، وأرجو أن يكون الله عز وجل قد شفاه، ثم ركب رضي الله تعالى عنه فلحق بأهله بالسنح، وانقلبت كل امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم إلى بيتها، فلما دخل صلى الله عليه وسلم اشتد عليه الوعك، فرجع إليه من كان ذهب من نسائه، وأخذ في الموت فصار يغمى عليه ثم يفيق ويشخص بصره إلى السماء، فيقول في الرفيق الأعلى الإله، وكان عنده صلى الله عليه وسلم وقد اشتدّ به الأمر قدح فيه ماء، وفي لفظ بدل قدح علباء وفي لفظ ركوة فيها ماء فلما اشتدّ عليه صلى الله عليه وسلم الأمر صار يدخل يده الشريفة في القدح ثم يمسح وجهه الشريف بالماء ويقول: «اللهم أعني على سكرات الموت» أي غمراته، وعن فاطمة رضي الله تعالى عنها: «صار صلى الله عليه وسلم لما يغشاه الكرب وتقول واكرب أبتاه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم» .
أقول: وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم قال: واكرباه، وقال: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرة الموت» وفي رواية: «اللهم أعني على كرب الموت» والحكمة في ذلك، أي فيما شوهد من شدة ما لقي من الكرب عند الموت تسلية أمته صلى الله عليه وسلم إذا وقع لأحد منهم شيء من ذلك عند الموت. ومن ثم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: لا أزال أغبط المؤمن بشدة الموت بعد شدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليحصل لمن شاهده من أهله وغيرهم من المسلمين الثواب لما يلحقهم من المشقة عليه كما قيل بمثل ذلك في حكمة ما يشاهد من حال الأطفال عند الموت من الكرب الشديد.
ثم رأيت الأستاذ الأعظم الشيخ محمد البكري رحمه الله ونفعنا به سئل عن ذلك. فأجاب بأجوبة منها هذا الذي ذكرته. ومنها أن مزاجه الشريف كان أعدل الأمزجة فإحساسه صلى الله عليه وسلم بالألم أكثر من غيره.
ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم، ولأنّ تشبث الحياة الإنسانية ببدنه الشريف أقوى من تشبثها ببدن غيره لأنه أصل الموجودات كلها أي كما تقدم. أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشدّ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «ليس أحد أشد بلاء من الأنبياء. كان النبي من أنبياء الله يسلط عليه القمل حتى يقتله». وكان النبي صلى الله عليه وسلم ليعرى حتى ما يجد ثوبا يوارى به عورته إلا العباءة يدرعها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يبرح البلاء على العبد حتى يدعه يمشي على الأرض ليس عليه خطيئة» وقال: «ليس من عبد مسلم يصيبه أذى فما سواه إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها» وفي لفظ: «لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما قوقها إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يشتكي ويتقلب على فراشه. وكان يعوّذ بهذه الكلمات إذا اشتكى أحد من الناس منه «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما فلما ثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أخذت بيده اليمنى وجعلت أمسحه بها فأعوذه بتلك الكلمات، فانتزع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة من يدي وقال: اللهم اغفر لي، واجعلني في الرفيق الأعلى مرتين» .
وفي رواية: «لم يشتك صلى الله عليه وسلم شكوى إلا سأل الله العافية» حتى كان مرضه الذي مات فيه فإنه لم يكن يدعو بالشفاء، وطفق صلى الله عليه وسلم يقول: يا نفس ما لك تلوذين كل ملاذ.
أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: دخل عليّ عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ومعه سواك يستن به: أي من عسيب النخل، وكان أحب السواك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضريع الأراك: وهو قضيب يلتوي من الإراكة حتى يبلغ التراب فيبقى في ظلها فهو ألين من فرعها فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت أنه يريده لأنه كان يحب السواك، فقلت، آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فقضمته ثم مضغته.
وفي رواية: فتناولته وناولته إياه فاشتد عليه، فقلت ألينه لك؟ فأشار برأسه نعم، فلينته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به وهو مستند إلى صدري. وكانت رضي الله تعالى عنها تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو في بيتي وبين سحري ونحري: أي والسحر: الرئة. وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي، وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته. وفي رواية: فجمع الله بين رقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة.
وجاء أنهم لددوه صلى الله عليه وسلم في هذا المرض: أي سقوه لدودا من أحد جانبي فمه، وجعل يشير إليهم وهو صلى الله عليه وسلم مغمى عليه أن لا يفعلوا به وهم يظنون أن الحامل له ذلك كراهة المريض للدواء، فلما أفاق قال، ألم أنهكم أن تلدوني لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظره إلا العباس فإنه لم يشهدكم، وهذا رد عليهم، فإنه قد جاء أنهم قالوا له: عمك العباس أمر بذلك ولم يكن له في ذلك رأي، إنما قالوا ذلك تعللا وخوفا منه صلى الله عليه وسلم، قالوا وتخوفنا أن يكون ذات الجنب، فإن الخاصرة أي وهو عرق في الكلية إذا تحرك وجع صاحبه، كانت تأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذته ذلك اليوم فأغمي عليه حتى ظنوا أنه قد هلك فلددوه: أي لددته أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها، فلما أفاق وأراد أن يلدد من في البيت لدد جميع من في البيت حتى ميمونة رضي الله تعالى عنها وكانت صائمة، هذا.
وفي رواية أنه لما اشتد عليه صلى الله عليه وسلم المرض دخل عمه العباس رضي الله عنه وقد أغمي عليه، فقال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لو لددتنه. قلن إنا لا نجترىء على ذلك، فأخذ العباس يلدده، فأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من لدني، فقد أقسمت ليلددن إلا أن يكون العباس، فإنكم لددتموني وأنا صائم، قلن فإن العباس هو قد لدك، وقالت له أسماء بنت عميس رضي الله عنها، إنما فعلنا ذلك ظننا أن بك يا رسول الله ذات الجنب، فقال لها: إن ذلك لداء ما كان الله ليعذبني به. وفي رواية: «أنا أكرم على الله من أن يعذبني بها» وفي أخرى «إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطها عليّ» .
قال بعضهم: وهذا يدل على أنها من سيء الأسقام التي استعاذ صلى الله عليه وسلم منها بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الجنون والجذام وسيء الأسقام» .
وفي السيرة الهشامية: لما أغمي عليه صلى الله عليه وسلم اجتمع عليه نساء من نسائه منهم أم سلمة وميمونة، ومن نساء المؤمنين منهم أسماء بنت عميس، وعنده صلى الله عليه وسلم العباس عمه، واجتمعوا على أن فلددوه، فلما أفاق صلى الله عليه وسلم قال: من صنع هذا بي؟ قالوا يا رسول الله عمك، فقال عمه العباس رضي الله تعالى عنه: حسبنا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إن ذلك داء ما كان الله ليعذبني به، لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي، فلدوا حتى ميمونة، وكانت رضي الله تعالى عنها صائمة عقوبة لهم بما صنعوا.
وأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا أربعين نفسا، وكانت عنده صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير أو ستة، فأمر عائشة رضي الله عنها أن تتصدق بها بعد أن وضعها صلى الله عليه وسلم في كفه وقال: ما ظن محمد بربه، أن لو لقي الله وهذه عنده فتصدقت بها.
وفي رواية: أمرها بإرسالها إلى علي كرم الله وجهه ليتصدق بها، فبعثت بها إليه فتصدق بها بعد أن وضعها في كفه، وقد كان العباس رضي الله عنه قبل ذلك بيسير رأى أن القمر قد رفع من الأرض إلى السماء، فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له ابن أخيك.
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام صحبة ملك الموت وقال له: يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك، قال: فاقبض يا ملك الموت كما أمرت. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريما لك وتشريفا، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ قال: «أجدني يا جبريل مغموما وأجدني يا جبريل مكروبا»، ثم جاء اليوم الثاني والثالث، فقال له ذلك، فردّ عليه صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، وجاء معه في اليوم الثالث ملك الموت، فقال له جبريل عليه السلام: هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على أحد قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، أتاذن له فأذن له فدخل فسلم عليه، ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، قال: «أو تفعل؟» قال: نعم وبذلك أمرت، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام، فقال له: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك، أي وفي رواية: أتاه جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ورحمة الله، ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفيتك وغفرت لك، قال: «ذلك إلى ربي يصنع بي ما يشاء».
وفي رواية: الخلد في الدنيا ثم في الجنة أحب إليك أم لقاء ربك، ثم الجنة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقاء ربي ثم الجنة».
أي وجاء جبريل عليه السلام قال: هذا آخر وطىء بالأرض، وفي لفظ آخر عهدي بالأرض بعدك، ولن أهبط إلى الأرض لأحد بعدك. قال الحافظ السيوطي رحمه الله: هو حديث ضعيف جدا، ولو صح لم يكن فيه معارضة، أي لما ورد أنه ينزل ليلة القدر مع الملائكة يصلون على كل قائم وقاعد يذكر الله لأنه يحمل على أنه آخر نزوله بالوحي.
وفيه أنه ذكر أن حديث: يوحي الله إلى عيسى عليه السلام أي بعد قتله الدجال صريح في أنه يوحى إليه بعد النزول. والظاهر أن الجائي إليه عليه السلام بالوحي جبريل عليه السلام، بل هو الذي يقطع به ولا يتردد فيه لأن ذلك وظيفته لأنه السفير بين الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لملك الموت: امض لما أمرت به فقبض روحه الشريفة، وعند اشتداد الأمر به صلى الله عليه وسلم أرسلت عائشة رضي الله عنها خلف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي لأنه كما تقدم لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا وقال له قد رد الله بك علينا عقولنا، وقد أصبحت بنعمة من الله وفضل فقال له أبو بكر: يا رسول الله اليوم يوم بنت خارجة يعني زوجته وكانت بالسنح، قال له: «ائت أهلك»، فقام أبو بكر وذهب وأرسلت حفصة خلف عمر وأرسلت فاطمة خلف علي كرم الله وجهه فلم يجىء أحد منهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صدر عائشة، وذلك يوم الاثنين حين زاغت الشمس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول هكذا ذكر بعضهم.
وقال السهيلي: لا يصح أن يكون وفاته يوم الاثنين إلا في ثالث عشرة أو رابع عشرة لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة كانت يوم الجمعة وهو تاسع ذي الحجة وكان المحرم إما بالجمعة وإما بالسبت، فإن كان السبت فيكون أول صفر إما الأحد أو الاثنين فعلى هذا لا يكون الثاني عشر من ربيع الأول بوجه. وقال الكلبي: إنه توفي في الثاني من شهر ربيع الأول. قال الطبري: وهذا القول وإن كان خلاف الجمهور فلا يبعد إن كانت الثلاثة أشهر التي قبلها كلها تسعة وعشرين يوما، وفيما قاله نظر لمتابعة أنس بن مالك فيما حكاه البيهقي والواقدي.
وقال الخوارزمي: توفي أول شهر من ربيع الأول، وفي رواية إن سالم بن عبيد ذهب وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف ما قبله لأنه يجوز أن يكون ذلك ذهب إلى الصديق بعد الرسول الذي أرسلته له عائشة رضي الله عنها قبل موته صلى الله عليه وسلم. وآخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يترغرغ بها في صدره ولا يفيض بها لسانه. وآخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وكانت مدة شكواه صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ليلة، وقيل أربع عشرة ليلة، وقيل اثنتي عشرة ليلة، وقيل عشرا، وقيل ثمانية.
وقالت فاطمة رضي الله عنها لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: وا أبتاه أجاب داع دعاه، يا أبتاه الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
قال ابن كثير رحمه الله: وهذا لا يعد نياحة بل هو من ذكر فضائل الحق عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام؟ قال: وإنما قلنا ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة.
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت من سفاهة رأيي وحداثة سني أني أخذت وسادة فوسدت بها رأسه الشريف من حجري، ثم قمت مع النساء أبكي وأنتدم، والانتدام: ضرب الخد باليد عند المصيبة.
وسمعوا قائلا ولا يرون شخصه، يقال إنه الخضر عليه السلام أي قال علي كرم الله وجهه أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام، وفي إسناده متروك يقول: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا عن كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مرسل وفي إسناده ضعف. وسجي صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة أي بالإضافة: برد من برود اليمن، ولم أقف على أن ثيابه صلى الله عليه وسلم التي كانت عليه قبل الموت نزعت عنه ثم سجي، إلا أن كلام فقهائنا يشعر بذلك، حيث جعلوا ذلك ليلا لنزع ثياب الميت وستره بثوب.
وعند ذلك دهش الناس وطاشت عقولهم واختلفت أحوالهم، فأما عمر رضي الله تعالى عنه فخبل، وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرس، وأما علي كرم الله وجهه فأقعد: وجاء أبو بكر وعيناه تهملان، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا، وتكلم كلاما بليغا سكن به نفوس المسلمين وثبت جأشهم.
أي فإن عمر رضي الله تعالى عنه صار في ناحية المسجد يقول: والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي ناس من المنافقين كثير وأرجلهم، وصار رضي الله عنه يتوعد من قال إنه مات، بالقتل أو القطع.
ونقل عنه رضي الله عنه أنه قال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، ولكن ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران عليه السلام، ثم رجع إلى قومه بعد أربعين ليلة بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، ولا زال رضي الله عنه يتوعد المنافقين حتى أزبد شدقاه.
فقام أبو بكر رضي الله عنه وصعد المنبر وقال كلاما بليغا. ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] فقال عمر رضي الله عنه: هذه الآية في القرآن. وفي لفظ: فكأني لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل الآن لما نزل. ثم قال: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] صلوات الله وسلامه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند الله نحتسب رسوله، قال: يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزّمر:30] ، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] . وقال تعالى {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} * {وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ} [الرحمن: 26] ، وقال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] ، فلما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة كما سيأتي أقبلوا على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا هل يغسل في ثيابه أو يجرد منها كما تجرد الموتى، فألقى الله عليهم النوم وسمعوا من ناحية البيت قائلا يقول: لا تغسلوه فإنه كان طاهرا، فقال أهل البيت صدق فلا تغسلوه، فقال العباس رضي الله عنه لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، فغشيهم النعاس ثانية، فناداهم أن غسلوه وعليه ثيابه، أي وزاد في رواية: «فإن ذلك إبليس وأنا الخضر» وفي رواية: «لا تنزعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه» قال الذهبي حديث منكر، فقاموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، وفي لفظ وعليه قميص ومحول مفتوح يصبون عليه الماء ويدلكونه والقميص دون أيديهم عليّ والعباس وكذا ولدا العباس الفضل وقثم، فكان العباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه مع عليّ، وفي لفظ: «غسله علي والفضل» محتضنه والعباس يصب الماء وجعل الفضل رضي الله عنه يقول: أرحني قطعت وتيني، وأسامة وشقران مولاه، وفي لفظ: «وصالح مولاه صلى الله عليه وسلم يصبان الماء، ولف عليّ كرم الله وجهه على يده خرقة وأدخلها تحت القميص يغسل بها جسده الشريف» .
وعن علي كرم الله وجهه: ذهبت ألتمس منه ما يلتمس من الميت: أي ما يخرج من بطن الميت فلم أر شيئا، فكان صلى الله عليه وسلم طيبا حيا وميتا، وما تناولت منه صلى الله عليه وسلم عضوا إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلا: أي ويحتاج إلى الجمع بين هذا، وما تقدم عن الفضل رضي الله عنه.
قيل وتغسيل علي كرم الله وجهه له صلى الله عليه وسلم كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم له. فعن علي كرم الله وجهه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا يغسله أحد غيري وقال: لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه غيرك، أي على فرض وقوع ذلك فلا ينافي ما تقدم، وادعى الذهبي أن هذا الحديث منكر. وفي رواية: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، وأعينهما معصوبة. وفي لفظ: مكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر، لأن العباس رضي الله عنه نصب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلة: أي خيمة رفيعة من ثياب يمانية في جوف البيت وأدخل عليا فيها، زاد بعضهم: والفضل وأبا سفيان بن الحارث ابن عمه صلى الله عليه وسلم.
ونصب الكلة دليل لقول فقهائنا رحمه الله: والأكمل وضع الميت عند الغسل بموضع خال من الناس مستور عنهم لا يدخله إلا الغاسل ومن يعينه. والذي رواه ابن ماجه رحمه الله أنه تولى غسله صلى الله عليه وسلم علي والفضل، وأسامة بن زيد يناول الماء، والعباس واقف: أي لا يغسل ولا يناول الماء: أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.
وقيل إن العباس لم يشاهد غسله صلى الله عليه وسلم، وعن علي رضي الله عنه: لما غسلت النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع ماء في حقويه فرفعته بلساني وازدردته فأورثني ذلك قوة حفظي.
ويروى أنه كرم الله وجهه، رأى في عينه صلى الله عليه وسلم قذاة فأدخل لسانه فأخرجها منها.
وعن عائشة رضي الله عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه: أي لو ظهر لها قولها المذكور وقت غسله صلى الله عليه وسلم ما غسله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه، وغسل ثلاث غسلات: واحدة بالماء القراح، وواحدة بالماء والسدر، أي والغسلة التي كانت بالماء القراح كانت قبل الغسلة التي بالسدر فهي المزيلة وواحدة بالماء مع الكافور، أي وهذه هي المجزئة في الغسل هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: وغسل صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالماء والسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور.
وفي لفظ: فغسلوه بالماء القراح، وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، وغسل من ماء بئر غرس وهي بئر بقباء، قال صلى الله عليه وسلم: «نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب الماء» وكان صلى الله عليه وسلم يشرب منها، ويؤتى له بالماء منها.
وعند ابن ماجه رحمه الله صلى الله عليه وسلم، قال لعلي كرم الله وجهه: «إذا أنا مت فغسلني بسبع من بئري بئر غرس» .
وكفن صلى الله عليه وسلم بثلاثة أثواب سحولية: أي بيض من القطن، من عمل سحولة: قرية من قرى اليمن، وفي رواية الشيخين عنها: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، قيل إزار ورداء ولفافة، وقوله ليس فيها قميص ولا عمامة: أي ولم يكن في كفنه صلى الله عليه وسلم ذلك كما فسر بذلك إمامنا الشافعي رحمه الله وجمهور العلماء، قال بعضهم: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث.
وما قيل إن معناه أن القميص والعمامة زائدان على الأثواب الثلاثة ليس في محله، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم كفن في قميص وعمامة، وهذا يدل على أنه نزع عنه صلى الله عليه وسلم القميص الذي غسل فيه قبل تكفينه في الأثواب الثلاثة.
وقيل كفن في ذلك الثوب بعد عصره. وفيه أنه لا يخلو عن الرطوبة وهي تفسد الأكفان. ويؤيد كونه صلى الله عليه وسلم كفن في ذلك الثوب ما جاء في رواية: «كفن صلى الله عليه وسلم في ثوبه الذي مات فيه وحلّة نجرانية» والحلة: ثوب فوق ثوب، قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفي كلام بعضهم أنه حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كفن في الأثواب الثلاثة المتقدمة وزيادة برد حبرة أحمر.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أتي بالبرد ولفوه فيه ولكنهم ردوه، أي ثم نزع عنه صلى الله عليه وسلم ولم يكفنوه فيه، وفي رواية: ثوبين وبرد أحمر، وهذا يخالف ما عليه أئمتنا أن من كفن في ثلاثة أثواب يجب أن تكون لفائف يستر كل منها جميع البدن. وفي رواية كفن في سبعة أثواب.
وبعد تكفينه صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الثلاثاء وضع على سرير، وفي لفظ: ثم أدرج صلى الله عليه وسلم في أكفانه وجمروه عودا وندا، ثم احتملوه حتى وضعوه على سرير وسجوه.
وذكر أنه كان عند علي كرم الله وجهه مسك، وقال إنه من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصلى عليه صلى الله عليه وسلم الناس أفذاذا لم يؤمهم أحد، وفي لفظ: لما أدرج صلى الله عليه وسلم في أكفانه وضع على سريره ثم وضع على شفير حفرته ثم صار الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم أحد.
وذكر أنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت، فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأول الذي حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا اللهم إنا نشهد أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممن تبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغي بالإيمان به بدلا ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول الناس آمين آمين، وهذا يدل على أنه المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم الدعاء لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم، والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات.
فقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليه صلى الله عليه وسلم فكبر أربع تكبيرات ثم دخل عمر رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم دخل عثمان رضي الله عنه فكبر أربعا، ثم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما، ثم تتابع الناس أرسالا يكبرون عليه، أي وعلى هذا إنما خصوا الدعاء بالذكر لأنه الذي لا يليق به صلى الله عليه وسلم، ومن ثم استشاروا كيف يدعون له فأشير بمثل ذلك.
قال: وقال ابن كثير رحمه الله: وهذا الأمر: أي صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم فرادى من غير إمام يؤمهم مجمع عليه. ولا يقال لأن المسلمين لم يكن لهم حينئذ إما لأنهم لم يشرعوا في تجهيزه عليه الصلاة والسلام إلا بعد تمام البيعة لأبي بكر رضي الله عنه لأنه لما تحقق موته صلى الله عليه وسلم، واجتمع غالب المهاجرين على أبي بكر وعمر وانضم إليهم من الأنصار أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ومن معه من الأوس، وتخلف علي والزبير، أي ومن كان معهما من المهاجرين كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها وتخلف الأنصار بأجمعهم واجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، أي وفي دار سعد بن عبادة وكان سعد مريضا مزملا بثيابه بينهم: أي اجتمعوا أولا ثم تفرق عنهم أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من الأوس.
فلا يخالف ذلك ما تقدم من انضمام أسيد بن حضير رضي الله عنه ومن معه من المهاجرين رضي الله عنهم مع أبي بكر رضي الله عنه، ولا يخالف ذلك ما في بعض الروايات عن عمر رضي الله عنه وتخلف الأنصار عنا بأجمعهم في سقيفة بني ساعدة.
واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه إلا عليا والزبير ومن معهما تخلفوا في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. أي فإنه أتاهم آت، فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم.
أي فعن عمر رضي الله عنه: «بينا نحن في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجل ينادي من وراء الجدران اخرج إليّ يابن الخطاب، فقلت: إليك عني فأنا عنك متشاغل، يعني بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد حدث أمر، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فأدركهم قبل أن يحدثوا أمرا يكون فيه حزب.
قال: فانطلقنا نؤمهم: أي نقصدهم حتى رأينا رجلين صالحين، أي وهما عويمر بن ساعدة ومعدة بن عدي وهما من الأوس، قالا: أي تريدون؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين بينكم. فقلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين أظهرهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا إنه وجع، فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد ذفت ذاقة منكم: أي دب قوم بالاستعلاء والترفع علينا تريدون أن تختزلونا من أهلنا، أي تنحونا عنه تستبدون به دوننا، فلما سكت أردت أن أتكلم، وقد كنت زورت مقالة أعجبتني أردت أن قولها بين يدي أبي بكر فقال أبو بكر رضي الله عنه: على رسلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه وكنت أرى منه بعض الحدة فسكت، وكان أعلم مني، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل، فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم له أهل، ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحيّ من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا، يعني مكة ولدتنا العرب كلها فليست منها قبيلة إلا لقريش منها ولادة ودار، وكنا معاشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته صلى الله عليه وسلم وأقاربه وذوو رحمه، فنحن أهل النبوّة وأهل الخلافة، ولم يترك شيئا أنزل في الكتاب بأيديهم إلا قاله، ولا شيئا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأنصار إلا ذكره، ومنه «لو سلكت الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار» وقال: «لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر» فقال سعد رضي الله تعالى عنه صدقت، فقال أي الصديق رضي الله عنه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، أي وفي رواية أنه: أي الصديق رضي الله عنه، قال لهم: أنتم الذين آمنوا ونحن الصادقون، وإنما أمركم الله أن تكونوا معنا فقال تعالى:
{يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ} [التّوبة: 119] والصادقون:
هم المهاجرون، قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى قوله {أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] .
وفي رواية: أن أبا بكر رضي الله عنه احتج على الأنصار بخبر «الأئمة من قريش» وهو حديث صحيح ورد عن نحو أربعين صحابيا، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في الدين وأنتم أحق بالرضا بقضاء الله، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئت وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح فلم أكره ما قال غيرها، وكان والله أن أقدم فتضرب عنقي ولا يقربني ذلك من إثم أحب إليّ من أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، فقال كل من عمر وأبي عبيدة: لا ينبغي لأحد أن يكون فوقك يا أبا بكر أي وفي لفظ بل نبايعك، وأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من عمر رضي الله عنه كان بعد أن أتى أبا عبيدة، وقال: إنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما رأيت بك ضعف رأي قبلها منذ أسلمت، أما بقي فيكم الصديق وثاني اثنين؟ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله عنه قال لعمر ابسط يدك لأبايعك، فقال له أنت أفضل مني، فأجابه بأنت أقوى مني ثم كرر ذلك. فقال له: فأين قوتي مع فضلك.
واعترض قول أبي بكر المذكور، بأنه كيف يقول ذلك مع علمه بأنه أحق بالخلافة؟ وكيف يقدم أبا عبيدة على عمر مع أنه أفضل منه؟.
وأجيب بأنه رضي الله عنه قال ذلك لأنه استحيى أن يقول: رضيت لكم نفسي مع علمه بأن كلا من عمر وأبي عبيدة لا يقبل وأن أبا بكر رضي الله عنه كان يرى جواز تولية المفضول على من هو أفضل منه، وهو الحق عند أهل السنة لأنه قد يكون أقدر من الأفضل على القيام بمصالح الدين وأعرف بتدبير الأمر وما فيه انتظام حال الرعية.
وعن قول أبي بكر رضي الله عنه ما ذكر قال قائل من الأنصار، أي وهو الحباب بحاء مهملة مضمومة فموحدة رضي الله عنه، ابن المنذر: أنا جذيلها المحك، وعذيقها المرجب بالجيم والجذيل تصغير الجذل: وهو عود ينصب للإبل الجرباء فتحتك به ليزول جربها. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار أملس والعذيق تصغير العذق بفتح العين وهو النخلة، والمرجب المسند بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين يسند بها النخلة إذا كثر حملها، أي أنا ذو الرأي والتدبير الذي يستشفى به في الحوادث لا سيما هذه الحادثة، منا أمير ومنكم يا معشر قريش، وتتابعت خطباؤهم على ذلك. وقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل الرجل منكم قرن معه رجلا منا فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان منا ومنكم، فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقال للأنصار: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وكنا نحن أنصاره فنحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره ثم أخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه وقال هذا صاحبكم. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يا معشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا فتذهب قريش بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فأجلوهم من بلادكم، فأنتم أحق به منهم، أما والله وإن شئتم لنقيمها جذعة، فقال له عمر رضي الله عنه إذن يقتلك الله فقال بل أراك تقتل، فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما فقال: يا معشر الأنصار إنا كنا أول من سبق إلى هذا الدين وجهاد المشركين، ما قصدنا إلا رضا الله ورسوله فلا ينبغي لنا أن نستطيل على الناس، ولا نطلب عرض الدنيا، وإن قريشا أولى بهذا الأمر فلا ننازعهم، فقال له الحباب، ألفيت على ابن عمك يعني سعد بن عبادة، فقال: لا والله ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم وفي رواية قال عمر رضي الله عنه يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر وفي لفظ أن يقيمه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر رضي الله عنه. وفي لفظ قالوا: نستغفر الله، لا تطيب أنفسنا، ولعل المراد قال معظمهم.
فلا يخالف ذلك ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ولما كثر اللغط، وعلمت الأصوات حتى خشيت الاختلاف. وقلت: سفيان في غمد واحد لا يكونان وفي رواية: هيهات لا يجتمع فحلان في مغرس. فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، وكذا قال له من الأنصار يد بن ثابت وأسيد بن حضير وبشير بن سعد رضي الله عنهم، فبسط يده: فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار. أي حتى سعد بن عبادة رضي الله عنه، خلافا لمن قال إن سعد بن عبادة أبي أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله. أي فإنه رضي الله تعالى عنه توجه إلى الشام ومات بها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: والعذر له في ذلك أنه رضي الله عنه تأوّل أن للأنصار في الخلافة استحقاقا فبنى على ذلك، وهو معذور، وإن لم يكن ما اعتقده من ذلك حقا هذا كلامه.
ولا ينافيه ما جاء عن عمر رضي الله عنه: وثبنا على سعد بن عبادة. فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة: أي فعلتم معه من الإعراض والإذلال ما يقتله، فقلت: قتل الله سعد بن عبادة، فإنه صاحب فتنة، نعم ينافيه ما حكاه ابن عبد البر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقي الله.
قال بعضهم: ويضعفه ما جاء في بعض الروايات أن أبا بكر رضي الله عنه لما قال لسعد: لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر» ، قال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء، وبه يظهر التوقف فيما تقدم عن ابن حجر رحمه الله هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله: فأنكروا على سعد أمره، وكادوا يطؤون سعدا فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعدا لا تطؤوه، فقال عمر رضي الله عنه: اقتلوا سعدا قتله الله، ثم قام عمر رضي الله عنه على رأس سعد وقال: قد هممت أن أطأك حتى تنذر عيونك، فأخذ قيس بن سعد رضي الله عنهما بلحية عمر رضي الله عنه وقال: والله لو خفضت منه شعرة ما رجعت وفيك جارحة، فقال أبو بكر: مهلا يا عمر، الرفق الرفق، ما هنا أبلغ، فقال عاد أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى محلهما أرسلا له بايع فقد بايع الناس، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب من دمائكم سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يداي.
والله لو اجتمع لكم الجن والإنس لما بايعتكم. فلما عاد الرسول وأخبرهم بما قال، قال له عمر: لا ندعه حتى يبايع، فقال له قيس بن سعد: دعه فقد لح فاتركوه، فتركوه، وكان سعد رضي الله عنه لا يحضر معهم، ولا يصلي في المسجد، ولا يسلم على من لقي منهم، فلم يزل مجانبا لهم حتى إذا كان بعرفة يقف ناحية عنهم، فلما ولي عمر رضي الله عنه الخلافة لقيه في بعض طرق المدينة، فقال له: إيه يا سعد فقال له: إيه يا عمر، فقال له عمر: أنت صاحب المقالة، قال نعم أنا ذاك، وقد أفضى الله إليك هذا الأمر، كان والله صاحبك خيرا لنا، وأحب إلينا من جوارك، وقد أصبحت كارها لجوارك، فقال له عمر رضي الله عنه: إنه من كره جوار جاره تحول عنه، فقال له سعد: إني متحول إلى جوار من هو خير من جوارك، فخرج رضي الله عنه إلى الشام واستمر بها إلى أن مات في السنة الخامسة عشر من الهجرة.
وذكر الطبري رحمه أن سعدا رضي الله عنه بايع مكرها، وهو وهم، هذا كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله.
قال عمر رضي الله عنه: وإنما بايعت أبا بكر خشية إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة، فإما أن بيايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد، وذلك كان في يوم موته صلى الله عليه وسلم الذي هو يوم الاثنين، فلما كان الغد كانت البيعة العامة صعد أبو بكر رضي الله عنه المنبر، وقام عمر رضي الله عنه بين يدي أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه بيعة عامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه فقال في خطبته، بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ حتى أردّ عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا أشيعت الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذ عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، فقوموا إلى صلاتكم رحمكم الله.
وشن الغارة بعض الرافضة على قول الصديق رضي الله عنه فقوموني، بأنه كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه. وردّ بأن هذا من أكبر الدلائل على فضله، لقوله الآخر: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، لأن كل أحد ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تجوز عليه المعصية.
ولما بويع بالخلافة أصبح رضي الله تعالى عنه على ساعده قماش وهو ذاهب به إلى السوق، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين، قال: فمن أين أطعم عيالي، فقال: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إليه، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجري ليس بأفضلهم: أي في سعة النفقة ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، وإذا أبليت شيئا رددته وأخذت غيره، ففرض له كل يوم نصف شاة. وفي رواية: جعل له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلت عن السفارة فزادوه خمسمائة.
وهو رضي الله تعالى عنه أول من جمع القرآن وسماه مصحفا، واتخذ بيت المال، وسها من جعل ذلك من أوّليات عمر رضي الله تعالى عنه.
ولما تخلف عليّ والزبير ومن معهما كالعباس وطلحة بن عبيد الله والمقداد وجمع من بني هاشم في بيت فاطمة كما تقدم عن المبايعة، استمروا على ذلك مدة لأنهم رضي الله عنهم وجدوا في أنفسهم حيث لم يكونوا في المشورة: أي في سقيفة بني ساعدة مع أن لهم فيها حقا. وقد أشار سيدنا عمر رضي الله عنه إلى بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي بغتة لا عن استعداد لها، ولكن وقى الله شرها: أي لم يقع فيها مخالفة ولا منازعة، ولذلك لما اجتمعوا: أي علي والزبير والعباس وطلحة بن عبيد الله ومن تخلف عن المبايعة منهم بأبي بكر رضي الله عنه قام خطيبا وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها، ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكن أشفقت من الفتنة: أي لو أخرت إلى اجتماعكم.
وقد روي أن شخصا قال لأبي بكر رضي الله عنه: ما حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين، فقال: لم أجد من ذلك بدا، خشيت على أمة محمد صلى الله عليه وسلم الفرقة وقال: ما في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به من طاقة، فقال علي والزبير رضي الله تعالى عنها ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا ترى أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، إنه لنعرف شرفه وخيره، ولذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة من بين الناس وهو حي، فلم يكن تأخرهم رضي الله تعالى عنهم للقدح في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه. ومن ثم قال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أجمع الناس على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، لأنهم لم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبي بكر فولوه رقابهم. أي فالأمة أجمعت على حقية إمامة بكر رضي الله تعالى عنه، وهذا: أي اجتماع علي كرم الله وجهه بأبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان بعد ما أرسل إليه علي كرم الله وجهه في الاجتماع به واجتمع به كما سيأتي، لكن سيأتي أن ذلك كان بعد موت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وسياق غير واحد يدل على أن اجتماع عليّ والزبير ومبايعتهما أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قبل موت فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهو ما صححه ابن حبان وغيره، ويؤيده ما حكاه بعضهم أن الصديق رضي الله تعالى عنه خرج يوم الجمعة فقال: اجمعوا لي المهاجرين والأنصار، فاجتمعوا، ثم أرسل إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والنفر الذين كانوا تخلفوا معه، فقال له: ما خلفك يا علي عن أمر الناس؟ فقال: خلفني عظيم المعتبة، ورأينكم استقليتم برأيكم فاعتذر إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بخوف الفتنة لو أخر، ثم أشرف على الناس وقال: أيها الناس هذا علي بن أبي طالب لا بيعة لي في عنقه، وهو بالخيار من أمره. ألا أنتم بالخيار جميعا في بيعتكم، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه، فلما سمع ذلك علي كرم الله وجهه زال ما كان قد داخله، فقال أجل لا نرى لها غيرك، امدد يدك، فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه فإن هذا دليل على أن عليا كرم الله وجهه بايع أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام.
وفي كلام المسعودي: لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله تعالى عنها. وقال رجل للزهري: لم يبايع علي كرم الله وجهه أبا بكر ستة أشهر، فقال: لا والله ولا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي كرم الله وجهه، فليتأمل الجمع على تقدير الصحة.
وقد جمع بعضهم بأن عليا كرم الله وجهه بايع أولا، ثم انقطع عن أبي بكر لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع.
أي ويدل لهذا الجمع أن في رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صعد المنبر ونظر في وجوه القوم، فلم ير الزبير رضي الله تعالى عنه فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عمة رسول الله وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا كرم الله وجهه، فدعا به فجاء، فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخنته على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فبايعه.
ويبعد هذا الجمع ما في البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها فلما توفيت فاطمة رضي الله عنها التمس: أي علي كرم الله وجهه مصالحة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولم يكن بايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر الحديث.
والسبب الذي اقتضى الوقوع بين فاطمة وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثها مما أعطاه الأنصار له صلى الله عليه وسلم من أرضهم وما أوصى به إليه صلى الله عليه وسلم، وهو وصية مخيريق عند إسلامه وهي سبعة حوائط في بني النضير. قال سبط ابن الجوزي: وهو أول وقف كان في الإسلام، ومما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض بني النضير وفدك، ونصيبه صلى الله عليه وسلم من خيبر وهما حصنان من حصونها الوطيح وسلالم فإنه صلى الله عليه وسلم أخذهما صالحا كما تقدم، وحصته صلى الله عليه وسلم مما افتتح منها عنوة وهو الخمس. فإن ذلك كله كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان صلى الله عليه وسلم ينفق من ذلك على أهل بيته سنة وما بقي جعله في الكراع: أي الخيل والسلاح في سبيل الله، فربما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى شيء ينفقه قبل فراغ السنة فيقترض، ولهذا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي على آصع من شعير، وافتكها أبو بكر، وتلك الدرع كانت ذات الفضول التي أهداها له صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة لما توجه إلى بدر كما تقدم، ولم يشبع هو ولا أهل بيته ثلاثة أيام تباعا، أي متتابعة كما تقدم فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لست بالذي أقسم من ذلك شيئا، ولست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به فيها إلا عملته، وإني أخشى إن تركت أمره أو شيئا من أمره أن أزيغ. وفي رواية قال لها قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هي طعمة أطعمينها الله فإذا مت عادت على المسلمين، فإن اتهمتيني فسلي المسلمين يخبروك بذلك. وقال لها: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه صدقة» ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله، وأنفق على من كان ينفق عليه، وقوله صدقة هو بالرفع كما هو الرواية: أي الذي تركناه فهو صدقة، وقد منع بذلك عائشة وبقية أزواجه صلى الله عليه وسلم لما جئن إليه يطلبن ثمنهن.
وزعمت الرافضة أن الصديق رضي الله تعالى عنه كان ظالما لفاطمة رضي الله عنها بمنعه إياها من مخلف والدها، وأنه لا دليل له في هذا الخبر الذي رواه، لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث.
ورد بأنه إنما حكم بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنده قطعي فساوى آية المواريث من قطيعة المتن، وكان مخصصا لآية المواريث.
وذكر عن الرافضة أنهم زعموا أن صدقة بالنصب وأن ما نافية. ويرده صدر الحديث: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» وأما رواية: «نحن معاشر الأنبياء» فلم تجىء في كتاب من كتب الحديث كما قاله غير واحد، ومن رواه بذلك بالمعنى لأن نحن وإنا مفادهما واحد ولا يعارض ذلك قوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النّمل: 16] وقوله تعالى حكاية عن زكريا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} * {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} [مريم: 5] إذ المراد وراثة العلم والحكمة.
وفي لفظ أنها رضي الله تعالى عنها قالت له: من يرثك؟ قال: أهلي وولدي، فقالت فما لي لا أرث أبي. فقال لها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا نورث فغضبت رضي الله تعالى عنها من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهجرته إلى أن ماتت، أي فإنها عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر على ما تقدم. ومعنى هجرانها لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أنها لم تطلب منه حاجة ولم تضطر إلى لقائه، إذ لم ينقل أنها رضي الله تعالى عنها لقيته ولم تسلم عليه، ولا كلمته.
وروى ابن سعد أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه جاء إلى بيت علي لما مرضت فاطمة فاستأذن عليها، فقال علي كرم الله وجهه: هذا أبو بكر على الباب يستأذن، فإن شئت أن تأذني له فأذني، قالت: وذاك أحب إليك؟ قال نعم، فأذنت له رضي الله تعالى عنه، فدخل واعتذر إليها فرضيت عنه، وأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صلى عليها.
وقال الواقدي: وثبت عندنا أن عليا كرم الله وجهه دفنها رضي الله تعالى عنها ليلا، وصلى عليها ومعه العباس والفضل رضي الله تعالى عنهم ولم يعلموا بها أحدا.
قال بعضهم: وكأنها تأولت قوله صلى الله عليه وسلم: «لا نورث» وحملت ذلك على الأموال. أي الدراهم والدنانير كما جاء في بعض الروايات: «لا تقسم ورثتي دينارا ولا درهما» بخلاف الأراضي، ولعل طلب إرثها من فدك كان منها بعد أن ادعت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدكا. وقال لها: هل لك بينة فشهد لها علي كرم الله وجهه وأم أيمن، فقال لها رضي الله عنه أبرجل وامرأة تستحقيها.
واعترض عليه الرافضة بأن فاطمة معصومة بنص {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً} [الأحزاب: 33] وخبر «فاطمة بضعة مني» فدعواها صادقة لعصمتها. وأيضا شهد لها بذلك الحسن والحسين وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم.
ورد عليهم بأن من جملة أهل البيت أزواجه صلى الله عليه وسلم ولسن بمعصومات اتفاقا فكذلك بقية أهل البيت. وأما كونها بضعة منه فمجاز قطعا، وإنها كبضعة فيما يرجع للخير والشفقة. وأما زعم أنه شهد لها الحسن والحسين وأم كلثوم فباطل لم ينقل عن أحد ممن يعتمد عليه، على أن شهادة الفرع للأصل غير مقبولة.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمه الله أنه رضي الله تعالى عنه كتب لها بفدك، ودخل عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما هذا. فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها فقال: مماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى، ثم أخذ عمر الكتاب فشقه.
وقد جاء أن بعد موت فاطمة رضي الله تعالى عنها: أي وذلك بعد ستة أشهر من موته صلى الله عليه وسلم إلا ليالي على ما تقدم، أرسل علي كرم الله وجهه وقد اجتمع علي وبنو هاشم إلى أبي بكر وقالوا: ائتنا ولا يأت معك أحد، كراهة أن يحضر عمر رضي الله تعالى عنه لما علموا من شدته، فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي بكر لا والله لا تدخل عليهم وحدك، قال ذلك خوفا عليه أن يغلظوا عليه في المعاتبة، وربما كان ذلك سببا لتغير قلبه فيترتب عليه ما لا ينبغي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: وما يفعلون بي، والله لآتينهم، أي فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحده، فقال له علي كرم الله وجهه: إنا قد عرفناك لك فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك: أي لا نحسدك عليه، ولكن استبديت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا فيه وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لنا نصيبا: أي في المشاورة، ففاضت عينا أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال: والذي نفسي بيدي لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من قرابتي، فقال له علي كرم الله وجهه:
موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الظهر، أي وقد حضر عنده علي كرم الله وجهه رقي المنبر بكسر القاف، فتشهد وذكر شأن علي كرم الله وجهه وعذره في تخلفه عن البيعة ثم إن عليا رضي الله تعالى عنه بايعه: أي بعد أن عظم أبا بكر رضي الله تعالى عنه وذكر فضيلته وسابقته، وذكر أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة حق على أبي بكر، فأقبل الناس على علي كرم الله وجهه وقالوا:
أصبت وأحسنت.
وقد علمت الجمع بين من قال بايع بعد ثلاثة أيام من موته صلى الله عليه وسلم ومن قال: لم يبايع إلا بعد موت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر، وهو أنه بايع أولا ثم انقطع عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما وقع بينه وبين فاطمة ما وقع، ثم بايعه مبايعة أخرى، فتوهم من ذلك بعض من لا يعرف باطن الأمر أن تخلفه إنما هو لعدم رضاه ببيعته فأطلق ذلك من أطلقه. ومن ثم أظهر علي كرم الله وجهه مبايعته لأبي بكر ثانيا بعد ثبوتها على المنبر لإزالة هذه الشبهة.
وبهذا يعلم ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعة علي هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة، ومن ثم حكم بعضهم عليه الضعف.
ومما يؤيد الضعف ما جاء أن عليا وأبا بكر رضي الله عنهما جاآ لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بستة أيام، فقال علي كرم الله وجهه: تقدم يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأتقدم رجلا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «عليّ مني بمنزلتي من ربي» وصلاة أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالناس لم تختص بالمرض، فقد جاء أنه وقع قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال: يا بلال إن حضرت الصلاة ولم آت مر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام الصلاة، ثم أمر أبا بكر فصلى كما تقدم.
وفي شرح مسلم الإمام النووي رحمه الله: وتأخر علي كرم الله وجهه أي ومن تأخر معه عن البيعة لأبي بكر ليس قادحا فيها، لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل أهل العقد والحل، بل مبايعة من تيسر منهم وتأخره كان للعذر أي الذي تقدم، وكان عذر أبي بكر وعمر وبقية الصحابة واضحا لأنهم رأوا أن المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، لأن تأخرها ربما لزم عليه اختلاف، فينشأ عنه مفاسد كثيرة كما أفصح به أبو بكر رضي الله تعالى عنه فيما تقدم.
وجاء كما تقدم أنه قيل لعلي كرم الله وجهه: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة؟ فحدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك، ولو لم أجد إلا بردتي هذه، وما تركت أخا بني تيم وعمر بن الخطاب ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم، ولقاتلتهما بيدي، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمت فجأة بل مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اخترنا لدنيانا من رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه وكان لذلك أهلا، لم يختلف عليه من اثنان، فلما قبض تولاها عمر رضي الله تعالى عنه بمبايعته، وأقام فيها لم يختلف عليه منا اثنان، وأعطيت ميثاقي لعثمان رضي الله تعالى عنه، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل هذين المصرين: أي الكوفة والبصرة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابتي ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه، يعني معاوية فهو رأي رأيته وفي لفظ لكن شيء رأيناه من قبل أنفسنا، فهذا تصريح منه كرم الله وجهه بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمامته.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم عند مرجعه من حجة الوداع بعد أن جمع الصحابة وكرر عليهم: «ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا» وهم يجيبونه بالتصديق والاعتراف ثم رفع يد علي كرم الله وجهه وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» الحديث فتقدم الكلام عليه وأن ذلك لا يدل على الخلافة.
وإنما قال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: إن بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت فلتة: أي من غير استعداد ولا مشورة كما تقدم، ردا على من بلغه عنه أنه قال إذا مات عمر بايعت فلانا، والله ما كانت بيعة أبي بكر بمشورة، فالبيعة لا تتوقف على ذلك فغضب فلما رجع من آخر حجة حجها المدينة قال على المنبر: قد بلغني أن فلانا قال والله لو مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا، إن بيعة أبي بكر كانت فلتة من غير مشورة، فلا يغترن امرؤ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، فنعم، وأنها كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة المسلمين فإنه لا بيعة له ولا الذي بايعه.
ولما ثقل المرض على الصديق رضي الله تعالى عنه دعا عبد الرحمن فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال: أنت أعلم به مني، فقال الصديق وإن فقال، عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به، ثم دعا عليا كرم الله وجهه وقال له مثل ذلك، ثم قال علي كرم الله وجهه: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، ودعا جمعا من الأنصار فيهم أسيد بن حضير وسألهم، فقال: اللهم أعلمه يرضى للرضا ويسخط للسخط الذي يسر خير الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، فعند ذلك دعا عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، فإن عدل فذلك ظني فيه وعلمي به، وإن بدل فلكل امرىء ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ثم أمر بالكتاب فختم، ثم دعا عمر خاليا فأوصاه بالمسلمين، وقبل أن يظهر الصديق رضي الله عنه هذا الأمر، اطلع على الناس من كوّة وقال: أيها الناس إني قد عهدت عهدا أفترضون به؟ فقال الناس: رضينا يا خليفة رسول الله، فقام عليّ كرم الله وجهه فقال: لا نرضى إلا أن يكون عمر قال: فإنه عمر وكانت صلاتهم عليه صلى الله عليه وسلم كصلاتهم على غيره: أي بتكبيرات أربع لا مجرد الدعاء من غير تكبيرات اه، وهو يخالف ما تقدم المفيد أن صلاتهم إنما كانت مجرد الدعاء لا الصلاة المعهودة.
وقد يقال: لا مخالفة، وإنما نصوا على الدعاء لكونه مخالفا للدعاء المعروف في صلاة الجنازة على غيره صلى الله عليه وسلم.
وفي شرح مسلم عن القاضي عياض: واختلف هل صلى عليه صلى الله عليه وسلم: فقيل: لم يصل عليه أحد أصلا، وإنما كان الناس يدخلون أرسالا يدعون ويتضرعون.
والصحيح الذي عليه الجمهور أنهم صلوا عليه أفرادا، فكان يدخل عليه فوج يصلون فرادى ثم يخرجون، ثم يدخل فوج آخر فيصلون كذلك.
وعن ابن الماجشون: صلي عليه صلى الله عليه وسلم اثنان وسبعون صلاة كحمزة رضي الله عنه قيل له: من أين لك هذا؟ قال: من الصندوق الذي تركه مالك رحمه الله تعالى بخطه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، فصلى عليه الرجال الأحرار أولا ثم النساء الأحرار ثم الصبيان ثم العبيد ثم الإماء.
واختلفوا في الموضع الذي يدفن فيه، فمن قائل يدفن في البقيع، ومن قائل ينقل ويدفن عند إبراهيم الخليل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ادفنوه في الموضع الذي قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب.
أي وفي رواية أنه رضي الله عنه قال: إن عندي في هذا خبرا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث قبض» . وفي لفظ: «لا يقبض الله روح نبي إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه»
وعن أبي بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه» قال بعضهم: ولا شك أن أحبها: أي الأمكنة إليه أحبها إلى ربه تعالى، فإن حبه صلى الله عليه وسلم تابع لحب ربه جل وعلا.
وفي الحديث: «ما مات نبي إلا دفن حيث قبض» فحول فراشه وحفر له ودفن في ذلك الموضع الذي توفاه الله فيه.
واختلفوا هل يجعل له صلى الله عليه وسلم لحد أو يجعل له شق، وكان في المدينة شخصان، أحدهما يصنع اللحد، والآخر يصنع الشق والأول هو أبو طلحة زيد بن سهل والثاني أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.
وفي لفظ كان أبو عبيدة يحفر حينئذ لأهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة فكان يلحد، فقال عمر رضي الله عنه: ترسلوا لهما، وكل من حضر منهما نزلناه، فأرسلوا خلفهما رجلين، وقال عمر رضي الله عنه: اللهم خر لرسولك، وقيل المرسل والقائل ما ذكر العباس رضي الله، فسبق أبو طلحة رضي الله عنه فصنع له صلى الله عليه وسلم لحدا وأطبق عليه بتسع لبنات ثم أهيل التراب. وقد جاء في الحديث «ألحدوا ولا تشقوا، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا» وقد روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في مرض موته: ألحدوا لي لحدا، وانصبوا عليّ اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه كما رواه البيهقي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي وضع سريره صلى الله عليه وسلم عند مؤخر القبر، فكان رأسه الشريف عند المحل الذي يكون فيه رجلاه فلما أدخل القبر سلّ من قبل رأسه، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران. واقتصر ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما على الثلاثة الأول، وفرش شقران في اللحد تحته صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء.
وفي رواية بيضاء كان يجعلها على رحله، إذا سافر، لأن الأرض كانت ندبة وقال والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل أخرجت: أي عملا بوصيته صلى الله عليه وسلم، فقد روى البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أوصى أن لا تتبعوني بصارخة ولا مجمرة، ولا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئا، لكن في رواية الجامع الصغير: «افرشوا لي قيطفي في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» .
وكان دفنه صلى الله عليه وسلم ليلة الأربعاء. وعن أم سلمة رضي الله عنها «كنا مجتمعين نبكي تلك الليلة لم ننم فسمعنا صوت المساحي، فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، فأذن بلال بالفجر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب فزادنا حزنا، فيا لها من مصيبة ما أصابنا بعدها من مصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم.
وعن فاطمة رضي الله عنها: لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأنس: يا أنس كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟ وفي لفظ: أطابت نفوسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم. وفي رواية أنها قالت لعلي كرم الله وجهه: يا أبا الحسن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قالت: كيف طابت قلوبكم أن تحثوا التراب عليه؟ كان نبي الرحمة، قال: نعم، ولكن لا رادّ لأمر الله. وقد جاء أن الإنسان يدفن في التربة التي خلق منها، وهو يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما خلقوا من تربة واحدة لأنهم دفنوا ثلاثتهم في تربة واحدة.
فقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لمن حضره: إذا أنا مت وفرغتم من جهازي فاحملوني حتى تقفوا بباب البيت الذي فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقفوا بالباب، وقولوا: السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، فإن أذن لكم بأن فتح الباب، وكان الباب مغلقا بقفل، فأدخلوني وادفنوني، وإن لم يفتح الباب فأخرجوني إلى البقيع وادفنوني به، فلما وقفوا على الباب وقالوا ما ذكر سقط القفل وانفتح الباب، وسمع هاتف من داخل البيت: أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، فإن الحبيب إلى الحبيب مشتاق.
ولما احتضر عمر رضي الله عنه قال لابنه عبد الله رضي الله عنه: يا عبد الله ائت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين، وقل: يستأذن أن تدفنيه مع صاحبيه، فإن أذنت فادفنوني وأن أبت فردوني إلى مقابر المسلمين، فأتاها عبد الله وهو يبكي، فقال: إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد كنت ادخرت ذلك المكان لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما رجع عبد الله إلى أبيه وأقبل عليه، قال عمر:
أقعدوني، ثم قال لعبد الله: ما وراءك، قال: قد أذنت لك، قال: الله أكبر، ما شيء أهم إلي من ذلك المضجع.
وقد ذكر أن الحسن رضي الله عنه لما سقي السم ورأى كبده تقطع أرسل إلى عائشة رضي الله عنها أن يدفن عند جده صلى الله عليه وسلم، فأذنت له، فلما مات منع من ذلك مروان وبنو أمية، فدفن بالبقيع. ويذكر أنه رضي الله عنه قال لأخيه الحسين رضي الله عنه قال: كنت بلغت إلى عائشة إذا مت أن تأذن لي أن أدفن في بيتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نعم ولا أدري لعلها كان ذلك منها حياء، فإذا أنا مت فاطلب ذلك منها، فإن طابت نفسها فادفني في بيتها وما أظن القوم إلا سيمنعونك، فإن فعلوا فلا تراجعهم في ذلك، وادفني في بقيع الغرقد، فإن لي فيمن فيه أسوة، فلما مات الحسن رضي الله عنه جاء الحسين رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها فطلب منها ذلك، فقالت: نعم وكرامة فبلغ ذلك مروان، فقال: كذب وكذبت، والله لا يدفن هناك أبدا، منعوا عثمان من دفنه هناك ويريدون دفن حسن، فبلغ ذلك الحسين رضي الله عنه، فلبس الحديد هو ومن معه، وكذلك مروان لبس الحديد هو ومن معه، فبلغ ذلك أبا هريرة رضي الله عنه، فانطلق إلى الحسين وناشده الله وقال له:
أليس أخوك قد قال لك ما قال: فلم يزل به حتى رضي بدفنه بالبقيع فدفن بجانب أمه رضي الله عنها، ولم يشهد جنازته أحد من بني أمية إلا سعيد بن العاص. لأنه كان أميرا على المدينة، قدمه الحسين فصلى عليه إماما وقال هي السنة.
قال ابن كثير رحمه الله: والذي نص عليه وغير واحد من الأئمة سلفا وخلفا أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء قبل وقت الضحى، والقول إنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن غريب، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مكث بقية يوم الاثنين وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء وبعض ليلة الأربعاء.
وكان السبب في تأخره صلى الله عليه وسلم ما علمت من اشتغالهم ببيعة أبي بكر رضي الله عنه حتى تمت، وقيل لعدم اتفاقهم على موته صلى الله عليه وسلم، وكان آخر من طلع من قبره الشريف قثم بن العباس رضي الله عنهما، وقيل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لأنه ألقى خاتمه في القبر الشريف وقال لعلي: يا أبا الحسن خاتمي، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكون آخر الناس عهدا به قال: انزل فخذه، وقيل ألقى الفأس في القبر وقال: الفأس الفأس فنزل وأخذها، ويقال إن عليا كرم الله وجهه لما قال له المغيرة ذلك نزل وناوله الخاتم أي أو الفأس، أو أمر من نزل وناوله ذلك وقال له:
إنما فعلت ذلك لتقول أنا آخر الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا، واعترض بأن المغيرة رضي الله عنه لم يكن حاضرا للدفن.
وقد روي أن جماعة من العراق قدموا على عليّ كرم الله وجهه فقالوا: يا أبا الحسن جئناك لنسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه، فقال لهم: أظن أن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجل، عن هذا جئنا نسألك قال: كان آخر الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس رضي الله عنهما.
وقام الإجماع على أن هذا الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة الشريفة، قال بعضهم: وأفضل من بقاع السماء أيضا حتى من العرش.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ما نفضنا الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، قال بعضهم: وأظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرط لأمتي لن يصابوا بمثلي» وفي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها» فيا له من خطب جل عن الخطوب، ومصاب علم دمع العيون كيف يصوب، وطارق هجم هجوم الليل، وحادث هد كل القوى والحيل، ولشدة أسف حماره صلى الله عليه وسلم الذي كان يركبه ألقى نفسه في حفيرة فمات كما تقدم، وتركت ناقته صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب حتى ماتت، وأنشد الحافظ الدمياطي عن غيره:
ألا يا ضريحا ضم نفسا زكية *** عليك سلام الله في القرب والبعد
عليك سلام الله ما هبت الصبا *** وما ناح قمري على البان والرند
وما سجعت ورق وغنت حمامة *** وما اشتاق ذو وجد إلى ساكني نجد
وما لي سوى حبي لكم آل أحمد *** أمرغ من شوقي على بابكم خدي