ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، …
اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: «هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم»، فأقعدوه في مِخَضَبٍ ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: «حسبكم، حسبكم».
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: «أيها الناس، إلي»، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ـ وفي رواية: «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ـ وقال: «لا تتخذوا قبري وثناً يعبد».
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: «من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه».
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها. فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: «أعطه يا فضل»، ثم أوصي بالأنصار قائلاً:
«أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»، وفي رواية أنه قال: «إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم».
ثم قال: «إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده». قال أبو سعيد الخدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر».