وَأقَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد رُجُوعه من الْحُدَيْبِيَة ذَا الْحجَّة وَبَعض الْمحرم وَخرج فِي بَقِيَّة مِنْهُ غازيا إِلَى خَيْبَر،وَلم يبْق من السّنة …
السَّادِسَة من الْهِجْرَة إِلَّا شهر وَأَيَّام، واستخلف على الْمَدِينَة نميلَة بْن عَبْد اللَّهِ اللَّيْثِيّ. وَذكر مُوسَى بْن عقبَة، قَالَ: لما قدم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة مُنْصَرفه من الْحُدَيْبِيَة مكث عشْرين يَوْمًا أَو قَرِيبا مِنْهَا ثمَّ خرج غازيا إِلَى خَيْبَر، وَكَانَ اللَّه عز وَجل وعده إِيَّاهَا وَهُوَ بِالْحُدَيْبِية.
قَالَ أَبُو عمر: قَالَ اللَّه عز وَجل فِي أهل الْحُدَيْبِيَة: {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 18-19] . فَلم يخْتَلف الْعلمَاء فِي أَنَّهَا الْبيعَة بِالْحُدَيْبِية. قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَقَتَادَة وَعِكْرِمَة وَغَيرهم: كَانَت الشَّجَرَة سَمُرَة كَانَت الْحُدَيْبِيَة. وَعلم مَا فِي قُلُوبهم من الرِّضَا بِأَمْر الْبيعَة على أَن لَا يَفروا واطمأنت بذلك نُفُوسهم. {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18]: خَيْبَر، وَوَعدهمْ الْمَغَانِم فِيهَا {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19]. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَمُجاهد فِي قَوْله: {وَعَدَكُمُ ٱللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] أَنَّهَا الْمَغَانِم الَّتِي تكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَقَالُوا فِي قَوْله: {وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ ٱللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21]: فَارس وَالروم وَمَا افتتحوا إِلَى الْيَوْم، وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أبي ليلى. قَالَ: وَقَوله: {فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] : خَيْبَر.
رَجَعَ الْخَبَر إِلَى ابْن إِسْحَاق، قَالَ: فَلَمَّا خرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَر دفع رايته، وَكَانَت بَيْضَاء، إِلَى عَليّ بْن أبي طَالب رَضِي اللَّه عَنهُ، وَأخذ طَرِيق الصَّهْبَاء إِلَى وَادي الرجيع، فَنزل بَين خَيْبَر وغَطَفَان لِئَلَّا يمدوهم، لِأَنَّهُ بلغه أَن غطفان تُرِيدُ إمداد يهود خَيْبَر. وَلما خَرجُوا لإمدادهم اخْتلفت كلمتهم. وأسمعهم اللَّه عز وَجل حسا من ورائهم وهدا راعهم وأفزعهم فانصرفوا إِلَى دِيَارهمْ، فأقاموا بهَا. وَأَقْبل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أشرف على خَيْبَر مَعَ الْفجْر، وعمالهم غادون بِمساحِيهِمْ وَمَكَاتِلهمْ. فَلَمَّا رَأَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجيش نادوا: مُحَمَّد وَالْخَمِيس مَعَه. وأدبروا هرابا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّه أكبر خربَتْ خَيْبَر إِنَّا إِذا نزلنَا بِسَاحَة قوم فسَاء صباح الْمُنْذرين». وتحصنت يهود فِي حصونهم وَكَانَت حصونا كَثِيرَة، فَكَانَ أول حصن افتتحوه حصنا يُسمى «نَاعِمًا» وَعِنْده قتل مَحْمُود بْن مسلمة أَخُو مُحَمَّد بْن مسلمة ألقيت عَلَيْهِ رحى فشدخته، رَحمَه اللَّه، ثمَّ حصنا يدعى «القموص» وَهُوَ حصن بني أبي الْحقيق، وَمن سَبَايَا ذَلِك الْحصن كَانَت صَفِيَّة بنت حييّ بْن أَخطب – وَكَانَت تَحت كنَانَة بْن الرّبيع بْن أبي الْحقيق – أَصَابَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبِنْتَيْ عَم لَهَا، فوهب صَفِيَّة لدحية بْن خَليفَة الْكَلْبِيّ ثمَّ ابتاعها مِنْهُ بسبعة أرؤس، ثمَّ أردفها خَلفه، وَألقى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ، فَعلم أَصْحَابه أَنه اصطفاها لنَفسِهِ، وَجعلهَا عِنْد أم سليم حَتَّى اعْتدت وَأسْلمت، ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا، وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا. وَهَذِه مَسْأَلَة اخْتلف الْفُقَهَاء فِيهَا فَمنهمْ من جعل ذَلِك خُصُوصا لَهُ كَمَا خص بالموهوبة، وَمِنْهُم من جعل ذَلِك سنة لمن شَاءَ من أمته.
ثمَّ فتح حصن الصعب بْن معَاذ وَلم يكن فِي حصون خَيْبَر أَكثر طَعَاما وودكا مِنْهُ. ووقف إِلَى بعض حصونهم فَامْتنعَ عَلَيْهِم فَتحه ولقوا فِيهِ شدَّة، فَأعْطى رايته أَبَا بكر الصّديق فَنَهَضَ بهَا وَقَاتل واجتهد وَلم يفتح عَلَيْهِ، ثمَّ أعْطى الرَّايَة عمر فقاتل ثمَّ رَجَعَ وَلم يفتح لَهُ وَقد جهد. فَحِينَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأُعْطيَن الرَّايَة غَدا رجلا يحب اللَّه وَرَسُوله وَيُحِبهُ اللَّه وَرَسُوله، لَيْسَ بفرار، يفتح اللَّه عز وَجل على يَدَيْهِ». فَلَمَّا أصبح دَعَا عليا، وَهُوَ أرمد، فتفل فِي عَيْنَيْهِ، ثمَّ قَالَ: «خُذ الرَّايَة فَامْضِ بهَا حَتَّى يفتح اللَّه بهَا عَلَيْك». ذكر هَذَا الْخَبَر ابْن إِسْحَاق. قَالَ: قَالَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعثه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَايَتِهِ إِلَى حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ وَقَاتَلَهُمْ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَأَلْقَى تُرْسَهُ مِنْ يَدِهِ، فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرَّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي نفر معي سَيْفه وَأَنَا ثَامِنُهُمْ نَجْتَهِدُ عَلَى أَنْ يقلب ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نَقْلِبُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بَكِيرٍ وَزِيَادٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَالأُمَوِيِّ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ جَابِرٌ خَيْبَرَ:
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ هُوَ الَّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ بِخَيْبَرَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لِهَذَا؟» يَعْنِي: مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطْلُبُ الثَّأْرَ، قَتَلَ أَخِي بِالأَمْسِ. قَالَ: «فَقُمْ إِلَيْهِ» فَنَهَضَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَقَاتَلا، وَكَانَا يَسْتَتِرَانِ بِشَجَرَةٍ فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَلُوذُ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ، كُلَّمَا لاذَ بِهَا مِنْهُ اقْتَطَعَ بِسَيْفِهِ مَا دُونَهُ مِنْهَا حَتَّى ذَهَبَتْ أَغْصَانُهَا [وَبَرَزَ كل وَاحِد مِنْهُمَا
لِصَاحِبِهِ، وَحَمَلَ مَرْحَبٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَضَرَبَهُ، فَاتَّقَاهُ بِالدَّرَقَةِ فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِيهَا فَعَضَّتْ بِهِ وَأَمْسَكَتْهُ] وَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ، فَقَتَلَهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ. ثُمَّ بَرَزَ أَخُو مَرْحَبٍ وَاسْمُهُ يَاسِرٌ، فَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ. هَذَا مَا ذكره ابْن إِسْحَاق فِي قتل مرحب الْيَهُودِيّ بِخَيْبَر. وَخَالفهُ غَيره، فَقَالَ: بل قَتله عَليّ بْن أبي طَالب، وَهُوَ الصَّحِيح عندنَا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ: أَنّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا نَزَلَ بِحِصْنِ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ اللِّوَاءَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّه وَرَسُوله، وَيُحِبهُ اللَّه وَرَسُوله» فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ تَطَاوَلَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَدَعَا عليا، وَهُوَ أرمد، فتفل فِي عَيْنَيْهِ، وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَنَهَضَ مَعَهُ النَّاس، فلقا أَهْلَ خَيْبَرَ، فَإِذَا مَرْحَبٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَرْتَجِزُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السَّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا السُّيُوفُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ
فَاخْتَلَفَ هُوَ وَعَلِيٌّ ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى عَضَّ السَّيْفُ بِأَضْرَاسِهِ، وَسَمِعَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ صَوْتَ ضَرْبَتِهِ، قَالَ: فَمَا تَتَامَّ النَّاسُ حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ.
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ. قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدثنِي إِيَاس بن سَلمَة الأَكْوَعِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ عَمِّي عَامِرُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى خَيْبَرَ بَارَزَ يَوْمًا مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ مَرْحَبٌ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أضْرب
وَقَالَ عَمِّي:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغَاوِرُ
فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ، وَرَجَعَ سيف عَامر على مَسَافَة فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ، قَالَ سَلَمَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَنِي إِلَى عَليّ بْن أبي طَالب، وَقَالَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يحب اللَّه وَرَسُوله، وَيُحِبهُ اللَّه وَرَسُولُهُ» قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَخَرَجَ مَرْحَبٌ يَخْطُرُ بِسَيْفِهِ، وَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السَّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
وَقَالَ عَليّ رَضِي اللَّه عَنهُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ2
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
فَفَلَقَ رَأْسَ مَرْحَبٍ بِالسَّيْفِ، وَكَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدِ عَلِيٍّ.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَآخر مَا افْتتح رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ حصونهم الوطيح والسلالم.
وَقَالَ مُوسَى بْن عقبَة: حاصر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصون خَيْبَر بضع عشرَة لَيْلَة، وَكَانَ بَعْضهَا صلحا وأكثرها عنْوَة، ذكر ذَلِك عَن ابْن شهَاب. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: قسم رَسُول اللَّه أَرض خَيْبَر كلهَا لِأَنَّهُ غلب على جَمِيعهَا عنْوَة. وحاصر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل خَيْبَر فِي حصنهمْ الوطيح حَتَّى إِذا أيقنوا بالهلكة سَأَلُوهُ أَن يسيرهم وَأَن يحقن لَهُم دِمَاءَهُمْ، فَفعل.
مقاسم خَيْبَر وأموالها
وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حَاز الْأَمْوَال كلهَا: الشق ونطاة والكتيبة وَجَمِيع حصونهم إِلَّا مَا كَانَ من ذَيْنك الحصنين فَلَمَّا سمع بهم أهل فدك قد صَنَعُوا مَا صَنَعُوا بعثوا إِلَى رَسُول اللَّه يسألونه أَن يسيرهم وَأَن يحقن لَهُم دِمَاءَهُمْ ويحلوا لَهُ الْأَمْوَال فَفعل. وَكَانَ فِيمَن مَشى بَين رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبينهمْ فِي ذَلِك محيصة بْن مَسْعُود أَخُو بني حَارِثَة. قَالَ: فَلَمَّا نزل أهل خَيْبَر على ذَلِك سَأَلُوا رَسُول اللَّه أَن يعاملهم فِي الْأَمْوَال على النّصْف، فعاملهم، وَقَالَ لَهُم: «على أَنَّا إِذا شِئْنَا أَن نخرجكم أخرجناكم». فَصَالحه أهل فدك على مثل ذَلِك. وَكَانَت خَيْبَر فَيْئا بَين الْمُسلمين، وَكَانَت فدك خَاصَّة لرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَنهم لم يوجوفوا عَلَيْهَا بخيل وَلَا ركاب.
قَالَ أَبُو عمر:
هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي أَرض خَيْبَر أَنَّهَا كَانَت عنْوَة كلهَا مَغْلُوبًا عَلَيْهَا بِخِلَاف فدك وَأَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم جَمِيع أرْضهَا على الْغَانِمين لَهَا الموجفين بِالْخَيْلِ والركاب، وهم أهل الْحُدَيْبِيَة. وَلم يخْتَلف الْعلمَاء فِي أَن أَرض خَيْبَر مقسومة، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا هَل تقسم الأَرْض إِذا غنمت الْبِلَاد أَو توقف؟ فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: الإِمَام مُخَيّر بَين قسمتهَا كَمَا فعل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْض خَيْبَر وَبَين إيقافها كَمَا فعل عمر بسواد الْعرَاق، وَقَالَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تقسم الأَرْض كلهَا كَمَا قسم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَر لِأَن الأَرْض غنيمَة كَسَائِر أَمْوَال الْكفَّار، وَذهب مَالك إِلَى إيقافها اتبَاعا لعمر، لِأَن الأَرْض مَخْصُوصَة من سَائِر الْغَنِيمَة بِمَا فعل عمر فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة: فِي إيقافها لمن يَأْتِي بعده من الْمُسلمين. وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إِلَّا قسمته سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَر سُهْمَانًا، وَهَذَا يدل على أَن أَرض خَيْبَر قسمت كلهَا سهمانا كَمَا قَالَ ابْن إِسْحَاق. وَأما قَول من قَالَ إِن خَيْبَر كَانَ بَعْضهَا صلحا وَبَعضهَا عنْوَة، فقد وهم وَغلط، وَإِنَّمَا دخلت عَلَيْهِ الشُّبْهَة بالحصنين اللَّذين أسلمهما أهلهما لحقن دِمَائِهِمْ. فَلَمَّا لم يكن أهل ذَيْنك الحصنين من الرِّجَال وَالنِّسَاء والذرية لضرب من الصُّلْح، وَلَكنهُمْ لم يتْركُوا أَرضهم إِلَّا بالحصار والقتال، فَكَانَ حكم أَرض ذَيْنك الحصنين كَحكم سَائِر أَرض خَيْبَر كلهَا غنيمَة مَغْلُوبًا عَلَيْهَا عنْوَة مقسومة بَين أَهلهَا. وَرُبمَا شبه على من قَالَ: إِن نصف خَيْبَر صلح وَنِصْفهَا عنْوَة بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ أَنّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ خَيْبَرَ [نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لَهُ، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ النِّصْفَ لَهُ مَعَ سَائِرِ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ مَعَهُ، لأَنَّهَا قُسِمَتْ عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ سَهْمًا، فَوَقَعَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا مِنْهَا، وَوقع سَائِر النَّاس فِي بَاقِيهَا، وَكلهمْ مِمَّن شهد الْحُدَيْبِيَة ثمَّ شهد خَيْبَر. وَلَيْسَت الْحُصُون الَّتِي أسلمها أَهلهَا بعد الْحصار والقتال صلحا، وَلَو كَانَت صلحا لملكها أَهلهَا كَمَا يملك أهل الصُّلْح أراضيهم وَسَائِر أَمْوَالهم. فَالْحق فِي هَذَا وَالصَّوَاب مَا قَالَه ابْن إِسْحَاق دون مَا قَالَه مُوسَى وَغَيره عَن ابْن شهَاب. وَالله أعلم.
قَالَ أَبُو عمر:
قسم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَيْبَر، وَأخرج الْخمس مِمَّا قسم، وَلم يقدر أَهلهَا على عمارتها وعملها فَأقر الْيَهُود فِيهَا على الْعَمَل فِي النّخل وَالْأَرْض، وَقَالَ لَهُم: «أقركم مَا أقركم اللَّه». ثمَّ أذن اللَّه لَهُ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ بإخراجهم، فَقَالَ: «لَا يبْقين دينان بِأَرْض الْعَرَب». وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: «أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَرض الْحجاز». وَلم يكن بَقِي يَوْمئِذٍ بهَا مُشْرك وثنى -وَلَا بِأَرْض الْيمن أَيْضا- إِلَّا أسلم فِي سنة تسع وَسنة عشر. فَلَمَّا بلغ عمرَ بْنَ الْخطاب -رَضِي اللَّه عَنهُ- فِي خِلَافَته قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: «أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَرض الْعَرَب» أجلاهم عَنْهَا، فَأخذ الْمُسلمُونَ سِهَامهمْ فِي خَيْبَر، فتصرفوا فِيهَا تصرف المالكين.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَكَانَ الْمُتَوَلِي للْقِسْمَة بِخَيْبَر جَبَّار بْن صَخْر الْأنْصَارِيّ من بني سَلمَة، وَزيد بْن ثَابت من بني النجار، كَانَا حاسبين قاسمين. وَكَانَت قسْمَة خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة: من حضر الوقيعة بِخَيْبَر وَمن لم يحضرها، لِأَن اللَّه أَعْطَاهُم ذَلِك فِي سفر الْحُدَيْبِيَة. وَلذَلِك قَالَ مُوسَى بْن عقبَة: لم يقسم من خَيْبَر شَيْء إِلَّا لمن شهد الْحُدَيْبِيَة، وروى ذَلِك عَن جمَاعَة من السّلف.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَوَقع سهم رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعمر وَعلي وَطَلْحَة وَعبد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَعَاصِم بْن عدي وسهام بني سَلمَة وسهام بني حَارِثَة وَبني سَاعِدَة وَبني النجار وغفار وَأسلم وجهينة واللفيف، كلهَا وَقعت فِي الشق. وَوَقع سهم أبي بكر وَالزُّبَيْر وسهام بني بياضة وَبني الْحَارِث بْن الْخَزْرَج وَمُزَيْنَة بالنطاة، وَلِذِكْرِ سِهَامهمْ وأقسامهم مَوضِع غير هَذَا. وَكَانَ عبيد بْن أَوْس من بني حَارِثَة قد اشْترى يَوْمئِذٍ من سِهَام النَّاس سهاما كَثِيرَة، فَسمى يَوْمئِذٍ عبيد السِّهَام، وَاشْترى عمر بْن الْخطاب مائَة سهم من سِهَام الْمُسلمين، فَهِيَ صدقته الْبَاقِيَة إِلَى الْيَوْم.
وَأما فدك فَلم يُوجَفْ عَلَيْهَا بخيل وَلَا ركاب فَكَانَت كبني النَّضِير خَالِصَة لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمن الْعجب قَول من قَالَ إِن الكتيبة لم تفتح عنْوَة وَإِنَّهَا من صدقَات النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا أَن ينزل سهم النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِيهَا مَعَ الْمُؤمنِينَ وَإِلَّا فَلَا وَجه لقَوْله غير هَذَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
وَفِي غَزْوَة خَيْبَر حرم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، لم تخْتَلف الْآثَار فِي ذَلِك. وَاخْتلفت فِي حِين تَحْرِيم الْمُتْعَة بعد إباحتها. وَقد ذكرنَا الْآثَار بذلك فِي التَّمْهِيد. وفيهَا أَهْدَت الْيَهُودِيَّة زَيْنَب بن الْحَارِث امْرَأَة سَلام بْن مشْكم إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّاة المصلية وسمت لَهُ مِنْهَا الذِّرَاع وَكَانَ أحبَّ اللَّحْم إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا تنَاول الذِّرَاع ولاكها لَفظهَا وَرمى بهَا، وَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعَظْمَ يُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ». وَدَعَا بِالْيَهُودِيَّةِ فَقَالَ: «مَا حَمَلَكِ عَلَى هَذَا؟» فَقَالَت: أردْت أَن أعلم إِن كنت نَبيا، وَعلمت أَن اللَّه إِن أَرَادَ بَقَاءَك أعلمك. فَلم يَقْتُلهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأكل من الشَّاة مَعَه بِشْرُ بْن الْبَراء بْن معْرور، فَمَاتَ من أَكلته تِلْكَ.
وَكَانَ الْمُسلمُونَ يَوْم خَيْبَر ألفا وَأَرْبَعمِائَة راجل ومائتي فَارس.
تَسْمِيَة من اسْتشْهد من الْمُسلمين يَوْم خَيْبَر
ربيعَة بن كثم بْن سَخْبَرَة الْأَسدي من بني غنم بْن دودان بْن أَسد بْن خُزَيْمَة، وثقف بْن عَمْرو، وَرِفَاعَة بْن مسروح. وَكلهمْ من بني أَسد، حلفاء لبني عَبْد شمس، ومسعود بْن ربيعَة الْقَارِي، من القارة، حَلِيف لني زهرَة.
وَعبد اللَّه بْن الهبيب، وَيُقَال ابْن أهيب اللَّيْثِيّ حَلِيف لبني أَسد بْن عبد الْعُزَّى بْن قصي وَابْن أختهم.
وَبشر بْن الْبَراء بْن معْرور من بني سَلمَة مَاتَ من أكله مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّاة المسمومة، وفضيل بْن النُّعْمَان من بني سَلمَة أَيْضا ومسعود بْن سعد بْن قيس الْأنْصَارِيّ الزرقي.
ومحمود بْن مسلمة بْن خَالِد أَخُو مُحَمَّد بْن مسلمة من الْأَوْس حَلِيف لبني عَبْد الْأَشْهَل.
وَأَبُو ضياح ثَابت بْن ثَابت بْن النُّعْمَان من بني عَمْرو بْن عَوْف من أهل قبَاء، ومبشر بْن عَبْد الْمُنْذر بْن دِينَار من بني مَالك بْن عَمْرو بْن عَوْف، والْحَارث بْن حَاطِب، وَأَوْس بْن قَتَادَة، وَعُرْوَة بْن مرّة بْن سراقَة، وَأَوْس بْن الْفَاكِه. وأنيف بْن حبيب، وثابت بْن وَاثِلَة بْن طَلْحَة، وَالْأسود الرَّاعِي واسْمه أسلم وكل هَؤُلَاءِ من بني عَمْرو بني عَوْف.
وَمن بني غفار: عمَارَة بْن عقبَة بْن حَارِثَة أَصَابَهُ سهم فَقتله.
وَمِنْ أَسْلَمَ: عَامِرُ بن الْأَكْوَع.