ثمَّ أَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بعد انْصِرَافه من حِصَار الطَّائِف ذَا الْحجَّة وَالْمحرم وصفرا وربيعا الأول وربيعا الآخر وجمادى الأول …
وجمادي الْآخِرَة وَخرج فِي رَجَب من سنة تسع بِالْمُسْلِمين إِلَى غَزْوَة الرّوم، وَهِي آخر غزَاة غَزَاهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفسِهِ. وَكَانَ خُرُوجه إِلَى غزوته تِلْكَ فِي حر شَدِيد وَحين طَابَ أول الثَّمر وَفِي عَام جَدب.
وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يكَاد يخرج غازيا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهِ إِلَّا غَزْوَة تَبُوك، فَإِنَّهُ بَينهَا للنَّاس لبعد الْمسَافَة وَنَفَقَة المَال والشُّقَّةِ وَقُوَّة الْعَدو الْمَقْصُود إِلَيْهِ. فَتَأَخر الْجد بْن قيس من بني سَلمَة، وَكَانَ مُتَّهمًا بالنفاق فَاسْتَأْذن رسولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقَاء وَهُوَ غَنِي قوي فَأذن لَهُ، وَأعْرض عَنهُ فَنزلت فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ} [التوبة: 49]. وَكَانَ نفر من الْمُنَافِقين يَجْتَمعُونَ فِي بَيت سويلم الْيَهُودِيّ عِنْد جاسوم يثبطون النَّاس عَن الْغَزْو فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَة بْن عبيد اللَّه فِي نفر، وَأمرهمْ أَن يحرقوا عَلَيْهِم الْبَيْت، فَفعل ذَلِك طَلْحَة، فاقتحم الضَّحَّاك بْن خَليفَة، وَكَانَ مَعَهم فِي الْبَيْت، جِدَار الدَّار، فَوَقع، فَانْكَسَرت رجله. وفر ابْن أُبَيْرِق وَكَانَ مَعَهم.
وَأنْفق نَاس من الْمُسلمين واحتسبوا، وَأنْفق عُثْمَان رَضِي اللَّه عَنهُ نَفَقَة عَظِيمَة جهز بهَا جمَاعَة من المعسرين فِي تِلْكَ الْغَزْوَة. وَرُوِيَ أَنه حمل فِي تِلْكَ الْغُزَاة على تِسْعمائَة بعير وَمِائَة فرس وجهزهم حَتَّى لم يفقدوا عقَالًا وَلَا شكالا، وَرُوِيَ أَنه أنْفق فِيهَا ألف دِينَار.
وَفِي هَذِه الْغَزْوَة أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم البكاؤن وهم سَبْعَة: سَالم بْن عُمَيْر [من بني عَمْرو] بْن عَوْف، وعلبة بْن زيد أَخُو بني حَارِثَة، وَأَبُو ليلى عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْب من بني مَازِن بْن النجار، وَعَمْرو بْن الْحمام من بني سَلمَة، وَعبد اللَّه بْن الْمُغَفَّل الْمُزنِيّ وَقيل: بل هُوَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو الْمُزنِيّ، وهرمي بْن عَبْد اللَّهِ أَخُو بني وَاقِف وعرباض بْن سَارِيَة الْفَزارِيّ. فاستحملوا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَجدوا عِنْده مَا يحملهم عَلَيْهِ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أَن لَا يَجدوا مَا يُنْفقُونَ. فسموا البكائين. وَذكروا أَن ابْن يَامِين بْن عُمَيْر النضري حمل أَبَا ليلى وَعبد اللَّه بْن مُغفل على نَاضِح لَهُ يعتقبانه، وزودهما تَمرا كثيرا. وَاعْتذر الْمُخَلفُونَ من الْأَعْرَاب، فعذرهم رَسُول اللَّه عَلَيْهِ السَّلَام.
وَخرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضرب عسكره على بَاب الْمَدِينَة، وَاسْتعْمل عَلَيْهَا مُحَمَّد بْن مسلمة، وَقيل: بل سِبَاع بْن عرفطة، وَقيل: بل خلف عَلَيْهَا عَليّ بْن أبي طَالب رَضِي اللَّه عَنهُ وَهُوَ الأثبت: أَن رَسُول الله خلف عليا فِي غَزْوَة تَبُوك، فَقَالَ المُنَافِقُونَ: استثقله، فَذكر ذَلِك عَليّ رضوَان اللَّه عَلَيْهِ لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خبر سعد، فَقَالَ: «كذبُوا، إِنَّمَا خلفتك لما تركت ورائي، فَارْجِع فَاخْلُفْنِي فِي أَهلِي وَأهْلك، فَأَنت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى، إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي». والْآثَار بذلك متواترة صِحَاح قد ذكرت كثيرا مِنْهَا فِي غير هَذَا الْموضع.
وَخرج عَبْد الله بن أبي سلول بعسكره، فَضَربهُ على بَاب الْمَدِينَة أَيْضا، فَكَانَ عسكره فِيمَا زَعَمُوا لَيْسَ بِأَقَلّ العسكريين، وَهُوَ يظْهر الْغُزَاة مَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا نَهَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخلف عَبْد الله بْن سلول فِيمَن تخلف من الْمُنَافِقين وَأهل الريب، وَكَانُوا نيفا وَثَمَانِينَ رجلا، خَلَّفَهُمْ سُوءُ نياتهم ونفاقهم.
وتخلف فِي هَذِه الْغُزَاة من صالحي الْمُسلمين ثَلَاثَة رجال، وهم: كَعْب بْن مَالك الشَّاعِر من بني سَلمَة، ومرارة بْن ربيعَة وَيُقَال ابْن الرّبيع عَمْرو بْن عَوْف، وهلال بْن أُميَّة الوَاقِفِي. فافتقدهم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد يَوْم أَو يَوْمَيْنِ، فَقيل لَهُ: تخلفوا. فَعجب من ذَلِك، وَعز عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ يعرف إِيمَانهم وفضلهم.
ونهض صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فخطر على حجر ثَمُود، فَأمر أَصْحَابه أَن لَا يتوضئوا من بِئْر ثَمُود، وَلَا يعجنوا خبْزًا بِمَائِهَا، وَلَا يستعملوا شَيْئا مِنْهُ، فَقيل لَهُ: بِأَن قوما عجنوا مِنْهُ، فَأمر بالعجين، فَطرح لِلْإِبِلِ علفا. وَأمرهمْ أَن لَا يستعملوا مَاء بِئْر النَّاقة فِي كل مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَأمر أَصْحَابه عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن لَا يدخلُوا بيُوت ثَمُود، وَقَالَ: «لَا تدْخلُوا بيُوت هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبين إِلَّا أَن تَكُونُوا بَاكِينَ خشيَة أَن يُصِيبكُم مثل مَا أَصَابَهُم». ونهاهم أَن يخرج أحدهم مُنْفَردا، فَخرج رجلَانِ من بني سَاعِدَة، كل وَاحِد مِنْهُمَا مُنْفَرد عَن صَاحبه، أَحدهمَا يُرِيد الْغَائِط، فَخُنِقَ فَأُخْبِرَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، فَدَعَا لَهُ، فشفي وَالْآخر خرج فِي طلب بعير لَهُ فَأَخَذته الرّيح ورمته فِي جبل طَيء، فَردته بعد ذَلِك إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعطش النَّاس فِي تِلْكَ الْغُزَاة عطشا شَدِيدا، فَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فَأرْسل عَلَيْهِم سَحَابَة ارتووا مِنْهَا وَدَوَابُّهُمْ وَإِبِلُهُمْ، وَأخذُوا حَاجتهم من المَاء .
وأضل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَته، وَقَالَ من فِي قلبه نفاق: مُحَمَّد يَدعِي أَن خبر السَّمَاء يَأْتِيهِ [و] لَا يدْرِي أَيْن نَاقَته فَنزل الْوَحْي بِمَا قَالَ هَذَا الْقَائِل على رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَعَا أَصْحَابه، فَأخْبرهُم بقول الْقَائِل، وَأخْبرهمْ أَن اللَّه عز وَجل قد عرفه بِموضع نَاقَته وَأَنَّهَا فِي مَوضِع كَذَا قد تعلق خطامها بشجرة، فابتدروا الْمَكَان الَّذِي وصف عَلَيْهِ السَّلَام، فوجدوها هُنَالك. وَقيل إِن قَائِل ذَلِك القَوْل زيد بْن اللصيت القينقاعي وَكَانَ منافقا، وَقيل إِنَّه تَابَ بعد ذَلِك، وَقيل لم يتب، وَالله أعلم.
وَفِي هَذِه الْغُزَاة ذكرُوا أَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رأى أَبَا ذَر يمشي فِي نَاحيَة الْعَسْكَر وَحده، فَقَالَ: «يرحم اللَّه أَبَا ذَر يمشي وَحده، وَيَمُوت وَحده، وَيبْعَث وَحده». فَكَانَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَاتَ بالربذة وَحده»، وَأخرج بعد أَن كفن إِلَى الطَّرِيق يلْتَمس من يُصَلِّي عَلَيْهِ، فصادف إقبال ابْن مَسْعُود من الْكُوفَة فصلى عَلَيْهِ، وَكَانَ مِمَّن سمع هَذَا الحَدِيث، فَحدث بِهِ يَوْمئِذٍ أَيْضا.
وَنزل الْقُرْآن من سُورَة بَرَاءَة وَسورَة الْأَحْزَاب بفضيحة الْمُنَافِقين الَّذين كَانُوا يخذلون الْمُسلمين، وَتَابَ من أُولَئِكَ مخشن بْن حمير، ودعا اللَّه أَن يكفر عَنهُ بِشَهَادَة يخفي بهَا مَكَانَهُ، فَقتل يَوْم الْيَمَامَة وَلم يُوجد لَهُ أثر.
بعث خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى أكيدر دومة
وَبعث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِد بْن الْوَلِيد إِلَى أكيدر بْن عَبْد الْملك صَاحب دومة، وَقَالَ لَهُ: «يَا خَالِد إِنَّك ستجده يصيد الْبَقر». فَأَتَاهُ خَالِد لَيْلًا وَقرب من حصنه وَأرْسل اللَّه تَعَالَى بقر الْوَحْش فَأَتَت تحك حَائِط الْقصر بقرونها، فنشط أكيدر ليصيدها. وَخرج فِي اللَّيْل، فَأَخذه خَالِد، وَبعث بِهِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَفَا عَنهُ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، ورده إِلَى حصنه بعد أَن صَالحه على الْجِزْيَة. وَصَالح يحنة بْن رؤبة صَاحب أَيْلَة على الْجِزْيَة.
العودة من تَبُوك
وَأقَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك بضع عشرَة لَيْلَة، وَلم يتجاوزها، ثمَّ انْصَرف وَكَانَ فِي طَرِيقه مَاء قَلِيل، فَنهى أَن يسْبق أحد إِلَى المَاء، فَسبق إِلَيْهِ رجلَانِ، فاستنفدا مَا فِيهِ، فسبهما رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّه أَن يَقُول. ثمَّ وضع يَده فِي المَاء ودعا الله فِيهِ الْبركَة، فَجَاشَتْ الْعين بِمَاء عَظِيم كفى الْجَيْش كُله. وَأخْبر عَلَيْهِ السَّلَام أَن ذَلِك الْموضع سَيُمْلأُ جِنَانًا. فَكَانَ كَذَلِك. وَبنى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَين تَبُوك وَالْمَدينَة مَسَاجِد كَثِيرَة نَحْو سِتَّة عشر مَسْجِدا، أَولهَا مَسْجِد بناه بتبوك وَآخِرهَا بِذِي خشب.
مَسْجِد الضرار
وَكَانَ أهل مَسْجِد الضرار قد أَتَوْهُ وَهُوَ متجهز إِلَى تَبُوك، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّه إِنَّا قد بنينَا مَسْجِدا لذِي الْعَيْلَةِ وَالْحَاجة والليلةِ الْمَطِيرَة، وَإِنَّا نحب أَن تَأْتِينَا فَتُصَلِّي فِيهِ، فَقَالَ لَهُم: «أَنا فِي شغل السّفر، وَإِذا انصرفت فسيكون» فَلَمَّا انْصَرف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمر فِي مُنْصَرفه بهدم مَسْجِد الضرار: أَمر بذلك مَالك بْن الدخشم ومعن بْن عدي وَعَاصِم بْن عدي أَخَاهُ وَأمر بإحراقه، وَقَالَ لَهُم: «اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِد الظَّالِم أَهله، فَاهْدِمُوهُ وأحرقوه» فَخَرجُوا مُسْرِعين. وَأخرج مَالك بْن الدخشم من منزله شعلة من نَار. ونهضوا فأحرقوا الْمَسْجِد وهدموه وَكَانَ الَّذين بنوه: خذام بْن خَالِد من بني عبيد بْن زيد أحد بني عَمْرو بْن عَمْرو بْن عَوْف وَمن دَاره أخرج مَسْجِد الضرار، ومعتب بْن قُشَيْر من بني ضبيعة بْن زيد، وَأَبُو حَبِيبَة بْن الأزعر من بني ضبيعة بْن زيد، وَعباد بْن حنيف أَخُو سهل بْن حنيف من بني عَمْرو بْن عَوْف، وَجَارِيَة بْن عَامر وابناه: مجمع وَزيد ابْنا جَارِيَة، ونبتل بْن الْحَارِث من بني ضبيعة، وبحزج وَهُوَ من بني ضبيعة، وبجاد بْن عُثْمَان من بني ضبيعة ووديعة بْن ثَابت من بني أُميَّة بْن زيد. وثعلبة بْن حَاطِب مَذْكُور فيهم، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ قد شهد بَدْرًا.
وَمَات عَبْد الله ذُو البجاد بن الْمُزنِيّ فِي غَزْوَة تَبُوك، فَتَوَلّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بكر وَعمر غسله وَدَفنه، وَنزل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَبره، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي رَاض عَنهُ، فارض عَنهُ».
حَدِيث كَعْب بْن مَالك وَأَصْحَابه المتخلفين
وَأما اخْتِصَار حَدِيث كَعْب بْن مَالك وَأَصْحَابه الَّذين تخلفوا عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَة تَبُوك لغير رِيبَة فِي الدَّين وَلَا تُهْمَة نفاق إِلَّا مَا كَانَ من علم اللَّه فِي إِظْهَار حَالهم وَالزِّيَادَة فِي فَضلهمْ، روينَاهُ من طرق صَحِيحَة لَا أحصيها كَثْرَة عَن ابْن شهَاب، وخرجه المصنفون وَأَصْحَاب المساند. ذكره ابْن شهَاب عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدثهُ، قَالَ: سَمِعت أبي كَعْب بن مَالك، قَالَ، فَذكر الحَدِيث، وَفِيه قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلا مِنْ تَبُوكَ ثَابَ إِلَيَّ لُبِّي وَعَلِمْتُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ مَا لَمْ يُرْضِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي تَخَلُّفِي عَنْهُ. فَقُلْتُ أَكْذِبُهُ، وتذكرت مَا يكون الْكَذِبِ الَّذِي أَخْرُجُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَّجِهْ لِي. فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَطَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَلِمْتُ أَنِّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إِلا بِالصِّدْقِ. فَلَمَّا صَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة نَزَلَ بِالْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ جَلَسَ فَجَاءَ الْمُتَخَلِّفُونَ، فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَجِئْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، وَقَالَ لِي: «مَا خَلَّفَكَ؟ ألم أكن ابتعت ظهرك؟» فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِكَ لَرَجَوْتُ أَنْ أُقِيمَ عِنْدَهُ عُذْرِي لأَنِّي أُعْطِيتُ جَدَلا وَلَكِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنِّي إِنْ كَذَبْتُكَ الْيَوْمَ أَطْلَعَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ غَدًا، فَفَضَحْتُ نَفْسِي. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ لِيَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ، وَمَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمْ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ» فَقُمْتُ وَمَعِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي: بَنِي سَلَمَةَ يَقُولُونَ: مَا عَلِمْنَاكَ أَتَيْتَ قَطُّ غَيْرَ هَذَا الذَّنْبِ، أَفَلا اعْتَذَرْتَ إِلَيْهِ فَيَسَعَكَ مَا وَسِعَ الْمُتَخَلِّفِينَ؟ وَكَانَ يَكْفِيكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَنْصَرِفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَأَكْذِبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ لَقِيَ مِثْلَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَقَالِكَ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَمْرِيُّ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَصَمَتُّ حِينُ ذَكَرُوهُمَا لِي. وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ خَاصَّةً فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي نَفْسِي وَالأَرْضُ الَّتِي أَنَا فِيهَا. فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالأَسْوَاقِ لَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلا أَسْمَعُهُ يَرُدُّ عَلَيَّ، فَأَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي هَلَّ رَدَّ فِي نَفْسِهِ. وَكُنْتُ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَار “حَائِط” أبي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَادَ عَلَى السَّلامِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ نَشَدْتُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ فَنَاشَدْتُهُ ثَانِيَةً، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ فَعُدْتُ فَوَثَبْتُ فَتَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، وَخَرَجْتُ. ثُمَّ غَدَوْتُ إِلَى السُّوقِ فَإِذَا رَجُلٌ يَسْأَلُ عَنِّي مِنْ نِبْطِ الشَّامِ الْقَادِمِينَ بِالطَّعَامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ فَجَاءَنِي، فَدَفَعَ إِلَيَّ كتاب مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ، فَالْحَقْ بِنَا نواسك. فَعَمَدْتُ إِلَى تَنُّورٍ، فَسَجَرْتُ فِيهِ الْكِتَابَ. وَأَقَمْتُ حَالِي حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ أَتَانِي، فَقَالَ لِي: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلا تَقْرَبْهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي فِيهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ مَا هُوَ قَاضٍ، وَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لَا خَادِمَ لَهُ أَفَتَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ» قَالَتْ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَيَّ، وَمَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِي هَذَا حَتَّى تَخَوَّفْتُ عَلَى بَصَرِهِ. وَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِدْمَةِ امْرَأَتِكَ فَقَدْ أَذِنَ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنِّي لَا أَدْرِي مَا يَقُولُ لِي وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ.
قَالَ: فَلَبِثْنَا فِي ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْكَلامِ مَعَنَا. فَلَمَّا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَة وَأَنا قد ضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، فَأَنَا كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ قَدْ وَافَى عَلَى ظَهْرِ سَلْعٍ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِدًا وَعَلِمْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا. وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ حَتَّى وَافَى عَلَى الْجَبَلِ، وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ.
فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَتَيَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَلَقَّانِيَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ، حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَحَيَّانِي وَهَنَّأَنِي، وَوَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ على رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا اسْتَبْشَرَ كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ.
فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» قُلْتُ: إِنِّي مُمْسِكٌ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ. وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلا صِدْقًا مَا بَقِيتُ. وَكَانَ مَا نَزَلَ فِي شَأْنِي مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] إِلَى قَوْله: {يَـٰأيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ}[التوبة: 119].