ينفرد الواقدي بذكر السبب المباشر لهذه الغزوة، وهو أن شرحبيل ابن عمرو الغساني، قتل صبرا الحارث بن عمير الأزدي الذي أرسله الرسول …
صلى الله عليه وسلم إلى ملك بصرى بكتابه، وكانت الرسل لا تقتل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل الجيش إلى مؤتة. والواقدي ضعيف لا يعتمد عليه خاصة إذا انفرد بالخبر.
والحق أن البحث عن الأسباب المباشرة لغزو القبائل العربية في أطراف الشام لا يؤثر على تفسير الأحداث كثيراً، لأن تشريع الجهاد يقتضي الاستمرار في إخضاع القبائل العربية وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية بصرف النظر عن الأسباب المباشرة. فكان لابد من إخضاع الدويلات العربية النصرانية الموالية للروم، وبالتالي سبق الروم في التحرك في المنطقة قبل قيامهم بعمل ضد الدولة الإسلامية الفتية.
وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عودته من عمرة القضاء بقية شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول والثاني، وفي جمادي الأولى بعث جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل إلى الشام ، وعين زيد بن حارثة أميرا عليه، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب فعبد الله بن أبي رواحة مما يدل على جواز تعليق الإمارة بشرط، وتولية عدة أمراء بالترتيب. وهذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها مثل هذا الاحتياط، وربما كان متوقعا أن تحف الأخطار هذه الحملة لوجهتها البعيدة، ولعدم وقوع احتكاك سابق بمناطق تخضع لنفوذ دولة قوية كالأمبراطورية البيزنطية التي كانت قبائل الشام وأطرافها موالية لها سياسيا.
وقد وصل الجيش إلى معان عندما وصلته أخبار نزول هرقل بأرض مآب – وهي البلقاء- في مائة ألف من الروم ومائة ألف أخرى من نصارى العرب لخم وجذام وقضاعة (بهراء وبلي وبلقين) فأمضى المسلمون ليلتين في معان يتشاورون في أمرهم وبعضهم يرى مكاتبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بقوة العدو ليمدهم أو يأمرهم بأمره. فشجع عبد الله بن رواحة الجيش، وقال: “يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة. وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ولا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة” .
وأحدثت كلماته أثرها فدب الحماس في الجيش، وفقدت آراء المتريثين قوتها، فاندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك بيسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولات عظيمة انتهت باستشهادهم، فشاط زيد بن حارثة في رماح الروم فاستشهد، وأخذ الراية جعفر بن أبي طالب فعقر فرسه الشقراء وقاتل بالراية فقطعت يمينه فأمسكها بشمال فقطعت فاحتضن الراية حتى استشهد، فأخذ الراية عبد الله ابن رواحة فتردد يسيرا ثم اندفع فقاتل حتى استشهد، فأخذ الراية ثابت بن أرقم ونادى في المسلمين أن يختاروا لهم قائدا فاختاروا خالد بن الوليد، وقد أدرك خالد خطورة الموقف فأعاد تنظيم جيشه وبدل المسيرة بالميمنة وجعل قسما من الجيش يتقدمون من الخلف وكأنهم أمداد جديدة لإيهام الروم، وتمكن خلال ذلك من القيام بانسحاب منظم لم يفقده إلا اليسير من جنده حيث سمت المصادر ثلاثة عشر شهيدا فقط .
ويعتبر هذا الانسحاب المنظم الناجح فتحا عظيما حيث تمكن خالد من إنقاذ جيشه بخسائر طفيفة مع الإثخان في الروم وإصابتهم بقتلى وجرحى، ولا شك أن استبسال المسلمين في القتال وشجاعتهم النادرة وحرصهم على الشهادة بالإضافة إلى عبقرية خالد العسكرية هو الذي مكنهم بعون الله من الخلاص من المأزق.
لقد وجد في جسد جعفر بن أبي طالب أكثر من تسعين إصابة بالرماح والسهام ، وما أقعده ذلك عن القتال حتى الرمق الأخير!!
وقد انكسرت تسعة أسياف في يد خالد بن الوليد .
ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام أنه أخبر أصحابه باستشهاد القادة الثلاثة وعيناه تذرفان بالدموع قبل أن يأتيه الرسول بالخبر، وأخبرهم باستلام خالد للراية وبشرهم بالفتح على يديه. والمراد بالفتح في هذا الحديث الصحيح إما الانسحاب المنظم الناجح، وإما ما أوقعه المسلمون بالروم من خسائر رغم تفوقهم العددي الكبير.
ورغم نجاح الانسحاب، فقد صاح الناس في وجوههم- وهم يحثون في وجوههم التراب- “يافرار فررتم في سبيل الله!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» . ولا شك أن موقف الرأي العام يعبر عن مدى عمق الوعي الإسلامي في تلك المرحلة.
وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام مكانة شهداء مؤتة عند الله تعالى بقوله: «ما يسرني أو قال ما يسرهم أنهم عندنا»، أي: لما نالهم من عظيم التكريم. وجيء بأبناء جعفر بن أبي طالب فداعبهم وأمر بحلق رءوسهم ودعا لهم وقال لأمهم وهي تذكر يتمهم «العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة»!! ولا شك أن المسلمين أفادوا دروسا وخبرات عظيمة من هذا اللقاء الأول مع الروم في مستقبل حركاتهم الجهادية معهم حيث تعرفوا على قوتهم وعددهم وأساليب قتالهم وخططهم وطبيعة الأرض التي يقاتلون عليها.