بهذا الفتح العظيم وسقوط دولة الأوثان دانت للإسلام جموع العرب ودخلوا فيه أفواجا. …
أما قبيلتا هوازن وثقيف فأدركتهما حميّة الجاهلية، واجتمع الأشراف منهما للشورى، وقالوا: قد فرغ محمّد من قتال قومه ولا ناهية له عنا، فلنغزه قبل أن يغزونا. فأجمعوا أمرهم على ذلك، وولّوا رياستهم مالك بن عوف النّصري، فاجتمع له من القبائل جموع كثيرة فيهم بنو سعد بن بكر الذين كان رسول الله مسترضعا فيهم، وكان في القوم دريد بن الصّمّة المشهور بأصالة الرأي، وشدّة البأس في الحرب، ولتقدم سنّه لم يكن له في هذه الحرب إلّا الرأي، ثم إن مالك ابن عوف أمر الناس أن يأخذوا معهم نساءهم وذراريهم وأموالهم، فلمّا علم بذلك دريد سأل مالكا عن السبب، فقال: سقت مع الناس أموالهم وذراريهم ونساءهم لأجعل خلف كل رجل أهله وماله يقاتل عنهم. فقال دريد: وهل يردّ المنهزم شيء؟ إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، فلم يقبل مالك مشورته، وجعل النساء صفوفا وراء المقاتلة، ووراءهم الإبل، ثم البقر، ثم الغنم كيلا يفر أحد المقاتلين.
أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه لما بلغه أن هوازن وثقيف يستعدون لحربه، أجمع رأيه على المسير إليهم، وخرج معه اثنا عشر ألف غاز، ومنهم ألفان من أهل مكة، والباقون هم الذين أتوا معه من المدينة، وخرج أهل مكة ركبانا ومشاة حتى النساء يمشين من غير ضعف يرجون الغنائم، وخرج في الجيش ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، ولما قرب الجيش من معسكر العدو صفّ عليه الصلاة والسلام الغزاة، وعقد الألوية، فأعطى لواء المهاجرين لعليّ بن أبي طالب، ولواء الخزرج للحباب بن المنذر، ولواء الأوس لأسيد بن حضير، وكذلك أعطى ألوية القبائل العرب الاخرى، ثم ركب عليه الصلاة والسلام بغلته، ولبس درعين والبيضة والمغفر. هذا، وقد أعجب المسلمون بكثرتهم فلم تغن عنهم شيئا فإن مقدمة المسلمين توجّهت جهة العدو، فخرج لهم كمين كان مستترا في شعاب الوادي ومضايقه، وقابلهم بنبل كأنه الجراد المنتشر، فلووا أعنّة خيلهم متقهقرين، ولما وصلوا إلى من قبلهم تبعوهم في الهزيمة لما لحقهم من الدهشة، أما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثبت على بغلته في ميدان القتال، وثبت معه قليل من المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث وأخوه ربيعة بن الحارث ومعتّب بن أبي لهب، وكان العباس اخذا بلجام البغلة، وأبو سفيان اخذ بالركاب، وكان عليه الصلاة والسلام ينادي: «إليّ أيها الناس»، ولا يلوي عليه أحد، وضاقت بالمنهزمين الأرض بما رحبت. أما رجال مكّة الذين هم حديثو عهد بالإسلام والذين لم ينزعوا عنهم ربقة الشرك فمنهم من فرح، ومنهم من ساءه هذا الإدبار، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وقال أخ لصفوان بن أمية: الان بطل السحر، فقال له صفوان وهو على شركه أسكت فضّ الله فاك! والله لأن يربّني رجل من قريش خير من أن يربّني رجل من هوازن. ومرّ عليه رجل من قريش وهو يقول: أبشر بهزيمة محمّد وأصحابه، فو الله لا يجبرونها أبدا، فغضب صفوان وقال: ويلك أتبشرني بظهور الأعراب؟ وقال عكرمة بن أبي جهل لذاك الرجل: كونهم لا يجبرونها أبدا ليس بيدك، الأمر بيد الله ليس إلى محمّد منه شيء أن أديل عليه اليوم، فإن العاقبة له غدا. فقال سهيل بن عمرو: والله إن عهدك بخلافه لحديث، فقال له: يا أبا يزيد إنّا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة نعبد حجرا لا يضر ولا ينفع. وبلغت هزيمة بعض الفارّين مكّة. كلّ هذا ورسول الله واقف مكانه يقول:
أنا النبيّ لا كذب … أنا ابن عبد المطلب
ثم قال للعباس وكان جهوريّ الصوت: ناد بالأنصار يا عباس، فنادى يا معشر الأنصار، يا أصحاب بيعة الرضوان، فأسمع من في الوادي، وصار الأنصار يقولون: لبّيك لبّيك، ويريد كل واحد منهم أن يلوي عنان بعيره، فيمنعه من ذلك كثرة الأعراب المنهزمين، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، وينزل عن بعيره، ويخلي سبيله ويؤمّ الصوت حتى اجتمع حول رسول الله جمع عظيم منهم. وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم يروها فكرّ المسلمون على عدوهم يدا واحدة، فانتكث فتل المشركين، وتفرّقوا في كل وجه لا يلوون على شيء من الأموال والنساء والذراري، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فأخذوا النساء والذراري، وأسروا كثيرا من المحاربين، وهرب من هرب، وجرح في هذا اليوم خالد بن الوليد جراحات بالغة، وأسلم ناس كثيرون من مشركي مكّى لما رأوه من عناية الله بالمسلمين.
هذا، والذي حصل في هذه الغزوة درس مهمّ في دروس الحرب، فإن هذا الجيش دخله أخلاط كثيرون من مشركين وأعراب وحديثي عهد بالإسلام، هؤلاء سيّان عندهم نصر الإسلام وخذلانه، ولذلك بادروا لأول صدمة إلى الهزيمة، وكادت تتم الكلمة على المسلمين لولا فضل الله، فلا ينبغي أن يكون في الجيش إلّا من يقاتل خالصا مخلصا من قلبه، ليكون مدافعا حقّا عن دينه، فلا تميل نفسه إلى الفرار خشية ما أعده الله للفارين من أليم العقاب.
ثم أمر عليه الصلاة والسلام بجمع السبي والغنائم، وكانت نحو أربعة وعشرين ألف بعير، وأكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة الاف أوقية من الفضة، فجمع ذلك كله بالجعرانة. أما المشركون فتفرّقوا ثلاث فرق: فرقة لحقت بالطائف، وفرقة لحقت بنخلة، وفرقة عسكرت بأوطاس.