ولما رجع عليه الصلاة والسلام بأصحابه، وأراد أن يخلع لباس الحرب، أمره الله باللحوق ببني قريظة، …
حتى يطهِّر أرضه من قوم لم تعد تنفع معهم العهود، ولا تربطهم المواثيق، ولا يأمن المسلمون جانبهم في شدة، فقال لأصحابه: «لا يُصَلِّيَنَّ أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فساروا مسرعين، وتبعهم عليه الصلاة والسلام راكباً على حماره، ولواؤه بيد علي بن أبي طالب، وخليفته على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، وقد أدرك جماعة من الأصحاب صلاة العصر في الطريق فصلاّها بعضهم حاملين أمر الرسول بعدم صلاتها على قصد السرعة، ولم يصلِّها الآخرون إلا في بني قريظة بعد مضي وقتها حاملين الأمر على حقيقته فلم يُعنِّف فريقاً منهم.
ولما رأى بنو قريظة جيش المسلمين ألقى الله الرعب في قلوبهم، وأرادوا التنصّل من فعلتهم القبيحة وهي الغدر بمن عاهدوهم وقت الشغل بعدو آخر، ولكن أنَّى لهم ذلك وقد ثبت للمسلمين غدرهم؟ فلما رأوا ذلك تحصنوا بحصونهم وحاصرهم المسلمون خمساً وعشرين ليلة، فلما رأوا أن لا مناص من الحرب، وأنهم إن استمروا على ذلك ماتوا جوعاً، طلبوا من المسلمين أن ينزلوا على ما نزل عليه بنو النضير من الجلاء بالأموال وترك السلاح، فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، فطلبوا أن يجلوا بأنفسهم من غير مال ولا سلاح فلم يرض أيضاً، بل قال: لا بدّ من النزول والرضا بما يحكم عليهم خيراً كان أو شراً، فقالوا له: أرسل لنا أبا لُبابة نستشيره، وكان أوسياً من حُلفاء بني قريظة، له بينهم أولاد وأموال، فلما توجه إليهم استشاروه في النزول على حكم الرسول. فقال لهم: انزلوا، وأومأ بيده إلى حلقه، يريد: أن الحكم الذبح، ويقول أبو لبابة: لم أبارح موقفي حتى علمتُ أني خنت الله ورسوله، فنزل من عندهم قاصداً المدينة خجلاً من مقابلة رسول الله، وربط نفسه في سارية من سواري المسجد حتى يقضي الله فيه أمره. ولما سأل عنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما فعل، فقال: أما لو جاءني لاستغفرت له، أما وقد فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه. ثم إن بني قريظة لما لم يروا بدّاً من النزول على حكم رسول الله فعلوا، فأمر برجالهم فكُتِّفوا، فجاءه رجال من الأوس وسألوه أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع حلفاء إخوانهم الخزرج، فقال لهم: ألا يرضيكم أن يحكم فيهم رجل منكم؟ فقالوا: نعم. واختاروا سيدهم سعد بن معاذ الذي كان جريحاً من السهم الذي أُصيب به في الخندق، وكان مقيماً بخيمة في المسجد معدّة لمعالجة الجرحى، فأرسل عليه الصلاة والسلام مَنْ يأتي به، فحملوه على حماره، والتفّ عليه جماعة من الأوس يقولون له: أحسن في مواليك، ألا ترى ما فعل ابن أُبَيّ في مواليه؟ فقال رضي الله عنه: لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومةُ لائم.
ولما أقبل على الرسول وأصحابه وهم جلوس، قال عليه الصلاة والسلام: «قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه»، ففعلوا، وقالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاّك أمر مواليك لتحكم فيهم. وقال له الرسول: «احكم فيهم يا سعد». فالتفت سعد للناحية التي ليس فيها رسول الله وقال: عليكم عهدُ الله وميثاقه أن الحكم كما حكمت؟ فقالوا: نعم، فالتفت إلى الجهة التي فيها الرسول وقال: وعلى مَنْ هنا كذلك؟ وهو غاضٌّ طرفه إجلالاً، فقالوا: نعم، فقال: فإني أحكم أن تقتلوا الرجال، وتسبوا النساء والذرية، فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله يا سعد» لأن هذا جزاء الخائن الغادر. ثم أمر بتنفيذ الحكم فنفذ عليهم، وجمعت غنائمهم، فكانت ألفاً وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحَجَفَةٍ، ووجد أثاثاً كثيراً، وآنية، وأَجمالاً نواضِحَ، وشياهاً، فخمَّس ذلك كله مع النخل والسبي للراجل ثلث الفارس، وأعطى النساء اللاتي يُمرضن الجرحى، ووجد في الغنيمة جِرار خمر فأُريقت. وبعد تمام هذا الأمر انفجر جرح سعد بن معاذ فمات رضي الله عنه وأرضاه. كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين. وقد كان له العزم الثابت في جميع المشاهد التي تقدمت الخندق، وكان عليه الصلاة والسلام يحبه كثيراً وبشّره بالجنة على عظيم أعماله.
وعقب رجوع المسلمين إلى المدينة تاب الله على أبي لُبابة بقوله: {وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102].
وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبقَ إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. وسيأتي للقارىء قريباً اليوم الذي يعاقبون فيه.