ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة، …
ورجباً، وباقي العام، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان من السنة السادسة من الهجرة، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، وقيل: بل نميله بن عبد الله الليثي، وأغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وعم غارون ، على ماء يقال له: المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل، فقتل من قتل منهم، وسبى النساء والذرية. ومن ذلك السبى كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وتزوجها.
وأصيب في هذه الغزوة هشام يبن صبابة الليثي، من بنى ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة ابن الصامت خطأ، وهو يظنه من العدو.
وفي رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة قال عبد الله ابن أبي بن سلول:لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، وذلك لشرٍ وقع لبني جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب، وبين سنان بن وبر الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج، فنادى فنادى الغفاري؛ يا للمهاجرين. ونادى الجهني: يا للأنصار. وبلغ زيد بن أرقم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة عبد الله بن أبي. فنزل في ذلك من عند الله تعالى سورة المنافقين.
وتبرأ عبد الله بن أبي من أبيه، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله، أنت والله الأعز وهو الأذل، والله إن شئت لتخرجنه يا رسول الله. ووقف لأبيه قرب المدينة، فقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول فتدخل حينئذ.
وقال أيضاً عبد الله بن عبد الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، وإني أخشى إن أمرت بذلك غيري لا تدعني نفسي أرى أبي قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتله به، فأدخل النار إذا قتلت مسلماً بكافر، وقد علمت الأنصار أبي من أبرها بأبيه، ولكن، يا رسول الله، إذا أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً. وأخبره أنه لا يسيء إلى أبيه.
وقدم من مكة مقيس بن صبابة، مظهراً الإسلام، وطالباً دية أخيه هشام بن صبابة، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فأخذها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، وفر إلى مكة كافراً. وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، في جملة من أمر بقتله.
وكان شعار المسلمين يوم بنى المصطلق: أمت أمت.
ولما علم المسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق، كرامةً لمصاهرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أطلق بسببها أهل بيتٍ من قومها.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بأزيد من عامين: الوليد بن عقبة بن أبي معيط مصدقاً ، فخرجوا ليتلقوه، ففزع، فرجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم هموا بقتله، فتكلم الناس في غزوهم، ثم أتى وافدهم منكراً لرجوع مصدقهم، قبل أن يلقاهم، معرفين أنهم إنما خرجوا متلقين له مكرمين لوروده، فنزلت في ذلك: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [سورة الحجرات: 6]
وفي مرجع الناس من غزوة بني المصطلق قال أهل الإفك ما قالوا، وأنزل الله تعالى في ذلك براءة عائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها ما أنزل .
وقد روينا من طرقٍ صحاح : أن سعد بن معاذ كانت له في شيء من ذلك مراجعة مع سعد بن عبادة، وهذا عندنا وهم، لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح قريظة، بلا شك، وفتح بني قريظة في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة من الهجرة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة، بعد سنةٍ وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقالة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة .
وذكر ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد وغيره: أن المقاول لسعج بن عبادة إنما كان أسيد بن الحضير. وهذا هو الصحيح، والوهم لم يعر منه أحد من بني آدم، إلا من عصم الله تعالى .