ويقال لها بدر العظمى، ويقال لها بدر القتال، ويقال بدر الفرقان: أي لأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل ثم إن العير التي خرج صلى الله …
عليه وسلم في طلبها حتى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام لم يزل مترقبا قفولها: أي رجوعها من الشأم، فلما سمع بقفولها من الشام ندب المسلمين أي دعاهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب ناس» ، أي أجابوا «وثقل آخرون أي لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلق حربا، ولم يحتفل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي لم يهتم بها، بل قال «من كان ظهره» : أي ما يركبه «حاضرا فليركب معنا» ولم ينتظر من كان ظهره غائبا عنه .
ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر قالت له أمّ ورقة بنت نوفل: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم، لعل الله يرزقني الشهادة، فقال لها: «قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة»، وكانت قد قرأت القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة» فكان الناس يقولون لها الشهيدة. فلما كان زمن خلافة سيدنا عمر عدا عليها غلام وجارية كانت دبرتهما فغمياها بقطيفة إلى أن ماتت، فجيء بهما إلى سيدنا عمر، فأمر بصلبهما، فكانا أوّل مصلوب بالمدينة، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «انطلقوا بنا نزور الشهيدة» .
فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتجسس الأخبار: أي يبحث عنها ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه للعير، أي ويقال: إنه لقي رجلا فأخبره أنه صلى الله عليه وسلم قد كان عرض لغيره في بدايته وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير فخاف خوفا شديدا، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري: أي استأجره بعشيرين مثقالا، ولا يعرف له إسلام، والذي من الصحابة ضمضم بن عمر الخزاعي ليأتي مكة، أي وأن يجدع بعيره وأن يحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويستنفر قريشا، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وقبل أن يقدم بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في إسلامها رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا أخي. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني: أي اشتدت علي وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدّثك.
قال: وفي رواية أنها قالت له: لن أحدثك حتى تعاهدني أن لا تذكرها، فإنهم إن سمعوها- تعني كفار قريش- آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فعاهدها العباس اهـ.
فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح: أي وهو ما بين المحصب ومكة، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا فانفروا يا آل غدر: أي يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث: أي بعد ثلاثة أيام.
وفي كلام السهيلي: يا آل غدر بضم الغين والدال جمع غدور، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم، قالت: فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره: أي انتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت: أي تكسرت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منه فلقة، فقال لها العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، أي وكان صديقا له ذكرها له أي واستكتمه، فذكرها الوليد لابنه عتبة، فتحدث بها ففشا الحديث. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش فعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال أبو جهل لعنه الله: يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة! فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبىء رجالكم حتى تستنبىء نساؤكم.
وفي رواية: ما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء اهـ. قال أبو جهل: قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه، الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فو الله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا. وفي رواية أن العباس قال لأبي جهل هل أنت منته يا مصفر استه: أي يا مأبون، أو يا جبان، أو الذي يغير لون البرص الذي بمقعدته بالزعفران، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك.
فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا، ولقي العباس رضي الله تعالى عنه من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها، قال العباس: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني أقررتم؟ أي قائلة، أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟.
ثم قلت لهنّ: وأيم الله لأتعرضن له، وإن عاد قاتلته، وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قاله فأوقع به، إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد: أي يعدو، فقلت في نفسي ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرق؟ أي خوف مني، فإذا هو يسمع ما لم أسمع، سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، أي قطع أنفه وأذناه، وحول رحله وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة: أي أدركو اللطيمة، وهي العير التي تحمل الطيب والبز، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. وفي لفظ: إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا، الغوث الغوث. قال العباس: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا، أي وفزعوا أشد الفزع؛ وأشفقوا: أي خافوا من رؤيا عاتكة.
ويروى أنهم قالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، أي وأعان قويهم ضعيفهم؛ وقام أشراف قريش يحضون الناس على الخروج، وقال سهيل بن عمرو: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوتا فهذا قوتي ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب، أي خوفا من رؤيا عاتكة، فإنه كان يقول رؤيا عاتكة كأخذ بيد، أي صادقة لا تتخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة: أي استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها أي قال له اخرج وديني لك، أي ويقال إن ذلك الدين كان ربا. ومن ثم جاء في لفظ: وكان لاطه بأربعة آلاف درهم، قال أبو عبيد: وسمي الربا لياطا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع.
وفي كلام البلاذري، أنه قامر أبا لهب على أن يطيعه فيما أراد، فقمره أبو لهب فأسلمه إلى ضيق، أي ضيق عليه بالطلب، ثم قامره فقمره أبو لهب أيضا، فأرسله مكانه إلى بدر وهشام هذا قتله عمر بن الخطاب في هذه الغزوة، حتى أن أمية بن خلف أراد القعود وكان شيخا جسيما ثقيلا، فجاء إليه وهو جالس مع قومه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها مجمر: أي بخور يحملها حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا عليّ استجمر فإنما أنت من النساء، فقال له: قبحك الله وقبح ما جئت به، أي وكان عقبة كما في فتح الباري سفيها. وكان أبو جهل سلط عقبة على ذلك. وفي لفظ أتاه أبو جهل، فقال له: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي، وفي لفظ: وأنت من أشراف الوادي تخلفوا معك، فسر يوما أو يومين، أي ولا مانع من وجود ذلك كله، فتجهز مع الناس.
أي وسبب تخلفه أن سعد بن معاذ قدم مكة معتمرا فنزل عليه لأن أمية كان ينزل على سعد بالمدينة إذا ذهب إلى الشام في تجارته. فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفلت الناس انطلقت فطفت. وفي لفظ: فخرج أمية به قريبا من نصف النهار، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف؟ فقال له سعد: أنا سعد بن معاذ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟
وفي لفظ: آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فتلاحيا: أي تخاصم، وسعد يرفع صوته بقوله: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة؟ فصار أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي وجعل يسكت سعدا. فقال سعد لأمية: إليك عني، فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال نعم، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، قال: والله ما كذب محمد، فكاد يحدث أي يبول في ثيابه فزعا، فرجع إلى امرأته، فقال: ما تعلمين ما قال أخي اليثربي- يعني سعد بن معاذ؟ قالت: وما ذاك؟ قال زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد. قال: فلما جاء الصريخ وأراد الخروج، قالت له امرأته: أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فإني إذن لا أخرج، فلما صمم على عدم الخروج بل أقسم بالله لا يخرج من مكة قيل له ما تقدم، فخرج ناويا أن يرجع عنهم.
أي ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم قاتله، أنه كان سببا في قتله، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يباشر إلا قتل أخيه. وهو أبيّ بن خلف في أحد كما سيأتي. ومن ثم جاء في رواية قال لأمية:
إن أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقتلونك.
ويحتمل أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول «أنا أقتل أبيّ بن خلف» ففهم سعد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم يريد أمية لا أبيا.
أي وفي الإمتاع: أن أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام استقسموا بالأزلام، فخرج لهم القدح الناهي: أي المكتوب عليه لا تفعل، فأجمعوا على المقام، فجاءهم أبو جهل لعنه الله وأزعجهم، وأعانه على ذلك عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
ويقال إن عداسا قال لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة بأي وأمي أنتما، والله ما تساقان إلا لمصارعكما، فأراد عدم الخروج، فلم يزل بهما أبو جهل حتى خرجا عازمين على العود عن الجيش.
ولما فرغوا من جهازهم، أي وكان ذلك في ثلاثة أيام، وقيل في يومين وأجمعوا السير: أي عزموا عليه وكانوا خمسين وتسعمائة. وقيل كانوا ألفا وقادوا مائة فرس أي عليها مائة درع سوى دروع المشاة. قال ابن إسحاق: وخرجوا على الصعب والذلول: أي لشدة إسراعهم، والصعب: الذي لا ينقاد، والذلول: الذي ينقاد، معهم القيان: أي بفتح القاف وتخفيف المثناة تحت وفي آخره نون جمع قينة: وهي الأمة مطلقا. وقيل المغنية؛ والمراد هنا الثاني، لقوله في الإمتاع: ومعهم القينات يضربن بالدفوف يغنين: أي بهجاء المسلمين.
وسيأتي في أحد خروج جماعة من نساء قريش معهن الدفوف، وعند خروجهم ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب أي والدماء، وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا: أي لأن قريشا كانت قتلت شخصا من كنانة، وأن شخصا من قريش كان شابا وضيئا له ذؤابة وعليه حلة خرج في طلب ضالة له، فمر ببني كنانة وفيهم سيدهم وهو عامر بن الخلوج فرآه فأعجبه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فذكر أنه من قريش، فلما ولّى الغلام. قال عامر لقومه: أما لكم في قريش من دم؟ قالوا بلى، فأغراهم به فقتلوه، ثم قال بنو كنانة لقريش رجل برجل: فقالت قريش، نعم رجل برجل. ثم إن أخا المقتول ظفر بعامر بمر الظهران فعلاه بالسيف حتى قتله ثم خاط بطنه بسيفه، ثم جاء وعلقه بأستار الكعبة من الليل فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر عرفوه وعرفوا قاتله، أي وكاد ذلك يثنيهم، أي يصرفهم عن الخروج فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي- وكان من أشراف بني كنانة- وقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا وخرج معهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءهم قد أقبلوا لنصرهم وَقالَ {لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] .
«ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره ببئر أبي عتبة، أي وأمر أصحابه أن يستقوا منها وشرب من مائها» .
وفي الإمتاع عسكر ببيوت للسقيا، وهي عين بينها وبين المدينة يومان كان يستقى له صلى الله عليه وسلم الماء منها.
وقد جاء أن عبده صلى الله عليه وسلم رباحا كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وقال صلى الله عليه وسلم «بئر غرس من عيون الجنة» ومن ثم غسل منها صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وغرس: اسم عبد كان يقوم عليها، وقيل غير ذلك.
وأمر صلى الله عليه وسلم حين فصل من بيوت السقيا أن تعدّ المسلمون، فوقف لهم عند بئر أبي عتبة فعدوا، وهي على ميل من المدينة فعرض أصحابه وردّ من استصغر، أي وكان ممن رده أسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وردّ عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه، وقتل وعمره ستة عشر عاما. وحينئذ يتوقف في رده، لأن الخمسة عشر بلوغ بالسن على ما عليه أئمتنا.
وخرج صلى الله عليه وسلم في خمسة وثلاثمائة رجل، من المهاجرين أربعة وستون، وباقيهم من الأنصار. وقيل كان المهاجرون نيفا وثمانين، وكانت الأنصار نيفا وأربعين ومائتين.
وذكر الإمام الدواني أنه سمع من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم يعني أصحاب بدر مستجاب، وقد جرب ذلك. وخلف عثمان على ابنته صلى الله عليه وسلم رقية وكانت مريضة، أي وقيل لأنه كان مريضا بالجدري: أي ولا مانع من وجود الأمرين، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إن لك لأجر رجل وسهمه» أي وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة، فأمره صلى الله عليه وسلم بالمقام على أمه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقت توفيت، فصلى على قبرها.
واستعمل صلى الله عليه وسلم أبا لبابة رضي الله عنه واليا على المدينة ورده من المحل المذكور، أي من بئر أبي عتبة كذا في الأصل. وقيل رده من الروحاء، وهو المشهور: وهي قرية على ليلتين من المدينة كما تقدم.
واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة، وخلف عاصم بن عدي على أهل قباء وأهل العالية، أي لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار لينظر في ذلك، وكسر بالروحاء خوات بن جبير.
أي وفي كلام ابن عبد البر وقال موسى بن عقبة: خرج خوات بن جبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ الصفراء أصاب ساقه حجر ودميت رجله واعتلت فرجع، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. وأهل الأخبار يقولون إنه شهد بدرا.
وله في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين: التي تضرب العرب بها المثل فتقول «أشغل من ذات النحيين» وهي خولة «يروى أنه صلى الله عليه وسلم سأله عنها وتبسم، فقال: يا رسول الله قد رزقني الله خيرا منها، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» وروي أن صلى الله عليه وسلم قال له: «ما فعل بعيرك الشارد» يعرّض بهذه القصة، فقال: قيده الإسلام يا رسول الله، وقيل لم يعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لتلك القضية، وإنما هو لقضية أخرى هي «أن خوّاتا مر بنسوة في الجاهلية أعجبه حسنهن، فسألهن أن يفتلن له قيدا لبعيره وزعم أنه شارد؛ وجلس إليهن بهذه العلة، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث إليهن، فأعرض عنه وعنهن، فلما أسلم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك البعير وهو يتبسم. وكسر أيضا الحارث بن الصمة.
وبعث له صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم يتحسسان خبر العير. والتحسس للأخبار بالحاء المهملة: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وبالجيم: أي يفحص عنها بغيره. وجاء «تحسسوا ولا تجسسوا» ولم يحضرا لهذا القتال، بل رجعا بخبر العير إلى المدينة على ظن أنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما علما أنه ببدر خرجا إليه فلقياه منصرفا من بدر، وأسهم لكل وصار كل من أسهم له يقول وأجري يا رسول الله؟ فيقول: «وأجرك». ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، وكان أمامه صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوتان: إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي ويقال لها العقاب، وكانت من مرط لعائشة.
وفي كلام بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب من أشراف قريش وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله، وسيأتي أنه حملها في هذه الغزوة الأب الخامس لإمامنا الشافعي وهو السائب بن يزيد «والأخرى مع بعض الأنصار» وابن قتيبة اقتصر على الأولى. وذكر بعضهم أن بعض الأنصار هذا قيل هو سعد بن معاذ، وقيل الحباب بن المنذر، وهذا يردّ ما تقدم في غزوة بواط عن ابن إسحاق، وما سيأتي في غزوة بني قينقاع. عن ابن سعد أن الرايات لم تكن وجدت وإنما حدثت يوم خيبر.
ومما يؤيد الرد ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا كرم الله وجهه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة» وفي الهدى أن لواء المهاجرين كان من مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولم يذكر الرايتين.
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم عقد الألوية وهي ثلاثة، لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان سوداوتان: أحداهما مع علي، والأخرى مع رجل من الأنصار وفيه إطلاق اللواء على الراية، وقد تقدم أن جماعة من أهل اللغة صرحوا بترادف اللواء والراية.
وكان صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة على غير لواء معقود. وقال في الأصل: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أي كما سيأتي، قال أي جوابا عما تقدم عن الأصل العريش كان ببدر؛ أي وهذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فلا منافاة أي لأنه يجوز أن يكون في بدر دفع الراية لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليكون معه في العريش ولبس صلى الله عليه وسلم درعه ذات الفضول، وتقلد صلى الله عليه وسلم سيفه العضب.
وحين فصل صلى الله عليه وسلم من بيوت السقيا قال: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك»، فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسارى، فاغتنى به كل عائل.
وكان حبيب بن يساف ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج نجدة لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة، ففرح المسلمون بخروجه معهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا» أي وفي رواية «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» أي وسيأتي في أحداثه صلى الله عليه وسلم قال «لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك» لما رد حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود وتكررت من حبيب المراجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال له: «تؤمن بالله ورسوله؟» قال نعم، فأسلم وقاتل قتالا شديدا .
وفي الإمتاع وقدم حبيب بن يساف بالروحاء مسلما. ولا مخالفة، لجواز أن يكون أسلم قبل الروحاء.
«ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما أو يومين، ثم نادى مناديه، يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا» .
وذلك «أنه صلى الله عليه وسلم كان قال لهم قبل ذلك «أفطروا فلم يفطروا»، وسيأتي في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفطر فلم يفعل جماعة منهم ذلك، فقال «أولئك العصاة»، وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي التي معهم يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها كل ثلاثة يعتقبون بعيرا، أي إلا ما كان من حمزة وزيد بن حارثة وأبي كبشة وأنيسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء الأربعة كانوا يعتقبون بعيرا .
أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر» .
وفي الإمتاع: فكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا كلامه «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومرثد يعتقبون بعيرا» وفي لفظ «كان أبو لبابة وعلي والنبي صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا» أي وذلك قبل أن يردّ أبا لبابة للمدينة من الروحاء، وبعد أن رده قام مقامه مرثد، وقيل زيد بن حارثة، وقيل زيد كان مع حمزة أي كما تقدم.
ويجوز أن كان مع حمزة تارة، ومع النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، فكان إذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم قالا له: أي رفيقاه: اركب حتى نمشي معك، فيقول «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما» .
«وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم يعتقبون بعيرا، أي ورفاعة وخلاد ابنا رافع وعبيد بن يزيد الأنصاري يعتقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم عيا، فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله برك علينا بكرنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتمضمض وألقاه في إناء» أي وفي الإمتاع «فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: افتح فاه، فصب منه في فيه ثم صب باقي ذلك عليه، ثم قال: اركبا ومضى فلحقاه؛ وإنه لينفر بهم» أي وأمر صلى الله عليه وسلم بإحصاء من معه، وهو محتمل لأن يكون أمر بذلك ثانيا بعد الروحاء بعد أن رد أبا لبابة «وبعد عدهم في بئر أبي عتبة، فإذا هم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ففرح بذلك، وقال عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر» وهذا قول عامة السلف كما قاله ابن جرير رحمه الله، ومن زاد على ذلك عدّ منهم من رده صلى الله عليه وسلم من الروحاء ومن أسهم له ولم يحضر ومن نقص عن ذلك، وعدهم ثلاثمائة وخمس رجال أو ست رجال أو سبعة رجال، فالجواب عنه لا يخفى.
وكان في الجيش خمسة أفراس: فرسان له صلى الله عليه وسلم وفرس لمرثد، ويقال له السيل، وفرس للمقداد بن الأسود نسب إليه لأنه تبناه في الجاهلية كما تقدم، ويقال لها سبحة، وفرس للزبير ويقال له اليعسوب، وقيل لم يكن في الجيش إلا فرسان، فرس المقداد وفرس الزبير.
وعن علي رضي الله تعالى عنه: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.
أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجلا؛ ويؤيد ما يأتي «أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنيمة لم يميز أحدا عن أحد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس» لكن قد يخالفه قول الزمخشري في خصائص العشرة «كان الزبير رضي الله عنه صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وليس على الميمنة يومئذ فارس غيره» هذا كلامه. إلا أن يقال كون الزبير فارسا على الميمنة لا يخالف كون المقداد فارسا في محل آخر مع الجماعة الذين فيهم سيدنا علي كرّم الله وجهه فقول سيدنا علي لم يكن فينا: أي في الجماعة الملازمين لنا تأمل، والله أعلم.
وفي أثناء الطريق بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني بما في بطن ناقتي هذه؟
فقال له سلامة بن سلامة بن وقش: لا تسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل عليّ أنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففي بطنها منك سحلة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه أفحشت على الرجل»، ثم أعرض عن سلامة فلما نزلوا بواد يقال له ذفران» بكسر الفاء: أي وهو واد قريب من الصفراء أتاه الخبر عن قريش، بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأخبرهم الخبر: أي قال لهم إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول أي مسرعين، فما تقولون؟ العير أحب إليكم من النفير؟ فقالوا: بلى، أي قالت ذلك طائفة منهم العير أحب إلينا من لقاء العدو. وفي رواية هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير وفي رواية «يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فعند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد روي ذلك عن أبي أيوب رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] وعند ذلك قام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: أي لموسى {فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، فو الله الذي بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا إلى برك الغماد- وهي مدينة بالحبشة- لجالدنا: أي ضربنا بالسيوف معك من دونه حتى نبلغه. وفي لفظ «نقاتل عن يمينك وعن يسارك. ومن بين يديك ومن خلفك، قال ابن مسعود: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك» .
وفي الكشاف «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ثم دعا له بخير» .
هذا، وفي العرائس روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد عن البيت «إني ذاهب بالهدى»، فتأخر عند البيت واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24] ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ومن بين يديك، ولو خضت بحرا لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتابعناك، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تابعوه، فأشرق عند ذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمر: يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، أي ثم استشارهم ثالثا، فقال «أشيروا عليّ أيها الناس» ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، وذلك لأنهم عدد الناس: أي أكثرهم عددا ومن ثم قيل: وإنما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة: أي في ذلك المجلس ليعرف حال الأنصار، فإنه تخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه أي جاءه على حين غفلة بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم عملا بظاهر قولهم له صلى الله عليه وسلم حين بايعوه عند العقبة «يا رسول الله إناء براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا، نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا، ومن ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس. وقيل سعد بن عبادة سيد الخزرج وإنما حكي بصيغة التمريض لأنه قد اختلف في عده في البدريين.
والصحيح أنه لم يشهد بدرا فإنه كان تهيأ للخروج فنهش بالمهملة أي لدغته الحية قبل أن يخرج فأقام أي وضرب له بسهم، فقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله، فقال «أجل» قال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، زاد في رواية ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت. وفي لفظ وصل جبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر في الحرب، صدق اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. وفي لفظ: بعض ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، أي وأشرق وجهه بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، أي وهما عير قريش ومن خرج من مكة من قريش يريد حماية ذلك العير فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم أي فقد أعلمه الله تعالى بعد وعده بذلك الظفر بالطائفة الثانية، وأراه مصارعهم فعلم القوم أنهم ملاقون القتال وأن العير لا تحصل لهم».
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران حتى نزل قريبا من بدر، فركب صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله عنه، أي وقيل بدل أبي بكر قتادة بن النعمان، وقيل معاذ بن جبل حتى وقفا على شيخ من العرب أي يقال له سفيان قال في النور: لا أعلم له إسلاما، فسأله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم. فقال الشيخ، لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أخبرتنا أخبرناك» فقال الشيخ ذاك بذاك قال نعم، قال فإنه قد بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني به فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني به صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزلت به قريش فلما فرغ من خبره قال من أنتما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء أي من ماء دافق وهو المني، ثم انصرفا عنه».
فقال الشيخ من ماء من ماء العراق؟ فهم أن المراد بالماء حقيقته.
أي لكن في الإمتاع «فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، وأشار بيده إلى العراق. فقال: من ماء العراق» أي وأضيف الماء إلى العراق لكثرته به، وفيه أن هذا من التوراة، وقد تقدم في أوائل الهجرة أنه لا ينبغي لنبي أن يكذب ولو صورة، ومنه التوراة.
لكن في كلام القاضي البيضاوي وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام «ثلاث كذبات تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته».
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ودعا لهم فقال: «اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا» أخرجه أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: أي شبعوا واكتسوا بما أصابوه من كسوة وأزواد قريش.
وفي الإمتاع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم المذكور كان عند مفارقته محل معسكره بالمدينة وهو بيوت السقيا كما تقدم، وتقدم فيه زيادة وعالة فأغنهم، فأصابوا الأسرى فاغتنى بهم كل عائل ولا مانع أن يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك تكرر.
فلما أمسى صلى الله عليه وسلم بعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا رواية لقريش معها غلام لبني الحجج وغلام لبني العاص، فأتوا بهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالوا: لمن أنتما؟ وظنوا أنهما لأبي سفيان، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهما، فلما أوجعوهما ضربا قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: «إذا صدقا كم ضربتوهما وإذا كذبا كم تركتموها، صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكثيب» أي التل من الرمل الذي يرى بالعدوة القصوى: أي جانب الوادي المرتفع فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم القوم؟» قالا كثير أي وفي لفظ هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، قال: «ما عدتهم؟» قالا لا ندري، أي وجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبراه كم هم فأبيا. قال صلى الله عليه وسلم «كم تنحرون؟ أي من الجزر كل يوم؟» قالا يوما تسعا ويوما عشرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف» أي لكل جزور مائة، ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو العامري أي رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، وهو من أشراف قريش وخطبائهم، وسيأتي أنه ممن أسر في هذه الغزاة وعمرو بن عبد ود فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ- أي قطع- كبدها أي أشرافها وعظماءها» وذكر أن مسيرهم وإقامتهم كانت عشر ليال حتى بلغوا الجحفة: أي وهي قرية بقرب رابغ كما تقدم، نزلوا بها عشاء: أي وفي الإمتاع أنهم ردوا القيان من الجحفة.
أقول: هذا والذي في مسلم وأبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «فإذا هم بروايا قريش فيها رجل أسود لبني الحجاج، فجاؤوا به، فكانوا يسألونه عن أبي سفيان فيقول: ما لي بأبي سفيان علم، فإذا قال ذلك ضربوه، وإذا قال هذا أبو سفيان تركوه» الحديث.
أي وفي الإمتاع «وأخذ تلك الليلة يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي» الحديث.
وقد يقال: لا منافاة، لأن بعض الرواة ذكر الثلاثة، وبعضهم اقتصر على اثنين، وبعضهم اقتصر على واحد، والله أعلم.
وكان مع قريش رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهم بن الصلت رضي الله تعالى عنه . فإنه أسلم في عام خيبر وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ثلاثين وسقا، وقيل أسلم بعد الفتح فوضع رأسه فأغفى، ثم قام فزعا، فقال لأصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف عليّ فقالوا لا، قال: قد وقف عليّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وفلان وفلان، وعد رجالا من أشراف قريش ممن قتل يوم بدر، أي وقال: أسر سهيل بن عمرو وفلان وفلان، وعدّ رجالا ممن أسر، قال: ثم رأيت ذلك الفارس ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما من خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فقال له أصحابه: إنه لعب بك الشيطان، ولما شاعت هذه الرؤيا في العسكر وبلغت أبا جهل قال: قد جئتم بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل وفي لفظ «قال أبو جهل: هذا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول، نحن أو محمد وأصحابه، وأول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل بن هشام عشر جزائر أي بمر الظهران، وكانت جزور منها بعد أن نحرت بها حياة فجالت في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها كذا في الإمتاع.
ومن هذا المحل رجع بنو عدي أي تفاؤلا بذلك، ثم نحر لهم سفيان بن أمية بعسفان تسع جزائر، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر، وساروا من قديد فضلوا بهائم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر، فلما أصبحوا بالأبواء نحر لهم مقيس بن عمرو الجمحي تسع جزائر أي ويقال إن الذي نحر لهم بالأبواء نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشر جزائر، ونحر لهم الحارث بن عامر بن نوفل تسعا، ونحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشر جزائر، ونحر لهم مقيس الجمحي على ماء بدر تسعا، أي ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، ثم مضى رجلان من الصحابة أي قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وكذا قبل وصول قريش إلى بدر كما يدل عليه الكلام الآتي خلاف ما يدل عليه هذا السياق إلى ماء بدر «فنزلا قريبا منه عند تلّ هناك، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه وشخص على الماء وإذا جاريتان يتلازمان: أي يتخاصمان، وتمسك إحداهما الأخرى على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها إنما يأتي العير غدا أو بعد غد. فأعمل لهم وأقضيك الذي لك، فقال ذلك الرجل الذي على الماء صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك الرجلان فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا ثم إن أبا سفيان تقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فلقي ذلك الرجل، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما ثم انطلقا» .
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففتته، فإذا فيه النوى، فقال: والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا فصوّب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، أي وقد كان بلغه مجيئهم ليحرزوا العير وكانوا حينئذ بالجحفة إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله تعالى فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان أي تضرب بالمعازف: أي الملاهي، وقيل الدفوف، وقيل الطنابير وقيل نوع منها يتخذه أهل اليمن، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها وسيأتي في غزاة بدر الموعد أن موسم بدر يكون عند هلال ذي القعدة في كل عام يمكث ثمانية أيام، ويبعد إرادة ذلك لأبي جهل أي إقامتهم ببدر بقية رمضان وتمام شوّال.
قال «ولما أرسل أبو سفيان يقول لقريش ما تقدم، أي ورد عليه أبو جهل بما ذكر قال: هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم وعند ذلك رجع منهم بنو زهرة وكانوا نحو المائة انتهى» أي وقيل ثلاثمائة، وقائدهم كان الأخنس بن شريق.
وفي كلام ابن الأثير «فلم يقتل منهم» أي من بني زهرة أحد «ببدر» وفي كلام غيره «ولم يشهد بدر أحد من بني زهرة إلا رجلان قتلا كافرين، فإن الأخنس قال لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، واجعلوا بي حميتها، وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير منفعة لا ما يقول هذا» يعني أبا جهل «وقال لأبي جهل أي وقد خلا به، أترى محمدا يكذب؟ فقال: ما كذب قط، كنا نسميه الأمين، لكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة، ثم تكون فيهم النبوّة فأي شيء يكون لنا؟ فانخنس الأخنس ورجع ببني زهرة» أي واسمه أبيّ وإنما لقب بالأخنس من حين رجع ببني زهرة، فقيل خنس بهم فسمي الأخنس، كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم يوم الفتح، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم» .
ورأيت عن السهيلي «أنه قتل يوم بدر كافرا» وتبعه على ذلك التلمساني في حاشية الشفاء واستدل له بقول القاضي البيضاوي: أن قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا} [البقرة:204] الآية نزلت في الأخنس بن شريق.
وفي الإصابة أنه كان من المؤلفة، ومات في خلافة عمر.
وعن السدي «أن الأخنس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر إسلامه وقال: الله يعلم إني لصادق ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم مسلمين فحرق زرعهم، فنزلت {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا} [البقرة: 204] إلى قوله: {وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ} [الرّعد:18] .
قال ابن عطية، ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت قد أثبته في الصحابة جماعة، ولا مانع أن يكون أسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، هذا كلام الإصابة.
وفي كلام ابن قتيبة، ولم يسلم الأخنس، وفي كلام بعضهم: ثلاثة ابن وأبوه وجده شهدوا بدرا الأخنس وابنه يزيد وابنه معن فليتأمل ذلك.
«قال وأرادوا بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع».
ثم لم يزالوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القصوى قريبا من الماء، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعيدا من الماء، بينهم وبين الماء رحلة، فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب غالبهم، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم، تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وأنكم على الحق وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون مجنبين، أي وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيحكموا فيكم كيف شاؤوا» .
وفي الكشاف «فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم، فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادي دهسا بالسين المهملة، أي لينا كثير التراب تسيخ فيه الأقدام، فبعث الله السماء» أي المطر «فأطفأت الغبار» ، ولبدت الأرض» أي شدتها للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، أي وطهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان» أي وسوسته «وشربوا منه وملؤوا الأسقية وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، أي وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] أي من الأحداث {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ} [الأنفال:11] أي وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ [الأنفال: الآية 11] أي يشدّها ويقويها {وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ} [الأنفال:11] أي بتلبيد الأرض حتى لا تسوخ في الرمل «وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه أي ويصلوا إلى الماء» أي فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين وبلاء ونقمة للمشركين.
وعن علي رضي الله تعالى عنه «أصابنا من الليل طس من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والجحف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه» .
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه «ما كان فينا أي تلك الليلة قائم إلا رسول الله يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول، يا حي يا قيوم يكرر ذلك حتى أصبح أي لأن المسلمين أصابهم تلك الليلة نعاس شديد يلقي الشخص على جنبه» .
أي وعن قتادة «كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين، نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد» لأن النعاس هنا كان ليلا قبل القتال؛ وفي أحد كان وقت القتال، وكون النعاس أمنة وقت القتال أو وقت التأهب له وهو وقت المصافة واضح لا قبله.
هذا وذكر الشمس الشامي أنه لما نزلت الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم، وبشرهم صلى الله عليه وسلم بنزول الملائكة حصل لهم الطمأنينة والسكينة، وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة، وربما يقتضي أنه حصل لهم النعاس عند المصافة، وإلا فقد يقال إن قوله وقد حصل لهم النعاس جملة حالية، أي والحال أنه حصل لهم قبل ذلك في تلك الليلة؛ لا في وقت المصافة.
ولا يبعد ذلك قوله بعد ذلك: ولهذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه:
النعاس في المصاف من الإيمان والنعاس في الصلاة من النفاق، أي لأنه في الأول يدل على ثبات الجنان، وفي الثاني يدل على عدم الاهتمام بأمر الصلاة.
«فلما أن طلع الفجر نادى صلى الله عليه وسلم الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال» أي في خطبة خطبها فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، إلى أن قال: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهمّ وينجي به من الغم» الحديث.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم أي يسابق قريشا إلى الماء فسبقهم عليه، حتى جاء أدنى ماء من بدر أي أقرب ماء إلى بدر من بقية مياهها فنزل به صلى الله عليه وسلم، فقال له الحباب بن المنذر، يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، قال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم أي إذا نزل القوم: يعني قريشا كان ذلك الماء أقرب المياه، أي محله أقرب المياه إليهم. قال الحباب: فإني أعرف غزارة مائة وكثرته بحيث لا ينزح، فننزله ثم نغور ما عداه من القلب: أي وهي الآبار غير المبنية، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون؛ لأن القلب كلها حينئذ تصير خلف ذلك القليب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأي»، ونزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرأي ما أشار إليه الحباب، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم أي من المحل الذي ينزل به القوم فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت بسكون الواو.
وقال السهيلي: لما كانت القلب عينا جعلها كعين الإنسان، ويقال في عين الإنسان غرتها فغارت، ولا يقال غورتها أي بالتشديد «وبنى صلى الله عليه وسلم حوضا على القليب الذي نزل به فملأه ماء، ثم قذفوا فيه الآنية، ومن يومئذ قيل للحباب ذو الرأي» وظاهر كلام بعضهم أنه كان معروفا بذلك قبل هذه الغزاة.
وفيه أن ذلك القليب إذا كان خلف ظهورهم وسائر القلب خلفه ما المعنى في تغويرها لأنها إذا لم تغورهم يشربون ولا يشرب القوم. إلا أن يقال: المعنى لئلا يأتوا إليها من خلفهم، فالغرض قطع أطماعهم من الماء، فليتأمل، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «بل هو الرأي» على جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الحرب نظرا لصورة السبب أو مطلقا لأن صورة السبب لا تخصص، وجواز الاجتهاد له مطلقا هو الراجح.
ومما استدل به على وقوع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الأحكام قوله «إلا الإذخر» عقب ما قيل له إلا الإذخر. قال السبكي: وليس قاطعا، لاحتمال أن يكون أوحي إليه في تلك اللحظة.
هذا، وفي كلام بعضهم أنهم نزلوا على ذلك القليب نصف الليل فصنعوا الحوض وملؤوه وقذفوا فيه الآنية بعد أن استقوا منه، وسيأتي ما يؤيده.
وقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني عريشا أي وهو شيء كالخيمة من جريد يستظل به تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، أي وقال: «أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد أي وهو نصرهم وظهورهم على عدوهم ثم بني» أي ذلك العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي فوق تل مشرف على المعركة كان فيه .
أي وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال لجمع من الصحابة، أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا أنت؛ قال: أشجع الناس أبو بكر، لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا: من مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من يكون معه لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه أي ولذلك حكم عليّ أنه أشجع الناس. وبه يرد قول الشيعة والرافضة إن الخلافة لا يستحقها إلا عليّ، لأنه أشجع الناس، أي وهذا كان قبل أن يلتحم القتال، وإلا فبعد التحامه كان عليّ على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وسعد بن معاذ قائمان على باب العريش في نفر من الأنصار كما سيأتي.
ومما استدل على أن أبا بكر أشجع من علي أن عليا أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتله إلا ابن ملجم، فكان إذا دخل الحرب ولاقى الخصم علم أنه لا قدرة له على قتله، فهو معه كالنائم على فراشه. وأما أبو بكر فلم يخبر بقاتله، فكان إذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل أو لا، ومن هذه حاله يقاسي من التعب ما لا يقاسيه غيره.
ومما يدل على ذلك ما وقع له في قتال أهل الردة، وتصميمه العزم على مقاتلة مانعي الزكاة مع تثبيط سيدنا عمر له عن ذلك.
«فلما كان الصباح أقبلت قريش من الكثيب» هذا يؤيد القول بأنه صلى الله عليه وسلم سار بأصحابه ليلا يبادرهم إلى الماء، لأن ذلك بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح كما تقدم، لأن الظاهر من قول الراوي أقبلت: أي عليهم هم ماكثون.
ويؤيده أيضا ما في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة بدر أي بعد أن وصل إلى محل الوقعة «هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان ها هنا، وهذا مصرع فلان هاهنا». قال أنس: ما ماط أحدهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم أي ما تنحى فليتأمل الجمع.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وقد أقبلت بالدروع الساترة والجموع الوافرة والأسلحة الشاكية أي التامة قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها» أي كبرها وعجبها وفخرها «تجادلك: أي تعاديك وتخالف أمرك وتكذب رسولك، فنصرك» أي أنجز نصرك «الذي وعدتني» أي وفي لفظ «اللهم إنك أنزلت على الكتاب وأمرتني بالثبات، ووعدتني إحدى الطائفتين، أي وقد فاتت إحداهما وهي العير وإنك لا تخلف الميعاد. اللهم أحبهم» أي أهلكهم «الغداة» وفي رواية «اللهم لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم وإسحاق عين أبي زمعة، وأعم بصر أبي زمعة، اللهم لا تفلتن سهيلا» الحديث.
ولما اطمأنت قريش أرسلوا عمير بن وهب الجمحي- أي رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وشهد أحدا معه صلى الله عليه وسلم فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد أي انظر لنا عدتهم فاستجال بفرسه حول عسكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا، فذهب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا ثم رجع إليهم وقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا أي وهي في الأصل النوق تبرك على قبر صاحبها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت تحمل المنايا أي الموت أي نواضح يثرب تحمل الموت النافع أي البالغ.
زاد بعضهم: ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهلهم، زرق العيون كأنهم الحصا تحت الجحف، يعني الأنصار قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم؛ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس؛ فقام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، أي يا قوم أعصبوها اليوم برأسي، أي اجعلوا عارها متعلقا بي، وقولو جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
أي وفي لفظ آخر «أن حكيم بن حزام قال لعتبة بن ربيعة: تجير بين الناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي» أي الذي قتله واقد بن عبد الله في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، وهو أوّل قتيل قتله المسلمون «وتحمل ما أصاب محمد من تلك العير أي الذي غنمه عبد الله بن جحش» كما سيأتي في السرايا «فإنهم لا يطلبون من محمد إلا ذلك؟ فقال عتبة نعم قد فعلت، أي هو حليفي فعليّ عقله وما أصيب من المال، ونعم ما قلت، ونعم ما دعوت إليه، وركب عتبة جملا له وصار يجيله في صفوف قريش يقول: يا قوم أطيعوني فإنكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما أخذ من العير، وقد تحملت ذلك.
زاد بعضهم «أنه قال: يا معشر قريش أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح» يعني قريشا «أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات» يعني الأنصار، وهذا كما ترى وما يأتي أيضا يضعف قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته.
وقد كان صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشا أقبلت من الكثيب وعتبة على جمل أحمر قال: «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» .
أي وفي رواية «إن يكن أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر أن يطيعوه يرشدوا». ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم راكب الجمل الأحمر يجيله في صفوف قريش، قال: «يا علي ناد حمزة» وكان أقربهم إلى المشركين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم؟» فقال: هو عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم إن يكن في أحد من القوم خير الخ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
«ثم قال عتبة لحكيم بن حزام انطلق لابن الحنظلية» يعني أبا جهل «قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد سل درعا له من جرابها» أي أخرجها منه، فقلت له: «يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره» أي رئته كلمة تقال للجبان.
وفي لفظ أنه قال لعتبة، وقد جاء إليه، أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته أي قلت له اعضض على بظر أمك أن قد ملأت رئتك وجوفك رعبا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وقال لحكيم: ما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور أي في قلة بحيث يكفيهم الجزور وفيهم ابنه أي وهو أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان ممن أسلم قديما «فقد تخوفكم عليه» .
أي وفي رواية أنه قال: يا معشر قريش إنما يشير عليكم عتبة بهذا، لأن ابنه مع محمد ومحمد ابن عمه، فهو كره أن تقتلوا ابنه وابن عمه، فغضب عتبة وسب أبا جهل وقال، سيعلم أينا أفسد لقومه.
أي ومن غريب الاتفاق أن أم أبان بنت عتبة بن ربيعة المذكور كان لها أربعة إخوة وعمان، كل منهم حضر بدرا اثنان من إخوتها مسلمان، واثنان مشركان، وواحد من عميها مسلم، والآخر كافر، فالأخوان المسلمان: أبو حذيفة ومصعب بن عمير ولعله كان أخاها لأمها، والكافران: الوليد بن عتبة وأبو عزيز، والعم المسلم معمر بن الحارث ولعله كان أخا لعتبة لأمه، والعم الكافر شيبة بن ربيعة، وكان من حكمة الله تعالى أن الله جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا، ولما التحم القتال جعلهم الله في أعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب والوهن، وجعل الله المشركين عند التحام القتال في أعين المسلمين قليلا ليقوى جأشهم على مقاتلتهم.
ومن ثم جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد قلّوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة، وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ}[الأنفال:44] ، ومن ثم قال الله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ} [آل عمران:13] أي يرى أولئك الكفار المؤمنين {مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ} [آل عمران:13] .
أي وقد ذكر أن قباث بن أشيم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك- قال في نفسه يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردّت محمدا وأصحابه. وعنه أنه قال: لما كان بعد الخندق قدمت المدينة سألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك في محل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت عليه فقال صلى الله عليه وسلم «يا قباث أنت القائل يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محمدا وأصحابه، فقال قباث: والذي بعثك بالحق ما تحدث به لساني ولا ترفرفت به شفتاي ولا سمعه مني أحد، وما هو إلا شيء هجس في قلبي» وحينئذ يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم «أنت القائل: أي في نفسك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن ما جئت به الحق» .
«ولما بلغ عتبة ما قاله أبو جهل قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو» وقد تقدم معنى مصفر استه.
وذكر السهيلي هنا أن هذه الكلمة لم يخترعها عتبة ولا هو أبو عذرتها، فقد قيلت لبعض الملوك وكان مترفها لا يغزو في الحروب يريدون صفرة الخلوق والطيب، وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة وتعيبه في الحرب أشد العيب. وأظن أن أبا جهل لما علم بسلامة العير استعمل الطيب والخلوق، فلذلك قال له عتبة هذه الكلمة وإنما أراد مصفر بدنه، ولكنه قصد المبالغة في الذم، فخص منه بالذكر ما يسوؤه أن يذكر هذا كلامه.
وذكر «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إليهم يقول: ارجعوا فإنه إن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفا فأقبلوه، فوالله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن مكننا الله منهم. ثم إن أبا جهل بعث إلى عامر بن الحضرمي أي أخو المقتول الذي هو عمرو، وقال هذا حليفك: يعني عتبة يريد أن يرجع الناس، وفي لفظ يخذل الناس عن القتال، وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها، ألا تستحي أن تقبل الدية من مال عتبة، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فاذكر مقتل أخيك، وكان عامر كأخيه المقتول من حلفاء عتبة» وسيأتي ذلك «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف أي كشف استه أي وحثا عليه التراب، ثم صرخ واعمراه واعمراه، فثارت النفوس» أي وعامر هذا لا يعرف له إسلام.
أي وفي الاستيعاب: عامر بن الحضرمي قتل يوم بدر كافرا، وأما أخوهما العلاء فمن فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أي وقد كان يقال إنه مجاب الدعوة وأنه خاض البحر هو وسريته التي كان أميرا عليها، وذلك في زمن خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، ويقال يبس حتى رئي الغبار من حوافر الخيل بكلمات قالها ودعا بها، وهي «يا عليّ يا حكيم، يا عليّ يا عظيم، أنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا» .
وقد وقع نظير ذلك: أي دخول البحر لأبي مسلم الخولاني التابعي، فإنه لما غزا الروم مع جيشه مروا بنهر عظيم بينهم وبين العدوّ، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر وإنا عبادك في سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم. ثم قال: اعبروا بسم الله فعبروا، فلم يبلغ الماء بطون الخيل.
وكذا وقع نظير ذلك لأبي عبيد الثقفي التابعي أمير الجيوش في أيام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فإن دجلة حالت بينه وبين العدو، فتلا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ كِتَٰباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] ثم سمى الله تعالى، واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه ولما نظر إليهم الأعاجم صاروا يقولون ديوانا ديوانا: أي مجانين ثم ولوا مدبرين، فقتلهم المسلمون وغنموا أموالهم» وله أخ يقال له ميمون وهو الذي حفر البئر التي بأعلى مكة التي يقال لها بئر ميمون ولم أقف على إسلامه.
وأما أختهم التي هي الصعبة وهي أم طلحة بن عبيد الله فصحابية رضي الله تعالى عنها كانت أولا تحت أبي سفيان بن حرب فطلقها، فخلف عليها عبيد الله، فولدت له طلحة الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» .
ثم إن الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخو أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وكان رجلا شرسا، سيىء الخلق، شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم «وجاء أنه أول من يعطى كتابه بشماله، كما أن أخاه أبا سلمة أول من يعطى كتابه بيمينه كما تقدم قال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه» أي أسرع قطعها «فطارت وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه أي وشرب منه وهدمه برجله الصحيحة يريد أن تبر يمينه» فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض، وأقبل نفر من قريش حتى وردوا ذلك الحوض منهم حكيم بن حزام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل كافرا إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر».
وعلى أن هذا الحوض كان وراء ظهره صلى الله عليه وسلم يكون مجيء هؤلاء للحوض من خلفه صلى الله عليه وسلم فليتأمل.
«ثم إن عتبة بن ربيعة التمس بيضة» أي خوذة «ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فاعتجر على رأسه ببرد له» أي تعمم به ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا، وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، ثلاثة إخوة أشقاء: هم معوذ ومعاذ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة وفي رواية «أكفاء كرام، إنما نريد قومنا» أي وفي لفظ «ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا» أي وفي لفظ «أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالرجوع فرجعوا إلى مصافهم، وقال «لهم خيرا» لأنه كره أن تكون الشوكة لغير بني عمه وقومه في أول قتال وعند ذلك نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وفي لفظ «قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا ببطلانهم ليطفئوا نور الله، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فلما قاموا ودنوا قالوا لهم، من أنتم، أي لأنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح» قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ: قالوا نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسنّ القوم، كان أسنّ من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما علي فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففاه» بالمهملة والمعجمة واحتملا صاحبهما فجراه إلى أصحابه، أي وأضجعوه إلى جانب موقفه صلى الله عليه وسلم، فأفرشه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه الشريفة فوضع خده عليها، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أنك شهيد، أي بعد أن قال له عبيدة: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فتوفي في الصفراء، ودفن بها عند مرجع المسلمين إلى المدينة» .
وقيل برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعليّ للوليد، واختلف عبيدة وشيبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه وقعت الضربة في ركبة عبيدة فأطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل، ثم مال حمزة وعليّ على شيبة فذففا عليه.
أي ويقال إن شيبة لما صرع من ضربة عبيدة قام، فقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين لم يصنع سيفهما شيئا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فأهوى عبيدة وهو صريع فضرب شيبة فقطع ساقة فذفف عليه حمزة.
وقيل بارز عليّ شيبة وبارز عبيدة الوليد. فقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي أنه قال «أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك» .
وقال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات ولكن المشهور أن عليا كرم الله وجهه إنما بارز الوليد، وهذا هو اللائق بالمقام، لأن عتبة وشيبة كانا شيخين كعبيدة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد فكانا شابين. وقتل حمزة طعيمة بن عدي أخا المطعم بن عدي وتقدم أن المطعم مات قبل هذه الغزاة بستة أشهر كافرا.
قيل وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام.
وفي الصحيحين عن أبي ذر «أنه كان يقسم قسما إن هذه الآية {هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ} [الحجّ: 19] نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبه يوم بدر» .
وفي البخاري عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة.
وقيل أول من يقف بين يدي الله للخصومة علي ومعاوية «ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض. وقد كان عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه بقدح في يده» أي بسهم لا نصل له ولا ريش «فمر بسواد» بتخفيف الواو لا بتشديدها كما زعمه ابن هشام بن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء «أي حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني» أي مكني من القود أي القصاص «من نفسك، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال «استقد» أي خذ القود أي القصاص «فاعتنقه فقبل بطنه الشريف، فقال: ما حملك على هذا يا سواد»، فقال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بخير .
وفيه أن هذا لا قود فيه ولا قصاص عندنا فليتأمل. وسواد هذا جعله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر عاملا على خيبر كما سيأتي.
أي وفي حديث حسن عن عبد الرحمن بن عوف قال صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال «معي معي» .
أقول: وقع له صلى الله عليه وسلم مع بعض الأنصار: أي وهو سواد بن عمرو مثل هذا الذي وقع له مع سواد بن غزية.
ففي أبي داود «أن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح، فبينما هو يحدّث القوم يضحكهم إذ طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود كان في يده» وفي لفظ «بعرجون» وفي آخر «بعصا، فقال أصبرني يا رسول الله» أي أقدني «ومكني من نفسك لأقتص منك، فقال «اصبر» أي اقتص «قال: إن عليك قميصا وليس عليّ قميص فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه» .
أي ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار كذا في الخصائص الصغرى. وفيها في محل آخر: ولا تأكل النار شيئا مس جسده، وكذلك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
ثم لما عدّل الصفوف قال لهم: «إن دنا القوم منكم فانضحوهم» أي ادفعوهم «عنكم بالنبل، واستبقوا نبلكم» أي لا ترموهم على بعد، فإن الرمي مع البعد غالبا يخطىء فيضيع النبل بلا فائدة، أي وقال لهم «لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه. منها: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عز وجل به الهم وينجي به من الغم» وهذا السياق يدل على تكرر هذه الخطبة: أي وقوعها قبل مجيئهم إلى محل القتال وبعد مجيئهم إليه.
ولا مانع منه.
«ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدوّ أي والجنائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن احتاج إليها ركبها.
ولما اصطف الناس للقتال رمى قطبة بن عامر حجرا بين الصفين وقال: لا أفر إلا إن فرّ هذا الحجر، وكان أول من خرج من المسلمين مهجع» بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة «مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه» ونقل بعض المشايخ أنه أول من يدعى من شهداء هذه الأمة، وأنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ «مهجع سيد الشهداء» أي من هذه الأمة، فلا ينافي ما جاء «أن سيد الشهداء يوم القيامة يحيى بن زكريا، وقائدهم إلى الجنة وذابح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشفرة في يده والناس ينظرون إليه» لكن جاء «سيد الشهداء هابيل» إلا أن تجعل الأولية إضافية، فيراد أول أولاد آدم لصلبه.
قيل وكون مهجع أول قتيل من المسلمين لا ينافي كون أول قتيل من المسلمين عمير بن الحمام، لأن ذاك أول قتيل من المهاجرين، وعمير أول قتيل من الأنصار، ولا ينافي ذلك أن أول قتيل من الأنصار حارثة بن قيس: أي قتل بسهم لم يدر راميه.
ففي البخاري عن حميد، قال: سمعت أنسا يقول «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، قتل بإرسال سهم إليه» ، أي فإنه أصابه سهم غرب: أي لا يعرف راميه، وهو يشرب من الحوض.
وفي كلام ابن إسحاق: أول من قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، ومن بعده حارثة بن سراقة. وقد جاءت أم حارثة وهي عمة أنس بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت «يا رسول الله حدّثني عن حارثة، فإن يكن في الجنة لم أبك عليه ولكن أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا» . وفي رواية إن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: «يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنات، وحارثة في الفردوس الأعلى»، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة وهذا قد يخالف قول ابن القيم كالزمخشري أن الجنة التي هي دار الثواب واحدة بالذات كثيرة بالأسماء والصفات، وهذا الاسم الذي هو الجنة يجمعها من أسمائها: جنة عدن، والفردوس، والمأوى، ودار السلام، ودار الخلد، ودار المقامة ودار النعيم، ومقعد صدق، وغير ذلك مما يزيد على عشرين اسما.
أي وعن الواقدي أنه بلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه وفي رواية: «أصبر وأحتسب، وإن كان ابني في النار بكيته» .
وفي رواية: ترى ما أصنع، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر جاءت أمه فقالت: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي فأردت أن أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هبلت» وفي رواية «ويحك أو هبلت، أجنة واحدة إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى» ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناوله أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت ثم أمرهما ينضحان في جيوبهما ففعلنا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وسلم وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر .
وقد كان حارثة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالشهادة، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحارثة يوما وقد استقبله «كيف أصبحت يا حارثة؟» قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: «انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة»، قال: يا رسول الله عزلت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: «أبصرت فالزم عبد: أي أنت عبد بذر الله الإيمان في قلبه» قال: فقلت ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال أبو جهل وأصحابه حين قتل عتبة وشيبة والوليد تصبرا، لنا العزى ولا عزى لكم، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» .
أقول: سيأتي وقوع مثل ما قال أبو جهل وأصحابه من أبي سفيان وأنه أجيب بمثل هذا الجواب في يوم أحد، والله أعلم.
«وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر» أي وهذا العريش هو المراد بالقبة في قول البخاري. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك» الحديث ويقول «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد» أي وفي مسلم «أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم: إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض» قال ذلك في هذا اليوم وفي يوم أحد.
قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى، والردّ على غلاة القدرية الذين يزعمون أن الشر غير مراد لله ولا مقدور له.
وذكر الإمام النووي أن كونه قال ما ذكر يوم بدر هو المشهور. وفي كتب التفسير والمغازي أنه يوم أحد، ولا معارضة بينهما، فقاله في اليومين هذا كلامه.
أي يجوز أن يكون قال ذلك في يوم بدر وفي يوم أحد. وفي رواية: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين أي لأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه آخر النبيين، فإذا هلك هو ومن معه لا يبقى من يتعبد بهذه الشريعة» . وفي لفظ آخر «اللهم لا تودّع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني» لأنه كان وعده النصر وفي رواية ما زال يدعو ربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك تناشد ربك فإنه سينجز لك ما وعدك» أي وفي رواية «والله لينصرنك الله، وليبيضن وجهك» أي وفي لفظ «قد ألححت على ربك» وكون وعد الله لا يتخلف لا ينافي الإلحاح في الدعاء لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وإنما قال أبو بكر ما ذكر لأنه شق عليه تعب النبي صلى الله عليه وسلم في إلحاحه بالدعاء، لأنه رضي الله تعالى عنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل لأن الصديق كان في تلك الساعة في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف، لأن الله يفعل ما يشاء، وكلا المقامين سواء في الفضل ذكره السهيلي.
وحين رأى المسلمون القتال قد نشب عجوا بالدعاء إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى عند ذلك {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] أي متتابعين. وقيل ردفا لكم ومددا لكم. وقيل وراء كل ملك ملك آخر.
ويوافق ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أمدّ الله نبيه يوم بدر بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة، فأمده الله تعالى بالملائكة ألف مع جبريل وألف مع ميكائيل؟» وجاء «أمدّه الله بثلاثة آلاف: ألف مع جبريل، وألف مع ميكائيل وألف مع إسرافيل» وهذا رواه البيهقي في الدلائل عن علي بإسناد فيه ضعف.
وقيل وعدهم الله تعالى أن يمدهم بألف ثم زيدوا في الوعد بألفين، ثم زيدوا في الوعد بألفين أيضا.
وقيل أمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ثم أكملهم بخمسة آلاف، قال الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُنزَلِينَ} [آل عمران: 124] أي ألف من جبريل، وألف مع ميكائيل، وألف مع إسرافيل {بَلَىۤ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] فإن ذلك كان يوم يدر على ما عليه الأكثر، وقيل يوم أحد كان الإمداد فيه بذلك: أي بثلاثة آلاف، ثم وقع الوعد بإكمالهم خمسة آلاف معلقا على شرط، وهو التقوى، والصبر عن حوز الغنائم فلم يصبروا ففات الإمداد بما زاد على الثلاثة آلاف.
وهذا الثاني هو الذي في النهر لأبي حيان، كان المدد يوم بدر بألف من الملائكة، ويوم أحد بثلاثة آلاف، ثم بخمسة لو صبروا عن أخذ الغنائم فلم يصبروا، فلم تنزل، هذا كلامه، وهو واضح لأن عدم صبرهم عن أخذ الغنائم وعدم امتثال أمره إنما كان في أحد لا في بدر.
وروى البيهقي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، أي نازلا من السماء فوقع في نفسي أن هذا شيء أيد به صلى الله عليه وسلم وهي الملائكة.
أي وروي بسند حسن عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود مبثوث حتى امتلأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم. والبجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وسيأتي وقوع مثل ذلك في حنين.
قال: وإنما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفعل منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وإلا فجبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط، وأهلك قوم صالح وثمود بصيحة واحدة، وليهابهم العدّ وبعد ذلك، حيث يعلمون أن الملائكة تقاتل معهم.
وبهذا يرد ما قيل لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما كانوا يكثرون السواد، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم.
وجاء «لولا أن الله حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات أهل الأرض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم» .
وجاء في حديث مرسل «ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة إلا ما رئي يوم بدر» أي وكذا سائر مواسم المغفرة والعتق من النار كأيام رمضان سيما ليلة القدر.
وجاء «إن إبليس جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني في جند من الشياطين» أي مشركي الجنّ في صور رجال من بني مدلج من بني كنانة معه رايته، وقال للمشركين {لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] اهـ أي كما قال لهم ذلك عند ابتداء خروجهم وقد خافوا من بني كنانة قوم سراقة، وقد تقدم أنه كان وحده. ولا منافاة لجواز أن يكون جنده لحقوا به بعد «قال: فلما رأى جبريل والملائكة» وفي رواية: وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين أي وهو الحارث بن هشام أخو أبي جهل انتزع يده من يد الرجل، ثم نكص على عقبيه وتبعه جنده، فقال له الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال {إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ}[الأنفال:48] وتشبث به الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وقال له: والله لا أرى إلا خفافيش يثرب، فضربه إبليس في صدره فسقط، وعند ذلك قال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة أي والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال، وصار يقول: لا تقتلوهم خذوهم باليد.
وذكر السهيلي أنه يروى أن من بقي من قريش وهرب إلى مكة وجد سراقة بمكة، فقالوا له: يا سراقة خرقت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما علمت بشيء من أمركم، وما شهدت، وما علمت، فما صدّقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله، فعلموا أنه إبليس هذا كلامه.
قال قتادة: صدق إبليس في قوله {إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ} [الأنفال:48] وكذب في قوله {إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ} [المائدة: 28] والله ما به مخافة من الله.
قال في ينبوع الحياة: ولا يعجبني هذا، فإن إبليس عارف بالله، ومن عرف الله خافه، أي وإن لم يكن إبليس خافه حتى الخوف.
قيل وإنما خاف أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود الذي قال فيه سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22] .
ورأيت عن سيدي علي الخواص أنه لا يلزم من قول إبليس ذلك أن يكون معتقدا له بالباطن كما هو شأن المنافقين.
ورأيت عن وهب أن اليوم المعلوم الذي أنظر فيه إبليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم. والمشهور أنه منظر إلى يوم القيامة، ويدل لذلك ما روي أن إبليس لما ضرب الحارث في صدره لم يزل ذاهبا حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال: يا رب موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص إليه القتل.
هذا، وفي زوائد الجامع الصغير عن مسلم أن سيدنا عيسى عليه السلام يقتل إبليس بيده بعد نزوله وفراغه من صلاته، ويرى المسلمين دمه في حربته.
وفي كلام بعضهم: ولعل المراد بيوم القيامة الذي أنظر إليه إبليس ليس نفخة البعث بل نفخة الصعق التي بها يكون موت من لم يمت من أهل السموات وأهل الأرض، قيل إلا حملة العرش وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهؤلاء ممن استثنى الله تعالى في قوله: {وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ} [الزمر:68] ثم يموت جبريل وميكائيل ثم حملة العرش ثم إسرافيل ثم ملك الموت فهو آخر من يموت.
وفي كلام بعضهم: الصعق أعم من الموت، أي فالمراد ما يشمل الغشي وذهاب الشعور، أي فمن مات قبل ذلك وصار حيا في البرزخ كالأنبياء والشهداء لا يموت، وإنما يحصل له غشي وذهاب شعور، ويكون المستثنى من القسم الأول من تقدم ذكره من الملائكة، ومن القسم الثاني موسى صلوات الله وسلامه عليه، فإنه جوزي بذلك: أي بعدم الغشي وذهاب الشعور بما حصل له من ذلك بسبب صعقة الطور.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم بذلك بل تردد في ذلك حيث قال «فأكون أوّل من رفع رأسه» أي أفاق من الغشي «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوام العرش فلا أدري أرفع رأسه» أي أفاق «من الغشي قبلي، أو كان ممن استثنى الله فلم يصعق» . وفي رواية «فإذا موسى متعلق بقائمة العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟» ولعل بعض الرواة ضم هذا الخبر لخبر الشيخين «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة،، فإذا موسى الخ» وفيه نظر لأن المراد بيوم القيامة عند نفخة البعث ونفخة الصعق سابقة عليها كما علمت.
ويلزم على هذا التردد مع كون الخبرين خبرا واحدا إشكال جزمه صلى الله عليه وسلم بأنه أوّل من تنشق عنه الأرض.
وأجاب شيخ الإسلام بما يفيد أنهما خبران لا خبر واحد حيث قال: لتردد كان قبل أن يعلم أنه أوّل من تنشق عنه الأرض، أي فهما حديثان لا حديث واحد.
فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم «لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى» الحديث يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم ليس أفضل من موسى.
قلنا هو كقوله صلى الله عليه وسلم «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك منه صلى الله عليه وسلم تواضع؛ أو كان قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق أجمعين. وقيل الوقت المعلوم خروج الدابة، وإذا خرجت قتلته بوطئها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبليس إذا مرّت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وهذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي تفزع بها أهل السموات والأرض فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج، وتسير الجبال كسير السحاب، وتنشق السماء، وتكسف الشمس، ويخسف القمر وهي المعنية بقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَة} * {تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ} [النازعات:6-7] وبقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} * {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 1-2] الآية، وقال تعالى :{فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ}[النمل: 87] قيل وهم الشهداء.
فقد جاء «إن الأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا: يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى في قوله {إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ} [النّمل: 87] فقال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه» .
واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذكر الشهداء وسكوته عن الأنبياء لما هو معلوم من الأصل أن مقام الأنبياء أرقى من مقام الشهداء، وإن كان قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. ومن ثم قيل: الرزق خاص بالشهداء، ومن ثم اختصوا بحرمة الصلاة عليهم.
ويقال إنه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجنّ سبعون، أي لكن لم يثبت أنهم قاتلوا فكانوا مجرد مدد.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خفق خفقة أي مالت رأسه من النعاس ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه» وفي لفظ «آخذ برأس فرسه يقوده على ثناياه النقع» أي الغبار «وهو يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته» .
أي وفي رواية «أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد خضب الغبار ثنيته عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى أرضيت» .
أي ولا مانع من تعدد رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام، وأن هذه بعد تلك، وأن المرة الأولى مساقها يقتضي أنها كانت مناما، وأن الغبار في المرة الثانية كان أكثر منه في المرة الأولى بحيث علا على ثناياه.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش إلى الناس فحرضهم وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» فقال عمير بن الحمام بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه «ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل» أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين»، فقال عمير بن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم تبخبخ» أي مم تتعجب «فقال: رجاء أن أكون من أهلها» أي وفي رواية «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فأخذ تمرات فجعل يلوكهن ثم قال. والله إن بقيت حتى ألوكهن» وفي لفظ إن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فنبذهن وقاتل أي وهو يقول:
ركضنا إلى الله بغير زاد *** إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد *** وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبرد والرشاد
ولا زال يقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه وسيأتي في غزاة أحد مثل هذا لبعض الصحابة أبهمه جابر رضي الله تعالى عنه في ألقاء التمرات من يده ومقاتلته حتى قتل.
فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: «في الجنة»، قال: فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وسيأتي ما في ذلك.
وقال عوف بن الحارث ابن عفراء «يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده» أي ما يرضيه غاية الرضا «قال: غمسه يده في العدو حاسرا» أي لا درع له ولا مغفر «فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله تعالى عنه» فالضحك في حق الله كناية عن غاية رضاه.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن الغمر «اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه» أي ألقه لقاء كلقاء المتحابين المظهرين لما في أنفسهما من غاية الرضا والمحبة فهي كلمة وجيزة تتضمن الرضا مع المحبة وإظهار البشر، فهي من جوامع كلمه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم.
وقاتل في ذلك اليوم معبد بن وهب زوج هريرة بنت زمعة أخت سودة بنت زمعة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بسيفين «ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء» بالمد «أمره بذلك جبريل عليه الصلاة والسلام» كما جاء في بعض الروايات: أي قال خذ قبضة من تراب وارمهم بها «فتناولها صلى الله عليه وسلم» .
وفي رواية أنه قال لعلي كرم الله وجهه «ناولني فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت الوجوه» أي قبحت الوجوه أي وزاد بعضهم «اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم، ثم نفخهم» أي ضربهم بها «فلم يبق من المشركين رجل إلا ملأت عينه» وفي رواية «وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه» أي فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
هذا، والمحفوظ المشهور أن ذلك إنما كان في حنين، لكن يوافق الأول ما نقله بعضهم أن قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال:17] نزل يوم بدر، هكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد وقتادة، قال هذا البعض، وقد فعل عليه الصلاة والسلام مثل ذلك في غزوة أحد هذا كلامه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم؛ وحصاة بين أيديهم، فقال: «شاهت الوجوه؛ فانهزم القوم» وهذه الحصيات الثلاث قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فأخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين، أي يمنة ويسرة وبين أيديهم وحين رمى صلى الله عليه وسلم بذلك قال لأصحابه: شدوا فكانت الهزيمة، وأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال:17] .
وقد يقال: لا مانع من اجتماع الأمرين، وكل منهما مراد من الآية. قال، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالا شديدا. وكذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء قاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين.
أقول: كذا نقل بعضهم عن الأموي، ويتأمل ذلك، فإني لم أقف عليه في كلام أحد غيره، وكأنّ قائل ذلك فهم مباشرته صلى الله عليه وسلم للقتال مما تقدم عن علي رضي الله تعالى عنه «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا» ولا دلالة في ذلك، والله أعلم.
نعم ذكر ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم مصلتا السيف يتلو هذه الآية {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} [القمر:45] وهذه الآية ذكر في الإتقان أنها مما تأخر حكمه عن نزوله، فإنها نزلت بمكة، وكان ذلك يوم بدر.
فعن عمر رضي الله تعالى عنه: قلت أيّ جمع، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا السيف يقول {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} [القمر:45] فكانت ليوم بدر، أخرجه الطبراني في الأوسط، ولو قاتل صلى الله عليه وسلم لجرح أو قتل من قاتله، ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله.
وسيأتي في أحد عن النور «أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل بيده الشريفة قط أحد إلا أبي بن خلف لا قبله ولا بعده» وإلى رميه بالحصا أشار صاحب الهمزية بقوله:
ورمى بالحصا فأقصد جيشا *** ما العصا عنده وما الإلقاء
أي ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصا جيشا فأصابهم كلهم بها، أي شيء إلقاء عصا موسى عليه الصلاة والسلام على حبال سحرة فرعون وعصيهم عند ذلك الحصى المرميّ به لا يقاربه ذلك الإلقاء ولا يدانيه، لأن ذاك وجد له نظير وهو إلقاء السحرة الحبال والعصي، والرمي بالحصا لم يوجد له نظير.
أي وقال صلى الله عليه وسلم حينئذ «من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له» كما في الإمتاع فلما وضع القوم أيديهم يأسرون نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم»، قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أي الإكثار منه والمبالغة فيه أحب إليّ من استبقاء الرجال. وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه «إنكم قد عرفتم أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا إكراها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله» أي بل يأسره وذكر أبا البختري بن هشام، أي فقال «من لقي أبا البختري فلا يقتله» أي لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونص على العباس بن عبد المطلب، فقال أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه: أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس؟ أي لأنه تقدم أن أباه عتبة وعمه شيبة وأخاه الوليد أول من قتل من الكفار مبارزة وعشيرته وهي بنو عبد شمس قد قتل منها جماعة، لئن لقيته يعني العباس لألجمنه السيف هو بالمهملة والمعجمة، فبلغت أي تلك المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟» فقال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص: يا رسول الله دعني أضرب عنقه يعني أبا حذيفة بالسيف، فو الله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا في جملة من قتل فيها من الصحابة وهم أربعمائة وخمسون، وقيل ستمائة رضي الله تعالى عنهم.
ولقي المجذر رضي الله تعالى عنه أبا البختري فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ أي ورفيقي وكان معه زميل له خرج معه من مكة أي قال له جنادة بن مليحة، فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي، أي يقتل حرصا على الحياة، فقتله المجذر أي بعد أن قاتله، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته» .
أقول: لعل المجذر فهم أن ما عدا من نهى عن قتله يقتل وإن استأسر حتى قال ما نحن بتاركي زميلك، أي ولا بد من قتله وإن استأسر، فكان ذلك حاملا لأبي البختري على أن لا يستأسر ويترك زميله فيقتل خوف السبة والله أعلم.
أي وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وكان من أشجع قريش وأشدهم رماية، وكان أسن ولد أبيه وكان صالحا وفيه دعابة، فلما أسلم قال لأبيه لقد أهدفت لي أي ارتفعت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك أي أعرضت عنك، فقال أبو بكر: لو هدفت لي لم أصدف أي أعرض عنك، فالمراد بكونه أهدف له ارتفع وهو لا يشعر بذلك، فلا ينافي ما قيل إن عبد الرحمن بن أبي بكر يوم بدر دعا إلى البراز، فقام إليه أبوه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما علمت أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» .
أي وفي بعض السير أن الصديق قال لولده عبد الرحمن يوم بدر وهو مع المشركين لم يسلم: أين مالي يا خبيث؟ فقال له عبد الرحمن كلاما معناه: لم يبق إلا عدة الحرب التي هي السلاح وفرس سريعة الجري وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال، أي وهذا يدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه ترك مالا عند أهله لما هاجر، وهو قد يخالف ما تقدم عن ابنته أسماء من قولها: إن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم إلى الغار، فدخل علينا جدي أبو قحافة الحديث، ولعل ماله الذي عناه الصديق ما كان من نحو أمتعة وبعض مواشي لا النقد فلا مخالفة.
ويروى عن ابن مسعود أن الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «متعنا بنفسك، أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري» فأنزل الله تعالى:{يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] ولا مانع من التعدد حتى في نزول الآية، لكن يبعد نزولها في أحد أيضا كون أبي بكر يدعو للمبارزة بعد نزولها أولا في بدر.
ثم رأيت ابن ظفر قال في الينبوع: إنه لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة، وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسير، فأنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] فالآية مدنية لا مكية وبه يرد ما ذكر أن سببها أن أبا بكر سمع والده أبا قحافة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بشر فلطمه لطمة سقط منها، فأخبر أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له لا تعد لمثلها، فقال: والله لو حضرني السيف لقتلته به.
وفي كلام الزمخشري أن عبد الرحمن أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة ومات سنة ثلاث وخمسين بمحل بينه وبين مكة ستة أميال، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة، وقدمت أخته عائشة رضي الله تعالى عنها من المدينة فأتت قبره فصلت عليه.
أي وفي هذا اليوم الذي هو يوم بدر قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا، فإن أباه قصده ليقتله فولى عنه أبو عبيدة لينكفّ عنه فلم ينكف عنه، فرجع عليه وقتله وأنزل الله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] الآية.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: لقد لقيت أمية بن خلف وكان صديقا لي في الجاهلية ومعه: أي مع أمية ابنه عليّ أي آخذ بيده وكان عليّ ممن أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر، ففتنهم أقاربهم عن الإسلام ورجعوا عنه وماتوا على كفرهم، وأنزل الله تعالى فيهم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ}[النّساء:97] الآية، أي وهم الحارث بن ربيعة، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد، والعاص بن منبه، وعلي بن أمية المذكور.
وفي السيرة الهشامية: وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حبستهم آباؤهم وعشريتهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا: أي رجعوا عن الإسلام، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا جميعا، وسياقه كما ترى يقتضى أنهم لم يرجعوا إلى الكفر إلا بعد الهجرة، وسياق ما قبله ربما يقتضي أنهم رجعوا إلى الكفر قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرحمن بن عوف: وكان معي أدراع استلبتها أي فأنا أحملها، فلما رآني أمية ناداني باسمي الأوّل يا عبد عمرو فلم أجبه، لأنه كان قال لي لما سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، أترغب عن اسم سماك به أبوك؟ فقلت: نعم. قال: الرحمن لا أعرفه، ولكني أسميك بعبد الإله كما تقدم فلما ناداني بعبد الإله، قلت نعم.
أي وظاهر السياق يقتضي أنه عرف أنه المراد بذلك، وأنه ترك إجابته قصدا، حيث جعله عبدا للصنم. ويحتمل وهو الأقرب أنه لم يجبه لعدم معرفته أنه المراد بذلك الاسم، لكونه هجر بالمرة، فلما ناداه أمية بما ذكر عرفه وعرف أنه المراد بذلك لما ذكر وعند ذلك قال له أمية: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت نعم، فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه عليّ وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، ثم قال لي: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ أي كانت في درعه بحيال صدره. قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وقيل قائل ذلك ابنه ثم خرجت أمشي بهما، فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام أي كما تقدم، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت: أي بلال، أفبأسيري؟ أي تفعل ذلك بهما، قال: لا نجوت إن نجا وكررت وكرر ذلك، ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا وكرر ذلك، فأحاطوا بنا فأصلت رجل السيف أي سله من غمده وذلك الرجل هو بلال فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما .
أقول: الذي في البخاري عن عبد الرحمن بن عوف «أن بلالا لما استصرخ الأنصار، قال: خشيت أن يلحقونا فخلفت لهم ابنه لأشغلهم به فقتلوه ثم أتونا حتى لحقوا بنا، وكان أمية رجلا ثقيلا» أي كما تقدم «فقلت ابرك، فألقيت نفسي عليه لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، فأصاب أحدهم رجلي بسيفه» أي ظهر قدمه.
وفي كلام ابن عبد البر. قال ابن هشام: قتل أمية بن خلف معاذ ابن عفراء وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف اشتركوا فيه.
قال ابن إسحاق: وابنه علي قتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف، هذا شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوّج بنت خارجة بعد أن توفي عنها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ وهو جد حبيب شيخ مالك رضي الله تعالى عنه والله أعلم.
وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري أي وفي رواية: لما كان يوم بدر حصل لي درعان ولقيني أمية، فقال: خذني وابني فأنا خير لك من الدرعين، فألقيت الدرعين فأخذتهما، فلما قتلا صار يقول: يرحم الله بلالا فلا درعيّ ولا أسيريّ، أي لأنه صلى الله عليه وسلم جعل في هذه الغزاة أن كل من أسر أسيرا فهو له كما تقدم وسيأتي: أي فله فداؤه، وهو يخالف ما عليه أئمتنا أن مال فداء الأسرى ورقابهم إذا استرقوا كسائر أموال الغنيمة، إلا أن يقال ذاك كان في صدر الإسلام ترغيبا في الجهاد، ثم استقر الأمر على ما قاله فقهاؤنا، أي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من له علم بنوفل بن خويلد؟» فقال علي كرّم الله وجهه: أنا قتلته، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه» أي فإنه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع: يا معاشر قريش اليوم يوم الرفعة والعلاء، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» وفي كلام بعضهم ما يفيد أن قتل علي كرّم الله وجهه له كان بعد أن أسره جبار بن صخر، فقد جاء أن جبارا بينما هو يسوقه إذ رأى عليا، فقال: يا أخا الأنصار من هذا واللات والعزى؟ إنه ليريدني، فقال: هذا علي بن أبي طالب، فعمد له علي كرم الله وجهه فقتله، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال: «إن خفي عليكم» أي بأن قطع رأسه وأزيل عن جثته «انظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مائدة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أسن منه: أي أكبر من بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش» أي خدش «على أحديهما جحشا لم يزل أثره به» .
أي ولعل هذا هو محمل قول بعضهم إنه صلى الله عليه وسلم صارع أبا جهل، فإنه لم يصح أنه صارعه، ولعل هذا الأثر هو الذي عناه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بقوله: لما قتلت أبا جهل لعنه الله، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قتلت أبا جهل، فقال لي عقيل وهو أسير عند النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت ما قتلته؛ فقلت له: بل أنت الكذاب الآثم يا عدوّ الله، قد والله قتلته، قال: فما علامته؟ قلت: إن بفخذة حلقة كحلقة الجمل المحلق، قال صدقت، وكان أبو جهل، قد استفتح أي طلب الحكم على نفسه، لأنه لما دنا القوم بعضهم من بعض قال: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأخنه: أي أهلكه الغداة، أي زاد بعضهم: اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك، وفي لفظ: اللهم أولانا بالحق فانصره اليوم، فأنزل الله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ} [الأنفال: 19] .
أقول: كون أبي جهل طلب الحكم على نفسه واضح لو سكت عن قوله وأتانا بما لا نعرف، إذ هو نص فيه صلى الله عليه وسلم.
وفي تفسير سهل أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين عندك وارضاهما لك، أي وفي رواية اللهم انصر خير الدينين، اللهم ديننا القديم ودين محمد الحادث، فنزل {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} [الأنفال:19] يعني تستنصروا {فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ} [الأنفال: 19] .
وفي أسباب النزول للواحدي أن المشركين حين أرادوا الخروج من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدي الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى الآية.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين» والله أعلم.
قال معاذ بن عمرو بن الجموح: رأيت أبا جهل وقد أحاطوا به وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها عمدت نحوه وحملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه: أي أسرعت قطعه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى، والمرضخة: بالخاء المعجمة وبالمهملة. وقيل الرضخ بالمعجمة: كسر الرطب، وبالمهملة كسر اليابس، وضربني ابنه أي عكرمة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جسمي، وأجهضني القتال: أي شغلني عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأستحسها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها. وفي رواية «أنه جاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليها، أي ولصقها فلصقت» وإلى ذلك يشير الإمام السبكي في تائيته، لكن قال ابن عفراء: ولا منافاة لجواز أن يكون معاذ بن عمرو بن الجموح ابن عفراء، وسيأتي ما يدل على ذلك بقوله:
وبانت بها كف ابن عفراء فاشتكى *** إليك فعادت بعد أحسن عودة
إلا أن قوله بها يرجع لغزاة أحد، وقد علمت أن ذلك إنما هو ببدر، واحتمال تكرر ذلك في أحد وفي بدر لشخص واحد بعيد، إلا أن يثبت النقل بذلك، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة ابن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، أي وما جاء في بعض الروايات ضربه حتى برد بفتح الموحدة والراء والدال المهملة: أي مات لا ينافيه؛ لأنه يجوز أن يكون المراد صار في حالة من مات بأن صار إلى حركة المذبوح، ومن ثم جاء في بعض الروايات حتى برك بالكاف بدل الدال أي سقط إلى الأرض: أي إلى جنبه، وإلا فقطع قدمه مع نصف ساقه لا يفضي غالبا أن يسقط إلى جنبه، ومعوذ هذا لا زال يقاتل حتى قتل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ورأيت أبا جهل بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت له هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبم أخزاني؟ أعار عليّ رجل قتلتموه: أي ليس بعار على رجل قتلتموه. وفي رواية:
أعمد من رجل قتلتموه، أي أنا سيد رجل قتلتموه، لأن عميد القوم سيدهم: أي فلا عار عليّ في قتلكم إياي.
وجاء أنه قال: لو غير أكار قتلني، والأكار: الزراع يعني الأنصار لأنهم كانوا أصحاب زرع: أي لو كان الذي قتلني غير فلاح لكان أحب إليّ وأعظم لشأني، ولم يكن عليّ في ذلك نقص، لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، أخبرني لمن الديرة؟ أي النصرة والظفر اليوم. زاد في رواية، لنا أو علينا؟ قلت لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحاح في دبر بالباء الموحدة، والدبرة: الهزيمة في القتال.
ومما يدل للأول ما تقدم من قول أبي جهل: أخبرني على من كانت الدبرة لنا أو علينا؟ وفي مغازي ابن عقبة التي قال فيها مالك رضي الله تعالى عنه مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى والتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال: «اللهم لا تعجزني فرعون هذه الأمة»، فسعى له الرجال حتى وجده ابن مسعود الحديث. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟» فانطلق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فوجده قد ضربه ابن عفراء حتى برد ولمسلم «برك» أي وهو المراد من الأول كما تقدم، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل الحديث، وأخذه بلحيته لا ينافي وضع رجله على رقبته، لجواز أن يكون جمع بينهما. قال ابن مسعود: ثم احتززت رأسه.
وفي رواية رويت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال لما ضربته بسيفي لم يغن شيئا فبصق في وجهي وقال خذ سيفي فاحتزّ به رأسي من عرشي، ليكون أنهى للرقبة، والعرش: عرق في أصل الرقبة، ففعلت كذلك، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الذي لا إله غيره، أي ورددها ثلاثا» وروى الطبراني «الله قتلت أبا جهل» بنصب الجلالة، وهو بهذا اللفظ عندنا كناية يمين، ومثل النصب الرفع والجر قال: قلت نعم والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى» أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم سجد خمس سجدات شكرا، ويقال إنه قال «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» وكون أبي جهل بصق في وجه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وقال له خذ سيفي الخ، ينافي كونه وصل إلى حركة المذبوح، إلا أن يقال يجوز أن يكون في أول الأمر كان كذلك ثم تراجعت إليه روحه حتى قدر على ما ذكر فليتأمل، مع ما يأتي.
قيل وبهذا أي بحمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يردّ على الزهري قوله: لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط ولا يوم بدر وحمل رأس لأبي بكر رضي الله عنه فأنكره. ويجاب بأن البيهقي رحمه الله قال: ما روي من حمل رأس أبي جهل قد تكلم في ثبوته وبتقدير صحته فهو من محل إلى محل لا من بلد إلى بلد، أي من بلد الكفر إلى دار الإسلام: أي الذي أنكره أبو بكر رضي الله عنه، فإنه أنكر نقل الرأس من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وقد جوّزه من أئمتنا الماوردي والغزالي إذا كان في ذلك مكايدة للكفار. وفي النور: تحصلنا على جماعة حملت رؤوسهم إليه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل، وسفيان بن خالد، وكعب بن الأشرف، ومرحب اليهودي، والأسود العنسي على ما روي، وعصماء بنت مروان، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة: أي ورأس عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشق شفته السفلى يوم أحد كما سيأتي.
وفي وضع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رجله على عنق أبي جهل وقطع رأسه تصديق لتعبيره للرؤيا التي رآها لأبي جهل وقال له: إن صدقت رؤياي لأطأنّ رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة.
وفي رواية أن ابن مسعود رضي الله عنه وجده مقنعا في الحديد وهو منكب لا يتحرك فرفع سابغة البيضة: أي الخودة عن قفاه لأن سابغة البيضة ما يغطى بها العنق، ومن ثم يقال بيضة لها سابغ، فضربه فوقع رأسه بين يديه.
وعن ابن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد ومعي سيف رديء فجعلت أنقف رأسه وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة؟ ألست برويعينا بمكة؟ فقتله ثم سلبه، فلما نظر إليه إذ هو ليس به جراح، وإنما هي أحدار: أي أورام في عنقه ويديه وكتفيه كهيئة آثار السياط: أي آثار سود كسمة النار: أي ليس به جراح من جراح الآدميين داخل بدنه، فلا ينافي ما تقدم من قطع ابن الجموح لرجله.
ويجوز أن يكون ضرب ابن عفراء له حتى أثبته لم ينشأ عنه جراحة داخل بدنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ذاك ضرب الملائكة، أي فإن الملائكة عليهم السلام كانت لا تعلم كيف قتل الآدميين فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله تعالى: {فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال:12] أي مفصل، فكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود كسمه النار. ولا ينافي ذلك وصفه بالخضرة في بعض الروايات، لأن الأخضر لشدة خضرته ربما قيل فيه أسود، وتلك الآثار في الأعناق، والبنان الظاهر أن ذلك يكون موجودا حتى بعد مفارقة الرأس أو اليد ليستدل به على أن مفارقة الرأس أو اليد من فعل الملائكة، وينبغي أن يكون هذا: أي ضربهم فوق الأعناق والبنان أكثر أحوالهم، فلا ينافي وجود أثر ضربهم في الكتفين كما تقدم وفي الوجه والأنف.
فعن بعض الصحابة رضي الله عنهم: كنا ننظر إلى المشرك أمامنا مستلقيا فننظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق في وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع، وفسر بعضهم الأعناق بالرؤوس، وهو غير مناسب لما ذكر هنا.
وروي عن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه قال «لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك» أي يرفعه عليه «فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» ويمكن الجمع بين هذا وما قبله بأن ضرب الملائكة في الأعناق تارة يفصلها وتارة لا، وفي الحالتين يرى أثر ذلك أسود في العنق ليستدل به على أنه من فعل الملائكة كما تقدم.
وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد قطعت رجله وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، قال: هل هو إلا رجل قتله قومه، قال: فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده، فبدر» أي سقط سيفه «فأخذته فضربته حتى قتلته، ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أقلّ من الأرض» أي أحمل من شدة الفرح «فأخبرته، فقال: «الله الذي لا إله إلا هو» وفي لفظ تقدم «لا إله غيره رددها ثلاثا» وفي رواية عن ابن مسعود فاستحلفني صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ثم قال: «الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله ثلاث مرات وخر ساجدا: أي خمس سجدات شكرا» كما تقدم.
وفي رواية: صلى ركعتين. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: «الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة» زاد في لفظ «ورأس قاعدة الكفر، ونفلني سيفه أي وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة» ومع قصره كان أقصر من سيف ابن مسعود فلا منافاة.
أقول: يجوز أن يكون المضيّ إليه بعد إلقاء الرأس بين يديه صلى الله عليه وسلم استعظاما لقتله، أي وأن ابن مسعود في هذه الرواية سكت عن قطع رأسه والمجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا مخالفة؛ وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد أخذ بمجامع ثوبه «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» أي وعيدا على وعيد فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها، فأنزل الله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ} * {وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ} * {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ} [القيامة:31- 33] وقيل نزلت كالتي قبلها في عدي بن ربيعة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر القيامة فأخبره به، فقال: لو عاينت هذا اليوم لم أصدقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فأنزل الله تعالى: {أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] الآيات، والله أعلم.
وعن قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قتله» بكسر القاف الهيئة. قتلته الملائكة، وفي لفظ قتله ابن عفراء وقتلته الملائكة، وقد ذففه: أي أجهز عليه ابن مسعود وابن عفراء هذا يجوز أن يكون هو معاذ بن عمرو بن الجموح. ويجوز أن يكون أخاه معاذ بن الحارث، وكونه قتله لأنه أزال منعته كما تقدم.
وفي مسلم عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، نظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت نعم، وما حاجتك به؟ قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سواده: أي شخص شخصه حتى يموت الأعجل منا: أي الأقرب أجلا، فغمزني الآخر فقال مثلها، فعجبت لذلك، أي لحرص كل منهما على ذلك وإخفائه عن صاحبه ليكون المختص به فلم أنشب: أي ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس: أي بالزاي يتحول من محل إلى محل آخر، فقلت لهما ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه أي أشرفا به على القتل فصيراه إلى حركة مذبوح، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما أنا قتلته، قال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قال لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيفين، فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه: أي ما عدا سيفه لهما، فلا ينافي ما سبق من اعطائه لابن مسعود رضي الله عنه، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء بن الحارث، فهما: أي معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن الحارث ابنا عفراء، غاية الأمر أن الأول اشتهر بأبيه عمرو بن الجموح، والثاني اشتهر بأمه التي هي عفراء.
وقول الحافظ ابن حجر: إن معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء يجوز أن يكون مستنده في ذلك مقابلة ابن الجموح بابن عفراء في كلامهم المقتضي ذلك، لأن يكون ابن الجموح ليس ابن عفراء.
ولا يشكل على ذلك ما في النور نقلا عن الإمام النووي، أن عمرو بن الجموح وابني عفراء: أي معاذ ومعوذ اشتركوا في قتل أبي جهل، لأن معاذا الثاني ابن الحارث، فكل من عمرو بن الجموح والحارث تزوج عفراء، وكل سمى ولده منها بمعاذ. ويدل لذلك ما يأتي عن الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «رحم الله ابني عفراء اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة»، ولما قيل له: يا رسول الله من قتله معهما، قال «الملائكة، ولم يقل عمرو بن الجموح» لكن رأيت بعضهم ذكر أن عفراء شهد لها بدرا سبع بنين ثلاثة من الحارث بن رفاعة، وهم معوذ ومعاذ، وعامر، وأربعة من بكر بن عبد ياليل، وهم خالد وأساس وعاقل وعامر، واستشهد منهم ببدر معاذ ومعوذ وعاقل هذا كلامه، وذكر عامر في الأول تقدم بدله ذكر عوف وهو واضح، فقد تقدم أن عوف بن الحارث ابن عفراء قال يا رسول الله ما يضحك الرب الخ ولم يذكر هذا البعض أن من أولادها معاذ بن عمرو بن الجموح، وهو يؤيد ما تقدم عن الحافظ، وعن الإمام النووي، فعليك بالتأمل. وقيل قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
أقول: أي لكونه هو الذي أزال منعته فاستحق سلبه، ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لهما «كلاكما قتله» لجواز أن يكون أتى بذلك ملاطفة للثاني وترغيبا له في الجهاد، لأن له مشاركة ما في قتله، لأنه زاد في إثخانه إلى أن صيره إلى آخر رمق.
ويرده كونه صلى الله عليه وسلم أشركهما في سلبه، ومن ثم قال فقهاؤنا: يعطي السلب لمن أثخن دون من قتل: أي بعد ذلك، فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلب أبي جهل لمثخنيه ابني عفراء دون قاتله ابن مسعود، لكن هذا القيل قال به بعض آخر من فقهائنا، وهو الموافق لما في البخاري في كتاب فرض الخمس: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء قتلا أبا جهل ثم تنازعا فيه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السيفين فرأى فيهما أثر الدم فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح، قال الأصحاب لأنه أثخنه والآخر جرحه بعده، وقوله: كلاكما قتله تطييب لقلب الآخر هذا كلامه فليتأمل، فإن الذي أظنه أن كونه رأى أثر الدم في سيفيهما خلط من الراوي لأن ذلك كان في قتل ابن الأشرف، ويؤيد الخلط ما تقدم عن ابن مسعود أنه لم ير فيه أثر جراح داخل بدنه.
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر»، فقيل: يا رسول الله من قتله معهما؟ قال: «الملائكة، وذففه ابن مسعود» وهذا السؤال يقتضي أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «إنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة» أن غيرهما شاركهما في ذلك، فليتأمل.
وفي شرح الروض وهو من أجل كتبنا أن عبد الله بن رواحة وابني عفراء تقاتلا مع أبي جهل مبارزة وأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وأقره؛ وجعلوا ذلك دليلا على إباحة مبارزة القوي لكافر لم يطلب المبارزة. أي وأما ما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم لحمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة فذاك لكافر طلب المبارزة فقد تقدم أن عتبة خرج بين أخيه شيبة وولده الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، وأنه خرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة إخوة أشقاء وهم: معاذ ومعوذّ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة، فلم يرضوا بمبارزتهم، فعند ذلك أمر صلى الله عليه وسلم من ذكر بمبارزتهم، وعندي أن ما ذكره في شرح الروض من مبارزة عبد الله بن رواحة وابني عفراء لأبي جهل، ذكر أبي جهل اشتباه، وإنما هو لهؤلاء الثلاثة ولم تقع منهم مقاتلة، وكيف يبارز ثلاثة واحدا؟ فليتأمل.
وجاء في الحديث «إن الله قتل فرعون هذه الأمة أبا جهل، فالحمد لله الذي صدق وعده، ونصر دينه» والله أعلم.
وكان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، أي إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء، أي وقيل حمراء.
قال بعضهم: وكان بعضهم بعمائم خضر وبعضهم بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم حمر أي وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، فلا منافاة.
وذكر أن عمامة جبريل عليه السلام يوم أغرق فرعون كانت سوداء، قال وفي رواية «سيماهم عمائم سود» وعند ابن مسعود رضي الله عنه «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر» اهـ أي وبيض وسود.
وفي كلام بعضهم: نزلت الملائكة يوم بدر بعمائم صفر، ورواية بيض وسود ضعيفة.
وفي كلام ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل، فإنه كان عليه عمامة صفراء من نور» أي وكانوا يوم أحد بعمائم حمر ويوم حنين كذلك» .
في الجامع الصغير «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر» وما ذكر لا ينافي ما قيل سيماهم ببدر عمائم صفر قد أرخوها بين أكتافهم. وما جاء كان على الزبير رضي الله عنه ببدر عمامة صفراء معتجرا بها، فقال صلى الله عليه وسلم: «نزلت الملائكة عليّ بسيماء أبي عبد الله» يعني الزبير رضي الله عنه، لجواز أن يكون أكثرهم كان بعمائم صفر.
وقد ذكر أن الزبير رضي الله عنه قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح في ظهره وعاتقه.
وقد سئل الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] ما السمة التي كانت عليهم؟ فأجاب بأن ابن أبي حاتم ذكر في تفسيره بأسانيد عن علي كرم الله وجهه أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها.
وعن مكحول وغيره أنها العمائم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، وفي سنده رجل ضعيف. وعنه أيضا عمائم سود، وفي سنده متروك، ثم قال: ورواية البيض والسود ضعيفة هذا كلامه، أي وعلى تقدير صحتها يجاب بما قدمنا. وكان شعار الأنصار: أي علامتهم التي يتعارفون بها في ذلك إذا جاء الليل أو وقع اختلاط «أحد أحد» أي وشعار المهاجرين يومئذ «يا بني عبد الرحمن» .
أي وعن زيد بن علي قال: كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم أي المهاجرين أو هو حتى لا يشتبه بغيره «يا منصور أمت» ويقال «أحد أحد» وشعار الخزرج «يا بني عبد الله» وشعار الأوس «يا بني عبيد الله» .
وعن ابن سعد يقال كان شعار الجميع يومئذ «يا منصور أمت» .
أي وقد يقال: لا منافاة بين هذه الرواية وما قبلها من الروايات، لأن المراد بالجميع المجموع، لكن يحتاج إلى الجمع بين تلك الروايات السابقة على تقدير صحتها وكانت خيل الملائكة بلقا.
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان سيما الملائكة: أي سيما خيلهم يوم بدر الصوف الأبيض، أي وفي لفظ: بالعهن الأحمر في نواصي الخيل وأذنابها.
أي ولا منافاة، لجواز أن يكون بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «سوّموا خيلكم فإن الملائكة قد سومت» فهو أول يوم وضع فيه الصوف أي في نواصي الخيل وأذنابها، ولم أقف على لون الصوف الذي وضع في ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة» أي الغلبة «فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه» أي غشاؤه «فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت» وأقدم بضم الدال من التقدم: كلمة يزجر بها الخيل، وحيزوم بالميم وربما قيل بالنون اسم فرس جبريل، ولعلها هي الحياة وأحدهما اسم لها والآخر لقب، وقيل لها الحياة لأنها ما مسها شيء إلا صار حيا وهي التي قبض من أثرها أي من تراب حافرها السامري، نسبة إلى سامر، قرية أو طائفة: ما ألقاه في العجل الذي صاغه من حلي القبط فكان له خوار: أي صوت، فكان إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا، قال في النهر: الظاهر أنه قامت به الحياة.
وقيل لما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في تجويفه أنا بيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار. وفي كلام بعضهم: فرس جبريل التي هي حيزوم كان صهيله التسبيح والتقديس، وإذا نزل عليها جبريل عليه السلام علمت الملائكة أن نزوله للرحمة، وإذا نزل منشور الأجنحة علمت أن نزوله للعذاب، أي وحينئذ فنزول جبريل عليه السلام عليها يوم بدر كان لرحمة المسلمين، وإن كان عذابا على الكافرين، ويكون نزوله لا عليها بل منشور الأجنحة إذا كان لمحض العذاب.
ويحتمل أن يكون حيزوم غير فرس الحياة، وإليه ذهب السهيلي رحمه الله، فقال: والحياة أيضا فرس لجبريل عليه السلام.
قال الحافظ ابن حجر: ومن الأخبار الواهية أن الموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أثنى، أي خطوتها- كما في العرائس- مدّ البصر، وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها أي كلهم كما في العرائس، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي.
هذا، وفي أثر مرسل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟» فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف.
قال ابن كثير: وهذا الأثر يردّ قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل عليه السلام، أي وفيه أنه لا يبعد أن يقول أحد من الملائكة لفرس جبريل اقدم حيزوم، ولا يعرف ذلك القائل، وكأنّ الحافظ ابن كثير رحمه الله فهم من قوله صلى الله عليه وسلم من القائل الخ، أن ذلك الفرس لذلك القائل، نعم إن كان هذا الأثر وقع بعد الرواية التي تلي هذه وهي جاءت سحابة الخ، أو أن ذلك الأثر سقط من لفظة لفرسه، والأصل من القائل يوم بدر من الملائكة لفرسه، اتجه ما فهمه ابن كثير رحمه الله فليتأمل، قال: وفي رواية «جاءت سحابة فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: اقدم حيزوم، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت سحابة أخرى نزل منها رجال كانوا على ميسرته، فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت» ومن ثم ذكر في الصحابة.
وفي النور: هذا الرجل مذكور في الصحابة، وليس في الحديث أي الرواية الأولى ما يدل على إسلامه إلا أن تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم يشعر بإسلامه هذا كلامه.
وفيه أن قوله ونحن مشركان يدل على أنه كان مسلما عند تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.
أي وعن علي رضي الله تعالى عنه «هبت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة» أي لعلها أمامه أخذا من قوله «وكانت الثانية ميكائيل، نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي ذلك سكوت عن الرابعة، أي زاد في الإمتاع «وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة» .
وظاهر هذا أن كلا من جبريل وميكائيل قاتل، وتقدم أنهم في هذه الغزاة التي هي غزاة بدر قيل لم يمدوا إلا بألف من الملائكة، ورواية ألفين ضعيفة جاءت عن علي رضي الله تعالى عنه، فتكون هذه الرواية التي جاءت عن علي أيضا كذلك، ولا نظر لما تقدم عن بعضهم أن إمدادهم يوم بدر بثلاثة آلاف أولا، وأنهم وعدوا أن يمدوا بخمسة آلاف إن ثبتوا وصبروا وهو ما عليه الأكثر، لما علمت أن ذلك إنما كان في أحد، وسيأتي ذلك مع زيادة. قال بعضهم: ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، أي وفي غيره يكونون مددا من غير مقاتلة، وسيأتي أنهم قاتلوا يوم أحد ويوم حنين.
ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص «أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، يقاتلان كأشد القتال».
قال الإمام النووي رحمه الله: فيه أن قتال الملائكة لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه، فإن هذا صريح في الرد عليه.
أقول: يمكن الجمع بأن المختص ببدر قتال الملائكة عنه وعن أصحابه، وفي غيره كان عنه صلى الله عليه وسلم خاصته، فلا منافاة؛ ثم رأيتني ذكرت هذا الجمع في غزوة أحد عن البيهقي، وتعقبته بما جاء أن الملائكة قاتلت في ذلك اليوم عن عبد الرحمن بن عوف. وعلى تسليم ورود ذلك فيه أنهم لو قاتلوا يوم أحد لظهر أثر قتلهم كما ظهر في يوم بدر.
وقد يقال: مرادهم بالمقاتلة يوم أحد المدافعة من غير أن يوقعوا فعلا، وفي يوم بدر المراد بالمقاتلة إيقاع الفعل، والله أعلم.
وانكسر سيف عكاشة بتشديد الكاف أكثر من تخفيفها- ابن محصن وهو يقاتل به فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب: أي أصلا من أصول الحطب وقال له «قاتل بهذا يا عكاشة»، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد في يده سيفا، طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به رضي الله عنه حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون.
ثم لم يزل عند عكاشة وشهد به المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يزل متوارثا عند آل عكاشة. وعكاشة، مأخوذ من عكش على القوم: إذا حمل عليهم، والعكاشة: العنكبوت، وسيأتي مثل ذلك في أحد لعبد الله بن جحش.
وانكسر سيف سلمة بن أسلم رضي الله عنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده: أي عرجونا من عراجين النخل وقال: «اضرب به»، فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده.
قال: وعن خبيب بن عبد الرحمن قال «ضرب خبيب جدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمه ورده فانطبق» .
وعن رفاعة بن مالك رضي الله عنه قال «لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني، فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شيء» اهـ.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وجودها؟ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر يقول: «هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، أي ويضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على الأرض، فما تنحى أحدهم عن موضع يده» كما تقدم عن أنس، وتقدم عنه أن ذلك كان ليلة بدر بعد أن وصل إلى محل الوقعة، إذ لا يتصور وضع يده على الأرض إلا إذا كان بمحل الوقعة.
وبه يعلم ما ذكره بعضهم أن إخباره صلى الله عليه وسلم بمصارع القوم تكرر منه مرتين قبل الوقعة بيوم أو أكثر ويوم الوقعة، هذا كلامه، إلا أن يقال قوله يوم الوقعة هو بناء على أنه صلى الله عليه وسلم وصل بدرا في النهار. والقول بأن ذلك كان ليلا بناء على أنه وصل بدرا ليلا. ومعلوم أنه إنما وضع يده في محل الوقعة.
ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا فطرحوا في القليب، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتزايل: أي تقطعت أوصاله فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهذا دليل على أن الحربي لا يجب دفنه، وبه قال أئمتنا، بل قالوا: يجوز إغراء الكلاب على جيفته.
وفي سنن الدارقطني «كان من سنته صلى الله عليه وسلم في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا» أي ولكثرة جيف الكفار كره صلى الله عليه وسلم أن يشق على أصحابه أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر، وكان الحافر لهذا القليب رجل من بني النجار، فكان فألا مقدما لهم ذكره السهيلي.
«ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة رضي الله عنه في القليب تغير وجه أبي حذيفة ففطن بفتح الطاء له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «لعلك دخلك من شأن أبيك شيء،» فقال: لا والله، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له «خيرا» .
أقول: وذكر فقهاؤنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه في هذه الغزاة وقد أراد ذلك، والله أعلم.
«ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على شفير القليب» أي قيل بعد ثلاثة أيام من إلقائهم في القليب وذلك ليلا، أي وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر صلى الله عليه وسلم براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي» أي وهو القليب وجعل يقول: «يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا» .
وجاء في بعض الطرق نداؤهم بأسمائهم، فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام» وهذا يقتضي أنه في تلك الرواية نطق بلفظ يا فلان ابن فلان ولا يخفى بعده فليتأمل.
واعترض بأن أمية بن خلف لم يكن من أهل القليب لما علمته. وأجيب بأنه كان قريبا من القليب بئس عشيرة النبي، كنتم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها. وفي رواية أجسادا قد أجيفوا. وفي لفظ: قد جيفوا، فقال: صلى الله عليه وسلم «ما أنتم بأسمع، وفي رواية: لأسمع لما أقول منهم، وفي رواية: لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا» .
وعن قتادة رضي الله عنه أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم وتصغيرا ونقمة وحسرة.
أقول: والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور؛ لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به، أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفنى وإن اضمحل الجسم بأكل التراب، أو بأكل السباع أو الطير أو النار، وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويردّ سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث. والغالب أن هذا التعلق لا يصير الميت به حيا كحياته في الدنيا، بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده، وقد يقوى حتى يصير كالحي في الدنيا، ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الاختيارية، فلا يخالف ما حكي عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية هذا كلامه، والكلام في غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء رضي الله عنهم: أي شهداء المعركة، أما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا ويكون لهم القدرة والأفعال الاختيارية.
فقد روى البيهقي رحمه الله في الجزء الذي ألفه في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون «وجاء» إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة» .
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «لينزلن عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم إن قام على قبري وقال: يا محمد لأجبته» ومن ثم قال الإمام السبكي: حياة الأنبياء والشهداء كحياتهم في الدنيا، ويشهد له صلاة موسى عليه السلام في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدا حيا، وكذا الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلها صفات الأجسام.
ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وأما الادراكات كالعلم والسمع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى، هذا كلامه وسائر الموتى شامل للكفار، أي وأكل الشهداء وشربهم في البرزخ لا عن احتياج بل لمجرد الإكرام، وكون الشهداء اختصوا بذلك دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا مانع منه، لأن المفضول قد يخص بما لا يوجد في الفاضل، ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرعت الصلاة عليهم وجوبا وحرمت على الشهداء، وبهذا يردّ قول بعضهم في الاستدلال على حياة الأنبياء بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] والأنبياء أولى بذلك لأنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة ووصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته «لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر فهذا أو ان انقطاع أبهري من ذلك السم» فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حيا في قبره بنص القرآن، إما من عزم اللفظ أو من مفهوم الموافقة.
ووجه رده أن الأولوية قد تمنع بل أصل القياس، لما علمت أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وإن جمعوا بين النبوة والشهادة، إلا أن المراد في الآية شهداء المعركة لا مطلق الشهادة، إذ شهادة المعركة لم تحصل لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم لا يخفى أن الذي ثبت حياة الأنبياء وصلاتهم في قبورهم وحجهم، وأما صومهم وأكلهم وشربهم في ذلك فلم أقف على ما يدل على ذلك في شيء من الأحاديث والآثار، وقياسهم في ذلك على الشهداء علمت أنه قد يمنع لما أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل.
والذي يدل على أنهم يحجون ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال: «أيّ واد هذا؟» فقالوا: وادي الأزرق، فقال صلى الله عليه وسلم: «كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي»، ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال صلى الله عليه وسلم: «كأني أنظر إلى يونس عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا» وقد جاء في موسى عليه السلام «أنه كان على بعير» وفي رواية «على ثور» ولا منافاة لجواز أن يكون تكرر حجه أو ركب البعير مرة والثور أخرى. ولا يخفى أن رزق الشهداء يصدق على الجماع، لأنه مما يتلذذ به كالأكل والشرب.
ثم رأيت سيدي أبا المواهب الشاذلي رحمه الله ونفعنا ببركاته، قال في كتابه المسمى «بعنوان أهل السر المصون في كشف عورات أهل المجون» وأخبر سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وحمله أهل العلم على الحقيقة وأنهم يأكلون ويشربون وينكحون حقيقة، وقائل غير هذا أي أن الأكل والشرب عبارة عن لذة تحصل لهم كاللذة الناشئة عن الأكل والشرب والنكاح صرف هذه الآية عن ظاهرها من غير ضرورة تلجىء إلى ذلك، ثم قاس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشهداء في ذلك، لما تقدم من أنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة والشهادة. وقد علمت جواب من منع القياس.
ثم رأيت عن إفتاء شيخنا الشمس الرملي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء رضي الله عنهم يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون.
ورفع الخلاف هل ينكحون؟ فقيل نعم. وقيل لا، وأنهم يثابون على صلاتهم وصومهم وحجهم، ولا تكليف عليهم في ذلك لانقطاع التكليف بالموت، بل من قبيل التكرمة ووقع الدرجات هذا كلامه، ولعل مستنده في إثبات ما عدا الصلاة والحج للأنبياء قياسهم على الشهداء، وقد علمت ما فيه وإثبات الخلاف الذي ذكره شيخنا في نكاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أدري هل هو خلاف أهل عصره أو من تقدمهم.
على أن إثبات النكاح للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ربما يبعده ما ذكروه في حكمة قوله صلى الله عليه وسلم «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب» حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا، فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس لأنهم يقصدونهما للاستلذاذ وحظوظ النفس، وهو عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك.
وإنما حبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية.
وحبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة، لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث، لأن حقيقة الإكرام أن يحصل له في البرزخ ما كان يلتذ به في الدنيا، ليكون حاله فيه كحاله في الدنيا.
وفيه أن الحكمة المذكورة لا تناسب قوله صلى الله عليه وسلم «فضلت على الناس بأربع وعدّ منها كثرة الجماع» وهم كغيرهم في هذا التعلق متفاوتون بحسب مقاماتهم، وإنه يعبر عن قوة هذا التعلق بعود الحياة، ومنه ما ذكر عن قتادة وتعود الروح، ومنه قول بعضهم: أرواح الأنبياء والشهداء بعد خروجها من أجسادها تعود إلى تلك الأجسام في القبر، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي.
ومن ثم قال ابن العربي رحمه الله تعالى: رؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام بصفته العلوية إدراك له على الحقيقة، وعلى غير صفته العلوية إدراك للمثال ويعبر عنه بردها.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» أي إلا قوي تعلق روحي، وذلك إكراما لهذا المسلم حيث لا يردّ عليه سلامه إلا وقد قوي تعلق روحه الشريفة بجسده الشريف، والروح بناء على أنها غير عرض مع كونها في مقاماتها لها تعلق بجسدها وبما يبقى منه كما تقدم، كالشمس في السماء الرابعة ولها تعلق بالأرض، وربما عبر عن ضعف هذا التعلق بصعودها وطلوعها، وبناء على أنها عرض تزول ويعود مثلها، وقد أوضحت ذلك في «النفحة العلوية في الأجوبة الحلبية عن الأسئلة القروية» وهي أسئلة سئلت عنها من بعض أهل القرى المصرية، وذكرت أن هذا أولى مما أطال به الجلال السيوطي من الأجوبة مع ما فيها مما لا يخفى. ورأيت في حديث عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن لله ملكا أعطاه سمع العباد كلهم، وإنه ما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا بلغنيها، وإني سألت ربي عز وجل أن لا يصلي عليّ أحد صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرة أمثالها» وذكر الحافظ الذهبي أن راوي هذا الحديث تفرد به متنا وإسنادا والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت قوله صلى الله عليه وسلم لقد سمعوا ما قلت وقالت، إنما قال لقد علموا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أي بقوله في حق أهل القليب «ما أنتم بأسمع منهم» أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم هو الحق، أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قرأت أي محتجة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ} [النّمل:80] الآية، وبقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ} [فاطر:22] .
ويجاب بأنه لا مانع من إبقاء السمع هنا على حقيقته، لأنه إذا قوي تعلق أرواح هؤلاء الكفار بأجسادهم بحيث صاروا أحياء كحياتهم في الدنيا للغرض المذكور لا مانع من سماعهم بحاسة سمعهم لبقاء محل تلك الحاسة منهم، كما أن الجسد بذلك التعلق يقوى على الجلوس للسؤال في القبر والسماع المنفي في الآيتين بمعنى السماع النافع، وقد أشار إلى ذلك الجلال السيوطي رحمه الله بقوله نظما:
سماع موتى كلام الخلق قاطبة *** جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النفي معناها سماع هدى *** لا يقبلون ولا يصغون للأدب
لأنه تعالى شبه الكفار الأحياء بالأموات في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعاء إلى الإسلام النافع.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بشيرا لأهل العالية: أي وهي محل قريب من المدينة على عدة أميال، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بها راكبا ناقته القصوى، وقيل العضباء بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فجعل عبد الله بن رواحة ينادي في أهل العالية: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك، أي ويقولان: قتل فلان وفلان، أي وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، وصار عدو الله كعب بن الأشرف يكذبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ولما عزي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» وفي رواية «من المكرمات دفن البنات» ويعجبني قول الباخرزي رحمه الله تعالى:
القبر أخفى سترة للبنات *** ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله عز اسمه *** قد وضع النعش بجنب البنات
وجاء عثمان رضي الله عنه من رقية هذه بولد يقال له عبد الله فاكتنى به؛ وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو، وتزوج بعدها أختها أم كلثوم بوحي.
فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى عثمان بن عفان مهموما بعد موت رقية رضي الله عنها، فقال له: «ما لي أراك لهفانا مهموما»، فقال له: يا رسول الله وهل دخل علي أحد ما دخل عليّ انقطع الصهر بيني وبينك، فبينما هو يحاوره إذ قال صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن الله عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها»، فزوجه إياها، ولما تزوجها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بنية أين أبو عمرو؟» قالت: خرج لبعض حاجاته قال: «كيف رأيت بعلك؟» قالت: يا أبت خير بعل وأفضله، فقال: «يا بنية كيف لا يكون كذلك وهو أشبه الناس بجدك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأبيك محمد» وجاء «عثمان من أشبه أصحابي بي خلقا» وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل عليه السلام: إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» ولتزوجه ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذو النورين، ولم يجمع أحد منذ آدم إلى اليوم بين بنتي نبي غيره رضي الله عنه، ومن ثم لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عنه قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين.
ولما ماتت أم كلثوم تحته وذلك سنة تسع قال صلى الله عليه وسلم «زوجوا عثمان، لو كان لي ثالثة لزوجته إياها، وما زوجته إلا بوحي من الله» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له «لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة» وأم عثمان بنت عمته صلى الله عليه وسلم أروى بنت عبد المطلب، توأمة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة رضي الله عنه: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، قد قتل محمد وغالب أصحابه، وهذه ناقتة عليها زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب، قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبي لبابة وسألته عما أسره له الرجل، فأخبرني بما أخبره، به، فقلت: أحق ما تقول، قال: أي والله حق ما أقول يا بني، فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم فيضرب عنقك، فقال: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه، أي وهذا كان قبل أن يجتمع أسامة بأبيه زيد بن حارثة.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، أي الغنيمة، وكانت مائة وخمسين من الإبل، وعشرة أفراس ومتاعا وسلاحا وأنطاعا وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له» أي كما تقدم، ولعله تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة للتحريض على القتال، ومرة عند القسمة، فالمقسوم ما بقي بعد إخراج السلب وإخراج الأسرى قسم على المسلمين بالسوية بعد الاختلاف فيه، فادّعى من قاتل العد وصده أنهم أحق به، وادعى من جمعه أنهم أحق به، وادعى من كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أن غيرهم ليس بأحق به منهم، أي لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه قام على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في نفر من الأنصار، وفي رواية عن عبادة بن الصامت «أن جماعة خرجت في أثر العدّ وعند انهزامه، وجماعة أكبوا على جمع الغنيمة فجمعوها، وجماعة عند انهزام العدو أحدقوا به صلى الله عليه وسلم في العريش خوفا أن يصيب العدّو منه غرة ولعل هؤلاء كانوا زيادة عمن كان مع سعد بن معاذ على باب العريش؛ فادعى من أكب على جمعها أنهم أحق بها، وادعى من عداهم أن أولئك ليسوا بأحق بها منهم» .
أي وكون جماعة أحدقوا به صلى الله عليه وسلم بعد انهزام العدوّ، قد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم بالسيف مصلتا يتلو هذه الآية {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} [القمر:45] لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم خرج في أثرهم برهة من الزمان، ثم عاد إلى العريش فأحدق به هؤلاء مع من تقدم، فأنزل الله تعالى سورة الأنفال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ} [الأنفال:1] .
فالنفل قد يطلق على الغنيمة كما هنا كما أشرنا إليه، وسماها الله تعالى أنفالا لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكذا الفيء المذكور في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير يطلق على الغنيمة وسمي فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المؤمنين: أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فقد رد إليهم ما يستحقونه كما يعاد، ويرد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يقبضه قبل ذلك. ومنه قول بعضهم: كان أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء، كان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء أي إلى الغنيمة، وأخرج من الصدقة فنزعه الله من أيديهم، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يضعه حيث شاء فدلت الآية على أن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد من المقاتلة شيء منها، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى: {وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} [الأنفال:41] والأربعة أخماس الباقية للمقاتلة، أي فكان ذلك الخمس يخمس خمسة أخماس: واحد له صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما أحب، والأربعة من ذلك الخمس لمن ذكر في الآية، والأربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة.
وسيأتي في سرية عبد الله بن جحش لنخلة «أنه صلى الله عليه وسلم خمس العير الذي جاء به عبد الله كذلك، فجعل خمس ذلك لله، وأربعة أخماسه للجيش» وقيل عبد الله هو الذي خمسها كذلك، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهي أول غنيمة في الإسلام وأوّل غنيمة خمست، فكان تخميسها قبل نزول الآية، لما علمت أن نزول تلك الآية كان بعد بدر فهي من الآيات التي تأخرت تلاوتها عن حكمها، قال بعضهم: وكان ابتداء تحليل الغنائم لهذه الأمة في وقعة بدر كما ثبت في الصحيحين، وذلك في قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} [الأنفال:69] فأحل الغنيمة لهم.
أقول: وفيه أن هذا قد يعين القول بأنه صلى الله عليه وسلم وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر، ويضعف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم خمسها، أو أن عبد الله هو الذي خمسها قبل بدر، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد علمت أن ما أصابه من بدر قسمة بين المسلمين سواء أي لم يتميز فيه أحد عن أحد، الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس سواء، وفيه تفضيل الفارس على الراجل في ذلك اليوم، وسيأتي التصريح بذلك، وهذا يؤيد القول بأن الجيش كان فيه خمسة أفراس أو فرسان، دون القول بأنه لم يكن فيه إلا فرس واحد على ما تقدم، حتى هو صلى الله عليه وسلم كان سهمه كسهم واحد منهم، أي كفارس منهم بناء على ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان له فرسان إلا ما اصطفاه وهو سيفه ذو الفقار كما سيأتي، وحينئذ يكون قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل ما تعطي الضعيف» أراد بالفارس فيه القوي.
ففي مسند الإمام أحمد، قال سعد بن أبي وقاص قلت: يا رسول الله الرجل يكون حاجته للقوم يكون سهمه وسهم غيره سواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم» وما في مسند الإمام أحمد يدل على أن مراد سعد بالفارس القوي لمقابلته في هذه الرواية بالضعيف، فلا ينافي أنه أعطى الفارس لفرسه سهمين وله سهم كالراجل.
وقد أسهم لمن لم يحضر، كمن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخلف لعذر منعه من الحضور كعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم خلفه لأجل مرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أو لما كان به رضي الله تعالى عنه من الجدري على ما تقدم، ولهذا عدّ من البدريين، وأبي لبابة لأنه صلى الله عليه وسلم خلفه على أهل المدينة، وعاصم بن عدي فإنه خلفه على أهل قباء والعالية، ولمن أرسله لكشف أمر العدوّ يتجسس خبره فلم يجىء إلا وقد انقضى القتال، وهما طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد كما تقدم، والحارث بن حاطب، أمره بما مر في بني عمرو بن عوف وخوات بن جبير والحارث بن الصمة لأن كلا منهما كسر بالروحاء كما تقدم.
وبهذا يظهر التوقف في قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وضرب لعثمان رضي الله تعالى عنه يوم بدر بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر قال الخطابي: هذا خاص بعثمان، لأنه كان يمرّض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كلامه.
وأسهم صلى الله عليه وسلم لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر، ولعلهم ماتوا بعد انقضاء الحرب، فلا يشكل على ما قاله فقهاؤنا أن من مات قبل انقضاء الحرب لا حق له.
وتنفل صلى الله عليه وسلم زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار؛ أي وكان لمنبه بن الحجاج أي وقيل لابنه العاص قتل أيضا يوم بدر، وقيل كان لعمه نبيه، وفي كلام أبي العباس بن تيمية أنه كان لأبي جهل، أي ويمكن أن يكون ذلك السيف كان في الأصل لأبي جهل، ثم أعطاه لمنبه بن الحجاج أو لغيره ممن ذكر لا يقال أو بالعكس، لأن سيف أبي جهل أخذه ابن مسعود كما تقدم فلا مخالفة.
وتنفل أيضا صلى الله عليه وسلم جمل أبي جهل وكان مهريا، ولم يزل يغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية كما سيأتي، وهذا الذي كان يأخذه زيادة على سهمه أي قبل قسمة الغنيمة إذا كان صلى الله عليه وسلم مع الجيش يقال له الصفي والصفية عبدا أو أمة أو دابة أو سيفا أو درعا، لكن في الإمتاع عن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفي من المغنم حضر أو غاب» قال بعضهم: وهو محسوب من سهمه صلى الله عليه وسلم، وقيل يكون زائدا عليه، إلا أن يقال ذاك الذي وقع فيه الخلاف كان بعد نزوله آية التخميس، وهذا كان قبل ذلك، فلا يخالف ما سبق أن ما أخذه قبل القسمة كان زائدا على سهمه المساوي لسهام القوم، أي وكان في الجاهلية يقال للذي يأخذه الرئيس إذا غزا بالجيش المرباع وهو ربع الغنيمة، ولم يسمع مرباع إلا في الربع دون غيره من الخمس ومما بعده. والصفايا أشياء كان يصطفيها الرئيس لنفسه من خيار ما يغنم، والنشيطة: ما أصابه الجيش في طريقه قبل أن يصل إلى مقصده وكان للرئيس النقيعة أيضا، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس، كذا في شرح الحماسة للتبريزي.
قال: وقد سقط في الإسلام النقيعة والنشيطة، وأمر صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فقتل النضر بن الحارث بالصفراء.
أي وفي الإمتاع «أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى النضر وهو أسير، فقال النضر لليسير الذي بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إليّ بعينين فيهما الموت، فقال له: والله ما هذا منك إلا رعب، وقال النضر لمصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه: يا مصعب أنت أقرب من هذا إليّ رحما فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي يعني المأسورين، هو والله قاتلي، فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه.
وفي أسباب النزول للسيوطي وأقره، وكان المقداد رضي الله تعالى عنه أسر النضر، فلما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، وقد رثته أخته، وقيل بنته رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك يوم الفتح فقالت من أبيات:
أمحمد يا خير ضنء كريمة
والذي رأيته في الحماسة:
أمحمد ولأنت ضنء نجيبة*** في قومها والفحل فحل معرق
أي له عرق في الكرم، والضنء: الولد
ما كان ضرك لو مننت وربما *** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وحين سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى أخضل أي بلّ لحيته، وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه، أي لقبول شفاعتها عندي بهذا الشعر، وليس معناه الندم، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا حقا.
أي وكان للنضر هذا أخ يقال له النضير بالتصغير وكان أسنّ المهاجرين، وقيل كان من مسلمة الفتح، وربما يدل له أنه صلى الله عليه وسلم أمر له بمائة بعير من غنائم حنين، فجاءه شخص يبشره بذلك، فقال: لا آخذها، فإني أحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطني ذلك إلا تألفا على الإسلام وما أريد أن أرتشي على الإسلام، فقيل له إنها عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وأعطى المبشر منها عشرة أبعرة.
ثم قتل صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط بعرق الظبية بضم الظاء المعجمة وهي شجرة يستظل بها، قال وحين قدم للقتل: من للصبية يا محمد؟، قال النار.
وجاء عن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفي لفظ «ببزاقك في وجهي» أي فإن عقبة كان يكثر مجالسته صلى الله عليه وسلم واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت يا عقبة، قال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه، فشهدت له الشهادة وليست في نفسي، فقال وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده صلى الله عليه وسلم ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» كذا في الكشاف، وفي لفظ آخر «بكفرك، وفجورك، وعتوّك على الله ورسوله، وأنزل الله فيه {وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ} [الفرقان:27] الآية» .
وذكر ابن قتيبة أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل عقبة، أي وقد قال: «يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم! أي وأنا واحد منكم»، قال له: يا محمد ناشدتك الله والرحم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية» وفي رواية «قال له: إنما أنت يهودي من أهل صفورية» أي فليس هو من قريش: أي لا رحم بيني وبينك: أي لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام لما نافر عمه هاشم كما تقدم فأقام بصفورية ووقع على أمة يهودية ولها زوج يهودي من أهل صفورية فولدت له أبا عمرو الذي هو والد أبي معيط على فراش اليهودي فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان مع أن الولد للفراش، وقيل كان عبدا لأمية فتبناه. فلما مات أمية خلفه على زوجته.
ويدل لهذا الثاني ما ذكره بعض المؤرخين أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلا من علماء النسب وفد عليه: كم عمرك؟ قال أربعون ومائتا سنة قال: كيف رأيت الزمان؟ فقال سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد، فقال له: هل رأيت عبد المطلب؟ قال نعم، أدركته شيخا وسيما متسما جسيما، يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم، فقال له: هل رأيت أمية بن عبد شمس؟ يعني جده، قال نعم: رأيته أخفش أزرق ذميما، يقوده عبده ذكوان، فقال: ويحك كف، فقد جاء غير ما ذكرت ذاك ابنه. فقال: أنتم تقولون ذلك.
والقاتل لعقبة عاصم بن ثابت، وقيل علي رضي الله تعالى عنهما، أي وقيل صلب على الشجرة.
أقول: قال محمد بن حبيب الهاشمي: هو أول مصلوب في الإسلام، ورده ابن ابن الجوزي بأن أول من صلب في الإسلام خبيب بن عدي.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن المراد بالثاني، أول مصلوب من المسلمين، وبالأول أول مصلوب من الكفار.
وذكر أن أول من استعمل الصلب فرعون، ولعل المراد به فرعون موسى بن عمران لا فرعون إبراهيم الخليل وهو أول الفراعنة، ولا فرعون يوسف بن يعقوب وهو ثاني الفراعنة، وفي قول إن فرعون يوسف هذا هو فرعون موسى بمعنى أنه بقي إلى زمن موسى عليه السلام، وكان هلاكه على يده.
وفي كلام ابن قتيبة عن سعيد بن جبير ضم طعيمة بن عدي إلى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أي لأنه ممن قتل معهما صبرا، وفيه نظر، فقد تقدم أن القاتل له حمزة رضي الله عنه في الحرب وسيأتي في أحد أن قتل حمزة كان سبب قتله لطعيمة المذكور.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم. أي وروي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما قدمت إلى المدينة وكنت جائعا استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، فقالت: الحمد لله يا محمد الذي سلمك كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه، فأنطق الله الجدي فقال: يا محمد لا تأكلني فإني مسموم» أي بخلاف ما وقع له صلى الله عليه وسلم في خبير، فإنه لم يخبره الذراع بذلك إلا بعد أكله منه كما سيأتي، وسيأتي أنه سأل المرأة عن سبب ذلك وهنا لم يسألها.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم أي قاربها خرج المسلمون للقائه وتهنتئه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء، أي وقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنونا به، فو الله إن لقينا أي ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أولئك الملأ من قريش» أي الأشراف والرؤساء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف والولائد جمع وليدة: وهي الصبية والأمة وتلك الولائد يقلن:
طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
وتلقاه أسيد بن الحضير، فقال: الحمد لله الذي أظفرك وأقرّ عينك.
ولما أقبلوا من بدر فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ، فقالوا: يا رسول الله فقدناك، فقال «إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه فتخلفت عليه، ثم لما قدمت الأسارى فرّقهم بين الصحابة وقال: استوصوا بهم خيرا» .
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ابن عبد عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية وفلان وفلان من أشراف قريش، أي وأسر فلان وفلان فقال صفوان بن أمية وكان يقال له سيد البطحاء، وكان من أفصح قريش لسانا، وكان جالسا في الحجر: والله إن يعقل أي ما يعقل هذا سلوه عني، فسألوه، أي قالوا: ما فعل صفوان، فقال: هو ذاك الجالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وعن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب» أي ثم وهبه العباس له صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليه في السرايا، وكان العباس رضي الله تعالى عنه أسلم وأسلمت زوجته: أي أم الفضل، قيل إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة كما تقدم، وهي أم أولاده، وهم: عبد الله؛ وعبيد الله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وأمّ حبيب.
قيل رآها صلى الله عليه وسلم وهي تدب بين يديه فقال: إن بلغت وأنا حي تزوجتها فقبض صلى الله عليه وسلم قبل أن تبلغ قال ابن الجوزي: فليس في الصحابيات من كنيتها أم الفضل إلا زوج العباس، قال أبو رافع: وأسلمت أنا وكنا نكتم الإسلام أي لأن العباس كان يكره خلاف قومه، لأنه كان ذا مال كثير وأكثره متفرق فيهم، أي وسيأتي الجواب عن كونه أسر وأخذ منه الفداء مع كونه مسلما، وسيأتي أنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح.
فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرّنا ذلك، فو الله إني لجالس إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشر حتى جلس عندنا، فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث وكان مع قريش في بدر، فقال له أبو لهب: هلمّ إلي عندك الخبر، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم والله ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فقلت والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته: أي وأثبته: أي قام كل للآخر فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده، تعني العباس، فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رمي بالعدسة: أي ما عاش صحيحا قبل أن يرمى بالعدسة إلا سبع ليال: أي وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون، قتلته، فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى الحائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، أي لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن، فلما خافوا السبة: أي سب الناس لهم في تركه فعلوا به ما ذكر.
وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفيرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت إذ مرت بموضعه، ذلك غطت وجهها» .
أقول: قال في النور: وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة، أي الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا وجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فمسكوهما بعد أيام، فصلبا في ذلك الموضع، فصار يرجمان إلى الآن، والله أعلم.
فلما ظهر الخبر ناحت قريش على قتلاهم أي شهرا، وجزّت النساء شعورهن، وكنّ يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها ويخرجن إلى الأزقة، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم، وتواصوا على ذلك، وكان الأسود بن زمعة بن عبد المطلب أصيب له في بدر ثلاثة، ولداه وولد ولده، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان قد ذهب بصره أي بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، لأنه كما تقدم كان من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذا رآهم يقول: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر، ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمى، وتقدم ذلك؛ وتقدم سبب عماه.
وفي كلام بعضهم كان صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره ويثكل ولده فاستجاب الله تعالى له سبق العمى إلى بصره أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نعاه من ولده أي وهو زمعة وهو أحد الثلاثة الذين كان يقال لكل واحد منهم زاد الراكب كما تقدم، وأخوه عقيل والحارث فإنهما قتلا كافرين ببدر، فتمت إجابة الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به قد سمع صوت باكية بالليل، فقال لغلامه انظر هل أحل النحب: أي البكاء، هل بكت قريش على قتلاهم لعلي أبكي، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فأنشد من أبيات:
أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود
والسهود بضم السين المهملة: عدم النوم. والبكر: الفتى من الإبل. والجدود: بضم الجيم جمع جد بفتحها، وهو الحظ والسعد، وبعد هذين البيتين بيت آخر وهو:
ألا قد ساد بعدهمو رجال *** ولولا يوم بدر لم يسودوا
يعرض بأبي سفيان فإنه رأس قريش. قال: وقد جاء في بعض الروايات اختلاف الصحابة فيما يفعل بالأسرى لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم؟ أي وقد يخالف هذا ما سبق من قوله إن من أسر أسيرا فهو له.
وقد يقال: لا مخالفة لأن معنى كونه له أنه مخير فيه بين قتله وأخذ فدائه، ولعله لا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم. لما أراد قتل النضر قال المقداد رضي الله تعالى عنه وكان أسره: يا رسول الله أسيري، فقال له إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وفي رواية «استشار صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا» أي وفي رواية «أبا بكر وعمر وعبد الله بن جحش فيما هو الأصلح من الأمرين القتل وأخذ الفداء؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أهلك وقومك» وفي رواية «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقول يا بن الخطاب؟» قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب وفي لفظ «نسيب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه أي العباس رضي الله تعالى عنه فيضرب عنقه، حتى يعلم أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» أي وقال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه «نظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله تعالى عنه وهو يسمع: ثكلتك رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولم يرد عليهم، فقال بعض الناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال بعض الناس يأخذ بقول ابن رواحة، ولم يقل قائل يأخذ بقول عمر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدنّ قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة لعله لا ينزل إلا بالرحمة، فلا ينافي أن جبريل ينزل بالرحمة في بعض الأحايين كما تقدم قريبا»، ومن ثم جاء في الحديث «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر» «ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم:36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم إذ قال {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [المائدة:118]» .
قيل إن قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} [المائدة:118] من مشكلات الفواصل، إذ كان مقتضى الظاهر فإنك أنت الغفور الرحيم.
ورد بأن العزيز الذي لا يغلبه أحد ولا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه. والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله.
«ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، نزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى» أي أغلب أحوالك ذلك، فلا ينافي أنه ينزل بالرحمة في بعض الأوقات كما تقدم «ومثلك في الأنبياء مثل نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26] ومثلك في الأنبياء مثل موسى عليه الصلاة والسلام إذ قال {رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ} [يونس:88]» .
قال الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن من أصحابه من يشبه بجبريل وبإبراهيم وبنوح وبموسى وبعيسى وبيوسف وبلقمان الحكيم وبصاحب يس هذا كلامه.
وقد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه شبه بميكائيل ولم يذكر ميكائيل، ولينظر من شبه من أصحابه بيوسف، ثم رأيتني ذكرت فيما تقدم قريبا أنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولينظر من شبه من أصحابه بلقمان الحكيم وبصاحب يس.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: « » .
وقد وقع له صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل ذلك لهما. وقد اختلفا في تولية شخصين أراد صلى الله عليه وسلم تولية أحدهما على بني تميم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمل فلانا، وقال عمر: يا رسول استعمل فلانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكما لو اجتمعتما لأخذت برأيكما ولكنكما اختلفتما عليّ أحيانا، فأنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] الآية؛ واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم مثلك يا أبا بكر الخ على جواز ضرب المثل من القرآن، وهو جائز في غير المزح ولغو الحديث وإلا كره، ونسبة الاختلاف في أسارى بدر لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لا تخالف ما سبق من نسبته إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لأنه يجوز أن يكونا هما المرادين بالصحابة؛ وعدم ذكر عليّ رضي الله تعالى عنه مع إدخاله في الاستشارة وكذا عبد الله بن جحش على ما تقدم، لأنه يجوز أن يكون وافق أحدهما، أي فقد ذكر ابن رواحة مع عدم إدخاله في الاستشارة.
وفي كلام الإمام أحمد رحمه الله استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: «إن الله قد مكّنكم منهم»، قال: فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال: «يا أيها الناس إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس»، فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل الفداء، فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال يا رسول الله: ما يبكيكما؟ وفي لفظ ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كاد لمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب» .
وفي مسلم والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: «أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء» أي للعذاب الذي كاد أن يقع على أصحابك لأجل أخذهم الفداء: أي إرادة أخذه «لقد عرض عليّ عقابهم أدنى» أي أقرب «من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67، 68] الآيات».
أقول: قال بعضهم: في هذه الآيات دليل على أنه يجوز الاجتهاد للأنبياء، لأن العتاب الذي في الآيات لا يكون فيما صدر عن وحي ولا يكون فيما كان صوابا، وإذا أخطؤوا لا يتركون عليه بل ينبهون على الصواب.
وأجاب ابن السبكي رحمه الله بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، أي ما كان هذا لنبي غيرك ولا يخفى عليك ما فيه.
وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير نبينا صلى الله عليه وسلم يجوز أن يقروا على الخطأ لأن من بعد من يخطىء منهم يبين خطأه بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده يبين خطأه فلا يقر على الخطأ. وفيه أن بعد نبينا عليه الصلاة والسلام عيسى عليه الصلاة والسلام أنه يوحى إليه.
ونظر بعضهم في وقوع الخطأ من الأنبياء واستمرارهم عليه بأنه غير لائق بمنصب النبوة، لأن وجود من يستدرك الخطأ لا يدفع مقتضيه.
وفيه جواز وقوع الخطأ والعمل به قبل مجيء الاستدراك، وتقدم جواز الاجتهاد له مطلقا لا في خصوص الحرب، واستثناء عمر ربما يفيد أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء، وخالفوا عمر مع أنه تقدم قريبا أن سعد بن معاذ كره ذلك قبل عمر، فقد تقدم أن المسلمين لما وضعوا أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم»، قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، ومن ثم قال «لو نزل عذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ» كما سيأتي. وفيه أن ابن رواحة كرهه بل أشار بإحراقهم بالنار.
وفي الأصل «أن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فقال: إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فجاؤوا أو من جاء منهم أي وهم المعظم فقال: «إن هذا جبريل يخبركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدتهم، فقالوا بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم». فليس في ذلك ما نكره وهو كما ترى، يدل على أن الصحابة وافقوا أبا بكر رضي الله عنهم على أخذ الفداء، ولعل هذا الإخبار بالتخيير كان بعد الاستشارة التي تكلم فيها أبو بكر وعمر، وأن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان بعد هذه الاستشارة الثانية، وقول صاحب الهدى بكاؤه صلى الله عليه وسلم وبكاء الصديق رحمة وخشية أن العذاب يعم ولا يصيب من أراد ذلك خاصة يفيد أن الذي أشار بأخذ الفداء طائفة من الصحابة لا كلهم.
أقول: وفيه أن هذا يشكل عليه قوله «لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، وسعد بن معاذ» فإن فيه تصريحا بأن العذاب لو وقع لا يعم وأنه لا يصيب إلا من أشار بالفداء. وفيه أن من أشار بالفداء غاية الأمر أنهم اختاروا غير الأصلح من الأمرين، واختيار غير الأصلح لا يقتضي العذاب، على أن حل أخذ الفداء علم من واقعة عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي، فإنه أسر فيها عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان ولم ينكره الله تعالى، وذلك قبل بدر بأزيد من عام؛ إلا أن يقال أراد الله تعالى تعظيم أمر بدر لكثرة الأسارى فيها مع شدة تصلبهم في مقاتلته صلى الله عليه وسلم. وفي المواهب كلام في الآية المذكورة يتأمل فيه.
ورأيت فيها عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أقدم إليه الحجة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم» .
وعن الأعمش سبق منه أنه لا يعذب أحدا شهد بدرا، ومن ثم جاء كما يأتي أن رجلا قال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له: «إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال {ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]» والله أعلم، ولا ينافي قتل سبعين منهم في قابل: أي في أحد كون بعض الأسارى في بدر مات في الأسر ولم يؤخذ فداؤه، وهو مالك بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله، وكون بعضهم أطلق من غير أخذ فداء، لأن المنكر عدم قتل أولئك السبعين الذي أسروا.
قال بعضهم: اتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بقوله تعالى: {أَوَلَمَّآ أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] هم أهل أحد: أي قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منكم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، والله أعلم.
وتواصت قريش على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى لئلاء يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، فلم يلتفت لذلك المطلب بن أبي وداعة السهمي، بل خرج من الليل خفية وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما رأى أبا وداعة أسيرا: إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه، أي فكان أول أسير فدي، واسم أبي وداعة الحارث وذكر في الصحابة. قال الزبير بن كبار: زعموا أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
أي والمشهور أن شريكه صلى الله عليه وسلم إنما هو السائب بن أبي السائب الذي قال في حقه، وقد أسلم يوم الفتح وقد جعل الناس يثنون عليه «أنا أعلمكم به هذا شريكي نعم الشريك كان لا يداري، ولا يماري» وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم «أنا أعلمكم به قال: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكك فنعم الشريك، لا تداري ولا تماري» وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء أي وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإذا تعلموا كان ذلك فداءه.
وجاء جبير بن مطعم وهو كافر: أي إلى المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: في أسارى بدر فقال له صلى الله عليه وسلم «لو كان شيخك أو الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه» وفي رواية «لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» لأن المطعم كان أجار النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض الصحيفة كما تقدم ذلك.
وكان من جملة الأسارى عمرو بن أبي سفيان بن حرب أخو معاوية: أي أسره عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقيل لأبي سفيان افد عمرا ابنك، قال: أيجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة يعني ابنه، وهو شقيق أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم، فبينما أبو سفيان إذ وجد سعد بن النعمان أخا بني عمرو بن عوف أي قد وفد من المدينة معتمرا فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، فمضى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبر سعد بن النعمان، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكون به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد أي ولم يذكر عمرو هذا فيمن أسلم من الأسارى، والظاهر أنه مات على شركه.
وكان في الأسارى زوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وهو أبو العاص بن الربيّع بكسر الموحدة وتشديد الياء مفتوحة. قال في الأصل: ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بناء على ما تقوله العامة أن ختن الرجل زوج ابنته والمعروف لغة أن ختن الرجل أقارب زوجته مثل أبيها وأخيها، ومع ذلك لا ينبغي أن يقال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ختن أبي العاص ولا ختن عليّ لإيهامه النقص.
وفي حفظي أن عند المالكية من قال عنه صلى الله عليه وسلم يتيم أبي طالب وختن حيدرة كان مرتدا. وفي عبارة أو بدل الواو، ورواية أو مبينة للمراد من رواية الواو وأن ما أفهمته من اعتبار الجمعية ليس مرادا، وحيدرة: اسم عليّ رضي الله تعالى عنه، وأبو العاص أسلم بعد ذلك كما سيأتي، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأبو ولدها عليّ الذي أردفه صلى الله عليه وسلم خلفه يوم فتح مكة، ومات مراهقا وأبو بنتها أمامة التي كان يحملها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أي وكان يحبها حبا شديدا.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلادة من جذع، فقال: «لأدفعنها إلى أحب أهلي إليّ»، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها وتزوجها عليّ بعد موت خالتها فاطمة رضي الله تعالى عنها بوصية من فاطمة، زوجها له الزبير بن العوام، وكان أبوها أوصى بها إلى الزبير، ومات عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فماتت عنده، وكان تزويجها للمغيرة بوصية من عليّ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما حضرته الوفاة قال لها: إني لا آمن أن يخطبك معاوية، وفي لفظ هذا الطاغية بعد موتي، فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا، فلما انقضت عدّتها أرسل معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل: إن هذا الرجل أرسل يخطبني، فإن كان لك حاجة فيّ فأقبل، فجاء وخطبها من الحسن بن علي، أي فزوجها منه.
أي ولا يخالف ما تقدم أن المزوج لها الزبير بن العوام، لأنه يجوز أن يكون الحسن كان هو السبب في تزويج الزبير لها فبعثت زينب رضي الله تعالى عنها في فداء زوجها أبي العاص قلادة لها كانت أمها خديجة رضي الله تعالى عنها أدخلتها بها عليه حين بنى بها أي والجائي بها أخوه عمرو بن الربيع، ولا يعلم لعمرو هذا إسلام فلما رأى تلك القلادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال للصحابة: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا»، قالوا نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها القلادة، وشرط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب أي أن تهاجر إلى المدينة.
أي وقد كان كفار قريش مشوا إليه أن يطلق زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما طلق ولدا أبي لهب بنتي النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدخول بهما رقية وأمّ كلثوم كما تقدم، وقالوا له: نزوجك أيّ امرأة من قريش شئت، فأبى ذلك، وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحبّ أن لي بها امرأة من قريش، فشكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأثنى عليه بذلك خيرا، فلما وصل أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار قال لهما: تكونان بمحل كذا لمحل قريب من مكة حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها.
أي وذكر أن حماها كنانة بن الربيع أخا زوجها قدم لها بعيرا فركبته واتخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها في هودج لها وكانت حاملا، فتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها.
وفي رواية أنه سبق إليها هبار ورجل آخر يقال له نافع، وقيل خالد بن عبد قيس. ثم إن كنانة برك ونثر كنانته وأخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فجاء إليه أبو سفيان في رجال من قريش، وقال له: كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف، ثم قال له: إنك لم تصب في فعلك، فإنك خرجت بالمرأة جهارا على رؤوس الأشهاد وقد عرفت مصيبتنا التي كانت وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت زينب علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذلّ أصابنا، وأن ذلك منا من ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسر بها سرا فألحقها بأبيها ففعل، وأقامت ليالي ثم خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة: «ألا تنطلق فتجيء بزينب؟» قال بلى يا رسول الله، قال «فخذ خاتمي فأعطها» فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا، فقال: لمن ترعى؟ قال لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال لزينب بنت محمد، فتكلم معه، ثم قال له: هل إن أعطيتك شيئا تعطها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال نعم، فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي إلى زينب وأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: فأين تركته؟ قال بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يديّ على بعيري: قالت لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة وذلك بعد شهرين من بدر. وكان صلى الله عليه وسلم يقول «زينب أفضل بناتي أصيبت بي» أي بسببي.
ومن العجب أن هذه العبارة ساقها الإمام سراج الدين البلقيني في فتاويه في حق فاطمة رضي الله تعالى عنها حيث قال: وقد روى البزار في مسنده من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «هي خير بناتي، لأنها أصيبت فيّ» هذا كلامه، ولينظر ما الذي أصيبت فاطمة بسببه صلى الله عليه وسلم. وقد يقال إصابتها بسبب موته صلى الله عليه وسلم في حياتها.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر أجاب بذلك حيث قال لأنها رزئت بأبيها فكان في صحيفتها أي فهو من أعلام نبوته، أو أن قوله في زينب ما ذكر كان قبل ما وهب الله لفاطمة من الكمالات.
وقد سئل الإمام البلقيني رحمه الله تعالى هل بقية بناته صلى الله عليه وسلم، أي بعد فاطمة سواء في الفضل أو يفضل بعضهنّ على بعض ولم يجب عن ذلك، ولا مخالفة بين خروج زينب إلى زيد وخروج حميها بها إلى زيد. وبهذا: أي بتأخر هجرة زينب يظهر التوقف في قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهنّ أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن معه، إلا أن يقال المراد اشتركن معه في الهجرة، وتقدم ما في قوله وأسلمن، وكون الجائي في فداء أبي العاص أخوه عمرو يخالف ما جاء أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أرسلت في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة الحديث ولعلها تصحيف، وأن الأصل بعثت في فداء أبي العاص أخاه عمرو بن الربيع، ويدل لذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الرواية «إن رأيتم أن تردوا لها أسيرها فأطلقوه» ولم يقل أسيريها، وكان في الأسارى سهيل بن عمرو العامري.
وتقدم أنه كان من أشراف قريش وخطبائها، فقد سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية، فقال الأسود بن عبد المطلب وسهيل بن عمرو، وسئل عن خطبائهم في الإسلام، فقال معاوية بن أبي سفيان وابنه يعني يزيد وسعيد بن العاص وابنه يعني عمرو بن سعيد وعبد الله بن الزبير.
ولعل هذا لا يخالف ما تقدم من قول الأصمعي: الخطباء من بني مروان، عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، وعبد الملك بن مروان: ومما يؤثر عن عتبة: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم كما تقدم. وقال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع أي بالدال والعين المهملتين يخرج لسانه، أي لأنه كان أعلم، والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام فلا يقم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به فيمثل الله تعالى بي». وإن كنت نبيا، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه فكان كذلك: فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أكثر أهل مكة الرجوع عن الإسلام حتى خافهم أمير مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه وتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه خطيبا، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزّمر: 30] وقال {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآيات، وتلا آيات أخر، ثم قال: والله إني أعلم أن هذا سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم: يعني أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره ومقوّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به.
وعند ذلك ظهر عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل، فلما ذكر قدرا أرضاهم به قالوا له هات، فقال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا، وكان في الأسارى الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد، أفتكه أخواه هشام وخالد، فلما افتدي أسلم، فعاتبوه في ذلك، فقال كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأسر، ولما أسلم وأراد الهجرة حبسه أخواه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت كما تقدم، ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء كما سيأتي أي وكان في الأسارى السائب وهو الأب الخامس لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، وكان صاحب راية بني هاشم في ذلك اليوم: أي التي يقال لها في الحرب العقاب، ويقال لها راية الرؤساء، ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم، وكانت لأبي سفيان أو لرئيس مثله، ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه، وفدى نفسه.
وأما أبوه الرابع الذي هو شافع الذي ينسب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه الذي هو ولد السائب لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع فأسلم، وكان في الأسارى وهب بن عمير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وأسره رفاعة بن رافع وكان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك فجلس يوما مع صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان ما في العيش والله خير بعدهم، فقال عمير والله صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي كنت آتي محمدا حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان، وقال له عليّ دينك أنا أقضيه عنك؛ وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، قال عمير فاكتم عني شأني وشأنك، قال افعل ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه، بالمعجمة: أي سنه وسمه: أي جعل فيه السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدوّ الله عمير ما جاء إلا بشر، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال صلى الله عليه وسلم: فأدخله عليّ، فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، والحمالة بكسر الحاء المهملة: العلاقة فمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: «أرسله يا عمر، ادن يا عمير»، فدنا ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير»، فقال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم يعني ولده وهبا فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف، قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: «أصدقني ما الذي جئت له؟» قال: ما جئت إلا لذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش». ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لا أعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره» ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وأسلم ولده وهب رضي الله عنه.
وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا.
أي ولما قدم عمير لم يبدأ بصفوان، بل بدأ ببيته وأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ ذلك صفوان، فقال: قد عرفت حيث لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد نكس وصبأ، ولا أكلمه أبدا. ولا أنفعه ولا عياله بنافعة.
ثم إن عميرا وقف على صفوان وناداه: أنت سيد من سادتنا، رأيت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له أهذا دين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة، وعند فتح مكة هو الذي استأمنه صلى الله عليه وسلم لصفوان كما سيأتي.
وكان في الأسارى أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب فقال للذي أسرني: شدّ يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقلت له يا أخي هذه وصايتك بي، فبعثت أمه في فدائه أربعة آلاف درهم ففدته بها.
وكان في الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، أي وقد شدوا وثاقه فأنّ فلم يأخذه صلى الله عليه وسلم نوم فقيل ما سهرك يا رسول الله؟ قال: «لأنين العباس»، فقام رجل وأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، والذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو، وكان ذميما أي بالمهملة: صغير الجثة والعباس جسيما طويلا فقيل للعباس رضي الله تعالى عنه: لو أخذته بكفك لوسعته كفك، فقال ما هو إن لقيته فظهر في عيني كالخندمة أي وهو جبل من جبال مكة، أي وأبو اليسر هذا هو الذي انتزع راية المشركين، وكنت بيد أبي عزيز بن عمير. قال: وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل كعبا وقال له: «كيف أسرت العباس؟» قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه ملك كريم، أي وفي رواية «أن العباس رضي الله تعالى عنه لما قيل له ما تقدم قال: والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أبلج من أحسن الناس وجها على فرس أبلق فما أراه في القوم، فقال الذي جاء به: والله أنا الذي أسرته يا رسول الله، فقال: «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم».
وفي الكشاف أن العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله بن أبيّ ابن سلول قميصه، وجعل صلى الله عليه وسلم فداء العباس أربعمائة أوقية. وفي رواية مائة أوقية. وفي رواية أربعين أوقية من ذهب.
وفي رواية جعل على العباس أيضا فداء عقيل ابن أخيه ثمانين أوقية، أي وجعل عليه فداء ابن أخيه نوفل بن الحارث.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «افد نفسك يا عباس وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابني عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية» وسيأتي ما يدل على أنه إنما فدى نفسه وابن أخيه عقيل فقط، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم «تركتني فقير قريش ما بقيت» وفي لفظ تركتني أسأل الناس في كفي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين المال الذي دفعته لأم الفضل؟» يعني زوجته وقلت لها إن أصبت فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم وفي كلام ابن قتيبة «فللفضل كذا، ولعبد الله كذا، وقثم كذا»، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل زاد في رواية «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله» .
وفي رواية أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت فقال له: «كيف تكون فقير قريش، وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل، وقلت لها إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت» .
وفي رواية «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟» فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان، وما اطلع عليه إلا الله وتقدم عن أبي رافع مولى العباس أن العباس رضي الله تعالى عنه وزوجته أم الفضل كانا مسلمين، بل تقدم أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله تعالى عنها، وكانا يكتمان إسلامهما، وأن أبا رافع كان كذلك.
ومما يؤيد إسلام العباس رضي الله تعالى عنه أنه جاء في بعض الروايات أن العباس رضي الله تعالى عنه قال: علام يأخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ أي وفي رواية: كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك؛ ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا». وقد أنزل الله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [الأنفال: 70] أي إيمانا {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} [الأنفال:70] أي من الفداء الآيات، فعند ذلك: أي عند نزول الآيات قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافا فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد» وفي لفظ «أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب به، أي يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة» أي وهذا القول من العباس رضي الله تعالى عنه يدل على تأخر نزول هذه الآيات.
وجاء أن العباس رضي الله تعالى عنه خرج لبدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: «أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» وجاء في بعض الروايات أن العباس رضي الله تعالى عنه لما أسر تواعدت طائفة من الأنصار على قتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: «لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، زعمت الأنصار أنهم قاتلوه»، فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس، فقالوا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي، فقالوا: إن كان رضي فخذه فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب .
أي وفي أسباب النزول للواحدي: لما أسر العباس يوم بدر أقبل المسلمون عليه يعيرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ عليّ له من القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له عليّ: ألكم محاسن؟ قال نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحيي الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ} [التّوبة: 17] الآية.
وجاء أنه قال للمسلمين: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ} [التّوبة:19] الآية.
وذكر بعضهم أن العباس رضي الله تعالى عنه كان رئيسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام، فكان لا يدع أحدا يتشبب فيه، ولا يقول فيه هجرا. والتشبيب: ترقيق الشعر بذكر النساء والهجر: الكلام الفاحش، فكانت قريش اجتمعت وتعاقدت على تسليم ذلك للعباس، وكانوا عونا له على ذلك.
ومن ثم قيل في العباس: هذا والله هو الشرف: يطعم الجائع، ويؤدب السفيه، فإن طعامه كان لفقراء بني هاشم. وقيل وسوطه معد لسفهائهم، وإذا كان ذلك لسفهاء بني هاشم فلسفهاء غيرهم بطريق الأولى.
والظاهر أن ذلك لا يختص بسكونهم في المسجد كما قد يدل عليه الرواية الأولى، ولا ينافي هذا أي قول عمر له أسلم إلى آخره، ما تقدم عن مولاه أبي رافع، من أن العباس كان مسلما، ومن قوله للنبي صلى الله عليه وسلم إنه كان مسلما، ومن إتيانه بالشهادتين عنده صلى الله عليه وسلم، لأن ذاك لم يظهره علانية بل أظهره له صلى الله عليه وسلم فقط ولم يعلم به عمر ولا غيره، ولم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم إسلام العباس رفقا به، لما تقدم أن العباس كان له ديون متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم.
ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه: أي فلم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح، وكان كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكتب له مقامك بمكة خير لك.
أي وفي رواية «استأذن العباس رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فكتب إليه: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك.
وفي رواية أنه قال لابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «افد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء أفدي به نفسي، قال: «افد نفسك من مالك الذي بجدة» وفي لفظ «بأرماحك التي بجدة فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما أحد يعلم أن لي بجدة أرماحا غير الله» أي وفدى نفسه ولم يفده العباس.
ويدل لذلك ما رواه البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين أي من خراجهما فقال «انثروه في المسجد»، فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان مائة ألف وكان أول خراج حمل إليه صلى الله عليه وسلم وكان يأتي في كل سنة .
وحينئذ لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لجابر «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك» فلم يقدم مال البحرين حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المراد أنه لم يقدم في تلك السنة.
ولما نظر ذلك المال في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فكان لا يرى أحدا إلا أعطاه، فجاءه العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، أي ولم يقل نوفلا ولا حليفه عتبة بن عمرو، فقال: «خذ» فحثى في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال «مر بعضهم يرفعه إليّ»، قال لا قال: «فارفعه أنت علي»، قال لا، فنثر منه، ولا زال يفعل كذلك حتى بقي ما يقدر على رفعه على كاهله أي بين كتفيه، ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره عجبا من حرصه حتى خفي.
ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وفي رواية قال له: «إن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن» ففعل وأعتقه، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا. أي ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا.
ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأسر وقتل صبرا وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي.
أي فعلم أن أسرى بدر؛ منهم من فدي ومنهم من خلي سبيله من غير فداء، وهو أبو العاص، وأبو عزة، ووهب بن عمير؛ ومنهم من مات؛ ومنهم من قتل وهو النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كما تقدم.
ولما بلغ النجاشي نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فرح فرحا شديدا. فعن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النجاشي أرسل إليه وإلى أصحابه الذين معه بالحبشة ذات يوم، فدخلوا عليه فوجدوه جالسا على التراب لابسا أثوابا خلقة، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال لهم: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه، وأهلك عدوه فلانا وفلانا وعدد جمعا التقوا بمحل يقال له بدر كثير الأراك كنت أرعى فيه غنما لسيدي من بني ضمرة، فقال له جعفر ما لك جالس على التراب عليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا الله عز وجل تواضعا عندما أحدث لهم نعمة.
وفي رواية: كان عيسى صلوات الله وسلامه عليه إذا حدث له من الله نعمة ازداد تواضعا، فلما أحدث الله تعالى نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت هذا التواضع.
وفي رواية إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث الله تواضعا، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة الحديث.
قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر واستأصل وجوههم، قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة رضي الله تعالى عنهما- فإنهما أسلما بعد ذلك- إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، فأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري بكتاب يوصيه فيه على المسلمين انتهى. وفي الأصل هنا ما يوافقه.
وفيه أن عمرو بن أمية الضمري لم يكن أسلم بعد، أي لأنه كما في الأصل شهد بدرا وأحدا مع المشركين. وأول مشهد شهده مع المسلمين بئر معونة، وأسر في ذلك وجزت ناصيته وأعتق، وكان ذلك في سنة أربع كما سيأتي. قال: فلما وصل عمرو وعبد الله إلى النجاشي ردهما خائبين.
أي فعن عمرو بن العاص قال: دخلت على النجاشي فسجدت له، فقال:
مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟ فقلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويتحفظ به، قال عمرو: فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إني رأيت رجلا خرج من عندك يعني عمرو بن أمية الضمري. وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطينه فأقتله، فغضب ثم رفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فجعلت أتقي الدم بثيابي. وفي رواية: ثم رفع يده فضرب بها أنف نفسه، ظننت أنه قد كسره. وقد يجمع بوقوع الأمرين منه، وعند ذلك قال عمرو: فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه، فقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول الله رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى ابن مريم لتقتله؟ قلت وتشهد أنت أيها الملك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد بذلك عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق. قلت له: أفتبايعني له على الإسلام، قال:
نعم، فمدّ يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد كساني، فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل من صاحبك قضاء لحاجتك؟ يعنون قتل عمرو بن أمية الضمري، فقلت لهم: كرهت أن أكلمه أول مرة وقلت أعود إليه، قالوا: الرأي ما رأيت وفارقتهم. وهذا يدل على أنه كان معه ومع عبد الله جماعة آخرون من قريش. ويحتمل أنه عنى بأصحابه عبد الله بن ربيعة، ويؤيد الأول ما يأتي فليتأمل.
وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية، وهو محلّ معروف كان موردة لجدة: أي كان ترسي به السفن قبل وجود جدة كما تقدم، فخرجت من السفينة فابتعت بعيرا وتوجهت إلى المدينة حتى إذا كنت بالهداة: اسم محل، إذا رجلان وهما خالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، فرحبا بي وإذا هما يريدان الذي أريد، فتوجهنا إلى المدينة.
فقد علمت ما في إرسال عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عقب وقعة بدر من أنه كان في ذلك الوقت كافرا، لأنه شهد مع الكفار أحدا.
ومن ثم قال في الأصل هنا: فلما كان شهر ربيع الأول، وقيل المحرم سنة سبع، أي وقيل سنة ست حكاه ابن عبد البر عن الواقدي من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به عمرو بن أمية الضمري، فلما قرىء عليه الكتاب أسلم، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة ففعل. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل، وقد تقدم القول عند ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة أن توجه عمرو بكتابي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم سنة سبع يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني في تزويجه عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وقيل إرسال عمرو كان في شهر ربيع الأول منها.
وسيأتي ذكر كتابي النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو عند ذكر كتبه إلى الملوك، هذا كله كلام الأصل فليتأمل ما فيه.
ثم رأيت صاحب النور قال: قد رأيت غير واحد صرح بأن النجاشي أسلم في السنة السابعة؛ يعنون من الهجرة، وهذا يعكر على تصديقه وإسلامه عند إرسال عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة: أي عقب بدر، حيث قال أنا أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم هذا كلامه.
أي فكيف يكون إرسال عمرو بن أمية إلى النجاشي ليسلم. وقد يجاب بأن المراد إظهار إسلامه، أي بعث له عمرو بن أمية لأجل أن يظهر إسلامه ويعلن به بين قومه، أي لأنه كان يخفي إسلامه عن قومه. ولما بلغ قومه أنه اعترف بأن عيسى صلوات الله وسلامه عليه عبد الله ووافق جعفر بن أبي طالب على ذلك سخطوا وقالوا له: أنت فارقت ديننا، وأظهروا له المخاصمة، فأرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هربت فاذهبوا حيث شئتم، وإن ظفرت فأقيموا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في ثيابه عند منكبه الأيمن وخرج إلى الحبشة وقد صفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أرفق الناس بكم؟ قالوا بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فماذا تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال لهم النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن عيسى ابن مريم ولم يزد على هذا، وإنما يعني ما كتب فرضوا منه ذلك.
ويذكر أن عليا رضي الله عنه وجد ابن النجاشي عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين، وكان يقال له نيزر مولى علي كرم الله وجهه.
ويقال إن الحبشة لما بلغهم خبره أرسلوا وفدا منهم إليه ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالإسلام.
على أن ابن الجوزي رحمه الله ذكر أن ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان عند منصرفه مع قريش في غزوة الأحزاب أي لا عقب بدر.
فعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو لأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن ممن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا هو الرأي، فقلت: اجمعوا ما يهدى له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا إليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن جعفر وأصحابه الحديث.
وهذا لا يمنع أن يكون عمرو بن العاص وفد على النجاشي هو وعبد الله بن ربيعة عقب بدر، فيكون وفود عمرو بن العاص على النجاشي كان ثلاث مرات: مرة مع عمارة عقب مهاجرة من هاجر إلى الحبشة، ومرة مع عبد الله بن ربيعة عقب بدر، وهذه المرة الثالثة التي كانت عقب الأحزاب، وإن إرسال عمرو بن أمية وإسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي كان في هذه المرة الثالثة.
وحينئذ لا يشكل إرسال عمرو بن أمية للنجاشي، لأنه كان مسلما حينئذ، فيكون ذكر مجيء عمرو بن أمية إلى النجاشي في المرة الثانية التي كانت عقب بدر اشتباه من بعض الرواة وكذا ذكر إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي في المرة الثانية من تخليط بعض الرواة.
ثم رأيته في «الإمتاع» قال: وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة مطولة ومختصرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل عمرو بن أمية الضمري في أموره لأنه كان من رجال النجدة، أي ومعلوم أنه كان لا يرسله إلا بعد إسلامه، وإسلامه قد علمت أنه كان سنة أربع. وفي الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة بهدية لأبي سفيان بن حرب.
أي ولعل المراد بذلك ما حكاه بعض الصحابة قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح وقال لي: «التمس صاحبا»، قال: فجاءني عمرو بن أمية، فقال: بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا، قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وجدت صاحبا، فقال: «من؟» قلت: عمرو بن أمية الضمري، فقال: «إذ هبط بلاد قومه فاحذروه، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه»، وقد أسلم عبد الله ولده قبل أبيه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، روي «أنه صلى الله عليه وسلم قال فيهما وفي أم عبد الله: نعم البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وكان صلى الله عليه وسلم يفضل عبد الله على أبيه، لأنه كان من عباد الصحابة وزهادهم وفضلاهم وعلمائهم، ومن أكثرهم رواية.
وذكر ابن مرزوق رحمه الله «أن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئنّ، فناداه يا عبد الله، قال: فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الطبراني في الأوسط. زاد السيوطي في الخصائص فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: «أو قد رأيته؟» قلت نعم، قال: «ذاك عدوّ الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة» .
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الشعبي «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حديد» وفي لفظ بعمود حديد حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة» .
وما جاء في فضل من شهد بدرا أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها، قال جبريل عليه السلام: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة وفي رواية «إن للملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلا على من تخلف منهم» وجاء بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي وقد كان من أهل بدر، أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنه شهد بدرا، وعسى أن يكفر عنه» وفي رواية «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
قال وفي الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو قال: فقد وجبت لكم الجنة» أي غفرت لكم ما مضى وما سيقع من الذنوب، أي وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه، لأنه إذا وقع يقع مغفورا، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه، وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر جلده وكان بدريا أي وقد يقال هذا يقتضي وجوب التوبة في الدنيا فإذا لم تقع لا يؤاخذ بذلك في الآخرة لأن وجوب التوبة في أحكام الدنيا.
لا يقال: إذا سلم أن الذنب إذا وقع منهم يقع مغفورا لا معنى لوجوب التوبة، وإنما حد عمر رضي الله تعالى عنه قدامة زجرا عن شرب الخمر. لأنا نقول: بل لوجوب التوبة في الدنيا معنى وإن كان الذنب إذا وقع مغفورا، لأن المراد بذلك عدم المؤاخذة في الآخرة، وذلك لا ينافي وجوب التوبة عنه في الدنيا، لأنه لا تلازم بين وجوب التوبة في الدنيا وبين غفران الذنب في الآخرة.
هذا، وفي الخصائص الصغرى نقلا عن شرح «جمع الجوامع» أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم. وقدامة هذا كان متزوجا أخت عمر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر متزوجا بأخت قدامة وهي أم حفصة رضي الله عنها، فكان خالا لحفصة ولأخيها عبد الله، وكان عاملا لعمر في بعض النواحي أي البحرين، فقدم الجارود سعد بن عبد القيس على عمر من البحرين وكان قدامة واليا عليها، فأخبر عمر أن قدامة سكر، قال: وإني رأيت حدّا من حدود الله حقا عليّ أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال أبو هريرة: فشهد أبو هريرة رضي الله عنه أنه رآه سكران، أي قال: لم أره يشرب، ولكني رأيته سكران يقيء، فأحضر قدامة، فقال له الجارود: أقم عليه الحد، فقال له عمر رضي الله عنه: أخصم أنت أم شاهد؟ فصمت ثم عاوده، فقال له عمر رضي الله عنه: لتمسكن أو لأسوءنك،فقال: ليس في الحق. وفي لفظ: أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى زوجته قدامة أي بعد أن قال له أبو هريرة رضي الله عنه: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد يعني زوجته، فجاءت فشهدت على زوجها بأنه سكر، فقال عمر لقدامة: أريد أن أحدك، فقال: ليس لك ذلك، لقول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ} [المائدة: 93] ، فقال له عمر: أخطأت التأويل، فإن بقية الآية {إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فإنك إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك، ثم أمر به فحد، فغاضبه قدامة ثم حجا جميعا، ففي قوم استيقظ عمر رضي الله تعالى عنه من نومه فزعا، فقال: عجلوا بقدامة، أتاني آت، فقال: صالح قدامة فإنه أخوك، فاصطلحا.
أي وقد احتج بهذه الآية أيضا جمع من الصحابة شربوا الخمر، وهم أبو جندل، وضرار بن الخطاب، وأبو الأزور، فأراد أبو عبيدة رضي الله عنه وهو وال بالشام أن يحدهم، فقال أبو جندل {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، وقال: خصمني أبو جندل بهذه الآية. فكتب عمر لأبي عبيدة: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم، فلما أراد أبو عبيدة أن يحدهم، قال أبو الأزور لأبي عبيدة: دعنا نلقى العدوّ غدا، فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا، فلقوا العدوّ فاستشهد أبو الأزور وحدّ الآخران.
وفي حواشي البخاري للحافظ الدمياطي «أن نعيمان كان ممن شهد بدرا وسائر المشاهد وأتى في شربه الخمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحده أربعا أو خمسا أي من المرات، فقال رجل من القوم اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يحد! فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» ولعل هذا التعليل لا ينظر لمفهومه.
وعند الإمام أحمد رحمه الله عن حفصة رضي الله تعالى عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا والحديبية» ولعل الواو بمعنى أو. ويدل لذلك ما في بعض الروايات عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» .
ولا ينافي ما في مسلم والترمذي عن جابر أن عبد الحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا إليه، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال: «كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية» لأنه يجوز أن يكون ذلك لكونه: أي الجمع بين بدر والحديبية هو الواقع لحاطب.
وفي الطبراني عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر «والذي نفسي بيده لو أن مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها ويجتنب معاصي الله كلها إلى أن يرد إلى أرذل العمر أو يردّ إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لم يبلغ أحدكم هذه الليلة» .
وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم. ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في صفة ضيقة ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان» بعدد الواقفين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجه من أقامه، فقال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه»، فنزل قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك أي ولعل المراد يجلسونهم مكانهم.
وفي الخصائص الصغرى: وخصّ أهل بدر من أصحابه صلى الله عليه وسلم بأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لهم لفضلهم.
وقد ذكر أن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله ليسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا رضي الله تعالى عنه، فأتاه عمر فأعرض عبيد الله عنه وقام ليصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل عليه، وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم، ففهمها عمر وقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود، فما سمع بعد ذلك يذكر عليا كرّم الله وجهه إلا بخير.