غزوة بدر الكُبرى
وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد نزل بجيش المسلمين #~~~قريبًا من بدر~~~# وقد تأكد لديه وجود…
جيش قريش عند #~~~العدوة القصوى~~~# وقد قدَّر صلى الله عليه وآله وسلم عددهم بتسعمائة إلى ألف من الغلامين اللذين كانا عند ماء بدر وأتت بهما فرقة الاستطلاع التي أرسلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مساء الخميس، وبعد أن استطلع الأمر بنفسه ليعرف مكانهم هو وأبا بكر الصديق صبيحة الخميس.
ولمّا كان المساء وكان جيش المسلمين قد نزل قريبًا من بدر وقد أصابهم التعب من الأرض الرملية التي نزلوا فيها، وكرهوا قتال قريش وهابوا عددهم وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم : “تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم متعبون!”، وفي هذا المعنى أنزل الله تعالى قوله عز وجل: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] جاء الحباب بن منذر بن الجموح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”، قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، قال: “يا رسول اللهّٰ، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم -أقرب بئر إليهم-، فننزله، ثم نغُوِّر ماء ما وراءه من القُلبُ-نردم الآبار الأخرى القريبة منه-، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون”؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد أشرت بالرأي».
وروُِيَ أن جبر يل عليه السلام كان مع النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم حينها، إذ جاء إلى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ملك من الملائكة، فقال: «يا محمد إن اللهّٰ يقرأ عليك السلام”، فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “هو السلام ومنه السلام وإليه السلام”، فقال الملك: “إن الله يقول لك إن الرأي هو ما أشار به الحباب بن المنذر”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يا جبر يل، هل تعرف هذا؟”، فقال جبر يل: “ما كل أهل السماء أعرف، وإنه لصادق، وما هو بشيطان»، فنهض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس، فساروا..……حتى أقرب بئر إلى الموضع الذي عسكرت فيه قريش، فنزل عند البئر وأمر بردم الآبار الأخرى القريبة من جيش المشركين، وبنوا الحوض على البئر وملؤوه ماءاً، ولم يعد للمشركين ماءاً يشربون، فكان لجيش المسلمين عدَّة مزايا عسكر ية قبل بدء الحرب، وهي الاقتراب من العدو دون أن يعلم وتجهيز أرض المعركة والسيطرة على الموارد المحيطة وأهمها المياه، وكان ذلك عند منتصف الليل تقريباً.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك سعد بن معاذ، فقال: “يا نبي الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعَدُُ عِندَه ركائبك-خيل أو جمل للركوب-، ثم نلَقَْى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك”، فأثنى عليه رسول اللهّٰ صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له بخير، ثم بنوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشًا في أرض المعركة ومكانه الآن #~~~مسجد العريش~~~# معروف ببدر.
وأمطرت على بدر السماء، فأسرع المسلمون يحتمون من الماء تحت الشجر و قطع الجلود، ولماّ توقف المطر هدأ غبار الأرض فصار الجو منُعشًا، وتماسكت الرمال من تحت أرجلهم فثبََتّتَ أقدامهم، وطابت أنفسهم وتنفسوا هواءاً نقياً بعد المطر وباتوا بخير ليلة، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]، وبات المشركون بشر ليلة، فقد جعل المطر أرض معسكرهم زلقة بالوحل والماء.
وقبل أن يناموا اسعتدادًا للقتال في الصباح، عبَأهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفَّهم في صفوف على أحسن ما يكون، ونبههم على عدّة أمور حربية، منها ألا يبدأوا العدو بقتال حتى يأذن لهم، وأن يقعدوا على ركبهم بعد الاصطفاف في وضع الاستعداد قبل بدء الحرب حتى يعطيعهم إشارة الالتحام بالعدو، وجعل كلمة السر بين كتيبة المهاجرين ليعرفوا بعضهم: “يا بني عبد الرحمن”، وبين كتيبة الخزرج: ”يا بني عبد الله”، وبين كتيبة الأوس: “يا بني عبيد الله”، والفرسان: “خيل الله”، والجيش كلهّ: “أحد أحد”، ولا بد من كلمة السر عند الالتحام حتى لا يقتل أحدهم من معه خطأ، خصوصًا أن وجوههم لا تكون ظاهرة غالباً من عَتاَد الحرب كما هو واضح من الروايات عن زيّ الحرب.
وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً يصُليِّ ويتضرع إلى اللهّٰ ويبكي تحت شجرة، وقد سُمعِ في سجوده يكرر: «يا حي يا قيوم»و يلظ بها، والمسلمون نيام، ولم ينم هو صلى الله عليه وآله وسلم تلك الليلة تقريباً، وبات يبتهل ويدعوا و يصلي للمولى عز وجل أن ينصره وينجز له وعده، و يقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعُبدَ».
ولماّ طلع الفجر نادى منُادٍ من جيش المسلمين: “الصلاة عباد الله، الصلاة جامعة”، ولم يكن الأذان قد شرُع، فجاء المسلمون من تحت الشجر وقطع الجلود وكانوا قد ناموا تحتها احتماءاً من المطر، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين الصبح ثم قال: “إن قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل”.
وارتحلت قرُيش مع ضوء النهار وأقبلت تجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجيش المسلم، فلماّ رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة» وكان ذلك أوّل وقت الضُحى تقريباً حوالي السابعة صباحًا، والنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم قد نادى على المسلمين ليصطفّوا، قائلاً: «قوموا إلى جنَةّ عرضها السماوات والأرض»، ووقف يعُدِّل الصفوف ويسويّها بعصا صغيرة [^1] في يده، حتى إذا وصل عند سواد بن غزية من حلفاء بني عدي بن النجّار وقد خرج عن الصف، فدفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بطنه بالعصا، وقال: «استو يا سواد»، فقال سواد: “يا رسول اللهّٰ أوجعتني، وقد بعثك اللهّٰ بالحق والعدل، فأقدِْني-اقتصلي من نفسك-، فكشف صلى الله عليه وآله وسلم عن بطنه، فقال: “استقد-اقتصمني-”، فاعتنق سواد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبَلّ بطنه، فقال له النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «ما حملك على هذا يا سواد؟»، فقال: “يا رسول اللهّٰ حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك”، فدعا له النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم بخير، وكان بعض الصحابة وفيهم أبو أيوب الأنصاري في الصف غير مستوين، فقال لهم صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «معي معي»-يعني اضبطوا الصف معي على ما ضبطت-، ثم كرر عليهم صلى الله عليه وآله وسلم عدّة أوامر عسكر يةّ يفعلونها كان قد أمرهم بها بالأمس، أن يفعلوها حتى يقترب العدو و يعطيهم أوامر الالتحام:
* أن يجثوا على ركبهم طالما أنه لم يأمرهم بالالتحام.
* ألا يلتحموا مع العدو حتى تأتيهم أوامره المباشرة، وقال: «إذا اكتنفوكم -اقتربوا منكم-، فانضحوهم عنكم بالنبل -يعني استبقوهم بالرمي بالنبال ولا تلتحموا معهم حتى آمركم-».
* ألّا يُخرجوا السيوف من أماكنها حتى يأمرهم بالالتحام.
* وأن يشتغلوا بذكر اللهّٰ كثيراً، وفي ذلك أنزل المولى عز وجل: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً} [الأنفال: 45].
ولماّ رآهم عتبة بن ربيعة -من المشركين- قال لقومه وهو ينصحهم أن يتركوا الحرب: “ألا ترونهم -يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم- جثياً على الركب كأنهم حرس يتلمظّون كما ٺتلمظ الأفاعي-في قمة التأهب والاستعداد والتحفز-“، وأخبرهم النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: أن من قتل مشركًا فله غنيمته، وأمرهم أن لا يقتلوا من وصلت المعلومات بأنه يقاتل مع المشركين مكرهاً لا يريد حرب النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فقال: «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يقتله فإنما خرج مستكرهاً»، وأبو البختري بن هشام كان ممن لا يعادي النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ولا يؤذيه، وقد كان ممن تولى إنهاء اتفاقية قريش الظالمة بحصار بني هاشم قبل الهجرة، واستمرت ثلاث سنوات في حصار اقتصادي مرير عانى منه بنوا هاشم لقرابتهم من النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وعادتهم فيه قريش أشد معاداة.
ولماّ سمع أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة -وهو من المسلمين- ما قاله النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، كأنه اعترض عليه ولم يفهمه، فقال: “أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباّس!؟، والله لئن لقيته لأطعننه بالسيف”، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقالته، فقال لعمُر بن الخطاب: «يا أبا حفص»، يقول عمر بن الخطاب: “والله إنه لأول يوم كناّني فيه رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم بأبي حفص”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أيضُرب وجه عم رسول اللهّٰ بالسيف؟»، فقال عمر: “دعني يا رسول الله فلأضرب عنقه بالسيف -يعني أبو حذيفة- فوالله لقد نافق!”، فلم يقُر رّسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال عمر رضي الله عنه، يقول أبو حذيفة عن نفسه: “ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفًا، إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل في معركة اليمامة شهيدًا بعد ذلك في خلافة أبي بكر.
وبعد أن صفَّهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خطب فيهم وحرَّضهم على القتال وعبَأّهم التعبئة المعنو ية اللازمة على أحسن ما يكون، فامتلأوا طُمأنينة وثباتاً، وخفقت قلوبهم حماسة وطلباً لرضا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم دخل صلى الله عليه وآله وسلم العريش الذي بنُي له، ومعه أبا بكر الصديق لا ثالث لهما، وقد وقفت فرقة الحراسة عند مقر القيادة في العريش تحرس النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وقد جهزوا له ما يركبه فينطلق به إن كر عّليهم العدو وكانت الهزيمة لا قدر الله، وكان على رأس فرقة الحراسة سعد بن معاذ صاحب فكرة واقتراح مركز القيادة.
ووقف النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم يدعو ويبتهل ويتضرع إلى المولى عز وجل أن ينصر المسلمين، وقد أكثر الدعاء والاستغاثة بالمولى عز وجل مابين ساجدًا وقائماً، وعلي بن أبي طالب يخرج من ساحة المعركة ليطمئن على النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عدَّة مرات فيجده ساجدًا يستغيث بربه، يقول: «يا حي يا قيوم»، ثم يقوم من سجوده فيقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض»، ويدعو و يلح على ربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقطت عبائته عن كتفيه، وأشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قائلاً: “يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك-أي لم ٺتعب نفسك يا رسول الله هذا التعب وقد وعدك الله؟-“.
والنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم يعلم حقًا و يقيناً أن وعد الله حق، وقد أراه الله مصارع القوم ووعده النصر، لكنهّ صلى الله عليه وآله وسلم أعبد الناس وأعرفهم لله وبالله، فيعُلمّنا أن التضرع والاستغاثة بالله عبوديةّ وامتثال لأمر الله هي سمة العبد الشاكر المحب لربه، حتى مع الوعد الصادق، فإنه تعالى يحب أن يدعوه عبده ويستغيث به، فهذه عبوديةّ محضة لله، والله لا يسُأل عماّ يفعل، وقد سئلته أم المؤمنين عائشة رضي اللهّٰ عنها مرّة لما رأته يقول الليل حتى تعبت قدماه، فكأنها قالت له إشفاقاً
عليه: “يا رسول، ألم يغفر اللهّٰ لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!” -أي ما حاجتك في هذا التعب والز يادة يا رسول الله؟-، وهو نفس المعنى الذي أراده الصّديق في هذا الموقف، فعلمّها صلى الله عليه وآله وسلم كما علمّ أباها في هذا الموضع الخطير رضي اللهّٰ عنهما، فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورا!»، فأعطى صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لنا المثال الكامل في معاملة المولى عزوجل، وأن العبودية للهّٰ، والشكر له لا ينتهيان.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سهر الليل كله تقريباً يدعوا ويبتهل لربه عز وجل أن ينصره وينجز له وعده، ولما كان بالعريش وقال له أبا بكر الصديق ما قال نام صلى الله عليه وآله وسلم نومة سريعة، حتى قال أبو بكر: “يا رسول الله اقترب القوم مناّ!”، فانتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستبشراً، وقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبر يل معتجر بعمامة صفراء على رأسه آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع -الغبار-»، ثم خرج صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من العريش وهو يقفز
مرتدياً درعه تالياً قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ} {بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ} [القمر:45-46]، وهذه الآية نزلت في مكّة قبل الهجرة ولما نزلت، تسائل عمر بن الخطاب رضي اللهّٰ عنه: “أي جمع يهزم وأي جمع يغلب؟!” وتعجب، إذ المسلمون في مكة مستضعفون لا قوة لهم، حتى سمعها اليوم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول عمر : “فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقفز بدرعه يرددها، فعرفت معناها يومئذ”.
ثم حرَّضهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القتال ووعدهم النصر أو الشهادة فقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله اللهّٰ الجنة»، وقال: «لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء أكون أنا دونه» -يعني إذا رأيتموني اقتربت من شيء فلا ٺتقدموا إليه … (لماذا؟)، وقال: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض»، فلماّ سمع ذلك أحد الأنصار واسمه عمير بن الحمام الأنصاري، قال: “يا رسول اللهّٰ جنة عرضها السماوات والأرض، ليس بيني وبينها إلا أن يقتلني هؤلاء؟”، قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «نعم!»، فقال عمير:“بٍَخ بٍَخ!”-وهي صيغة للتعبير عن مدح الشيء والإعجاب به-، فقال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «لم تقول بٍَخ بٍَخ؟»، قال عمير: “لا لشيء يا رسول اللهّٰ إلا رجاء أن أكون من أهلها!”، قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «فإنك من أهلها!»، فأخرج عمير تمرات من خوذته يأكل منها، ثم قال: “لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة”، فرماها من يده وخرج فقاتل حتى استشُهد رحمه الله ورضي عنه.
ولما اقترب جيش المشركين من جيش المسلمين، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين ألا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عتبة بن ربيعة على جمل أحمر يجول في مقدمة جيش المشركين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن يكن في أحد من القوم خير، فعند صاحب الجمل الأحمر»، ثم نادى صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم علياً بن أبي طالب رضي اللهّٰ عنه وكان على مقربة منه صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فقال: «يا علي، نادِ حمزة»، وكان حمزة بن عبد المطلب أقربهم من جيش المشركين ومن صاحب الجمل الأحمر، فسأله عن صاحب الجمل الأحمر، فقال حمزة: “هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال، و يقول لهم: يا قوم أعصبوها برأسي وقولوا جبَنَُ عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم”.
وكان حكيم بن حزام مع المشركين -وأسلم بعد ذلك-، قد جاء إلى عتبة بن ربيعة فقال: “يا أبا الوليد إنك كبير قريش والمطاع فيها، فهل لك في أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟”، قال عتبة: “وما ذاك يا حكيم؟”، قال حكيم: “إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي، وهو حليفك، فادفع ديتّه ويرجع الناس!”، فقال عتبة: “هو حليفي وعلي ديته وما
أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية -يعني أبو جهل-، فإني لا أخشى أن يسجر أمر الناس غيره!”، ثم قام عتبة خطيباً فقال: “يا معشر قريش، إنكم واللهّٰ ماتصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئاً، واللهّٰ لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوّا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم ترضعوا منه ما تريدون”، قال حكيم: ”فانطلقت حتى جئت أبي جهل، فوجدته قد أخرج درعاً فهو يتفقدها ويجهزها، وهو في جماعة أمامه وخلفه، وابن الحضرمي حليف عتبة بن ربيعة صاحب الثأر واقف عند أبي جهل”، فقلت له: ”يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك” و يقول لك: ”هل لك أن ترجع اليوم بمن معك؟”، فقال أبو جهل: ”أما وجد رسولا غيرك!”، قال حكيم: ”لا، ولم أكن لأكون رسولا لغيره!”، قال أبو جهل: ”انتفخ والله سَحرْهُ -أصابه الرعب- حين رأى محمدًا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم اللهّٰ بيننا وبين محمد، وما يريد عتبة ذلك، ولكنه رأى محمدًا وأصحابه لقمة سائغة وفيهم ابنه فخاف منكم على ابنه أن نقتله مع أصحاب محمد”، ثم نادى على ابن الحضرمي وقال: ”هذا حليفك -يعني عتبة بن ربيعة- يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينيك، فقم واطلب من قريش عهدهم وحلفهم وثأرهم لك من مقتل أخيك”، فقام عامر بن الحضرمي وكشف سوئته وقال: ”واعمراه واعمراه”، فحميت الحرب وثبت جيش المشركين على الشر، وأفسد أبو جهل الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، ثم قال أبو جهل: “اللهم أقطعنا للرحم آتانا بما لا
نعرف فأهلكه الغداة، اللهم أعن أعز الفئتين، وأكرم القبيلتين، وأكثر الفر يقين”، فكان لعنه اللهّٰ مستفتحاً على نفسه بالدعاء فقتله اللهّٰ كما سيأتي، وأنزل المولى عز وجل: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].
وقام أبو جهل إلى عتُبة، فقال: “أنت تقول ذلك؟، والله لو غيرك يقوله لأعضضته، قد ملأت رئتك جوفك رعباً”، فقال عتبة: “إيّاي تعُّيِر يا مصَُفّرِ إسته؟ سيعلم اليوم أينا الجبان!”، وبحث عتبة عن خوذة يلبسها على رأسه فلم يجد في الجيش واحدة تكفي رأسه لضخامتها، فوضع على رأسه عمامة سميكة بدلا من الخوذة، ثم خرج عتبة وشيبة أخوه وابنه الوليد بن عتبة عن صفوف المشركين وقالوا: “من يبُارز؟”، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون
أول من يبارز من الأنصار، وأحب أن يبدأ بأهله من بني هاشم، فلماّ خرجوا، قال لهم عتبة، من أنتم؟، فقالوا فلان وفلان وفلان، فقال: “أكفاء كرام، ولكنا نريد قومنا، ولا حاجة لنا بكم!”، فقال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «قم يا حمزة، وقم يا علي، وقم يا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب-وعبيدة ابن عم النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم-»، فلماّ قاموا وكانوا مدججين بعدَِّة الحرب وجوههم غير ظاهرة، فقال المشركون من أنتم؟ تكلموا نعرفكم، فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسول الله حمزة بن
عبد المطلب، فقالوا: كفؤ كريم، وقال علي: أنا عبد الله وأخو رسول الله علي بن أبي طالب، قالوا: كفؤ كريم، وقال عبُيدة: وأنا أسد الحلفُاء عبيدة بن الحارث بن المطلب، فبارز حمزة عتبة بن ربيعة فقتله، وبارز علي الوليد بن عتبة فقتله، وبارز عبيدة شيبة بن ربيعة فأثبت كل منهما الآخر، فأسرع حمزة وعلي إلى شيبة فقتلاه وجُرح عبيدة بن الحارث جراحًا بليغة فردَّه علي وحمزة إلى الصف وبه رمق لم يمت.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب: «أعطني من حصباء الأرض-حصو-»، فناوله علي حصواً به ترُاب، فرمى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه جيش المشركين وهو يقول: «شاهت الوجوه»، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفمه وأنفه من ذلك التراب، وفي هذا أنزل المولى عز وجل قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال:17] ، ثم قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم للمسلمين: «احملوا -يعني التحموا وقاتلوا-»، وشهد صلى الله عليه وآله وسلم المعركة بنفسه ومعه أبا بكر وكان أقرب جيش المسلمين للعدو وأبو بكر على الميمنة وعلي بن أبي طالب على الميسرة رضي اللهّٰ عنهما، وجبر يل عليه السلام في ناحية أبي بكر رضي الله عنه ومعه ألف من الملائكة، وميكائيل في ناحية علي رضي الله عنه ومعه ألف أخرى، وأقبل جبر يل عليه السلام فرآه إبليس، وكان إبليس لعنه الله في صورة سرُاقة بن مالك الكناني ممسكا بيد الحارث بن هشام، فلماّ رأى جبر يل ومعه الملائكة في ساحة المعركة وكز الحارث في صدره ثم خرج من بدر هارباً، وقيل حتى شوهد وقد ألقى نفسه في البحر، والبحر بعيد عن بدر، ومن شاهده قال إنه رأى سرُاقة يلُقي نفسه في البحر واختفى، وسراقة أسلم بعد ذلك في فتح مكّة وأنكر أن يكون قد شارك في الأمر برمته، وقد روُيَ إن جبر يل عليه السلام قد أتى إلى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم مرة بعد بدر فقال: “ ما تعدون أهل بدر فيكم؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «من أفضل المسلمين»، فقال جبر يل عليه السلام: “وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة”، وكانت الملائكة في صور البشر يومئذ تقاتل كما يقاتل البشر و يأسرون من المشركين، و يلبسون على رؤوسهم العمائم البيضاء وقد أرخَو أطرافها على أكتافهم، إلا جبر يل فكانت عليه عمامة صفراء.
وكُسر سيف عكُاشة بن محصن أثناء المعركة، فأعطاه النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عودًا كان في يده، فصار سيفًا أبيضًا طويلاً، فقاتل به حتى هزُم المشركين وظلّ معه هذا السيف إلى أن مات، وهو من معجزاته صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم يوم بدر، ومثله ما حدث لسلمة بن حريش، إذ انكسر سيفه وبقى أعزلًا في الميدان، فأعطاه النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عودًا كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: «اضرب به!»، فإذا هو سيف جيدّ في يده، وبقي عنده إلى أن مات أيضًا رضي اللهّٰ عنه.
ونادى أبو بكر الصديق ابنه عبد الرحمن -ولم يكن أسلم وكان مع المشركين-، وكان ممن صادروا أموال المسلمين، حتى أخذ أموال أبيه واستولى عليها كلها، فقال له أبا بكر رضي اللهّٰ عنه: “أين مالي يا خبيث؟”، فقال عبد الرحمن:
لم يبق إلا شِكَّة و يعبوب *** وصارم يقتل ضلال الشيب
يعني لم يبق إلا عدة الحرب وحصان اسمه اليعبوب نقاتل عليه شيوخ الضلالة -يقصد أباه-.
وأمر النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم منُادٍ ينُادي في الجيش يحثهم على القتال في ساحة المعركة يقول: «من قتل مشركًا فله سَلبْه، ومن أخذ أسيراً فهو له-يعني هو ملكه-».
ومع قلةّ عدد جيش المسلمين وقلة عدتهم، وكثرة المشركين وعدتهم، في هذه المعركة الغير متكافئة عقلاً، ومع تدخل مدد السماء، انقلبت الموازين، وقتل المسلمون وأسروا من المشركين وفر اّلبقيةّ هاربين مذهولين، ولم تكد ساعة الظهيرة -حوالي الواحدة ظهراً- تدخل بزوال الشمسإلا وكان جيش المشركين قد هزم شر هزيمة وقتل أكابر مجرميه وأُسر منهم وغنم المسلمون وانتهت المعركة والمسلمون في ساحتها يلملمون الغنائم و يأسرون من وجدوا حيًاّ بعد تفرق المشركين وفرارهم في الجبال.
وكان ممن أُسر: العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابني أخو يه عقيل بن أبي طالب ونوفل، وجاء بالعبَاّس مقيَدًّا رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعباس يقول: ”يا رسول الله، والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح -يعني أصلع- من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق-في لونه سواد وبياض- ما
أراه في القوم”، فقال الأنصاري: “أنا أسرته يا رسول الله”، فقال له النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «اسكت فقد أيدك الله بملك كريم»، ولماّ انتهى القتال وصار المسلمون يجمعون الأسرى والغنائم، قيل للنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “يا رسول الله، عليك العير -هيا بنا نلحق بقافلة التجارة التي خرجنا من أجل مصادرتها-، ليس دونها شيء -فقد فر جّيش قريش والقافلة الآن بلا ظهر يحميها-”، فناداه العباّس -وهو في الأسرى مربوطًا- فقال: “إنهّ لا يصلح لك-يعني لا يمكن أن تفعل ذلك يا رسول اللهّٰ-!”، فقال له النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «لمِ؟َ“، قال العباس: “لأن اللهّٰ وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك!”.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شابان من الأنصار هما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح وقالا: “يا رسول اللهّٰ، قتلنا أباجهل!”، فسألهما النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: «أيكما قتله؟»، فقال كل منهما: “أنا قتلته!”، فقال لهما: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: “لا”، فنظر النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم إلى السيفين وقال: «كلاكما قتله»، وقضى بأن يأخذ معاذ بن عمرو بن الجموح عدَُّة الحرب الخاصة بأبي جهل.
ثم أمر النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم المسلمون أن يبُحث عن أبي جهل لعنه الله في القتلى، وقال لهم: «من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟»، فقال عبد اللهّٰ بن مسعود: “أنا يا رسول اللهّٰ”، أُنظُروُا إن خَفِي عليكم في القتل إلى أثر جُرْح في ركُبتَهِ، فإني ازدحمت أنا وهو يومًا على مَأدُبةَ لعبد الله بن جدُعان، ونحن غلُامان، وكُنتُ أَشَفَّ منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه،
فجحش في أحدهما جحشًا لم يزل أثره به”، فبحثوا عنه، ووجده عبد الله بن مسعود به آخر رمق بعد أن أثَرّت فيه ضربات معاذ بن عمرو ومعاذ بن عفراء، وأبو جهل يبعد الناس بسيف في يده وهو واقع على ظهره، فوضع ابن مسعود رجله على عنقه، فقال له أبو جهل: “لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رو يعي الغنم”، فقال له ابن مسعود وقد أمسك لحيته: “هل أخزاك اللهّٰ يا عدو الله؟”، قال أبو جهل: “وبماذا أخزاني؟، أعمد من رجل قتلتموه -يعني وما العار في رجل قتلتموه؟-، أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ -يعني من ربح المعركة؟-”، فقال ابن مسعود: “لله ولرسوله”، فأخذ عبد الله بن مسعود سيفه وأجهز عليه، ثم تقافز عبد اللهّٰ فرحًا بعد أن نفَّذ في هذا المجرم حكم الإعدام، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «آلله الذي لا إلاه إلا هو!؟…آلله الذي لا إلاه إلا هو؟!…آلله الذي لا إلاه إلا هو؟!» -يعني أستحلفك بالله
أفعلت ذلك؟-، قال عبد الله: “آلله الذي لا إلاه إلا هو”-يعني نعم والله-، فخر النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ساجدًا لله، ثم قام، فقال: «اللهّٰ أكبر، الحمد للهّٰ الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، انطلق فأرِنيِه»، فانطلق عبد الله بن مسعود مع النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فوقفا على جثةّ أبي جهل وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الحمد للهّٰ الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمّة»، ثم عاد صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ركعتين شكراً لله على منته بهلاك مجرم الحرب هذا.
وأكمل المسلمون تنظيف ساحة المعركة مكانهم، فجمعوا جثث المشركين وأسروا من به بقية حياة، وكان عبد الرحمن بن عوف قد جمع أدرعاً من الغنيمة أخذها، فمر بّأمية بن خلف -من المشركين-، وابنه علي بن أمية -كان مسلماً وارتد ولم يهاجر-، فقال له أميةّ: “يا عبد عمرو!”، وكان عبد الرحمن اسمه في الجاهلية عبد عمرو، فلماّ أسلم تسمّى بعبد الرحمن، فكان أميةّ يقول له حين أسلم: “أتترك اسماً سماك به أبوك؟”، فيقول عبد الرحمن: “نعم!”، قال أميةّ: “فإني لا أعرف الرحمن!، فاجعل بيني
وبينك اسماً أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف!”، فقال عبد الرحمن: “يا أبا علي، اجعل ما شئت -نادني بما تريد، بخلاف عبد عمرو-”، فقال أميةّ: “فأنت عبد الإله!”، قال عبد الرحمن: “نعم!”، فكان إذا ناداه بعد الإله ردّ عليه وإذا ناداه باسمه في الجاهلية “عبد عمرو” لم يرد عليه.
فلماّ كان اليوم، وناداه أميةّ بعبد عمرو، لم يرد عليه بعد الرحمن، فتذكر أميةّ، فناداه: “يا عبد الإله!”، فقال عبد الرحمن: “نعم!”، قال أميةّ -وقد رأى عبد الرحمن قد أخذ أدرعاً من ساحة المعركة غنيمة-: “هل لك فيَّ -تأخذني أسيراً- فأنا خير لك من هذه الأدرع التي معك”، قال عبد الرحمن: “نعم، ها اللهّٰ”، ثم ترك عبد الرحمن الأدراع من يده، وأخذ بيد أميةّ
وابنه، وأميةّ يقول: ما رأيت كاليوم قطّ!، أما لكم حاجة في اللبن؟ -يعني من يأسرني افتديت منه نفسي بإبل كثيرة اللبن-”، ثم قال: “يا عبد الإله، من الرجل منكم المعلَمّ بريشة نعامة في صدره؟”، قال عبد الرحمن: “حمزة”، قال أميةّ: “ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل”، فكان أميةّ وابنه مع عبد الرحمن حتى المساء.
وصلى المسلمون الظهر والعصر بساحة بدر بعد المعركة، وبدأوا بسحب جثث المشركين إلى القُليب -البئر-، ومكثوا حتى غربت الشمس وباتوا مكانهم.
[^1]: وتلك العصا قيل كانت قِدحًا؛ يعني سهمًا، -أظنه- بغير النَّصل.
[^2]: والمعنى الذي فهمه أبو حذافة، لعلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرده، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر المسلمين بقتل المشركين، وإنما كان الأمر بقتالهم، والدليل أن صلى الله عليه وآله وسلم ترك المسلمون يأسرون منهم ما شاءوا بغير قتل، وإنما كان نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل العبّاس وبني هاشم وأبي البختري بن هشام نهيًا عن القتل في غير مقتضى القتال لحاجة أعلمه الله إيّاها من الغيب واتضحت بعد ذلك، وهي إسلام العبّاس كما ذُكر في النصوص، والذي أراده النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم قتلهم عمدًا، لهذا لم يَلُم المُجَذِّر بن ذياد الأنصاري على قتل أبي البختري بن هشام لمّا امتثل لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكنّه اضطر لذلك بمقتضى الحرب رغمًا عنه، حتى مع نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله صراحة، ولم يعاقبه أو يعاتبه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، فدلّ على أن الأمر لم يكن وجوبيًا، والله أعلى وأعلم.
[^3]: العرجون هو الجزء الذي يحمل البلح في النخلة، فهو من النخل كالعنقود من العنب، وابن طاب نوع مشهور من التمور بالمدينة المنورة.