لم يطل العهد بتلك العِير العظيمة التي خرج لها عليه السلام وهي متوجهة إلى الشام، …
فلم يدركها ولم يزل مترقباً رجوعها، فلما سمع برجوعها نَدَبَ إليها أصحابَهُ، وقال: «هذه عيرُ قريش فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها»، فأجاب قوم، وثَقُلَ آخرون، لظنهم أن الرسول عليه السلام لم يُرِدْ حرباً، فإنه لم يحتفل بها بل قال: «من كان ظهره حاضراً فليركبْ معنا». ولم ينتظر من كان ظهره غائباً. فخرج لثلاثِ ليالٍ خَلَوْنَ من رمضان بعد أن ولَّى على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً: مئتان ونيف وأربعون من الأنصار، والباقون من المهاجرين، ومعهم فَرَسان، وسبعون بعيراً يعتقبونها، والحامل للواء مصعببن عمير العَبْدري. ولما علم أبو سفيان بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم استأجر راكباً ليأتي قريشاً ويخبرهم الخبر، فلما علموا بذلك أدركتهم حميتهم، وخافوا على تجارتهم، فنفروا سِراعاً ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهببن عبد المطلب، فإنه أرسل بدله العاصبن هشامبن المغيرة. وأراد أميةبن خلف أن يتخلَّف لحديث حدَّثه إياه سعدبن معاذ حينما كان معتمراً بعد الهجرة بقليل، حيث قال ــــ كما رواه البخاري ــــ سمعتُ من رسول الله يقول: «إنهم قاتلوك» قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك وحلف ألاَّ يخرج، فعابه أبو جهل ولم يزل به حتى خرج قاصداً الرجوع بعد قليل ولكن إرادة الله فوق كل إرادة، فإن منيته ساقته إلى حتفه رغم أنفه. وكذلك عَزَمَ جماعةٌ من الأشراف على القعود فَعِيْبَ عليهم ذلك، وبهذا أجمعتْ رجالُ قريش على الخروج، فخرجوا على الصعب والذلول، أمامهم القَيْنات يغنين بهجاء المسلمين: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48]. وقد ضرب الله عمل الشيطان هذا مثلاً يعتبر به ذوو الرأي من بعدهم، فقال في سورة الحشر: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16] وهكذا كان عمله في هذه الواقعة {فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} [الأنفال: 48]. وكان عدة من خرج من المشركين تسعمائة وخمسين رجلاً معهم مائة فرس وسبعمائة بعير.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يعرف شيئاً مما فعله المشركون، ولم يكن خروجه إلا للعير، فعسكر ببيوت السُّقْيا خارج المدينة، واستعرض الجيش فردَّ مَنْ ليس له قدرة على الحرب، ثم أرسل اثنين يتجسسان الأخبار عن العير. ولما بلغ الرَّوْحاء جاءه الخبر بمسير قريش لمنع عيرهم، وجاءه مخبراه بأن العير ستصل بدراً غداً أو بعد غد، فجمع عليه الصلاة والسلام كبراء الجيش وقال لهم: «أيّها الناس إنَّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين أنها لكم: العير أو النفير» فتبين له عليه الصلاة والسلام أن بعضهم يريدون غير ذات الشوكة وهي العير ليستعينوا بما فيها من الأموال، فقد قالوا: هلاّ ذكرت لنا القتال فنستعد وجاء مصداق ذلك قوله في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7]. ثم قام المقدادبن الأسود رضي الله عنه فقالَ: يا رسول الله امضِ لما أمرك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، والله لو سرت بنا إلى بَرْكَ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فدعا له بخير، ثم قال عليه السلام: «أشيروا عليّ أيّها الناس» وهو يريد الأنصار لأن بيعة العقبة ربما يفهم منها أنه لا تَجِب عليهم نصرته إلا ما دام بين أظهرهم. فإن فيها: يا رسول الله إنَّا بُرآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فقال سعدبن معاذ، سيد الأوس: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: «أجل» فقال سعد: قد آمنا بك وصدّقناك، وأعطيناك على ذلك عهودنا، فامضِ لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً، إنّا لصُبُر عند الحرب، صُدُق عند اللقاء، ولعلّ الله يُريك منّا ما تقرّ به عَيْنُك، فسر على بركة الله. فأشرق وجهه عليه السلام، وسُرّ بذلك، وقال كما في رواية البخاري: «أبشروا والله كأني أنظر إلى مصارع القوم» فَعلم القومُ من هذه الجملة أن الحرب لا بدّ حاصلة، وحقيقةً حصلت، فإن أبا سفيان لما علم بخروج المسلمين له ترك الطريق المسلوكة، وسار متّبعاً ساحل البحر فنجا، وأرسل إلى قريش يُعلِمهم بذلك، ويشير عليهم بالرجوع، فقال أبو جهل: لا نرجع حتى نحضر بدراً فنقيم فيه ثلاثاً: ننحر الجَزور، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. فقال الأخنسبن شريق الثقفي لبني زهرة ــــ وكان حليفاً لهم ــــ: ارجعوا يا قوم فقد نجَّى الله أموالكم فرجعوا، ولم يشهد بدراً زهري ولا عدوي، ثم سار الجيش حتى وصلوا وادي بدر فنزلوا عدوته القصوى عن المدينة في أرض سهلة لينة.
أما جيش المسلمين، فإنه لمّا قارب بدراً أرسل عليه السلام عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام ليعرفا الأخبار، فصادفا سُقاةً لقريش فيهم غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص السهميين، فأتيا بهما، والرسول عليه السلام قائم يصلي، ثم سألاهما عن أنفسهما، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم الماء، فضرباهما لأنهما ظنا أن الغلامين لأبي سفيان. فقال الغلامان: نحن لأبي سفيان فتركاهما. ولما أتمَّ الرسول عليه السلام صلاته، قال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما؟ صدقا والله إنهما لقريش». ثم قال لهما: «أخبراني عن قريش؟» قالا: هم وراء هذا الكَثيب، فقال لهما: «كم هم؟» فقالا: لا ندري. قال: «كم ينحرون كل يوم؟». قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً. قال: «القوم ما بين التسعمائة والألف»، ثم سألهما عمّن في النفير من أشراف قريش فذكرا له عدداً عظيماً، فقال عليه السلام لأصحابه: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»، ثم ساروا حتى نزلوا بعُدْوَةِ الوادي الدنيا من المدينة بعيداً عن الماء في أرض سبخة، فأصبح المسلمون عطاشاً بعضهم جُنب وبعضهم مُحْدِث، فحدَّثهم الشيطان بوسوسته، ولولا فضل الله عليهم ورحمته لثنيت عزائمهم، فإنه قال لهم: ما ينتظر المشركون منكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويُذهِب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاؤوا.
فأرسل الله لهم الغيث حتى سال الوادي، فشربوا واتخذوا الحِياض على عُدْوَةِ الوادي، واغتسلوا وتوضؤوا وملؤوا الأسقية، ولبدت الأرض، حتى ثبتت عليها الأقدام، على حين أن كان هذا المطر مصيبة على المشركين فإنه وَحَّل الأرض حتى لم يعودوا يقدرون على الارتحال. ومصداق هذا قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَآء مَآء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ} [الأنفال: 11] وقد أرى الله رسوله في منامه الأعداء كما أراهموه وقت اللقاء قليلي العدد كيلا يفشل المسلمون، وليقضي الله أمراً كان مفعولاً. قال تعالى في سورة الأنفال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ} [الأنفال: 43- 44] ثم سار جيش المسلمين حتى نزل أدنى ماء من بدر، فقال الحباب بن المنذر الأنصاري وكان مشهوراً بجودة الرأي: يا رسول الله! هذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، فقال: يا رسول الله ! ليس لك هذا بمنزل، فانهضْ بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فإني أعرف غزارة مائة وكثرته فننزله ونغور ما عداه من الآبار، ثم نبني عليه حوضاً، فنملؤه ماءٌ فنشرب ولا يشربون. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لقد أشرت بالرأي». ونهض حتى أتى أدنى ماء من القوم، ثم أمر بالآبار التي خلفهم فغُوِّرت لينقطع أمل المشركين في الشرب من وراء المسلمين، وبنى حوضاً على القليب الذي تزل عليه. ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس: يا نبي الله! ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونُعِدُّ عندك ركائبك ثم نَلقَى عدونا، فإن أعزّنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمَن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشدّ لك حبّاً منهم، ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونيّة، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير، يمنعك الله بهم ويُناصحونك ويجاهدون معك فقال عليه الصلاة والسلام: «أو يقضي الله خيراً من ذلك»، ثم بُني للرسول عريش فوق تل مشرف على ميدان الحرب، ولما اجتمعةا عدَّل عليه الصلاة والسلام صفوفهم، مناكبهم متلاصقة، فصاروا كأنهم بنيان مرصوص ثم نظر لقريش فقال: «اللهمّ! هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائها وفخرها تُحادّك وتكذب رسولك، اللهمّ! فنصرك الذي وعدتني به». وفي هذا الوقت وقع خُلْفٌ بين رؤساء عسكر المشركين، فإن عتبة بن ربيعة أراد أن يمنع الناس من الحرب ويحمل دم حليفه عمرو بن الحضرمي الذي قتل في سرية عبدالله بن جحش، ويحمل ما أُصيب من عيره ودعا الناس إلى ذلك، فلما بلغ أبا جهل الخبر وَسَمه بالجبن وقال: والله! لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد. وقبل أن تقوم الحرب على ساقها، خرج من صفوف المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: أُعاهد الله لأشربنَّ من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتنَّ دونه، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب وضربه ضربة قطع بها قدمه بنصف ساقه فوقع على ظهره، فزحف على الحوض حتى اقتحم فيه لِيَبَرَّ قسمه فأتبعه حمزة فقتله. ثم وقف عليه الصلاة والسلام يحرّض الناس على الثبات والصبر وكان فيما قال: «وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهمّ وينجي به من الغم». ثم ابتدأ القتال بالمبارزة فخرج من صفوف المشركين ثلاثة نفر: عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فطلبوا أكفاءهم فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: لا حاجة لنا بكم إنما نريد أكفاءنا من بني عمنا، فأخرج لهم عليه الصلاة والسلام عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب للأول، وجمزة بن عبد المطلب للثاني، وعلي بن أبي طالب للثالث. فأما حمزة وعلي فقتلا صاحبيهما، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا بضربتين كلاهما جرح صاحبه، فحمل رفيقا عبيدة على عتبة فأجهزا عليه، وحُمِل عبيدة بين الصفوف جريحاً يسيل مخّ ساقه، وأضجعوه إلى جانب موقفه صلى الله عليه وسلم، فأفرشه رسول الله قدمه الشريفة، فوضع خده عليها، وبشّره عليه الصلاة والسلام بالشهادة، فقال: وددتُ والله أن أبا طالب كان حيّاً ليعلم أننا أحقّ منه بقوله:
ونُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ** ونَذْهَلَ عَنْ أَبنائِنا والحَلائِلِ
وبعد انقضاء هذه المبارزة، وقف عليه الصلاة والسلام بين الصفوف يعدِلها بقضيب في يده، فمرّ بسوادبن غَزِية حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فضربه بالقضيب في بطنه وقالَ: «استقم يا سواد»، فقال أوجعتني يا رسول الله وقد بُعثت بالحق والعدل فَأَقِدْني من نفسك. فكشف الرسول عليه الصلاة والسلام عن بطنه، وقال: «استقد يا سواد»، فاعتنقه سواد وقبَّل بطنه. فقال عليه الصلاة والسلام: «ما حملك على ذلك؟» فقال يا رسول الله قد حضر ما ترى فأردتُ أن يكون آخر العهد أن يمسّ جلدي جلدَك، فدعا له بخير، ثم ابتدأ عليه السلام يوصي الجيش فقال: «لا تحملوا حتى آمركم، وإن اكتَنَفكم القوم فانضحوهم بالنبل ولا تَسُلُّوا السيوف حتى يَغْشَوكم» ثم حضّهم على الصبر والثبات، ثم رجع إلى عريشه ومعه رفيقه أبو بكر، وحارسه سعدبن معاذ واقف على باب العريش متوشح سيفه، وكان من دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام ذاك الوقت كما جاء في صحيح البخاري: «اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك، اللهمّ إن شئت لم تُعبد» فقال أبو بكر: حَسْبُك فإن الله سينجز لك وعده. فخرج عليه الصلاة والسلام من العريش وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]. ثم قال عليه الصلاة والسلام يُحرض الجيش: «والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، ومن قتل قتيلاً فله سَلَبُهُ» فقال عمير بن الحمام – وبيده تمرات يأكلها -: بخ بخ! ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات، وأخذ سيفه، وقاتل حتى قُتِل.
واشتد القتال، وحمي الوطيس، وأيد الله المسلمين بالملائكة بُشرى لهم ولتطمئن به قلوبهم. فلم تكن إلا ساعة حتى هُزم الجمع، وولّوا الدُّبُرَ، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، فقتل من المشركين نحوُ السبعين، منهم من قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، قُتلوا مبارزة أول القتال، وأبو البَخْتري بن هشام، والجراح والد أبي عبيدة قتله ابنه بعد أن ابتعد عنه فلم يزدجر، وقُتل أُمية بن خلف وابنه علي، اشترك في قتلهما جماعة من الأنصار مع بلال بن رباح وعمّار بن ياسر، وقد سعيا في ذلك لما كان يفعله بهما أُمَيّةُ في مكة. ومن القتلى حنظلة بن أبي سفيان، وأبو جهل بن هشام، أثخنه فَتيان صغيران من الأنصار، لما كانا يسمعانه من أنه كان شديدَ الإيذاء لرسول الله، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود، وقُتل نوفل بن خويلد قتله علي بن أبي طالب، وقتل عبيدة والعاصي ولدا أبي أُحَيْحَةَ سعيدِ بنِ العاصِ بنِ أمية، وقُتِل كثيرون غيرهم. أما الأسرى فكانوا سبعين أيضاً، قتلَ منهم عليه السلام وهو راجع عقبةَ بن أبي مُعيط، والنضرَبن الحارث اللذين كانا بمكة من أشد المستهزئين. وكانت هذه الواقعة في (17) رمضان، وهو اليوم الذي ابتدأ فيه نزول القرآن وبين التاريخين (14) سنة قمرية كاملة.
وقد أمر عليه الصلاة والسلام بالقتلى فنُقلوا من مصارعهم التي كان الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بها قبل حصول الموقعة إلى قليب بدر، لأنه عليه السلام كان من سُننه في مغازيه إذا مرّ بجيفة إنسان أمر بها فدفنت، لا يسأل عنه مؤمناً أو كافراً. ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة أحد السابقين إلى الإسلام تغير وجه ابنه ففطن الرسول عليه السلام لذلك، فقال: «لعلّك دخلك من شأن أبيك شيء؟» فقال: لا والله ولكني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له الرسول عليه السلام بخير، ثم أمر عليه السلام براحِلته فشُدَّ عليها حتى قام على شَفَةِ القليب الذي رمي فيه المشركون، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسرّكم أنكم كنتم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟» فقال عمر: يا رسول الله ما تُكَلِّمُ من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال: «والذي نفسُ محمد بيده ما أنتم بأسمَعَ لما أقولُ منهم». وتقول عائشة رضي الله عنها إنما قال: «إنهم الآن ليعلمون أَنَّ ما كنتُ أقول لهم حق»، ثم قرأت: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، يقول: «يعلمون ذلك حينما تبوّؤوا مقاعدهم من النار». رواه البخاري. ثم أرسل عليه السلام المبشرين، فأرسل عبد الله بن رواحة لأهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة لأهل السافلة راكباً على ناقة رسول الله، وكان المنافقون والكفار من اليهود قد أرجفوا بالرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، عادة الأعداء في إذاعة الضرّاء، يقصدون بذلك فتنة المسلمين، فجاء أولئك المبشرون بما سرّ أهل المدينة، وكان ذلك وقت انصرافهم من دفن رقية بنت رسول الله وزوج عثمان. ثم قفل رسول الله راجعاً، وهنا وقع خُلف بين بعض المسلمين في قسمة الغنائم، فالشبان يقولون: باشرنا القتال، فهي لنا خالصة، والشيوخ يقولون: كنا ردءاً لكم فنشارككم. ولما كان هذا الاختلاف مما يدعو إلى الضعف، ويزرع في القلوب العداوة والبغضاء المؤديين إلى تشتت الشمل أنزل الله حسماً لهذا الخلاف أول سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] فسطع على أفئدتهم نور القرآن، فتألّفت بعد أن كادت تفترق، وتركوا أمر الغنائم لرسول الله يضعها كيف شاء ــــ كما حكم القرآن ــــ فقسمها عليه الصلاة والسلام على السواء الراجل مع الراجل، والفارس مع الفارس، وأدخل في الأسهام بعض مَنْ لم يحضر لأمر كُلف به وهم: أبو لُبابة الأنصاري لأنه كان مخلَّفاً على أهل المدينة، والحارثبن حاطب لأن الرسول عليه الصلاة والسلام خلفه على بني عمروبن عوف ليحقّق أمراً بلغه، والحارثبن الصمَّة وخَوَّاتبن جبير لأنهما كُسِرا بالرَّوْحَاءِ فلم يتمكنا من السير، وطلحةبن عبيد الله، وسعيدبن زيد لأنهما أُرسِلا يتجسسان الأخبار، فلم يرجعا إلا بعد انتهاء الحرب، وعثمانبن عفان لأن الرسول عليه السلام خلَّفه على ابنته رقيّة يمرضها، وعاصمبن عدي لأنه خلفه على أهل قُباء والعالية، وكذلك أسهم لمن قتل ببدر وهم أربعة عشر منهم عُبيدةبن الحارثبن عبد المطلببن هاشم الذي جُرح في المبارزة الأولى، فإنه رضي الله عنه مات عند رجوع المسلمين من بدر ودفن بالصَّفراء. ولما قارب عليه السلام المدينة تلقته الولائد بالدفوف يقلن:
طلع البدر علينا ** من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المُطاع