وفيه استمرّت إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم ب#~~~الجعرّانة~~~# وقد بدأ بإعطاء العطايا -من الخُمس- للمؤلفة …
قلوبهم من حديثي العهد بالإسلام أو من لم يُسلم بعد، ولمّا كان الصباح، قدم وفد هوازن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم أربعة عشر رجلًا جاءوا مسلمين وبإسلام من وراءهم من قومهم، وكان رئيسهم والمتكلّم فيهم: أبو صُرد زهير بن صُرد، فقال: “يا رسول الله إنا أهلك وعشيرتك، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك. يا رسول الله إنما في هذه الحظائر عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنّا ملحنا -أرضعنا- للحارث بن أبي شِمر وللنعمان بن المُنذر -ملكان من ملوك عرب الشام- ثم نزلا بنا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفهما وعائدتهما، وأنت خير المكفولين”.
وكان في الوفد عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، فقام فقال: “يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا، وأرضعناك بثُدِيّنا، ولقد رأيتك مُرضَعًا فما رأيت مُرْضَعًا خيرًا منك، ورأيتك فطيمًا فما رأيت فطيمًا خيرًا منك، ثم رأيتك شابًا فما رأيت شابًّا خيرًا منك، وقد تكاملت فيك خِلال الخير ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك، فامنن علينا منّ الله عليك”، وأنشدوا الشعر يستعطفوا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن أحسن الحديث أصدقه، وقد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وعندي من ترون من المُسلمين، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟»، قالوا: “يا رسول الله خيرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا، وما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فرُدّ علينا أبناءنا ونساءنا”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس»، وإذا صليت الظهر بالناس فقولوا: «إنا لنستشفع برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس».
فلمّا صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر بالناس قاموا فقالوا: “إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله…”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم»، فقال المُهاجرون: “فما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-“، وقالت الأنصار: “ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-“، قال الأقرع بن حابس التميمي: “أما أنا وبنو تميم فلا”، وقال عيينة بن حصن الفزاري: “أما أنا وفزارة فلا”، وقال عبّاس بن مرداس السُّلَمي: “أما أنا وبنو سُلَيْم فلا”، فقالت بنو سُلَيْم: “ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-“، فقال العباس بن مرداس: “وهنتموني -أضعفتموني-“.
ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الناس خطيبًا فقال: «إن كل هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد كنت استأنيت بهم، فخيّرتهم بين النساء والأبناء والأموال، فلم يعدلوا بالنساء والأبناء، فمن كان عنده منهنّ شيء فطابت نفسه أن يردّه فليُرسِل، ومن أبى منكم وتمسّك بحقّه فليَرُدّ عليهم، وليكن فرضًا علينا ست فرائض من أول ما يفيء الله به علينا»، قالوا: “يا رسول الله رضينا وسلمنا”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فمروا عرفاءكم أن يدفعوا ذلك إلينا حتى نعلم».
وطاف زيد بن ثابت رضي الله عنه على الأنصار ويسألهم: “هل رضيتم وسلَّمتم؟”، فيردّون عليه: “نعم”، ولم يتخلف منهم أحد، وبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المهاجرين يسألهم أيضًا فلم يتخلف منهم أحد، وكان أبو رُهم الغفاري رضي الله عنه يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العُرفاء، ثم الأمناء الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فأبلغوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقهم على قول واحد وهو تسليمهم ورضاهم ودفع ما في أيديهم من السبي.
وكانت المرأة التي عند عبد الرحمن بن عوف قد خُيّرت تُقيم أو ترجع إلى قومها، فاختارت قومها، والتي عند عثمان وعلي وطلحة وصفوان بن أميّة وابن عُمر، كلهن رجعن إلى قومهن، وأما التي عند سعد بن أبي وقاص فاختارت سعدًا وأنجبت منه فيما بعد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للوفد: «ما فعل مالك؟» -يعني مالك بن عوف قائدهم في الحرب ضد المسلمين بحُنين-، قالوا: “يا رسول الله هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف”، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أخبروه أنه إن كان يأتي مُسلمًا رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل»، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر بالتحفظ على أهل مالك بن عوف بمكة عن عند عمّتهم أم عبد الله بنت أبي أميّة، فقال الوفد: “يا رسول الله، أولئك سادتنا وأحبتنا إلينا”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما أريد بهم الخير»، وأوقف صلى الله عليه وآله وسلم أموال مالك فلم يدخلها في التقسيم.
ولمّا أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العطايا للمؤلفة قلوبهم من قُريش وقبائل العرب -من الخُمس-، ولم يكن للأنصار منها نصيب، حزن الأنصار وكثر فيهم الكلام، حتى قال قائلهم: “لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قومه، أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا؟، إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعتبناه”، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغضب غضبًا شديدًا، فدخل عليه سعد بن عُبادة -سيد الأنصار-، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما يقول فيّ قومك؟»، قال سعد: “وما يقولون يا رسول الله؟ -صلى الله عليه وآله وسلم-“، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يقولون: أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، وودنا أنّا نعلم من أين هذا إن كان من قبل الله صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعتبناه، فأين أنت من ذلك يا سعد؟»، قال سعد -رضي الله عنه-: “يا رسول الله ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فاجمع من كان ههنا من الأنصار في هذه الحظيرة»، فجمع سعد الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم ولم يُدخلهم، فلمّا اجتمعوا، جاءه سعد بن عبادة فقال: “يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار”.
فأتاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يُعرف في وجهه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم وجِدَة -غضب وحُزن- وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟، وعالة فأغناكم الله؟، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟»، قالوا: “بلى، الله ورسوله أمن وأفضل”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟»، قالوا: “وماذا نجيبك يا رسول الله، ولرسول الله المن والفضل؟”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدّتقم: أتيتنا مُكذّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدنيا تألفت به قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شِعب الأنصار، أَكتُبُ لكم بالبحرين كتابًا من بعدي تكون لكم خاصّة دون الناس فهو يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأنصار»، قالوا: “وما حاجتنا بالدنيا بعدك يا رسول الله؟”، قال: «إمّا لا فسترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»، فبكى الأنصار حتى ابتلّت لحاهم وقالوا: “رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حظًا وقسمًا”، وانصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفرّقوا قريري الأعين.