ويقال لها غزوة الأحزاب: أي وهي الغزوة التي ابتلى الله تعالى فيها عباده المؤمنين وثبت الإيمان في قلوب أوليائه المتقين: وأظهر ما كان يبطنه …
أهل النفاق والشقاق والمعاندين.
وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم كما تقدم سار منهم جمع من كبرائهم، منهم سيدهم حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، وعظيمهم سلام بن مشكم، ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبو عامر الفاسق، إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرّضونهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. أي ونكون معكم على عداوته. فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا. وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.
زاد في رواية: فقال لهم: لكن لا نأمنكم إلا أن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا. فقالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وفي رواية: نحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقالوا: أنتم أهدى سبيلا، أي لأنكم تعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية؛ وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان يعبد آباؤكم، أي فأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ} [النّساء:51] الآيات، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطهم لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعند ذلك خرج من بطون قريش خمسون رجلا وتحالفوا، وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها، أن لا يخذل بعضهم بعضا، ويكونون كلهم يدا واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم رجل، وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية رحمه الله بأبيات ذم فيها اليهود لعنهم الله بأمور بقوله:
لا تكذب أن اليهود وقد زا *** غوا عن الحق معشر لؤماء
جحدوا المصطفى وآمن بالطا *** غوت قوم هم عندهم شرفاء
قتلوا الأنبياء واتخذوا العج *** ل ألا إنهم هم السفهاء
وسفيه من ساءه المن والسل *** وى وأرضاه الفوم والقثاء
ملئت بالخبيث منهم بطون *** فهي نار طباقها الأمعاء
لو أريدوا في حال سبت بخير *** كان سبتا لديهم الأربعاء
هو يوم مبارك قيل للتصر *** يف فيه من اليهود اعتداء
فبظلم منهم وكفر عدتهم *** طيبات في تركهن ابتلاء
أي لا تكذب أن اليهود والحال أنهم قد مالوا عن الحق قوم لؤماء، واللئيم:
الدني الأصل، الشحيح النفس. ومن عظيم لؤمهم أنهم جحدوا نبوته صلى الله عليه وسلم ورسالته والحال أنه قد آمن بالطاغوت، وهو كل ما عبد من دون الله؟ مأخوذ من الطغيان قوم هم عندهم شرفاء وهم كفار قريش.
ورد أن اليهود قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا، ومن جملة من قتلوا زكريا ويحيى، واتخذوا العجل إلها يعبدونه، ومن يفعل ذلك لا سفيه غيره، ومن أرضاه الفوم والقثاء بدل المنّ وهو نوع من الحلواء، والسلوى: نوع من الطير، سفيه بلا شك، ملئت بالحرام كالربا بطون منهم، فبطونهم نار لاشتمالها على ما يؤدي إلى تلك النار، طباق تلك النار المصارين، ولو أراد الله لليهود في حال سبتهم الذي اختاروا تعظيمه على ما تقدم خيرا لكان يوم الأربعاء يوم سبتهم لأنه يوم خلق فيه النور؛ فاختيار يوم السبت دون يوم الأربعاء لسبتهم: أي سكوتهم عما عدا العبادة دليل على أنه تعالى لم يرد بهم الخير، ويوم السبت ابتداء الله فيه خلق العالم، خلافا لهم حيث قالوا إن ذلك أي ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وفرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت. قالوا: فنحن نستريح فيه كما استراح الرب تعالى فيه وقالوا: فإن الله لا يقضي يوم السبت شيئا من خلق ولا رزق ولا رحمة ولا عذاب ولا إحياء ولا إماتة، ومن مات يوم السبت يكون محي اسمه من اللوح المحفوظ قبل ذلك، وقد كذبهم الله تعالى بقوله {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرّحمن: 29] فكان فيه منهم ظلم وعدوان لأجل التصريف فيه بغير العبادة، فبسبب ظلم وكفر حاصل منهم فيه فاتتهم طيبات كانت حلالا لهم، فحرمها الله تعالى عليهم، فكان في ذلك ابتلاء لهم.
ونقل عن ابن حجر الهيتمي رحمه الله، أنه بحث استحباب صوم يوم الأربعاء، ولما ذكر من أنه خلق فيه النور فليتأمل.
ثم جاء أولئك إلى غطفان ودعوهم وحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم عليه، فتجهزت قريش، أي وأتباعها من القبائل، وغطفان أي وأتباعها، وقائد قريش أبو سفيان بن حرب وكانوا أربعة آلاف، ومعهم ثلاثمائة فرس أي وألف أو خمسمائة بعير، وعقد اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة المقتول والده الذي هو طلحة يوم أحد، وكذا عماه: أي عما عثمان بن طلحة وهما عثمان بن أبي طلحة وأبو سعيد بن أبي طلحة وعثمان بن أبي طلحة هو أبو شيبة كما تقدم، فشيبة ابن عم عثمان بن طلحة، وقتل يوم أحد أخوه عثمان بن طلحة الأربعة، وهم: مسافع بن طلحة، والحارث بن طلحة، وكلاب بن طلحة؟ والجلاس بن طلحة، وعثمان بن طلحة هذا، أي الحامل لواء قريش أسلم بعد ذلك، ويقال له الحجبي لأنه كان من بني عبد الدار وهم سدنة الكعبة، وبنو عبد الدار كان لهم ولأبيهم حمل لواء قريش عند الحرب دون غيرهم كما تقدم.
أي وقائد غطفان عيينة بن حصن الفزاري في بني فزارة أي وهم ألف، وتقدم أن عيينة أسلم بعد ذلك، ثم ارتد بعد إسلامه وأخذ أسيرا في زمن خلافة الصديق رضي الله عنه، ثم أسلم وكان قبل إسلامه يتبعه عشرة آلاف قناة. وكان عنده جفوة وغلظة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم في حقه «إنه الأحمق المطاع» وقال فيه «إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره» .
أي وقائد بني مرة أي وهم أربعمائة الحارث بن عوف المري، وأسلم بعد ذلك: أي وقيل لم تحضر بنو مرة.
وقائد بني أشجع أبو مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء المعجمة وأسلم بعد ذلك.
أي وقائد بني سليم وهم سبعمائة سفيان بن عبد شمس لا يعلم إسلامه.
أي وقائد بني أسد طليحة بن خويلد الأسدي، وأسلم بعد ذلك: أي بعد أن كان ارتد بعد إسلامه، ثم حسن إسلامه، وكانت أشجع وبنو أسد تتمة العشرة آلاف.
فقد قال بعضهم: كانت الأحزاب عشرة آلاف، وهم ثلاث عساكر، وملاك أمرها لأبي سفيان: أي المدبر لأمرها والقائم بشأنها.
ولما تهيأت قريش للخروج أتى ركب من خزاعة في أربعة ليال حتى أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أجمعوا عليه ندب الناس: أي دعاهم، وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم، أي قال لهم: «هل نبرز من المدينة أن نكون فيها؟» فأشير عليه بالخندق، أي أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، أي فإن ذلك كان من مكائد الفرس، وأول من فعله من ملوك الفرس ملك كان في زمن موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه، فأعجبهم ذلك، فضرب على المدينة الخندق.
أي وعند ذلك ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا له ومعه عدة من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعا ينزل له، وجعل سلعا خلف ظهره، وأمرهم بالجد ووعدهم بالنصر إن هم صبروا. فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين، أي وحمل التراب على ظهره الشريف، ودأب المسلمون يبادرون قدوم العدو. قال: واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرارين ومكاتل، وكان من جملة من يعمل في الخندق جعال أو جعيل بن سراقة؛ وكان رجلا دميما قبيح الوجه، صالحا من أصحاب الصفة. وهو الذي تمثل به الشيطان يوم أحد، وقال إن محمدا قد قتل كما تقدم، فغير صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا *** وكان للبائس يوما ظهرا
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قالوا عمرا قال عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال ظهرا انتهي، أي وسياق أسد الغابة يدل على أن هذا الذي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عمرا غير جعيل المذكور، وحصل للصحابة رضي الله عنهم تعب وجوع لأنه كان في زمن عسرة وعام مجاعة.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه من النصب والجوع قال متمثلا بقول ابن رواحة رضي الله عنه:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخره *** فارحم الأنصار والمهاجره
قيل: وإنما قال ابن رواحة لا هم إن العيش من غير ألف ولام فقد غيره صلى الله عليه وسلم على ما هو عادته كما تقدم، وفي لفظ:
اللهم لا خير إلا خير الآخره *** فبارك في الأنصار والمهاجره
وفي لفظ:
فأكرم الأنصار والمهاجرة
وتقدم في بناء المسجد:
اللهم إن الأجر أجر الآخره *** فارحم الأنصار والمهاجره
زاد في الإمتاع:
اللهم العن عضلا والقاره *** هم كلفوني أنقل الحجاره
وفي لفظ: هم كلفونا ننقل الحجارة، قال الحافظ ابن حجر ولعله كان «والعن إلهي عضلا والقارة» أي والتغيير منه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ:
اللهم لا خير إلا خير الآخره *** فارحم المهاجرين والأناصره
وفي لفظ:
فانصر الأنصار والمهاجرة
وأجابوه رضي الله تعالى عنهم بقولهم:
نحن الذين بايعوا محمدا *** على الجهاد ما بقينا أبدا
وقال صلى الله عليه وسلم متمثلا بقول ابن رواحة وهو ينقل التراب وقد وارى الغبار جلد بطنه الشريف:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إذ لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا
يمد بها صوته مكررا لها: أبينا أبينا. ولما بدأ صلى الله عليه وسلم بالحفر في الخندق قال:
بسم الإله وبه بدينا
بكسر الدال:
ولو عبدنا غيره شقينا *** يا حبذا ربا وحب دينا
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال ما تقدم عنه في بناء المسجد وهو:
هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبرّ ربنا وأطهر
وتقدم الكلام عليه وعلى إنشاده الشعر في الكلام على بناء المسجد.
أي ورأيت أن عمار بن ياسر رضي الله عنه حين كان يحفر في الخندق جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه ويقول: «ابن سمية تقتلك الفئة الباغية» أي كما تقدم له في بناء المسجد، وصار الشخص منهم إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بها، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان عليه من عمله رغبة في الخير، وتباطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف، وصار الواحد منهم يتسلل إلى أهله من غير استئذان له صلى الله عليه وسلم، أي وكان زيد بن ثابت ممن ينقل التراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه «أما إنه نعم الغلام» وغلبته عينه فنام في الخندق، فأخذ عمارة بن حزم سلاحه وهو نائم. فلما قام فزع على سلاحه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بار قد نمت حتى ذهب سلاحك. ثم قال: من له علم بسلاح هذا الغلام؟» فقال عمارة: أنا يا رسول الله وهو عندي. فقال: «ردّه عليه»، ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا وإليه استند أئمتنا في تحريم أخذ متاع الغير مع عدم علمه بذلك.
واشتد على الصحابة رضي الله عنهم في حفر الخندق كدية، أي محل صلب، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول وضرب فصارت كثيبا أهيل أو أهيم: أي رملا سائلا. وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء ثم تفل عليه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء أي رشه على تلك الكدية» قال بعض الحاضرين: فو الذي بعثه بالحق لا نهالت حتى عادت كالكثيب: أي الرمل، ما ترد فأسا ولا مسحاة، وهي المجرفة من الحديد.
أي وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ينقلان التراب في ثيابهما إذا لم يجدا مكاتل من العجلة.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني. فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: «أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟» قال: قلت نعم. قال «أما الأولى، فإن الله تعالى فتح عليّ بها اليمن وأما الثانية، فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة، فإن الله فتح عليّ بها المشرق»
قال: وقد ذكر أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تنافس فيه المهاجرون والأنصار. فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سلمان منا أهل البيت» ولذلك يشير بعضهم بقوله:
لقد رقي سلمان بعد رقه *** منزلة شامخة البنيان
وكيف لا والمصطفى قد عده *** من أهل بيته العظيم الشان
وإنما وقع التنافس في سلمان رضي الله عنه، لأنه كان رجلا قويا يعمل عمل عشرة رجال في الخندق، أي فكان يحفر في كل يوم خمسة أذرع في عمق خمسة أذرع حتى أصيب بالعين، أصابه بالعين قيس بن صعصعة فلبط به: أي بلام مضمومة فموحدة مكسورة فطاء مهملة: صرع فجأة، وتعطل عن العمل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم «مروه فليتوضأ وليغتسل، ويكفىء الإناء خلفه ففعل، فكأنما نشط» أي حل «من عقال» وفي لفظ «فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوءه في ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة، ويكفىء الإناء خلف ظهره» .
وذكر أنه لما اشتدت تلك الكدية على سلمان أخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان، وقال: «بسم الله، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة، فخرج نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطيت مفاتيح اليمن، إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنها أنياب الكلاب. ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فخرج نور من قبل الروم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها» أي زاد في رواية «الحمر. ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر، وبرق برقة فكبر، وقال: أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب في مكاني هذا» أي وفي رواية «إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن»، وجعل صلى الله عليه وسلم يصف لسلمان أماكن فارس، ويقول سلمان: صدقت يا رسول الله، هذه صفتها، أشهد أنك رسول الله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان» اهـ.
أي وعند ذلك قال جمع من المنافقين. منهم معتب بن قشير: ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق: أي الخوف، لا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران:26] الآية.
وقيل في سبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ وهم أعزّ وأمنع من ذلك.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش ومن معها، وكانوا عشرة آلاف كما تقدم، فنزلت قريش بمجمع الأسيال وغطفان ومن معهم إلى جانب أحد، وكان المسلمون ثلاثة آلاف.
أي وقد قال ابن إسحاق: سبعمائة، ووهم في ذلك. وقال ابن حزم: إنه الصحيح الذي لا شك فيه ولا وهم، وعسكر بهم صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع: وهو جبل فوق المدينة، أي فجعل ظهر عسكره إلى سلع كما تقدم، والخندق بينه وبين القوم، أي وضربت له صلى الله عليه وسلم قبة من أدم.
قال: وكان صلى الله عليه وسلم يعقب فيها بين ثلاثة من نسائه عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش، فتكون عائشة عنده أياما. أي فإنه مكث في عمل الخندق بضع عشرة ليلة، وقيل أربعا وعشرين ليلة، أي وقيل عشرين ليلة، وقيل قريبا من شهر، وقيل شهرا.
قال بعضهم: وكونه قريبا من شهر هو أثبت الأقاويل. وقيل أثبت الأقاويل أنها كانت خمسة عشر يوما، وبه جزم النووي رحمه الله في الروضة، وسائر نسائه صلى الله عليه وسلم في بني حارثة، وجعل النساء والذراري في الآطام، وعرض الغلمان وهو يحفر الخندق وكانوا بأجمعهم من بلغ ومن لم يبلغ يعملون فيه، فلما التحم الأمر أمر من لم يبلغ خمس عشرة سنة أن يرجع إلى أهله، وأجاز من بلغ خمس عشرة سنة.
فمن أجازه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم اهـ وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فصارت كالحصن.
وفي كلام بعضهم: كان أحد جوانب المدينة عورة، وسائر جوانبها مشتبكة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منه، فاختار ذلك الجانب للخندق.
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه. وأرسل سليطا وسفيان بن عوف طليعة للأحزاب فقتلوهما، فأتي بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنهما في قبر واحد، فهما الشهيدان القرينان. وأعطى لواء المهاجرين لزيد بن حارثة ولواء الأنصار لسعد بن عبادة، وبعث مسلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير تخوفا على الذراري من بني قريظة، أي لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد كما سيأتي، أي وأنهم يريدون الإغارة على المدينة، فإن حيي بن أخطب أرسل إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل، وإلى غطفان أن يأتيه منهم ألف رجل أخرى ليغيروا على المدينة، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم البلاء، وصار الخوف على الذراري أشدّ من الخوف على أهل الخندق.
ولما نظر المشركون إلى الخندق قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وصار المشركون يتناوبون، فيغدو أبو سفيان في أصحابه يوما، ويغدو خالد ابن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو جبيرة بن وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويفترقون مرة، ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يقربون منهم، ويقدمون رجالهم فيرمون، ومكثوا على ذلك المدة المتقدمة، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى.
وفي تلك المدّة أقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله: أي اندقت عنقه. أي وفي لفظ: وأما نوفل بن عبد الله، فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فتحطما جميعا. وقيل رمي بالحجارة، فجعل يقول: قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب؟ فنزل إليه علي كرم الله وجهه فقتله: أي ضربه بالسيف فقطعه نصفين، وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نعطيك الدية على أن تدفعه إلينا فندفنه. فردّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب: أي غرض لنا في ديته.
وقيل أعطوا في جثته عشرة آلاف، أي وفي رواية أنهم أرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم: أن أرسل إلينا بجسده ونعطيك اثني عشر ألفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في جثته ولا في ثمنه، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجسد خبيث الدية. وفي لفظ: إنما هي جيفة حمار.
ثم إن عدوّ الله حيي بن أخطب سيد بني النضير، كان يقول لقريش في مسيره معهم إن قومي بني قريظة معكم وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا، فقال له أبو سفيان: ائت قومك حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك خرج حيي لعنه الله حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة وولي عهدهم الذي عاهدهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي المتقدّم ذكره، فدق عليه باب حصنه، فأبي أن يفتح له وألح عليه في ذلك. فقال له: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال له: ويحك افتح لي أكلمك، فقال: ما أنا بفاعل، فغاظه، فقال له: والله ما أغلقت دوني إلا تخوّفا على جشيشتك، أي بالجيم المفتوحة والشين المعجمة- وهي البر يطحن غليظا، ويقال له الدشيش- أن آكل معك منها ففتح له.
فقال له: ويحك يا كعب، جئت بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال، وبغطفان حتى أنزلتهم بجانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وكل ما يخشى، فإني لم أر في محمد إلا صدقا ووفاء. وفي لفظ: جئتني بجهام: أي سحاب قد هراق ماء: أي لا ماء فيه، يرعد ويبرق، وليس فيه شيء، ويحك يا حيي، دعني وما أنا عليه. فلم يزل حيي بكعب حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يقتلوا محمدا أن يكون معه في حصنه ويصيبه ما أصابه، فعند ذلك نقض كعب العهد، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد، وجمع رؤساء قومه وهم الزبير بن مطا، وشاس بن قيس، وعزال بن ميمون، وعقبة بن زيد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد وشق الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلجم الأمر لما أراد الله من هلاكهم. وكان حيي بن أخطب في اليهود يشبه بأبي جهل في قريش.
فلما انتهى الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أخبره بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: يا رسول الله بلغني أن بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت، فاشتدّ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشق عليه ذلك. وأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وأرسل معهما ابن رواحة وخوات بن جبير. وأسقطهما في الإمتاع وذكر بدلهما أسيد بن حضير. وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه دون القوم، أي ورّوا وكنوا في كلامكم بما لم يفهمه القوم، أي لئلا يحصل لهم الوهن والضعف، وإلا فاجهروا بذلك بين الناس. فإن اللحن العدول بالكلام عن الوجه المعروف عند الناس إلى وجه لا يعرفه إلا صاحبه؛ كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول على الصواب المعروف، ومنه قول القائل «وخير الحديث ما كان لحنا» فخرجوا حتى أتوا بني قريظة فوجدوهم قد نقضوا العهد ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي قالوا من رسول الله؟ تبرؤوا من عقده وعهده، وقالوا لا عهد بيننا وبين محمد، فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه، أي وقيل سعد بن عبادة أي وكان فيه حدة وشاتموه أي ولا مانع من وجود الأمرين. وقال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: أو بالعكس؟ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى، أي أقوى من المشاتمة. ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنوا له عن نقضهم العهد، أي قالوا عضل والقارة: غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، وسيأتي خبر ذلك في السرايا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، أي وقال: أبشروا يا معاشر المسلمين نصرة الله تعالى وعونه»، وتقنع صلى الله عليه وسلم بثوبه واضطجع ومكث طويلا، فاشتدّ على الناس البلاء والخوف حين رأوه صلى الله عليه وسلم اضطجع ثم رفع رأسه، فقال: «أبشروا بفتح الله ونصره»، أي ولعل هذا: أي إرسال السعدين ومن معهما كان بعد إرساله صلى الله عليه وسلم الزبير إليهم ليأتي بخبرهم، هل نقضوا العهد استثباتا للأمر.
فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان بن ثابت. أي وكان حسان مع النساء، ومن جملتهم صفية بنت عبد المطلب، واتفق أن يهوديا جعل يطوف بذلك الحصن.
فقالت صفية لحسان: يا حسان لا آمن هذا اليهودي أن يدلهم على عورة الحصن فيأتوا إلينا، فانزل فاقتله. قال حسان رضي الله عنه: يا بنت عبد المطلب قد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما أيست منه أخذت عمودا ونزلت ففتحت باب الحصن وأتيته من خلفه فضربته بالعمود حتى قتلته، وصعدت الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: يا بنة عبد المطلب ما لي بسلبه حاجة. أي وهذا يدل على ما قيل إن حسان بن ثابت كان من أجبن الناس كما تقدم. قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا. فلما رجعت، قلت يا أبت رأيتك تختلف إلى بني قريظة. قال: رأيتني يا بني؟ قلت نعم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟» فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه. فقال: فداك أبي وأمي أخرجه الشيخان.
أي وفي كلام ابن عبد البر رحمه الله ثبت عن الزبير رضي الله عنه أنه قال:
جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه مرتين: يوم أحد، ويوم بني قريظة، فقال: ارم فداك أبي وأمي. وقال ولعل ذلك كان في أحد «إن لكل نبي حواريا، وإن حواريّ الزبير» وقال «الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي» ويذكر أن الزبير رضي الله عنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج. وكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك درهما واحدا وذلك من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم. فقد جاء أنه لما نزل قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ} [التكاثر: 8] قال له الزبير: يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: «أما إنه سيكون، وقد جعله سبعة من الصحابة وصيا على أولادهم، فكان يحفظ على أولادهم ما لهم وينفق عليهم من ماله، وهؤلاء السبعة: منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، والمقداد، وابن مسعود».
وعظم عند ذلك البلاء على المسلمين لما وصل إليهم الخبر: أي خبر نقض بني قريظة العهد. ولا منافاة بين بلوغهم الخبر وما تقدم من عدم الإفصاح به، لأنهم جاءهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المسلمون كل الظن، وأنزل الله تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وظهر النفاق من المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} [الأحزاب:12] .
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الأمر بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري في أن يقطعهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه. فجاآ مستخفيين من أبي سفيان فوافقاه على ذلك، أي بعد أن طلبا النصف فأبى عليهما إلا الثلث، فرضيا وكتبا بذلك صحيفة.
أي وفي رواية: أحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلح. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع الصلح على ذلك، بعث إلى سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ أي وفي لفظ: إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي، فما لهم عندنا إلا السيف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أمرني الله ما شاورتكما، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمرّ ما». فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم: أي غطفان على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أي وإن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نقطعهم أموالنا. أي وفي لفظ: نعطي الدنية ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحى ما فيها من الكتابة. أي وهذا إنما يناسب الرواية الأولى، وكذا ما جاء في لفظ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «شق الكتاب»، فشقه سعد، وقال لعيينة والحارث: «ارجعا بيننا وبينكم السيف رافعا صوته. ثم قال لسعد ليجهدوا علينا» .
ثم إن طائفة من المشركين أقبلوا: أي وأكرهوا خيولهم على اقتحام الخندق من مضيق به وفيهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك. وفيهم هبيرة بن أبي وهب أي وهو زوج أم هانىء أخت علي كرم الله وجهه رضي الله عنها، وأبو أولادها، مات على كفره. وضرار بن الخطاب وعمرو بن عبدود. أي قيل ونوفل بن عبد الله، وكان عمرو بن عبدود عمره إذ ذاك تسعين سنة، فقال: «من يبارز»، فقام علي كرم الله وجهه وقال: أنا له يا نبي الله. فقال صلى الله عليه وسلم له «اجلس إنه عمرو بن عبدود». ثم كرر عمرو النداء وجعل يوبخ المسلمين ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزنّ لي رجلا وأنشد أبياتا منها:
ولقد بححت من الندا *** ء يجمعكم هل من مبارز
إن الشجاعة في الفتى *** والجود من خير الغرائز
فقام علي كرم الله وجهه، فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: «اجلس إنه عمرو بن عبدود». ثم نادى الثالثة، فقام علي كرم الله وجهه فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: «إنه عمرو» فقال وإن كان عمرا، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد سيدنا عليّ أبياتا منها:
لا تعجلن فقد أتا *** ك مجيب قولك غير عاجز
ذو نية وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته.
وقال «اللهم أعنه عليه» أي وفي لفظ: «اللهم هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين» .
زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم رفع عمامته إلى السماء. وقال: «إلهي أخذت عبيدة مني يوم بدر وحمزة يوم أحد، وهذا عليّ أخي وابن عمي» الحديث، فمشى إليه علي كرّم الله وجهه، فقال له: يا عمرو إنك كنت قد عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين: أي خصلتين إلا أخذتها منه. قال له أجل: أي نعم، فقال له علي كرّم الله وجهه: فأنا أدعوك إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام فقال: لا حاجة لي بذلك. قال له عليّ: فإني أدعوك إلى البراز.
قال وفي رواية: إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاثة إلا قبلتها. قال: أجل، فقال عليّ: فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتسلم لرب العالمين، فقال: يابن أخي أخر عني هذه. قال: وأخرى، ترجع إلى بلادك، فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم صادقا كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذبا كان الذي تريد. قال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبدا، كيف وقد قدرت على استيفاء ما نذرت، أي فإنه نذر لما أفلت هاربا يوم بد وقد جرح أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم. قال: فالثالثة ما هي؟ قال البراز، فضحك عمرو وقال:
إن هذه لخصلة ما مكنت أظن أحدا من العرب يروّعني بها اهـ ثم قال له عند طلب المبارزة: لم يابن أخي؟ فو الله ما أحب أن أقتك، فقال علي كرّم الله وجهه: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك: أي أخذته الحمية.
وفي رواية أن عمرا قال له: من أنت أي لأن عليا كرّم الله وجهه كان مقنعا بالحديد، قال: عليّ، قال ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: غيرك يابن أخي من أعمامك من هو أشد منك، فإني أكره أن أهريق: أي أسيل دمك، أي وزاد في رواية: فإن أباك كان لي صديقا، أي وفي لفظ: كنت له نديما، فقال علي: وأنا والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب، فقال له علي كرّم الله وجهه: كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن أنزل معي، فاقتحم عن فرسه وسلّ سيفه كأنه شعلة نار، فعقر فرسه وضرب وجهه، وأقبل على عليّ كرّم الله وجهه، فاستقبله على بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، فضربه علي كرم الله وجهه على حبل عاتقه أي وهو موضع الرداء من العنق فسقط وكبر المسلمون، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير عرف أن عليا كرم الله وجهه قتل عمرا لعنه الله.
أي وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك قال «قتل علي لعمرو بن عبدود أفضل من عبادة الثقلين» قال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا من الأحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها ولا بسند ضعيف، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ومنهم الأنبياء. قال: بل إن عمرو بن عبدود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة.
أقول: ويردّ قوله إن عمرو بن عبدود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة قول الأصل. وكان عمرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما: أي جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه، أي ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم، واستدلاله بقوله وكيف يكون إلى آخره فيه نظر، لأن قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين.
وفي تفسير الفخر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبدود «كيف وجدت نفسك معه يا علي؟» قال: وجدته لو كان أهل المدينة كلهم في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم .
وفي كلام السهيلي رحمه الله: ولما أقبل علي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبدود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متهلل، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع خير منها؟ قال: إني حين ضربته استقبلني بسوءته فاستحيت يابن عمي أن أسلبه، هذا كلامه.
وعندي أن هذا اشتباه من بعض الرواة، لأن هذه الواقعة لعلي كرم الله وجهه إنما كانت في يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة كما تقدم وعمرو بن عبدود لم يشهد أحدا كما تقدم عن الأصل فليتأمل.
قال: وذكر ابن إسحاق أن المشركين بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى»، وحين قتل عمرو رجع من وصل الخندق من المشركين بخيلهم هاربين، فتبعهم الزبير رضي الله عنه وضرب نوفل بن عبد الله بالسيف فشقه نصفين ووصلت الضربة إلى كاهل فرسه، فقيل له: يا أبا عبد الله ما رأينا مثل سيفك، فقال والله ما هو السيف ولكنها الساعد، أي وفيه أنه تقدم أن نوفل بن عبد الله وقع في الخندق فاندقت عنقه إلى آخر ما تقدم، لكني رأيت بعضهم قال: إن وقوع نوفل في الخندق ورميه بالحجارة وقتل عليّ كرم الله وجهه له في الخندق غريب من وجهين فليتأمل.
وحمل الزبير رضي الله عنه على هبيرة بن أبي وهب وهو زوج أم هانىء أخت علي بن أبي طالب كما تقدم، فضرب ثغر فرسه فقطعه، وسقطت درع كان محقبها الفرس: أي جعلها على مؤخر ظهرها، فأخذها الزبير، وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه وهو منهزم.
أي وفي رواية: ثم حمل ضرار بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهبيرة بن أبي وهب على علي كرم الله وجهه فأقبل عليّ عليهما فأما ضرار فولى هاربا ولم يثبت، وأما هبيرة فثبت ثم ألقى درعه وهرب وكان فارس قريش وشاعرها.
وذكر أن ضرار بن الخطاب لما هرب تبعه أخوه عمر بن الخطاب وصار يشتد في أثره، فكر ضرار راجعا وحمل على عمر رضي الله عنه بالرمح ليطعنه ثم أمسك وقال: يا عمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ويدلي عندك غير مجزيّ بها فاحفظها.
أي ووقع له مع عمر رضي الله عنه مثل ذلك في أحد، فإنه التقى معه، فضرب عمر رضي الله عنه بالقناة ثم رفعها عنه وقال له: ما كنت لأقتلك يابن الخطاب، ثم منّ الله على ضرار فأسلم وحسن إسلامه، وكان شعار المسلمين «حمّ لا ينصرون» أي ولعل المراد بالمسلمين الأنصار، فلا يخالف ما في الإمتاع، وكان شعار المهاجرين «يا خيل الله» .
وفيه خرجت طائفتان للمسلمين ليلا لا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدوّ فكانت بينهم جراحة وقتل ثم نادوا بشعار الإسلام «حمّ لا ينصرون» فكف بعضهم عن بعض.
وقد يقال: يجوز أن تكون الطائفتان كانتا من الأنصار جاؤوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جراحكم في سبيل الله، ومن قتل فهو شهيد» وبهذا استدل أئمتنا على أن من قتله مسلم خطأ في الحرب يكون شهيدا.
ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله: وهو عرق في الذراع تتشعب منه عروق البدن، ولعله محل الفصد الذي يقال له المشترك، أي ويقال لهذا العرق عرق الحياة. أي رماه ابن العرقة اسم جدّته، سميت بذلك لطيب عرقها، وقال خذها وأنا ابن العرقة، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: عرّق الله وجهه في النار، وقيل قائل ذلك سعد رضي الله عنه، وعند ذلك قال سعد: اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم يعني قريشا فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني. وفي لفظ: حتى تشفيني من بني قريظة، وفي لفظ: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه وكذبوه.
وفي يوم استمرت المقاتلة، قيل من سائر جوانب الخندق إلى الليل ولم يصلّ صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. أي وصار المسلمون يقولون: ما صلينا، فيقول صلى الله عليه وسلم: «ولا أنا»، فلما انكشف القتال جاء صلى الله عليه وسلم إلى قبته وأمر بلالا فأذن وأقام الظهر فصلى ثم أقام بعد كل صلاة إقامة وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء» .
أقول: في الرواية الأولى ما يشهد لقول إمامنا الشافعي: يندب أن يؤذن للأولى من الفوائت ويقيم لما عداها إذا قضاها متوالية، وكونه يؤذن للأولى من الفوائت هو ما ذهب إليه في القديم وهو المفتي به.
وفي الرواية الثانية دليل على أنه يؤذن لكل من الفوائت إذا قضاها متوالية، ولم يقل به إمامنا، فإنه جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مرسلا لأنه رواه عنه ابنه أبو عبيدة ولم يسمع منه لصغر سنه.
وروى إمامنا الشافعي رضي الله عنه بإسناد صحيح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هويّ» أي طائفة من الليل حتى كفينا القتال، وذلك قوله تعالى {وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ} [الأحزاب:25] فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أي وفي لفظ «فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها، وهو دليل لعدم ندب الأذان للفائتة، وهو ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله عنه في الجديد وهو مرجوح.
وجمع الإمام النووي في شرح المهذب بين رواية إلى الليل ورواية حتى ذهب هويّ من الليل بأنهما قضيتان جرتا في أيام الخندق، قال: فإنها كانت خمسة عشر يوما، أي على ما تقدّم.
وفيه أن كونهما قضيتين أمر واضح لاخفاء فيه، لأن في الأولى وفي يوم استمرت المقاتلة إلى الليل، وفي الثانية حتى كفينا القتال، فمع ذلك كيف يظن أنهما قضية واحدة حتى يحتاج إلى الجمع، وظاهر سياق هذه الروايات أنه صلى الأربع صلوات بوضوء واحد وبه صرّح البغوي في تفسير سورة المائدة، وحينئذ يحتاج للجمع بينه وبين ما يأتي في فتح مكة.
وروى الطحاوي، واستدل به مكحول والأوزاعي على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال أن الشمس ردت له صلى الله عليه وسلم بعد ما غربت حين شغل عن صلاة العصر حتى صلى العصر، وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن رواته ثقات.
وفي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء يوم الخندق بعد ما كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها- يعني العصر-» فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب وهذه الرواية تقتضي أنه لم يفته إلا العصر وأنه صلاها بعد الغروب.
قال الإمام النووي رحمه الله: وطريق الجمع أن هذا كان في بعض أيام الخندق، وكون صلاة العصر هي الوسطى قد جاء في بعض الروايات «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس، ملأ الله أجوافهم» وفي لفظ «بطونهم وقبورهم نارا» والذي في البخاري ومسلم وأي داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وكون الوسطى هي صلاة العصر هو قول من تسعة عشر قولا ذكرها الحافظ الدمياطي في مؤلف له سماه [كشف الغطا عن الصلاة الوسطى] وفي الينبوع أن كون الصلاة الوسطى هي العصر هو الذي أعتقده والله أعلم.
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب، فلما فرغ قال: «أحد منكم علم أني صليت العصر؟» قالوا: يا رسول الله ما صلينا أي لا نحن ولا أنت «فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب» قيل وكان ذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] اهـ.
أقول: يحتاج إلى الجواب عن إعادة المغرب. وقد يقال: أعادها مع الجماعة، وأن قوله {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: الآية 239] يرشد إلى أن المراد بصلاة الخوف صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع التي نزل فيها قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ} [النساء: 102] الآية كما تقدم، فلا ينافي ما تقدم من صلاته في الرقاع بناء على تقدمها على هذه الغزوة التي هي غزوة الخندق.
وحينئذ يندفع الاستدلال على أن ذات الرقاع متأخرة عن الخندق بقولهم ولم تكن شرعت صلاة الخوف: أي صلاة ذات الرقاع، وإلا لصلاها في الخندق، ولم يخرج الصلاة عن وقتها لما علمت أن المراد بصلاة الخوف التي لم تشرع زمن الخندق صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع. وسقط القول بأن الآية التي نزلت في صلاة ذات الرقاع منسوخة، فتركه صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة في الخندق، لأن الخندق وإن لم يلتحم فيه القتال إلا أنهم لا يأمنون هجوم العدوّ عليهم، فلو صلوها لكانت تلك الصلاة صلاة شدة الخوف لا صلاة ذات الرقاع، لأن شرطها أمن هجوم العدو، وصلاة شدة الخوف إما أن يلتحم فيها القتال أو يخافوا هجوم العدو.
وقول بعضهم أن ابن إسحاق وهو إمام أهل المغازي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان، وذكر أنها قبل الخندق، فتكون صلاة عسفان منسوخة أيضا فيه نظر ظاهر، لأن صلاة عسفان إنما كانت في الحديبية كما سيأتي. وعلى تسليم أن صلاة عسفان كانت قبل الخندق، فتلك يشترط فيها الأمن من هجوم العدوّ والله أعلم.
قال: ثم إن طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميتا منهم بالمدينة فصادفوا عشرين بعيرا لقريش محملة شعيرا وتمرا وتبنا، حملها ذلك حيي بن أخطب شدادا وتقوية لقريش فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسع بها أهل الخندق.
ولما بلغ أبا سفيان ذلك قال: إن حييا لمشؤوم، فطع بنا ما نجد ما نحمل عليه إذا رجعنا.
ثم إن خالد بن الوليد كرّ بطائفة من المشركين يطلب غرّة للمسلمين: أي غفلتهم، فصادف أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين فناوشوهم: أي تقاربوا منهم ساعة، وكان في أولئك المشركين وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه، فرزق الطفيل بن النعمان فقتله، ثم بعد ذلك صاروا يرسلون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة: أي الإغارة، فأقام المسلمون في شدة من الخوف. أي وفي الصحيحين ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب. فقال: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، وزلزلهم» أي وقام في الناس فقال «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية فإن لقيتم العدوّ فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» أي السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله تعالى. ودعا صلى الله عليه وسلم بقوله «يا صريخ المكروبين، يا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي». وقال له المسلمون رضي الله عنهم: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم، قولوا: «اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا»، فأتاه جبريل عليه السلام فبشره أن الله يرسل عليهم ريحا وجنودا، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك وصار يرفع يديه قائلا شكرا شكرا .
وجاء أن دعاءه صلى الله عليه وسلم عليهم كان يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء واستجيب له ذلك اليوم الذي هو يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف السرور في وجهه صلى الله عليه وسلم أي ومن ثم كان جابر رضي الله عنه يدعو في مهماته في ذلك اليوم في ذلك الوقت، ويتحرى ذلك.
والأحاديث والآثار التي جاءت بذم يوم الأربعاء محمولة على آخر أربعاء في الشهر، فإن في ذلك اليوم ولد فرعون وادعى الربوبية وأهلكه الله فيه، وهو اليوم الذي أصيب فيه أيوب عليه الصلاة والسلام بالبلاء.
قال: وكان صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق. والثلمة: الخلل في الحائط فعن عائشة رضي الله عنه قالت: كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفىء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن تؤتي المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضني صار يقول ليت رجلا صالحا يحرس هذه الثلمة الليلة، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟» فقال سعد بن أبي وقاص: سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك، فقال «عليك هذه الثلمة فاحرسها»، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غط، وقام صلى الله عليه وسلم في قبته يصلي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومن ثم لما نعي لابن عباس أخوه قثم وهو في سفر استرجع وتنحى عن الطريق وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس وتلا {وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ} [البقرة: 45] .
ثم خرج صلى الله عليه وسلم من قبته، فقال: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، ثم نادى صلى الله عليه وسلم: «يا عباد بن بشر»، قال: لبيك؛ قال «هل معك أحد»، قال: نعم أنا في نفر حول قبتك يا رسول الله، وكان ألزم الناس لقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسها، فبعثه صلى الله عليه وسلم يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم. ثم قال: «اللهم ادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك». وإذا أبو سفيان في خيل يطوفون بمضيق من الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا.
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليلا، فقال: يا رسول الله إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. قال وفي رواية أن نعيما لما سارت الأحزاب سار مع قومه: أي غطفان وهو على دينهم، فقذف الله في قلبه الإسلام، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فوجده يصلي، فلما رآه جلس. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك يا نعيم؟» قال: جئت أصدقك، وأشهد أن ما جئت به حق فأسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة بفتح الخاء وسكون الدال المهملة: أي ينقضي أمرها بالمخادعة». فقال له نعيم: يا رسول الله إني أقول: أي ما يقتضيه الحال وإن كان خلاف الواقع. قال: «قل ما بدا لك فأنت في حل»
فخرج نعيم رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما. قال: فلما رأوني رحبوا بي وعرضوا علي الطعام والشراب. فقلت: إني لم آت لشيء من هذا، إنما جئتكم تخوفا عليكم لأشير عليكم برأي، يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، ليست عندنا بمتهم. فقال لهم: اكتموا عني، قالوا: نفعل. قال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع ولبني النضير من إجلائهم وأخذ أموالهم، وإن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم، وبها أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، لا تقدرون على أن ترحلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم: أي عاونتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة: أي فرصة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين بلدكم، والرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، أي سبعين رجلا يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه: أي يقاتلوه.
قالوا له: لقد أشرت بالرأي والنصح، ودعوا له وشكروا، وقالوا: نحن فاعلون.
قال: ولكن اكتموا عني، قالوا: نفعل.
ثم خرج رضي الله عنه حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان ومن معه من أشراف قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي لمحمد، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا. قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود: يعني بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد: أي من نقض عهده. وقد أرسلوا إليه، أي وأنا عندهم أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان رجالا من أشرافهم، أي سبعين رجلا فنعطيكهم فتضرب أعناقهم؟ أي وتردّ جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم: يعنون بني النضير، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يطلبون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا، واحذروهم على أسراركم، ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفا. قالوا: لا نذكره.
ثم خرج رضي الله عنه حتى أتى غطفان. فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عليّ، قالوا نعم، فقال لهم، مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كان ليلة السبت، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز: أي نقاتل محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إن اليوم: أي الذي يلي هذه الليلة يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعدي في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، أي سبعين رجلا، فقالوا: صدق والله نعيم.
وفي رواية أن بني قريظة أرسلت لقريش قبل مجيء رسل قريش إليهم رسولا يقول لهم: ما هذا التواني، والرأي أن تتواعدوا على يوم يكونون معكم فيه لكنهم لا يخرجون حتى ترسلوا إليهم رهنا سبعين رجلا من أشرافكم، فإنهم يخافون إن أصابكم ما تكرهون رجعتم وتركتموهم، فلم ترد لهم قريش جوابا. وجاءهم نعيم وقال لهم: كنت عند أبي سفيان، وقد جاءه رسولكم. فقال لو طلبوا مني عناقا ما دفعتها لهم، فاختلفت كلمتهم، أي وجاء حيي بن أخطب لبني قريظة فلم يجد منهم موافقة له وقالوا: لا نقاتل معهم حتى يدفعوا إلينا سبعين رجلا من قريش وغطفان رهنا عندنا، وبعث الله تعالى ريحا عاصفا، أي وهي ريح الصبا في ليال شديدة البرد، فنقلت بيوتهم، وقطعت أطنابها، وكفأت قدورهم على أفواهها، وصارت الريح تلقي الرجال على أمتعتهم.
وفي رواية: دفنت الرجال وأطفأت نيرانهم. أي وأرسل الله إليهم الملائكة زلزلتهم. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] ولم تقاتل الملائكة بل نفثت في روعهم الرعب. وقال صلى الله عليه وسلم «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» وفي لفظ «نصر الله المسلمين بالريح، وكانت ريحا صفراء ملأت عيونهم ودامت عليهم» .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه اختلاف كلمتهم، وكانت تلك الليلة شديدة البرد والريح في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وسيأتي أنها لم تجاوز عسكر المشركين، وشديدة الظلمة بحيث لا يرى الشخص أصبعه إذا مدها.
فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون إن بيوتنا عورة: أي من العدو، لأنها خارج المدينة، وحيطانها قصيرة يخشى عليها السرقة، فائذن لنا أن نرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا فيأذن صلى الله عليه وسلم لهم.
قيل ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا ثلاثمائة، وقال: «من يأتينا بخبر القوم»: فقال الزبير رضي الله عنه: أنا. قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاثا والزبير يجيبه بما ذكر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل نبي حواري» أي ناصر «وإن حواري الزبير» أي وهذا قاله صلى الله عليه وسلم له أيضا عند إرساله لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد أولا؟ كما تقدم. وسيأتي قول ذلك له أيضا في خيبر. وفي الحديث «حواري الزبير من الرجال وحواري من النساء عائشة» وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال إلا رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة» وفي لفظ «يكون معي يوم القيامة» وفي لفظ «يكون رفيق إبراهيم يوم القيامة» قال ذلك ثلاثا فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد، فدعا صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان. قال: فلم أجد بدّا من القيام حيث فوّه باسمي، فجئته صلى الله عليه وسلم فقال: تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟ فقلت: لا، والذي بعثك بالحق إن قدرت. أي ما قدرت على ما بي من الجوع والبرد والخوف، فقال: اذهب حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا. قال حذيفة: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. وقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فقمت مستبشرا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأني احتملت احتمالا، وذهب عني ما كنت أجد من الخوف والبرد، وعهد صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا أحدث حدثا. وفي رواية «أما سمعت صوتي؟ قلت نعم. قال: فما منعك أن تجيا بني؟ قلت البرد. قال: لا برد عليك حتى ترجع» كما يدل على ذلك الرواية الآتية «فقال له: إن في القوم خبرا فائتني بخبر القوم» قال: وفي رواية إنه صلى الله عليه وسلم لما كرر قوله: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة؟» ولم يجبه أحد. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله حذيفة. قال «حذيفة»: فمر عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليّ جنة من العدو والبرد إلا مرطا لامرأتي ما يجاوز ركبتيّ، وأنا جاث على ركبتي. فقال: «من هذا؟» قلت: حذيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حذيفة»، قال حذيفة رضي الله عنه: فتقاصرت بالأرض. قلت: بلى يا رسول الله. قال: «قم»، فقمت. فقال: «إنه كائن في القوم خبر فائتني بخبر القوم». فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إلا حياء منك من البرد قال: «لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إليّ». فقلت: والله ما بي أن أقتل، ولكن أخشى أن أوسر. فقال: «إنك لن تؤسر اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فمضيت كأني أمشي في حمام» مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار وهو عربي قال حذيفة: فلما وليت دعاني، فقال لي: «لا تحدثن شيئا» وفي رواية، لا ترم بسهم ولا حجر، ولا تضربن بسيف حتى تأتيني.
فجئت إليهم ودخلت في غمارهم، فسمعت أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امرىء منكم جليسه، واحذروا الجواسيس والعيون، فأخذت بيد جليسي على يميني وقلت من أنت؟ فقال: معاوية بن أبي سفيان، وقبضت يد من على يساري.
وقلت: من أنت، قال عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، والله إنكم لستم بدار مقام. ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم، أي فإنه لما ركبه كان معقولا، فلما ضربه وثب على ثلاثة قوائم، ثم حل عقاله. فقال له عكرمة بن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم تذهب وتترك الناس، فاستحيى أبو سفيان وأناخ جمله وأخذ بزمامه وهو يقوده. وقال ارحلوا، فجعل الناس يرحلون وهو قائم. ثم قال لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله نقيم في جريدة من الخيل بإزاء محمد وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب، فقال عمرو: أنا أقيم، وقال لخالد بن الوليد: ما ترى أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضا أقيم، فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار جميع العسكر. قال حذيفة رضي الله عنه: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ حين بعثني أن لا أحدث شيئا لقتلته؟ يعني أبا سفيان بسهم، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاشتدوا راجعين إلى بلادهم» .
وفي رواية فدخلت العسكر، فإذا الناس في عسكرهم يقولون الرحيل الرحيل لا مقام لكم والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم، وتضربهم بالحجارة، والريح لا تجاوز عسكرهم، فلما انتصفت الطريق إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمين، فخرج إليّ منهم فارسان وقالا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم. قال حذيفة: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قائما يصلي فخبرته، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، أي وفي رواية «فأخبرته الخبر فضحك حتى بدت ثناياه في سواد الليل، وعاودني البرد، فجعلت أقرقف، فأومأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فدنوت منه، فسدل عليّ من فضل شملته فنمت ولم أزل نائما حتى الصبح» أي طلوع الفجر «فلما أن أصبحت» أي دخل وقت صلاة الصبح وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا نومان: أي يا كثير النوم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال له: لا بأس عليك من برد حتى ترجع إليّ» .
أي ومن هذا أي إرسال حذيفة رضي الله عنه وما تقدّم: أي من إرسال الزبير رضي الله عنه تعلم أن ذلك كان في الخندق، ولا مانع منه، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم عدل عن إرسال الزبير، واختار حذيفة لأمر قام عنده صلى الله عليه وسلم، من جملة ذلك كون الزبير رضي الله عنه كان عنده حدة وشدة لا يملك نفسه أن يحدث بالقوم ما نهى عنه حذيفة رضي الله عنه، وحينئذ يرد قول بعضهم إن الزبير إنما أرسل لكشف أمر بني قريظة هل نقضوا العهد أم لا؟ لا لكشف أمر قريش، وحذيفة رضي الله عنه ذهب لكشف أمر قريش هل ارتحلوا أولا، وقد اشتبه الأمر على بعض الناس فظنهما قضية واحدة فليتأمل ذلك.
وكان يقال لحذيفة رضي الله عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه غيره. فقد قال حذيفة رضي الله عنه «لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وبما يكون حتى تقوم الساعة» أي وتقدم أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقال له أيضا صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر ابن ظفر في «ينبوع الحياة» في تفسير قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب: 9] وهبت ريح الصبا ليلا، فقلعت الأوتاد، وألقت عليهم الأبنية، وكفأت القدور، وسفت عليهم التراب، ورمتهم بالحصا، وسمعوا في أرجاء: أي نواحي معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح: أي من الملائكة، فصار سيد كل حي يقول لقومه: يا بني فلان هلموا إليّ، فإذا اجتمعوا قال: النجاء النجاء، فارتحلوا هرابا في ليلتهم، وتركوا ما استتقلوه من متاعهم. أي والصبا هي الريح الشرقية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالت الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها فجعلها عقيما، ويقال لها الدبور. فكان نصره صلى الله عليه وسلم بالصبا. وكان إهلاك عاد بالدبور، وهي الريح الغربية.
وحين انجلاء الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم «الآن نغزوهم ولا يغزونا» والصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع ليال من ذي القعدة، أي بناء على أنها كانت في القعدة وهو قول ابن سعد.
وقيل كانت في شوال وكان ذلك سنة خمس، أي كما قاله الجمهور. قال الذهبي: وهو المقطوع به، وقال ابن القيم: إنه الأصح. وقال الحافظ ابن حجر: هو المعتمد. وقيل سنة أربع، وصححه الإمام النووي في الروضة. قال بعضهم: وهو عجيب، فإنه صحح أن غزوة بني قريظة كانت في الخامسة، ومعلوم أنها كانت عقب الخندق.
أي وفيه أنه يجوز أن تكون بنو قريظة أوائل الخامسة، والخندق أواخر الرابعة، فتكون في ذي الحجة. واستدل من قال إن الخندق كانت سنة أربع بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، فيكون بينهما سنة واحدة، أي وكانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع.
قال الحافظ ابن حجر: ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشرة، وكان في الأحزاب قد استكمل الخمسة عشرة، وسبقه إلى ذلك البيهقي. وحينئذ يكون بين أحد والخندق سنتان كما هو الواقع لا سنة واحدة.
ومما وقع من الآيات في هذه الغزوة في مدة حفر الخندق غير ما تقدم: أن بنت بشير بن سعد جاءت لأبيها وخالها: أي عبد الله بن رواحة بحفنة من التمر ليتغذيا بها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتيه، فصبته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسطت له، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه. وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب؛ أي فإن أهل الخندق أصابهم مجاعة. قال بعض الصحابة: «لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق زادا، وربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع» .
أقول: أورد ابن حبان في صحيحه لما أورد الحديث الذي فيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصال، وقالوا له ما لك تواصل يا رسول الله: قال «إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني» .
قال: يستدل بهذا الحديث على بطلان ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الحجر على بطنه من الجوع، لأنه كان يطعم ويسقى من ربه إذا واصل، فكيف يترك جائعا مع عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه. قال: وإنما لفظ الحديث الحجز بالزاي، وهو طرف الإزار فصحفوا وزادوا لفظ «من الجوع» .
وأجيب بأنه لا منافاة، كان صلى الله عليه وسلم يطعم ويسقى إذا واصل في الصوم: أي يصير كالطاعم والساقي تكرمة له، ولا يحصل له ذلك دائما، بل يحصل له الجوع في بعض الأحايين على وجه الابتلاء الذي يحصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعظيما لثوابهم والله أعلم.
وإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما علم ما به صلى الله عليه وسلم من شدّة الجوع صنع شويهة وصاعا من شعير. قال جابر: وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده. فلما قلت له أمر صارخا، فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قال جابر: فقلت {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] فأقبل الناس معه: أي بعضهم، فجلس صلى الله عليه وسلم فأخرجناها إليه، فبرّك ثم سمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا، أي وذهبوا إلى الخندق وجاء آخرون، حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانصرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
قال: وفي رواية أن جابرا رضي الله تعالى عنه لما رأى ما به صلى الله عليه وسلم من الجوع استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصراف إلى بيته، فأذن له. قال جابر: فجئت لامرأتي وقلت لها: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا أفعندك شيء؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير وجعلت اللحم في برمة، فلما أمسينا، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساورته وقلت له: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه في أصابعي، وقال: «كم هو؟» فذكرت له، قال: «كثير طيب، لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء»، وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سؤارا» أي ضيافة «فحيهلا بكم: أي سيروا مسرعين»، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس. قال جابر رضي الله عنه: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، والله إنها لفضيحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادخلوا عشرة عشرة»، أي بعد أن أخرجت له عجيننا فبصق فيه وبارك، ثم عمد صلى الله عليه وسلم إلى برمتنا وبصق فيها وبارك الحديث. أي ومجيء القوم كان على الوجه المتقدم «وإن أم عامر الأشهلية أرسلت بقصعة فيها حيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في القبة عنده أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فأكلت أم سلمة حاجتها، ثم خرج بالقصعة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلموا إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا منها وهي كما هي» .
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله ونفعنا ببركاته أنه قدّم لأربعة عشر رجلا من الفلاحين رغيفا واحدا، فأكلوا منه كلهم وشبعوا، قال: وقدّمت مرة الطاجن الذي نعمله في الفرن إلى سبعة عشر نفسا فأكلوا منه وشبعوا. وذكر أنه شاهد شيخه الشيخ محمد الشناوي رحمه الله ونفعنا ببركاته، وقد جاء من الريف ومعه نحو خمسين رجلا ونزل بزاوية شيخه الشيخ محمد السروي، فتسامع مجاورو الجامع الأزهر بمجيئه، فأتوا لزيارته، فامتلأت الزاوية، وفرشوا الحصر في الزقاق.
ثم قال لنقيب شيخه: هل عندك طبيخ؟ قال نعم، الطبيخ الذي أفعله لي ولزوجتي، فقال له: لا تغرف شيئا حتى أحضر، ثم غطى الشيخ الدست بردائه وأخذ المغرفة وصار يغرف إلى أن كفي من في الزاوية ومن في الزقاق، وهذا شيء رأيته بعيني هذا كلامه.
ولا بدع. فقد ذكر غير واحد من العلماء كالحافظ ابن كثير أن كرامات الأولياء معجزات للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه به، وهذا كلامه.
قال: وأرسل أبو سفيان كتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى أي وأساف ونائلة وهبل كما في لفظ: لقد سرت إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود إليك أبدا حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بالخندق: أي وفي لفظ، قد اعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فرارا من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد، فأرسل له صلى الله عليه وسلم جوابه فيه: «أما بعد، أي بعد بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، كذا في كلام سبط ابن الجوزي، فقد أتاني كتابك، وقديما غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافا ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب».