الحديبية اسم بئر تقع على بعد اثنين وعشرين كيلاً إلى الشمال الغربي من مكة وتعرف الأن بالشميسي، وفيها حدائق الحديبية ومسجد …
الرضوان . وأطرافها تدخل في حدود الحرم المكي ومعظمها من الحِلِّ خارجه. وقد سميت الغزوة بها لأن قريشاً منعت المسلمين من دخول مكة وهم في الحديبية.
وكان خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في يوم الاثنين مستهل ذي القعدة من السنة السادسة. وقد قصد بخروجه العمرة ، وفي ذلك إظهار لحقيقة مشاعر المسلمين نحو البيت العتيق وتعظيمهم له، وإبطال لدعاية قريش المعادية التي تريد إظهارهم وكأنهم لا يعترفون بحرمة الكعبة.
ولا يخفى أن هذه التظاهرة الإسلامية تبرز قوة المسلمين في أرجاء الجزيرة العربية، خاصة بعد فشل غزوة الأحزاب، وكانت قريش تفطن لهذه المعاني عندما منعت المسلمين من دخول مكة وأداء العمرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع أن تصده قريش وقد تقاتله، لذلك أراد أن يخرج بأكبر عدد من المسلمين، فاستنفر أهل البوادي من الأعراب فأبطأوا عليه فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وقد سجل القرآن الكريم على الأعراب هذا الموقف الضعيف: {سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [الفتح: 11] {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12].
وقد ذكر مجاهد: أن المراد بالآية أعراب المدينة جهينة ومزينة.
ونظرا لتوقع الشر من قريش فإن المسلمين أخذوا معهم سلاحهم فكانوا مستعدين للقتال. خلافا لما ذكر الواقدي من كونهم لم يحملوا السلاح.
وبلغ عدد المسلمين في الحديبية ألفاً وأربعمائة رجل، ذكر ذلك شهود العيان من الصحابة وهم جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع والمسيب بن حزن . وقال جابر في رواية أنهم ألف وخمسماثة . وقال الصحابي عبد الله بن أبي أوفى أنهم ألف وثلثمائة . واتفاق خمسة من شهود العيان على أنهم ألف وأربعمائة أولى من سواه من الأقوال فهو أصح الصحيح، وإن كان الجمع ليس بمتعذر والاختلاف ليس بكبير.
وقد صلى المسلمون بذي الحليفة وأحرموا بالعمرة وساقوا الهدي سبعين بدنة ، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم عيناً إلى مكة هو بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي .
ولما بلغ المسلمون الروحاء على بعد 73 كيلاً عن المدينة، أرسل أبا قتادة الأنصاري- ولم يكن محرماً بالعمرة- مع جمع من الصحابة إلى غيقة على ساحل البحر الأحمر حيث بلغه وجود بعض المشركين الذين يخشى من مباغتتهم للمسلمين، وقد اصطاد لهم أبو قتادة حمارا وحشيا وهم حرم فأكلوا منه ثم شكوا في حل ذلك، فالتقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا على بعد 180 كيلاً عن المدينة فسألوه فأذن لأصحابه بأكل اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده .
ومضى المسلمون إلى أن وصلوا عسفان على ثمانين كيلاً من مكة فجاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش وأنها سمعت بمسيرهم، وجمعت لهم الجموع لصدهم عن دخول مكة، وأن خالد بن الوليد خرج بخيلهم إلى كراع الغميم- على بعد 64 كيلاً عن مكة- طليعة، فاستشار النبي أصحابه في أن يغير على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم، فقال: «أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين وإلا تركناهم محروبين؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامراً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: «امضوا على اسم الله». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الاستشارة لأصحابه.
وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعسفان صلاة الخوف، وذلك عندما علم بقرب خيل المشركين منهم ، فتكون أول صلاة خوف صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان في الحديبية. على رأي من أخّر غزوة ذات الرقاع إلى ما بعد خيبر وهو الصحيح . خلافاً لرأي ابن إسحق والواقدي ومن تبعهما ، لأن أبا موسى الأشعري وأبا هريرة قدما على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر وليس قبل ذلك التاريخ وقد اشتركا في غزوة ذات الرقاع)، فلزم أن تتأخر عن خيبر، ولزم أن تكون الصلاة بعسفان في الحديبية، إذ أعقبها الصلح ولم يجر قتال في مكة وما حولها حتى كان الفتح.
وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار وهي مهبط الحديبية وقال: «من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل» فكان أول من صعدها خيل الخزرج.
وقد غبر الرسول صلى الله عليه وسلم طريق جيشه تجنبا للقتال مع خالد بن الوليد وخيالة المشركين فلما أحس خالد بذلك رجع إلى مكة فخرجت قريش فعسكرت ببلدح ، فنزلوا على الماء وسبقوا المسلمين إليه. حتى إذا اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته فقالوا: خلات القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل». ثم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» ثم عدل عن دخول مكة إلى أقصى الحديبية فنزل على بئر قليلة الماء فاشتكى المسلمون العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيها فمازال يجيش بالري حتى صدروا عنه ، فكان تكثير الماء من معجزاته عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على الاستبقاء على حياة قريش ويأمل إسلامهم وإفادة الدعوة منهم فالناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وقريش من أكثر العرب فصاحة وذكاء وخبرة ومكانة، واستبقاؤها للأسلام فيه خير عظيم للدولة والدعوة كما برهنت الأيام. وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يتحسر لعناد قريش وفنائها في الحرب مع المسلمين، فيقول: «يا ويح قريش أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش عن طريق رجال محايدين أحياناً وبواسطة رسل أرسلهم لهذا الغرض أحياناً أخرى أنه لا يريد حرب أحد، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وقد قدم عليه بديل بن ورقاء الخزاعي وبيّن أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح له الرسول صلى الله عليه وسلم موقفه، فقام بتوضيحه لقريش ، فأجابته قريش: “وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها أبدا عليناً ولا تتحدث بذلك العرب” .
والحق أن المسلمين كسبوا الموقف سياسياً سواء دخلوا مكة وتحدثت العرب عن ذلك، أو لم يدخلوا فتحدثت العرب عن صد قريش لمن قصدوا تعظيم البيت العتيق، بعد أن كانت قريش تدعي أن السلمين لا يحترمون المقدسات.
وقد سعى الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان موقفه أمام الناس جميعاً، فأرسل رسله تترى إلى قريش يعلنون مقصدهم، فأرسل خراش بن أمية الخزاعي فأرادت قريش قتله لولا أن منعهم الأحابيش . وأراد أن يرسل عمر بن الخطاب ثم عدل عنه إلى عثمان بن عفان عندما بين عمر شديد عداوته لقريش وأنها تعلم ذلك وأن بني عدي قومه لا يحمونه . فذهب عثمان إلى قريش، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص حتى أبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سمحت له قريش بالطواف فأبى أن يسبق الرسول صلى الله عليه وسلم بالطواف، وقد أخَّرته قريش فحسب المسلمون أنها قتلته .
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجرة سمرة فبايعوه جميعاً سوى الجد ابن قيس- وكان منافقاً – وكانت البيعة على الموت . وفي روايات أخرى أنهم بايعوه على ألا يفروا وليس على الموت . أو أنهم بايعوه على الصبر ولا تعارض في ذلك لأن المراد بالمبايعة على الموت ألا يفروا . وأول من بادر إلى البيعة أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي . ثم تتابع الأصحاب وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على موقف الصحابة ومبادرتهم إلى البيعة، فقال: «أنتم خير أهل الأرض» . وقال: «لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها» . ولما كان عثمان محبوساً في قريش فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده، فقال: «هذه لعثمان». فعد في المبايعين تحت الشجرة، ولكن عثمان رجع إلى المسلمين بعد بيعة الرضوان مباشرة.
وأرسلت قريش عدداً من الرسل للتفاوض، أولهم عروة بن مسعود الثقفي، وقد لاحظ تعظيم المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته، فلما رجع إلى قريش قال: “أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً” .
ثم أرسلت قريش الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلاً طلب من أصحابه أن يظهروا أمامه الإبل المشعرة، وأن يلبوا أمامه لأنه من قوم يعظمون ذلك، فلما رأى ذلك رجع إلى قريش، فقال: “رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت” . فقالوا: أجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك .
ثم أرسلت قريش مكرز بن حفص وأعقبته بسهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً: «لقد سهل لكم أمركم». وقال: «لقد أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل»، وكانت قريش قد ألزمت سهيل بن عمرو ألا يكون في صلحه إلا أن يرجع المسلمون دون عمرة في ذلك العام. وقد جرت مفاوضة طويلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو وانتهت إلى عقد صلح الحديبية .
وقد وقع اختلاف في مقدمة العقد حيث أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاءه صبغة إسلامية فاعترض سهيل بن عمرو، وكان علي بن أبي طالب يكتب العقد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: أما “الرحمن فو الله ما أدري ما هي ولكن أكتب “باسمك اللهم” كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا “بسم الله الرحمن الرحيم” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أكتب: باسمك اللهم». ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب “محمد بن عبد الله” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني»، اكتب: “محمد بن عبد الله” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به» فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة . ولكن ذلك من العام المقبل فكتب.
فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل – وإن كان على دينك – إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يوسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لم نقض الكتاب بعد». فقال: والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأجزه لي» . فقال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى فافعل». قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: «بل قد أجزناه لك» .
وقد تم الاتفاق على الأمور التالية:
“على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال .
وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك. وأقمت فيها ثلاث معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب .
وهكذا وقعت الهدنة لمدة عشر سنوات، على ألا يدخل المسلمون مكة إلا بعد مرور عام فيقيموا بها ثلاثة أيام معهم السيوف مغمودة فقط، ولا يقوم الطرفان بأي أعمال دعائية أو عدوانية، ويجوز للطرفين التحالف مع القبائل العربية على قدم المساواة، ويلتزم المسلمون برد المسلمين الفارين من قريش إليها، ولا تلتزم قريش برد المسلمين الفارين إليها.
والواقع أن المسلمين تذمروا من هذه الاتفاقية وضاقوا بها ذرعاً، خاصة بعد أن جرت التعديلات على الصياغة الإسلامية للعقد، فقد اعتذر علي بن أبي طالب عن مسح كلمة “رسول الله” فأخذ الرسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب ما أراد سهيل بن عمرو. وغضب المسلمون لرد المسلمين الفارين من قريش إليها فقالوا: “يا رسول الله تكتب هذا؟ قال: «نعم إنه من ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً».
وظهر الغضب الشديد على عمر بن الخطاب فراجع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك قال: “فأتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: «بلى». قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى». قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري». قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟» قال: قلت: لا. قال: «فإنك آتيه ومطوف به» . لكن عمر رضي الله عنه لم يكتف بذلك بل أعاد الكلام أمام أبي بكر رضي الله عنه بمثل كلامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: “يا عمر إلزم غرزه حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد” .
وقال عمر:”ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً” .
وكان عمر رضي الله عنه يراجع الرسول صلى الله عليه وسلم ليقف على الحكمة من موافقته على شروط الصلح، وكان يرغب في إذلال المشركين “فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه” .
وكان المسلمون لا يشكون في دخول مكة فلما جرى الصلح تألموا “حتى كادوا أن يهلكوا” وخاصة عندما أعيد أبو جندل وهو يستنجد بهم ويقول: “يا معشر المسلمين أترودنني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني” والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً». وكان عمر يمشي بجنب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه، لكن أبا جندل لم يفعل فأعيد .
ومما يعبر عن مشاعر المسلمين من إبرام الصلح فهو سهل بن حنيف يوم صفين: اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول الله لرددته”. ولا شك أن ندم عمر رضي الله عنه ومن كره الصلح إنما هو لإبداء رأي مخالف لرأي ارتضاه الرسول صلى الله عليه وسلم مع أن ما يقرره الرسول صلى الله عليه وسلم نص لا مكان للرأي معه. لذلك لما علموا أنه أمر الله لم يكن منهم إلا التسليم وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة في أمرهم .
ويلاحظ أن قريشاً لم تكف عن التحرش بالمسلمين خلال المفاوضات لكتابة الصلح بل وبعد إنجازه، وسواء أكان ذلك بعلم قادتها للضغط على المسلمين خلال المفاوضات، أم هو من تصرفات شبابها الطائشين، وقد احتمل المسلمين ذلك بانضباط دقيق، فقد أراد ثمانون رجلاً من أهل مكة أخذ معسكر المسلمين غرةً فأسروا وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلقهم . وخرج على معسكر المسلمين ثلاثون شاباً من قريش أثناء كتابة الصلح فأسرهم المسلمون، وأطلق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وحتى بعد إبرام الصلح واختلاط المسلمين بالمشركين كان أربعة من المشركين يقعون بالرسول صلى الله عليه وسلم فأخذهم سلمة بن الأكوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، كما عفا عن سبعين من المشركين آخرين أسرهم المسلمون بعد إبرام الصلح، وقد نزلت في ذلك الآية {وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الفتح: 24]. هذه الأحداث إضافة لتصور معظم المسلمين أن في شروط الصلح إجحافاً بهم أدت إلى غضب المسلمين حتى إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رءوسهم وكرر ذلك ثلاث مرات لم يقم منهم أحد، فكأنهم كانوا يأملون العودة عن الصلح، فلما رأوه قام – بمشورة من أم سلمة رضي الله عنها – فذبح بدنه وحلق رأسه قاموا ” فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ” !! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حلق منهم ثلاثاً ولمن قصَّر مرة . وكان عدد ما نحره المسلمون من الإبل سبعين . كل بدنة عن سبعة، وقد نحر الرسول صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل غنمه المسلمون ببدر ليغيظ بذلك المشركين . وقد نحر الهدي في الحديبية في الحل ، لكن بعض الهدي دخل به ناجية بن جندب منطقة الحرم فنحره . وهكذا تحلل المسلمون من عمرتهم وشرع التحلل للمحصر وأنه لا يلزمه القضاء.
ثم شرع الناس في التهيؤ للعودة إلى المدينة، بعد أن أقاموا بالحديبية عشرين يوماً . واستغرقت رحلتهم ذهاباً وإياباً شهراً ونصف الشهر .
وفي غزوة الحديبية أذن النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة – وكان محرماً بالعمرة – أن يحلق رأسه لأذى أصابه على أن يقدَّم فديه؛ يذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستين مسكينا. وقد نزلت فيه الآية: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة: 196]
وفيها أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالصلاة في منازلهم عندما نزلت المطر.
وفي الغزوة نماذج أخرى من تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لمبدأ الشورى في الإسلام حيث استشار المسلمين في الإغارة على ذراري المشركين وأخذ برأي الصديق رضي الله عنه . واستشار أم سلمة في أمر الناس لما لم يبادر بالنحر والحلق حين أمرهم، وأخذ برأيها .
ويستشف من غزوة الحديبية الحد الأعلى للمدة التي يجوز فيها مهادنة الكفار عليها لأن الأصل في العلاقة معهم الحرب لا الهدنة. ويستدل بها على جواز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً.
وفيها وضح الرسول صلى الله عليه وسلم بعض مسائل العقيدة فبين كفر من يقول «مطرنا بنوء كذا وكذا» فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب . وبين استحباب التفاؤل بقوله «سهل أمركم» لما قدم سهيل بن عمرو .
وفي الغزوة يظهر جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثل التوضأ بماء وضوئه، وهو خاص به خلافاً لآثار الصالحين من أمته .
وحدث في طريق العودة أن نام المسلمون عن صلاة الصبح فلم يوقظهم إلا حر الشمس، وكان بلال بن رباح موكلاً بحراستهم فغلبه النوم، فصلوها بعد خروج وقتها، فهي السنة فيمن نام عن صلاته أو نسيها .
وفي طريق العودة ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام والماء، قال سلمة بن الأكوع: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا ، فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع قال: فتطاولت لأحرزه كم هو؟ فحرزته كربضة العنز، ونحن أربع عشر مائة. قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جربنا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهل من وضوء؟ » قال: فجاء رجل بأدواة له فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة “.
وفي الطريق إلى المدينة نزلت سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1].
وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن عظيم فرحته بنزولها: «أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس».
قال أنس بن مالك: “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً” قال: الحديبية. قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا؟ فأنزل الله: {لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ} [الفتح: 5].
وقد أسرع الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» فقال رجل: يا رسول الله: أفتح هو؟ قال: «نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح». فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام.
وسوف تتوالى الأحداث مؤكدة الحكمة البالغة والنتائج الباهرة لهذا الصلح الذي سماه الله تعالى: {فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1]. وكيف لا يكون كذلك وقد اعترفت قريش بكيانهم لأول مرة فعاملتهم معاملة الند للند بعد أن كانت تصورهم أمام الناس بأبشع الصور مما كان صداه العميق في داخل مكة وأرجاء الجزيرة العربية، وأول ما يظهر في مبادرة خزاعة للتحالف مع المسلمين علنا دون هيبة قريش. وكان لهذا الموقف جذور تاريخية بعيدة، فقد كان العداء التقليدي بين خزاعة وبني بكر من كنانة، وموقف قريش المتحيز لبني بكر قد دفعها إلى محالفة عبد المطلب بن هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الحلف الذي أشار إليه عمرو بن سالم في قصيدته التي استنصر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبيل الفتح بقوله: “حلف أبينا وأبيه الأتلدا” .
ويلاحظ أن تعاطف خزاعة مع المسلمين كان واضحاً منذ قيام دولتهم في المدينة حتى إعلانهم الصريح للتحالف في الحديبية “إذ كانت خزاعة عيبة نصح لرسول الله مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة” . ولكن خزاعة كانت تخفي حقيقة تعاطفها مع المسلمين عن قريش قبل إعلان التحالف الصريح مع المسلمين، وبذلك حافظت على علاقاتها مع قريش طيلة المدة السابقة.
وكان السلام المبرم يتيح الفرصة للمسلمين للتفرغ ليهود خيبر آخر معاقل يهود التي استغلت للتحريض على المسلمين في الخندق وما بعدها.
كما أتاح الفرصة لهم لنشر الإسلام، يقول الزهري: “فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك”.
قال ابن هشام: “والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف” .
وقد ظهرت حكم أخرى لهذا الصلح فبعد أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءه أبو بصير مسلماً وقد فرَّ من قريش، فأرسلت في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وفي الطريق تمكن أبو بصير من قتل أحد الرجلين وفرَّ الثاني إلى المدينة وخلفه أبو بصير، “فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد»! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر … ” .
وقد فهم المستضعفون من المسلمين بمكة من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمعت منهم عصابة، وتعرضوا لقوافل قريش التجارية يقتلون حرسها ويأخذون أموالها “فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم” وهم بناحية العيص، فقدموا وكانوا قريباً من الستين أو السبعين .
وقصة أبي جندل وأبي بصير وام احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والإخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرّغوا رءوس المشركين بالتراب، وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية. هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وفيها ما يشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجامعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة – ولو في ظاهر الحال- ولم يكن ما قام به أو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ باقرار الرسول صلى الله عليه وسلم ورضاه، بل كان بوسع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث فكان اقراراً له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم عن اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفا فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصلح. بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف أبا بصير بأنه “مسعر حرب لو كان معه رجال”!!
وقد اقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على رد الرجال من المسلمين الفارين من قريش بموجب الصلح، أما النساء المهاجرات فلم يردهن، وقد جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة، فجاء أهلها يطلبونها، فلم يردها إليهم” لما أنزل الله فيهن: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يختبرهن فإن خرجن بسبب الإسلام استبقاهن مع دفع مهورهن لأزواجهن، وكان قبل الصلح لا يعيد إليهم مهور الزوجات.
وعدم رد المؤمنات إما لعدم دخولهن في العهد أصلاً، وأنه قصد به الرجال وحدهم، كما في أحد نصوص البخاري “وعلى أنه لا يأتيك منا رجل” . وإما لأن القرآن نسخ ما ورد بحقهن بالآية: {إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] . وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك مؤمنة، وكذلك أمر المسلمون بفسخ نكاح المشركات {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
ويبدو أن إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وهما من رجالات مكة وهجرتهما تم بعد تنازل قريش عن شرط إعادة المسلمين الجدد الذين يلتحقون من مكة بالمدينة حيث لا توجد إشارة لمطالبة قريش بهما.
وقد استمرت هدنة الحديبية نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا، ثم نقضت قريش الهدنة حيث أعانت حلفاءها بني بكر ضد خزاعة حلفاء المسلمين على ماء الوتير قريباً من مكة، فاستنصرت خزاعة بالمسلمين، وبذلك بطلت المعاهدة، وكان ذلك سبباً مباشراً لفتح مكة.