ثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء، لأنه قاضى فيها قريشا، لا لأنها قضاء عن العمرة التى صد عنها،لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها …
بل كانت عمرة تامة، ولهذا عدوا عمر النبى- صلى الله عليه وسلم- أربعا، كما سيأتى- إن شاء الله تعالى-.
وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية فى العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت.
وهذا الخلاف مبنى على الاختلاف فى وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.
فقال الجمهور: يجب عليه الهدى ولا قضاء عليه.
وعند أبى حنيفة: عكسه.
وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدى ولا قضاء. وأخرى: يلزمه القضاء والهدى.
فحجة الجمهور: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ} [البقرة:196].
وحجة أبى حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء.
وحجة من أوجبها: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدى حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدى.
وحجة من لم يوجبها: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدى، بل أمر من معه هدى أن ينحر، ومن ليس معه هدى أن يحلق.
قال الحاكم فى الإكليل: تواترت الأخبار أنه- صلى الله عليه وسلم- لما هلّ ذو القعدة يعنى سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التى صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألايتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا.
وخرج معه- صلى الله عليه وسلم- من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفارى، وساق- صلى الله عليه وسلم- ستين بدنة، وحمل السلاح والبيض والدرع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذى الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد.
وأحرم- صلى الله عليه وسلم- ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة فى الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصبح هذا المنزل غدا- إن شاء الله تعالى-. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.
ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصارى فى مائتى رجل.
وخرجت قريش من مكة إلى رؤس الجبال.
وقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الهدى أمامه، فحبس بذى طوى، وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف محدقون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبون، فدخل من الثنية التى تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته.
وفى رواية الترمذى فى الشمائل، من حديث أنس أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل مكة فى عمرة القضاء وابن رواحة يمشى بين يديه وهو يقول:
خلوا بنى الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا بن رواحة بين يدى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تقول شعرا؟
فقال- صلى الله عليه وسلم-: «خل عنه يا عمر، فلهى أسرع فيهم من نضح النبل».
ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ
خلوا بنى الكفار عن سبيله *** قد أنزل الرحمن فى تنزيله
بأن خير القتل فى سبيله *** نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله
وأخرجه الطبرانى والبيهقى فى الدلائل وفيه:
اليوم نضربكم على تنزيله *** ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله *** يا رب إنى مؤمن بقيله
وعن ابن عقبة فى المغازى بعد قوله:
قد أنزل الرحمن فى تنزيله *** فى صحف تتلى على رسوله
لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله:
يا رب إنى مؤمن بقيله *** إنى رأيت الحق فى قبوله
وقال ابن هشام: إن قوله:
نحن ضربناكم على تأويله
إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله يوم صفين.
قالوا: ولم يزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبى حتى استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم.
وفى البخارى، عن ابن عباس قال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفى رواية: قال: «ارملوا ليرى المشركون قوتكم» والمشركون من قبل قعيقعان.
ومعنى قوله: «إلا الإبقاء عليهم» أى لم يمنعه من أمرهم بالرمل فى جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم.
ثم طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه- وقد وقف الهدى عند المروة- قال: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر.
فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون.
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج، فيقيموا على السلاح، ويأتى الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا.
وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة ثلاثا.
وفى البخارى من حديث البراء فلما دخلها- يعنى مكة- ومضى الأجل، أتوا عليّا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل.
فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم- فتبعته ابنة حمزة تنادى: يا عم يا عم، فتناولها على فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك، فحملتها، فاختصم فيها على وزيد وجعفر، قال على: أنا أخذتها وهى بنت عمى. وقال جعفر: ابنة عمى وخالتها تحتى، وقال زيد ابنة أخى فقضى بها النبى- صلى الله عليه وسلم- لخالتها وقال: «الخالة بمنزلة الأم» الحديث.
وإنما أقرهم النبى- صلى الله عليه وسلم- على أخذها مع اشتراط المشركين ألايخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها.
وقوله: «الخالة بمنزلة الأم» أى فى هذا الحكم الخاص، لأنها تقرب منها فى الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة فى الحضانة مقدمة على العمة، لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهى مقدمة على غيرها. ويؤخذ منها تقديم أقارب الأم على أقارب الأب انتهى.
قال ابن عباس: وتزوج- صلى الله عليه وسلم- ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال.
وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها- صلى الله عليه وسلم- إلا بعد ما حل. ذكره البخارى.
و «وهم» بكسر الهاء أى غلط.
وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن حلالان بسرف. رواه مسلم.
وسيأتى فى الخصائص من مقصد معجزاته- إن شاء الله تعالى-: أن له- صلى الله عليه وسلم- النكاح فى حال الإحرام على أصح الوجهين عند الشافعية.
ثم سرية ابن أبى العوجاء السلمى إلى بنى سليم، فى ذى الحجة سنة سبع، فى خمسين رجلا، فأحدق بهم الكفار من كل ناحية، وقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبى العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فى أول صفر سنة ثمان.
ثم سرية غالب بن عبد الله الليثى إلى بنى الملوح- بالحاء المهملة- بالكديد- بفتح الكاف- قال فى القاموس: الكديد بفتح الكاف ماء بين الحرمين شرفهما الله تعالى.
والبطن الواسع من الأرض الغليظة، كالكدة بالكسر، ويوم الكديد معروف.
فى صفر سنة ثمان من مهاجره، فغنم.
وفى هذا الشهر قدم خالد بن الوليد وعثمان بن أبى طلحة وعمرو بن العاصى المدينة فأسلموا. وقال ابن أبى خيثمة: كان ذلك سنة خمس، وقال الحاكم: سنة سبع.
ثم سرية غالب أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك فى صفر سنة ثمان، ومعه مائتا رجل، فأغاروا عليهم مع الصبح وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما.
ثم سرية شجاع بن وهب الأسدى إلى بنى عامر، بالسىء، ماء من ذات عرق إلى وجرة على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس مراحل من المدينة.
فى شهر ربيع الأول سنة ثمان، ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم، فأصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم.
ثم سرية كعب بن عمير الغفارى إلى ذات أطلاح، وراء ذات القرى، فى ربيع الأول سنة ثمان، فى خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح فى القتلى.
قال مغلطاى: قيل هو الأمير. فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره الخبر، فشق ذلك عليه، وهم بالبعث إليه فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم.