وَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَيْضًا، فَقَالَ: …
أَبْقَى لَنَا حَدَثُ الْحُرُوبِ بَقِيَّةً … مِنْ خَيْرِ نِحْلَةِ رَبِّنَا الْوَهَّابِ
بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذُّرَى وَمَعَاطِنًا … حُمُّ الْجُذُوعِ غَزِيرَةُ الْأَحْلَابِ
كَاللُّوبِ يُبْذَلُ جَمُّهَا وَحَفِيلُهَا … لِلْجَارِ وَابْنِ الْعَمِّ وَالْمُنْتَابِ
وَنَزَائِعًا مِثْلَ السَّرَاحِ نَمَى بِهَا … عَلَفُ الشَّعِيرِ وَجِزَّةُ الْمِقْضَابِ
عَرِيَ الشَّوَى مِنْهَا وَأَرْدَفَ نَحْضَهَا … جُرْدُ الْمُتُونِ وَسَائِرُ الْآرَابِ
قُودًا تَرَاحُ إلَى الصِّيَاحِ إذْ غَدَتْ … فِعْلَ الضِّرَاءِ تَرَاحُ لِلْكَلَّابِ
وَتَحُوطُ سَائِمَةَ الدِّيَارِ وَتَارَةً … تُرْدِي الْعِدَا وَتَئُوبُ بِالْأَسْلَابِ
حُوشُ الْوُحُوشِ مُطَارَةٌ عِنْدَ الْوَغَى … عُبْسُ اللِّقَاءِ مبينَة الإنجاب
علقت عَلَى دَعَةٍ فَصَارَتْ بُدَّنًا … دُخْسَ الْبَضِيعِ خَفِيفَةَ الْأَقْصَابِ
يَغْدُونَ بِالزَّغْفِ الْمُضَاعَفِ شَكَّةً … وَبِمُتْرَصَاتِ فِي الثِّقَافِ صِيَابِ
وَصَوَارِمٌ نَزَعَ الصَّيَاقِلَ غُلْبَهَا … وَبِكُلِّ أَرْوَعَ مَاجِدْ الْأَنْسَابِ
يَصِلُ الْيَمِينَ بِمَارِنٍ مُتَقَارِبٍ … وُكِلَتْ وَقِيعَتُهُ إلَى خَبَّابِ
وَأَغَرَّ أَزْرَقَ فِي الْقَنَاةِ كَأَنَّهُ … فِي طُخْيَةِ الظَّلْمَاءِ ضَوْءُ شِهَابِ
وَكَتِيبَةٍ يَنْفِي الْقِرَانَ قَتِيرُهَا … وتردّ حدّ قواحز النُّشَّابِ
جَأْوَى مُلَمْلَمَةً كَأَنَّ رِمَاحَهَا … فِي كُلِّ مَجْمَعَةٍ ضَرِيمَةُ غَابِ
يَأْوِي إلَى ظِلِّ اللِّوَاءِ كَأَنَّهُ … فِي صَعْدَةِ الْخَطِّيِّ فَيْءُ عُقَّابِ
أَعْيَتْ أَبَا كَرْبٍ وَأَعْيَتْ تُبَّعًا … وَأَبَتْ بَسَالَتُهَا عَلَى الْأَعْرَابِ
وَمَوَاعِظٌ مِنْ رَبِّنَا نُهْدَى بِهَا … بِلِسَانِ أَزْهَرَ طَيِّبِ الْأَثْوَابِ
عُرِضَتْ عَلَيْنَا فَاشْتَهَيْنَا ذِكْرَهَا … مِنْ بَعْدِ مَا عُرِضَتْ عَلَى الْأَحْزَابِ
حِكَمًا يَرَاهَا الْمُجْرِمُونَ بِزَعْمِهِمْ … حَرَجًا وَيَفْهَمُهَا ذَوُو الْأَلْبَابِ
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا … فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا … فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الْغَلَّابِ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَقَدْ شَكَرَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ عَلَى قَوْلِكَ هَذَا“. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ:
مَنْ سَرَّهُ ضَرْبٌ يُمَعْمِعُ بَعْضُهُ … بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ الْأَبَاءِ الْمُحْرَقِ
فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً تُسَنُّ سُيُوفُهَا … بَيْنَ الْمَذَادِ وَبَيْنَ جَزْعِ الْخَنْدَقِ
دَرِبُوا بِضَرْبِ الْمُعْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا … مُهُجَاتِ أَنْفُسِهِمْ لِرَبِّ الْمَشْرِقِ
فِي عُصْبَةٍ نَصَرَ الْإِلَهُ نَبِيَّهُ … بِهِمْ وَكَانَ بِعَبْدِهِ ذَا مَرْفِقِ
فِي كُلِّ سَابِغَةٍ تَخُطُّ فُضُولُهَا … كَالنَّهْيِ هَبَّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
بَيْضَاءُ مُحْكِمَةٌ كَأَنَّ قَتِيرَهَا … حَدَقُ الْجَنَادِبِ ذَاتُ شَكٍّ مُوثَقِ
جَدْلَاءُ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنَّدٍ … صَافِي الْحَدِيدَةِ صَارِمٌ ذِي رَوْنَقِ
تِلْكُمْ مَعَ التَّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا … يَوْمَ الْهِيَاجِ وَكُلَّ سَاعَةِ مَصْدَقِ
نَصِلُ السُّيُوفَ إذَا قَصُرْنَ بِخَطْوِنَا … قُدُمًا وَنُلْحِقُهَا إذَا لَمْ تَلْحَقْ
فَتَرَى الْجَمَاجِمَ ضَاحِيًا هَامَاتُهَا … بَلْهَ الْأَكُفَّ كَأَنَّهَا لَمْ تُخْلَقْ
نَلْقَى الْعَدُوَّ بِفَخْمَةٍ مَلْمُومَةٍ … تَنْفِي الْجُمُوعَ كَفَصْدِ رَأْسِ الْمَشْرِقِ
وَنُعِدُّ لِلْأَعْدَاءِ كُلَّ مُقَلَّصٍ … وَرْدٍ وَمَحْجُولِ الْقَوَائِمِ أَبْلَقِ
تُرْدِى بِفُرْسَانٍ كَأَنَّ كُمَاتَهُمْ … عِنْدَ الْهِيَاجِ أُسُودُ طَلٍّ لْثِقِ
صُدَقٌ يُعَاطُونَ الْكُمَاةَ حُتُوفَهُمْ … تَحْتَ الْعِمَايَةِ بِالْوَشِيجِ الْمُزْهِقِ
أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا لِعَدُوِّهِ … فِي الْحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوَفِّقِ
لِتَكُونَ غَيْظًا لِلْعَدُوِّ وَحُيَّطَا … لِلدَّارِ إنْ دَلَفَتْ خُيُولُ النُّزَّقِ
وَيُعِينُنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ بِقُوَّةٍ … مِنْهُ وَصِدْقِ الصَّبْرِ سَاعَةَ نَلْتَقِي
وَنُطِيعُ أَمْرَ نَبِيِّنَا وَنُجِيبُهُ … وَإِذَا دَعَا لِكَرِيهَةٍ لَمْ نُسْبَقْ
وَمَتَى يُنَادِ إلَى الشَّدَائِدِ نَأْتِهَا … وَمَتَى نَرَ الْحَوْمَاتِ فِيهَا نُعْنِقْ
مَنْ يَتَّبِعْ قَوْلَ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ … فِينَا مُطَاعُ الْأَمْرِ حَقُّ مُصَدَّقِ
فَبِذَاكَ يَنْصُرنَا وَيُظْهِرُ عِزَّنَا … وَيُصِيبُنَا مِنْ نَيْلِ ذَاكَ بِمِرْفَقِ
إنَّ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا … كَفَرُوا وَضَلُّوا عَنْ سَبِيلِ الْمُتَقِّي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ:
تِلْكُمْ مَعَ التَّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا
وَبَيْتَهُ:
مَنْ يَتَّبِعْ قَوْلَ النَّبِيِّ
أَبُو زَيْدٍ. وَأَنْشَدَنِي:
تَنْفِي الْجُمُوعَ كَرَأْسِ قُدْسِ الْمَشْرِقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ:
لَقَدْ عَلِمَ الْأَحْزَابُ حِينَ تَأَلَّبُوا … عَلَيْنَا وَرَامُوا دِينَنَا مَا نُوَادِعُ
أَضَامِيمُ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أُصْفِقَتْ … وَخِنْدِفُ لَمْ يَدْرُوا بِمَا هُوَ وَاقِعُ
يَذُودُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَنَذُودُهُمْ … عَنْ الْكُفْرِ وَالرَّحْمَنُ رَاءٍ وَسَامِعُ
إذَا غَايَظُونَا فِي مَقَامٍ أَعَانَنَا … عَلَى غَيْظِهِمْ نَصْرٌ مِنْ اللَّهِ وَاسِعُ
وَذَلِكَ حِفْظُ اللَّهِ فِينَا وَفَضْلُهُ … عَلَيْنَا وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ اللَّهُ ضَائِعُ
هَدَانَا لِدِينِ الْحَقِّ وَاخْتَارَهُ لَنَا … وللَّه فَوْقَ الصَّانِعِينَ صَنَائِعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ:
أَلَا أَبْلِغْ قُرَيْشًا أَنَّ سَلْعًا … وَمَا بَيْنَ الْعُرَيْضِ إلَى الصِّمَادِ
نَوَاضِحُ فِي الْحُرُوبِ مُدَرَّبَاتٌ … وَخَوْصٌ ثُقِّبَتْ مِنْ عَهْدِ عَادِ
رَوَاكِدُ يَزْخَرُ الْمُرَّارُ فِيهَا … فَلَيْسَتْ بِالْجِمَامِ وَلَا الثِّمَادِ
كَأَنَّ الْغَابَ وَالْبَرْدِيَّ فِيهَا … أَجَشُّ إذَا تَبَقَّعَ لِلْحَصَادِ
وَلَمْ نَجْعَلْ تِجَارَتَنَا اشْتِرَاءَ … الْحَمِيرِ لِأَرْضِ دَوْسٍ أَوْ مُرَادِ
بِلَادٌ لَمْ تَثُرْ إلَّا لِكَيْمَا … نُجَالِدُ إنْ نَشِطْتُمْ لِلْجِلَادِ
أَثَرْنَا سِكَّةَ الْأَنْبَاطِ فِيهَا … فَلَمْ تَرَ مِثْلَهَا جَلَهَاتِ وَادِ
قَصَرْنَا كُلَّ ذِي حُضْرٍ وَطَوْلٍ … عَلَى الْغَايَاتِ مُقْتَدِرٍ جَوَادِ
أَجِيبُونَا إلَى مَا نَجْتَدِيكُمْ … مِنْ الْقَوْلِ الْمُبَيَّنِ وَالسَّدَادِ
وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ … لَكُمْ مِنَّا إلَى شَطْرِ الْمَذَادِ
نُصَبِّحُكُمْ بِكُلِّ أَخِي حُرُوبٍ … وَكُلِّ مُطَهَّمٍ [10] سَلِسِ الْقِيَادِ
وَكُلِّ طِمِرَّةٍ خَفِقٌ حَشَاهَا … تَدِفُّ دَفِيفَ صَفْرَاءِ الْجَرَادِ
وَكُلِّ مُقَلَّصِ الْآرَابِ نَهْدٍ … تَمِيمِ الْخَلْقِ مِنْ أُخْرٍ وَهَادِي
خُيُولٌ لَا تُضَاعُ إذَا أُضِيعَتْ … خُيُولُ النَّاسِ فِي السَّنَةِ الْجَمَادِ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ … إذَا نَادَى إلَى الْفَزَعِ الْمُنَادِي
إذَا قَالَتْ لَنَا النُّذُرُ اسْتَعِدُّوا … تَوَكَّلْنَا عَلَى رَبِّ الْعِبَادِ
وَقُلْنَا لَنْ يُفَرِّجَ مَا لَقِينَا … سِوَى ضَرْبُ الْقَوَانِسِ وَالْجِهَادِ
فَلَمْ تَرَ عُصْبَةً فِيمَنْ لَقِينَا … مِنْ الْأَقْوَامِ مِنْ قَارٍ وَبَادِي
أَشَدَّ بَسَالَةً مِنَّا إذَا مَا … أَرَدْنَاهُ وَأَلْيَنَ فِي الْوِدَادِ
إذَا مَا نَحْنُ أَشْرَجْنَا عَلَيْهَا … جِيَادَ الْجُدْلِ فِي الْأُرَبِ الشِّدَادِ
قَذَفْنَا فِي السَّوَابِغِ كُلَّ صَقْرٍ … كَرِيمٍ غَيْرِ مُعْتَلِثِ الزِّنَادِ
أَشَمَّ كَأَنَّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ … غَدَاةَ بَدَا بِبَطْنِ الْجَزَعِ غَادِي
يُغَشِّي هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُذَكَّى … صَبِيَّ السَّيْفِ مُسْتَرْخِي النِّجَادِ
لِنُظْهِرَ دِينَكَ اللَّهمّ إنَّا … بِكَفِّكَ فَاهْدِنَا سُبُلَ الرَّشَادِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بَيْتُهُ:
قَصَرْنَا كُلَّ ذِي حُضْرٍ وَطَوْلٍ
وَالْبَيْتُ الَّذِي يَتْلُوهُ، وَالْبَيْتُ الثَّالِثُ مِنْهُ، وَالْبَيْتُ الرَّابِعُ مِنْهُ، وَبَيْتُهُ:
أَشَمَّ كَأَنَّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ
وَالْبَيْتُ الَّذِي يَتْلُوهُ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ.