فمن ذلك ما كان من توجيه محمد بن ابى الساج ابنه المعروف بابى المسافر الى بغداد رهينه بما ضمن للسلطان من الطاعة والمناصحة، …
فقدم- فيما ذكر- يوم الثلاثاء، لسبع خلون من المحرم منها، معه هدايا من الدواب والمتاع وغير ذلك، والمعتضد يومئذ غائب عن بغداد.
وفي شهر ربيع الآخر منها ورد الخبر ان المعتضد بالله وصل الى آمد، فأناخ بجنده عليها، واغلق محمد بن احمد بن عيسى بن شيخ عليه أبواب مدينه آمد، وعلى من فيها من اشياعه ففرق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم، وذلك لايام بقيت من شهر ربيع الاول، ثم جرت بينهم حروب، ونصب عليهم المجانيق، ونصب اهل آمد على سورهم المجانيق، وتراموا بها.
وفي يوم السبت لإحدى عشره بقيت من جمادى الاولى وجه محمد بن احمد ابن عيسى الى المعتضد يطلب لنفسه ولأهله ولأهل آمد الامان، فأجابه الى ذلك، فخرج محمد بن احمد بن عيسى في هذا اليوم ومن معه من اصحابه واوليائه فوصلوا الى المعتضد، فخلع عليه وعلى رؤساء اصحابه، وانصرفوا الى مضرب قد اعد لهم، وتحول المعتضد من عسكره الى منازل ابن عيسى ابن شيخ ودوره، وكتب بذلك كتابا الى مدينه السلام مؤرخا بيوم الأحد لعشر بقين من جمادى الاولى ولخمس بقين من جمادى الاولى منها ورد الكتاب من المعتضد بفتحه آمد الى مدينه السلام، وقرئ على المنبر بالجامع وفيها انصرف عبد الله بن الفتح الى المعتضد وهو مقيم بأمد من مصر باجوبه كتبه الى هارون بن خمارويه، واعلمه ان هارون قد بذل ان يسلم اعمال قنسرين والعواصم، ويحمل الى بيت المال ببغداد في كل سنه أربعمائة الف وخمسين الف دينار، وانه يسال ان يجدد له ولايه على مصر والشام، وان يوجه المعتضد بخادم من خدمه اليه بذلك، فأجابه الى ما سال، وانفذ اليه بدرا القدامى وعبد الله بن الفتح بالولاية والخلع، فخرجا من آمد الى مصر بذلك، وتسلم عمال المعتضد اعمال قنسرين والعواصم من اصحاب هارون في جمادى الاولى، واقام المعتضد بأمد بقية جمادى الاولى وثلاثة وعشرين يوما من جمادى الآخرة ثم ارتحل منها يوم السبت لسبع بقين منها نحو الرقة، وخلف ابنه عليا بأمد مع جيوش ضمهم اليه لضبط الناحية واعمال قنسرين والعواصم وديار ربيعه ديار مضر وكان كاتب على بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وقلد الحسين بن عمرو النظر في امور هذه النواحي ومكاتبه العمال بها، وامر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
وفيها وافت هديه عمرو بن الليث الصفار من نيسابور الى بغداد، فكان مبلغ المال الذى وجهه اربعه آلاف الف درهم، وعشرين من الدواب، بسروج ولجم محلاه مغرقه ومائه وخمسين دابه بجلال مشهره وكسوه وطيب وبزاه، وذلك في يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة.
وفي هذه السنه ظهر رجل من القرامطة يعرف بابى سعيد الجنابى بالبحرين، فاجتمع اليه جماعه من الاعراب والقرامطة، وكان خروجه- فيما ذكر- في أول هذه السنه، وكثر اصحابه في جمادى الآخرة، وقوى امره، فقتل من حوله من اهل القرى، ثم صار الى موضع يقال له القطيف، بينه وبين البصره مراحل، فقتل من بها وذكر انه يريد البصره، فكتب احمد بن محمد بن يحيى الواثقى- وكان يتقلد معاون البصره وكور دجلة في ذلك الوقت- الى السلطان بما اتصل به من عزم هؤلاء القرامطة، فكتب اليه والى محمد بن هشام المتولى اعمال الصدقات والخراج والضياع بها، في عمل سور على البصره، فقدرت النفقة على ذلك اربعه عشر الف دينار، فامر بالإنفاق عليه فبنى، وفي رجب من هذه السنه صار الى الأنبار جماعه من اعراب بنى شيبان، فأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، واستاقوا المواشى فخرج اليهم احمد بن محمد بن كمشجور المتولى المعاون بها، فلم يطقهم فكتب الى السلطان يخبره بأمورهم فوجه من مدينه السلام نفيسا المولدى واحمد بن محمد الزرنجى والمظفر بن حاج مددا له في زهاء الف رجل، فصاروا الى موضع الاعراب، فواقعوهم بموضع يعرف بالمنقبه من الأنبار، فهزمهم الاعراب، وقتلوا اصحابهم وغرق اكثرهم في الفرات، وتفرقوا فورد كتاب ابن حاج يوم الاثنين لست بقين من رجب بخبر هذه الوقعه وهزيمه الاعراب إياهم، فأقام الاعراب يعيثون في الناحية، ويتخفرون القرى، فكتب الى المعتضد بخبرهم، فوجه اليهم لقتالهم من الرقة العباس بن عمرو الغنوي وخفيفا الاذكوتكينى وجماعه من القواد فصار هؤلاء القواد الى هيت في آخر شعبان من هذه السنه.
وبلغ الاعراب خبرهم، فارتحلوا عن موضعهم من سواد الأنبار، وتوجهوا نحو عين التمر، فنزلوها، ودخل القواد الأنبار، فأقاموا بها، وعاث الاعراب بعين التمر ونواحي الكوفه، مثل عيثهم بنواحي الأنبار، وذلك بقية شعبان وشهر رمضان.
وفيها وجه المعتضد الى راغب مولى ابى احمد وهو بطرسوس، يأمره بالمصير اليه بالرقة، فصار اليه وهو بها، فلما وصل اليه تركه في عسكره يوما ثم اخذه من الغد فحبسه، وأخذ جميع ما كان معه، وورد الخبر بذلك مدينه السلام يوم الاثنين لتسع خلون من شعبان، ثم مات راغب بعد ايام، وقبض على مكنون غلام راغب وعلى اصحابه، وأخذ ماله بطرسوس يوم الثلاثاء لست بقين من رجب، وكان المتولى اخذهم ابن الاخشاد.
ولعشر بقين من شهر رمضان منها وجه المعتضد مؤنسا الخازن الى الاعراب بنواحي الكوفه وعين التمر، وضم اليه العباس بن عمرو وخفيفا الاذكوتكينى وغيرهما من القواد، فسار مؤنس ومن معه حتى بلغ الموضع المعروف بنينوى، فوجد الاعراب قد ارتحلوا عن موضعهم، ودخل بعضهم الى بريه طريق مكة وبعضهم الى بريه الشام، فأقام بموضعه أياما، ثم شخص الى مدينه السلام.
وفي شوال منها قلد المعتضد وعبيد الله بن سليمان ديوان المشرق محمد بن داود ابن الجراح، وعزل عنه احمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب على بن عيسى بن داود بن الجراح، وعزل عنه ابن الفرات.