في يوم السبت ثالث المحرم، خرج مؤنس الى باب الشماسيه، وخرج الجيش معه وعبر اليه نازوك في اصحابه، وخرج اليه ابو الهيجاء وسائر …
القواد، ثم انتقلوا الى المصلى.
وشحن المقتدر داره بهارون بن غريب واحمد بن كيغلغ والحجريه والرجاله المصافيه فما كان آخر النهار حتى مضوا الى مؤنس.
وراسل مؤنس المقتدر ان الجيش عاتب بما يصير الى الخدم والحرم ودخولهم في الرأي، وهم يطالبون باخراجهم عن الدار، فأجابه المقتدر برقعة طويله فيها: امتعنى الله بك ولا أخلاني منك، ولا أراني سوءا فيك، تاملت الحال التي خرج اولياؤنا وصنائعنا وشيعتنا إليها وتمسكوا بها، وأقاموا عليها، فوجدتم لم يريدوا الا صيانة نفسي وولدى، واعزاز امرى وملكي، بارك الله عليهم، واحسن اليهم وأعانني على صالح ما انويه لهم واما أنت يا أبا الحسن المظفر- لا خلونا منك- فشيخى وكبيرى، ومن لا ازول ولا احول عن الميل اليه والتوفر عليه والتحقق به، اعترض ما بيننا هذا الحادث الم يعترض، وانتقض هذا الأمر الذى لحقنا او لم ينتقض، وأرجو الا تشك في ذلك ان صدفت نفسك وحاسبتها، وازلت الظنون السيئه عنها، ادام الله حراستها.
والذى ذكره أصحابنا من امر الحرم والخدم قول إذا تبينوه حق تبينه، وتصفحوه حق تصفحه، علموا انه قول جاف، والبغى فيه على غير مستتر ولا خاف ولا يثارى موافقتهم واتباعى مصلحتهم اجبتهم الى المتيسر في امر هذه الطبقة، واتقدم بقبض اقطاعاتهم وحظر تسويغاتهم، واخراج من يجوز اخراجه من دارى، ولا اطلق للباقين الدخول في تدبيرى ورأيي، واوعز بمكاتبه العمال في استيفاء حق بيت المال من ضياعهم الصحيحه الملك، دون ما يقال انه قد لابسه الريب والشك، وانظر بنفسي في امر الخاصة والعامه وابلغ في انصافها والاحسان إليها الغاية.
واما أنتم، فمعظم نعمكم منى، وما كنت لأعود عليكم في شيء سمحت به ورايته في وقته، وأراه الان زهيدا، في جنب استحقاقكم، وانا بتثميره اولى وبتوفيره احرى.
اما نازوك، فلست ادرى لأي شيء عتب، ولا لأي حال استوحش واضطرب؟ فما غيرت له حالا، ولا حزت له مالا.
واما عبد الله بن حمدان، فالذي احفظه صرفه عن الدينور وتهيؤ اعادته إليها ان كان راغبا فيها، وما عندي له ولنازوك والعصاة كلها الا التجاوز والإبقاء وبعد هذا وقبله، فلي في أعناقكم بيعه قد وكدتموها على انفسكم دفعه بعد اخرى.
ومن بايعنى فإنما بايع الله سبحانه، ومن نكث فإنما نكث عهد الله، ولي عندكم أيضا نعم واياد وعندكم صنائع وعوارف، آمل ان تعترفوا بها وتلتزموها وتشكروها، فان راجعتم هذا الجميل، وتلقيتم هذا الخطب الجليل، وفرقتم جموعكم ومزقتموها وعدتم الى منازلكم واستوطنتموها، واقبلتم على شئونكم فلم تقصروا فيها كنتم بمنزله من لم يبرح من موضعه، ولم يأت بما يعود بتشعث محله وموقعه، وان ابيتم الا مكاشفه ومخالفه، فقد وليتكم ما توليتم، واغمدت سيفي عنكم، ولجات في نصرتي ومعونتى الى الله سبحانه، ولم اسلم الحق الذى جعله الله تعالى لي، واقتديت بعثمان بن عفان رضى الله عنه، حين لم يخرج من داره، ولم يسلم حقه لما خذله عامه ثقاته وانصاره، والله تعالى بصير بالعباد وللظالمين بالمرصاد.
ولما وقف مؤنس ونازوك وابو الهيجاء على الرقعة، طالبوه باخراج هارون، فاخرجه من يومه الى الثغور الشامية والجزرية.
وعاد مؤنس والجيش الى بغداد في يوم عاشوراء وزحفوا الى دار السلطان، فهرب المظفر بن ياقوت والخدم والحجاب وابن مقله واخرج المقتدر والدته وخالته وحرمه ليلا الى دار مؤنس، ودخل حينئذ من قطربل الى بغداد مستترا.
واصعد نازوك بغلامه مؤنس الى دار ابن طاهر، ففتح له كافور الموكل بها، وسلم اليه محمد بن المعتضد بالله، واحرق في طريقه دار هارون وبويع محمد بالخلافة، بايعه مؤنس والقواد ولقب القاهر بالله.
واخرج مؤنس على بن عيسى من دار السلطان، فاطلقه الى منزله وقلد أبا على بن مقله وزارة القاهر.
وقلد نازوك الحجبة والشرطه.
واضاف الى اعمال ابى الهيجاء اعمالا كثيره.
ومضى بنى ابن نفيس، بعد ان وقع النهب في دار السلطان الى تربه السيده بالرصافة، فوجد لها هناك ستمائه الف دينار.
واشهد المقتدر على نفسه بالخلع القضاه وأخذ القاضى ابو عمر الكتاب، فلم يطلع عليه أحدا، فكان هذا من اقوى ذرائعه عند المقتدر، لما عاد الى الخلافه.
وسكن النهب عند ولايه القاهر، وجلس ابن مقله بين يديه، وكتب بخلافته الى الافاق.
وتقدم الى نازوك بقلع خيم الرجاله، والمنع للحجريه من دخول الدار فاضطربوا.
فلما كان يوم الاثنين سابع عشر المحرم، بكر الناس الى دار الخلافه، لأنه يوم الموكب وحضر الخلق والعسكر باسره، وطالبوا بالرزق والبيعه ولم ينحدر مؤنس يومئذ.
وهجمت الرجاله تريد الصحن التسعينى، وكان نازوك نهى اصحابه عن معارضتهم، إشفاقا من الفتنة، فقاربوا القاهر بالسلاح، وكان جالسا في الرواق، بين يديه ابن مقله ونازوك وابو الهيجاء، فانفذ بنازوك ليردهم وهو مخمور قد شرب ليلته، فقصدوه بالسلاح، فهرب منهم، فطمعوا فيه، وانتهى به الهرب الى باب كان قد سده خوفا من الدخول منه فكانت منيته عنده، فقتلوه وصاحوا مقتدر يا منصور.
فهرب كل من في الدار، وصلبوا نازوك وعجيبا الخادم على خشب الستارة، وبادر الخدم الى أبواب الدار فغلقوها، لانهم خدم المقتدر وصنائعه.
وبادر ابو الهيجاء الخروج، فصاح القاهر به: تسلمني يا أبا الهيجاء! فأخذته الحمية فقال: لا والله لا اسلمك وعاد ابو الهيجاء ويده في يد القاهر الى دار السلام، وقصد الروشن فوجد الرجاله منتظمين، فنزل ابو الهيجاء معه وقال له: وتربه حمدان لا فارقتك يا مولاى او اقتل دونك! ومضى ابو الهيجاء الى الفردوس ونزع سواده ومنطقته واعطى ذلك غلامه، وأخذ جبه صوف مصريه عليه، وركب دابه غلامه، ومضى الى باب النوبى، فوجد الجيش وراءه وهو مغلق، فعاد الى القاهر، وقال: هذا امر من السماء، قد حمل راس نازوك الى هناك.
ودخلا من حيث خرجا، وأتيا دار الأترجة، وتأخر عنهما فائق وجه القصعة، واشار على الخدم بقتل ابى الهيجاء، وذكرهم عداوته للمقتدر، فاتوه بقسي ودبابيس فجرد سيفه ونزع جبته، وحمل عليهم فاجفلوا منه ورموه ضرورة، ورماه احد الحجريه بنشابه وهو ينادى: يال تغلب! القتل بين الحيطان اين الكميت بن الدهماء! فرماه خمار جونه بسهمين: أحدهما نظم فخذيه والآخر مال بترقوته، فانتزع السهام ومضى الى بيت فسقط فيه قبل ان يصل اليه.
فبادره اسود، فضرب يده فقطعها، وأخذ سيفه، وغشيه اسود آخر فحز راسه.
وامتنع المقتدر، وهو بدار ابن طاهر، من المضى الى دار السلطان، وخاف ان تكون حيله عليه، فحملوه على رقابهم الى الطيار.
فلما حصل في دار الخلافه سال عن ابى الهيجاء، فقيل له: هو في الأترجة، فكتب له أمانا بخطه، وقال لبعض الخدم: ويلك بادر به لا تنم عليه امره.
فلما حصل الخادم في الطريق، تلقاه خادم آخر برأسه، فعاد الى المقتدر فعزاه عنه، فظهرت كابته وقال: ويلك من قتله؟ فغمزه مفلح الأسود، فقال: لا ادرى فكرر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وظهر من حزنه عليه امر عظيم.
وكان ابو الهيجاء في الشجاعة بمنزله كبيره، حكت عنه احدى حظاياه، انه كان يواقعها في سفر، فجاء السبع الى باب مضربه، فجرد سيفه وحمل عليه، وأتاها برأسه، وعاد الى الحال التي كان عليها، لم تفتر شهوته ولم تكل آلته.
واتى المقتدر بالقاهر، واستدناه، وقبل جبينه، والقاهر يقول: نفسي نفسي يا امير المؤمنين، فقال له: لا ذنب لك لأنك اكرهت، وحق رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا جرى عليك سوء منى ابدا، فاطمان.
وشهر ببغداد راس نازوك وابى الهيجاء، ونودى عليهما: هذا جزاء من كفر نعمه مولاه.
وعاد ابن مقله الى الوزارة، وكتب باعاده الخلافه الى المقتدر وحكى ان بدر بن الهيثم القاضى، ركب للتهنئه ورجوع الخلافه الى المقتدر بالله، وقال لابن مقله: بين ركبتي هذه وركبه ركبتها مائه سنه، لأنني ركبت للتعزية بوفاه المأمون سنه سبع عشره ومائتين مع ابى، وقد ركبت اليوم للتهنئه بعود المقتدر سنه سبع عشره وثلاثمائة، وتوفى بدر بعد ايام سنه مائه واثنتى عشره سنه.
وجددت البيعه على الناس، فاطلق للفرسان زياده ثلاثة دنانير في الشهر، وللرجال زياده دينار ونفدت الأموال في عطياتهم حتى بيعت الآلات والكسوة.
واشهد المقتدر بالله على نفسه، بتوكيل على بن العباس النوبختى في بيع الضياع.
وحضر على بن عيسى فقام اليه ابن مقله، وشاهد البيع، فانتهى الى بيع ضياع جبريل والد بختيشوع، وقد بيعت بثمن نزر، فقال: لا اله الا الله!
حدثنى شيخنا القاسم عيسى بن داود- يعنى أباه- ان المتوكل رحمه الله، لما غضب على بختيشوع انفذ لإحصاء ما في داره، فوجد في خزانه كسوته رقعه فيها ثمن ضياعه، مبلغ ذلك بضعه عشر آلاف الف درهم.
وخلع المقتدر على ابن مقله وكناه وقلد أبا عمر قضاء القضاه، وكتب عهده.
واوقع في هذه السنه القرمطى بالحجيج في المسجد الحرام، وقتل امير مكة، وقلع الحجر الأسود، وسلب البيت، واصعد رجلا من اصحابه ليقلع الميزاب، فتردى فهلك، وطرح القتلى بزمزم، والقى من بقي في المسجد، وأخذ الأموال وحمل الحجر الى بلده.
قال المقتدر: قال لي عقيل بن عصام العقيلي بقرية ابروذه من الدجيل:
حدثنى ابى: انه راى أبا طاهر وبين يديه خمسون يضربون الرقاب، فقتل من الحجيج نحو عشره آلاف وهو يقول:
ولو كان هذا البيت بيتا لربنا *** لصب علينا النار من فوقنا صبا
وانا تركنا بين زمزم والصفا *** جنائز لا نبغى سوى كسبها ربا
لعنه الله واتباعه لعنا وبيلا! واتى اهل مكة على من عندهم من الحاج، فقتلوهم وسلبوهم.
وقلد ابنا رائق شرطه بغداد، مكان نازوك.
وورد ياقوت من فارس، فخلع المقتدر عليه، وعلى ابنه المظفر، وولى مكانه نجحا الطولونى بفارس وكرمان وعزل ياقوت، وجعل الاشراف بها لابن ابى مسلم.
وانحدر بعد ذلك مؤنس الى المقتدر، فخلع عليه ونادمه، وساله في أم موسى الهاشمية، وفي أم دستنبويه، فأجيب ووصلت بسبعه آلاف دينار.
ورتب على بن عيسى في المظالم، وجعلت الدواوين اليه.
وفيها فتح هارون بن غريب شهرزور، وطالبهم بخراج عشرين سنه عصوا فيها، وصالحوه على سبعه وثلاثين الف دينار ومائتي الف درهم.
وفيها رتب الحجريه على بن مقله، وضربوه بالدبابيس فافلت منهم.
وفيها ملك اصحاب ما كان الديلمى قاسان.