فيها زاد شغب الناس ببغداد على حامد بن العباس الوزير، بسبب غلاء الأسعار حتى صاروا الى حد الخلعان وحاربهم السلطان عند باب الطاق، …
وركب هارون ابن غريب الخال ونازوك وياقوت وغيرهم، بعد ان فتحت العامه السجون، ووثبوا على ابن درهم خليفه صاحب المعونة، وأرادوا قتله حتى حماه بعضهم، فلما راى ذلك حامد بن العباس دخل الى المقتدر فقال له: لعبدك حوائج، ان رايت قضاءها له، اكدت بذلك إنعامك عليه، قال: افعل، فما هي؟ قال: أولها فسخ ضماني فقد جاء من العامه ما ترى، وظنوا ان هذا الغلاء من جهتي فأجاب المقتدر الى ذلك، وساله ان يأذن له في الشخوص الى واسط، لينفذ عماله بما فيها من الاطعمه الى بغداد، فأجابه الى ذلك، وساله ان يعفيه من الوزارة فلم يجبه الى ذلك، فشخص حامد الى واسط ولم يبق غاية في حمل الاطعمه، حتى صلح امر الأسعار ببغداد ثم قدم في غره شهر ربيع الآخر، فتلقاه الناس، وشكروا فعله، وقد كان المقتدر عرض على على بن عيسى الوزارة فاباها، فكساه ووصله، واعطاه سوادا يدخل به عليه، كما يفعل الوزير، فاستعفى من ذلك ولم يفارق الدراعه.
وفي هذه السنه زحف ثمل الفتى الى الإسكندرية، فاخرج عنها قائد الشيعة ورجال كتامه، والفى لهم بها سلاحا كثيرا وأثاثا ومتاعا واطعمه، فاحتوى على الجميع واطلق كل من كان في سجنهم ثم اقبل ممدا لمؤنس واجتمعا بفسطاط مصر، وزحفا الى الفيوم لملاقاه ابى القاسم الشيعى ومناجزته، ومعهما جنى الصفواني وغيره من القواد، فجعل مؤنس يقصر المحلات، فعوتب على ذلك، فقال لهم: انكم انما تمشون في طرق المنايا، فلعل الله يصرفهم عنا، ويكفينا امرهم كما فعل قبل هذا فلقى جنى الصفواني بعض قواد ابى القاسم، فهزمه وقتل كثيرا ممن كان معه، وانهزم الباقون الى ابى القاسم، فراعه امرهم، وقفل عن الفيوم منصرفا الى إفريقية لليلة بقيت من صفر، وحمل ما خف من امتعته، واحرق الباقى بالنار، وأخذ على طريق قليله الماء، فهلك كثير من رجاله عطشا بعد ضربه الف سوط، وقطع يديه ورجليه وكان الحلاج هذا رجلا غويا خبيثا، يتنقل في البلدان، ويموه على الجهال، ويرى قوما انه يدعو الى الرضا من آل محمد، ويظهر انه سنى لمن كان من اهل السنه، وشيعى لمن كان مذهبه التشيع، ومعتزلي لمن كان مذهبه الاعتزال وكان مع ذلك خفيف الحركات شعوذيا قد حاول الطب، وجرب الكيميا، فلم يزل يستعمل المخاريق حتى استهوى بها من لا تحصيل عنده، ثم ادعى الربوبيه، وقال بالحلول، وعظم افتراؤه على الله عز وجل ورسله، ووجدت له كتب فيها حماقات، وكلام مقلوب وكفر عظيم وكان في بعض كتبه:
انى المغرق لقوم نوح والمهلك لعاد وثمود، وكان يقول لأصحابه: أنت نوح وأنت موسى، وأنت محمد، قد اعدت ارواحهم الى أجسادكم ويزعم بعض الجهله المتبعين له بانه كان يغيب عنهم ثم ينزل عليهم من الهواء، اغفل ما كانوا، وحرك لقوم يده فنثر منها دراهم، وكان في القوم ابو سهل بن نوبخت النوبختى فقال له: دع هذا وأعطني درهما واحدا عليه اسمك واسم ابيك، وانا أومن بك، وخلق كثير معى فقال له: كيف وهذا لم يصنع؟ فقال له: من احضر ما ليس يحاضر صنع غير مصنوع، قال محمد بن يحيى الصولي: انا رايت هذا الرجل مرات، وخاطبته، فرايته جاهلا يتعاقل، وعييا يتفصح، وفاجرا يظهر التنسك، ويلبس الصوف، فأول من ظفر به على بن احمد الراسبى، لما اطلع منه على هذه الحال، فقيده وادخله بغداد على جمل قد شهره، وكتب بقصته وما ثبت عنده في امره، فاحضره على بن عيسى ايام وزارته في سنه احدى وثلاثمائة، واحضر الفقهاء، ونوظر فاسقط في لفظه، ولم يحسن من القرآن شيئا ولا من الفقه ولا من الحديث ولا من الشعر، ولا من اللغة، ولا من اخبار الناس فسحفه وصفعه، وامر به فصلب حيا في الجانب الشرقى ثم في الجانب الغربي، ليراه الناس، ثم حبس في دار الخليفة، فجعل يتقرب اليهم بالسنه، فظنوا ما يقول حقا ثم انطلق، وقد كان ابن الفرات كبسه في وزارته الاولى وعنى بطلبه موسى ابن خلف فافلت هو وغلام له، ثم ظفر به في هذه السنه، فسلم الى الوزير حامد، وكان عنده يخرجه الى من حضره فيصفع وينتف لحيته.
واحضر يوما صاحب له يعرف بالسمرى فقال له حامد الوزير: أما زعمت بان صاحبكم هذا كان ينزل عليكم من الهواء، اغفل ما كنتم؟ قال: بلى، فقال له: فلم لا يذهب حيث شاء، وقد تركته في دارى وحده، غير مقيد، ثم احضر حامد الوزير القاضى والفقهاء واستفتاهم فيه، فحصلت عليه شهادات بما سمع منه اوجبت قتله، فعرف المقتدر بما ثبت عليه، وما افتى به الفقهاء فيه، فوقع الى صاحب شرطته محمد ابن عبد الصمد بان يخرجه الى رحبه الجسر، ويضربه الف سوط، ويقطع يديه ورجليه، ففعل ذلك به، ثم احرقه بالنار وذلك في آخر سنه ثلاثمائة وتسع.
واقام الحج للناس في هذه السنه احمد بن العباس.