ففيها وافى بغداد على بن عيسى بن داود بن الجراح مقدمه من مكة، وذلك يوم الاثنين لعشر خلون من المحرم فمضى به من فوره الى دار …
المقتدر، فقلد الوزارة وخلع عليه لولايتها، وقلد سيفا، وقبض على محمد بن عبيد الله وابنيه عبد الله وعبد الواحد فحبسوا وكانوا قد ركبوا في ذلك النهار الى الدار، ووعدوا بان يخلع عليهم ويسلم على بن عيسى اليهم، فسلموا اليه، ووقع الأمر بضد ما ظنوه، وقعد على ابن عيسى لمحمد بن عبيد الله وناظره فقال له: اخربت الملك، وضيعت الأموال، ووليت بالعناية، وصانعت على الولايات بالرشوة، وزدت على السلطان اكثر من الف الف دينار في السنه، فقال: ما كنت افعل الا ما أراه صوابا وكان محمد بن عبيد الله فيما ذكر من تسناه يأخذ المصانعات على يدي ابى الهيثم بن ثوابه، ولا يفى بعهد لكل من صانعه برشوه، حتى قيلت فيه اشعار كثيره منها:
وزير ما يفيق من الرقاعه *** يولى ثم يعزل بعد ساعه
إذا اهل الرشا صاروا اليه *** فاحظى القوم أوفرهم بضاعة
وليس بمنكر ذا الفعل منه *** لان الشيخ افلت من مجاعه
وكان محمد بن عبيد الله قبل ان يستحيل به الحال فيما ذكر اهل الخبر.
وحسن الرأي فيه ذا دهاء وعقل، وكان ابنه عبد الله كاتبا بليغا حسن الكلام مليح اللفظ حسن الخط، جوادا يعطى العطايا الجزيله، ويقدم الأيادي الجليله، وصل عبد الله بن حمدون من ماله في مده ولايته بتسعين الف دينار الى ما وصل به غيره، واعطاه كثيرا ممن كان امله.
وفي هذه السنه رضى عن القاضى محمد بن يوسف، وقلد الشرقيه، وعسكر المهدى وخلع عليه دراعه وطيلسان وعمامة سوداء، وركب من دار الخليفة الى مسجد الرصافه، فصلى ركعتين، ثم قرئ عليه عهده بالولاية وفيها ورد الخبر بوثوب ابى الهيجاء عبد الله بن حمدان بالموصل ومعه جماعه من الأكراد، وكانوا أخواله لان أمه كرديه، واغاث الجند اهل الموصل، فقتلت بينهم مقتله عظيمه، وصار ابو الهيجاء الى الأكراد، وتامر عليهم كالخالع للطاعة.
وتظلم اهل البصره من عاملهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وشكوا به الى على ابن عيسى الوزير، فعزله عنهم بعد ان استامر فيه المقتدر لئلا يستبد بالرأي دونه، وولى البصره نجحا الطولونى، ثم ولى محمد بن إسحاق بن كنداج الدينور، وولى سليمان بن مخلد ديوان الدار، وكتابه غريب خال المقتدر، وولى على بن عيسى ابراهيم أخاه ديوان الجيش، واستخلف عليه سعيد بن عثمان والحسين بن على.
وفي شهر ربيع الآخر من هذه السنه دخل مؤنس الخادم مدينه السلام، ومعه ابو الهيجاء قد اعطاه أمانا فخلع على مؤنس وعليه.
وقلد نصر القشورى مع الحجابه التي كان يتولاها ولايه السوس وجندى سابور ومناذر الكبرى ومناذر الصغرى، فاستخلف على جميع ذلك يمنا الهلالي الخادم.
وفي هذه السنه اغارت الاتراك على المسلمين بخراسان، فسبت منهم نحو عشرين ألفا، الى ما ذهبت به من الأموال وقتلت من الرجال، فخرج اليهم احمد بن اسماعيل، وكان واليها في جيوش كثيره، واتبعهم فقتل منهم خلقا كثيرا واستنقذ بعض الأسرى، واوفد الى السلطان رجلا شيخا يعرف بالحمادى يستحمد اليه بفعله بالاتراك، ويخطب اليه شرطه مدينه السلام واعمال فارس وكرمان فأجيب الى كرمان وحدها وكتب له بها كتاب عهد.
وفي جمادى الآخرة من هذه السنه اطلق محمد بن عبيد الله الذى كان وزيرا وابنه عبد الله وامرا بلزوم منازلهما.
وفيها خلع على القاسم بن الحر وولى سيراف، وخلع على على بن خالد الكردى، وولى حلوان.
وفي هذه السنه ركب ابو العباس محمد بن المقتدر من القصر المعروف بالحسنى، وبين يديه لواء عقده له أبوه المقتدر على المغرب، ومعه القواد كلهم، والغلمان الحجريه وجماعه الخدم حول ركابه، وعلى بن عيسى عن يمينه ومؤنس الخادم عن يساره ونصر الحاجب بين يديه، فسار في الشارع الأعظم، ورجع في الماء والناس معه، فاعترضه رجل بمربعه الحرشي، فنثر عليه دراهم مسيفه، وقال له: بحق امير المؤمنين الا أذنت لي في طلى الفرس بالغالية، فوقف له وجعل الرجل يطلى وجه الفرس، فنفر منه، وقيل له: دع وجهه، واطل سائر بدنه، فاقبل يطلى عرف الفرس وقوائمه بالغالية، فقال محمد بن المقتدر لمن حوله: اعرفوا لنا هذا الرجل.
وفي هذه السنه قلد ابو بكر محمد بن على الماذرائى اعمال مصر والاشراف على اعمال الشام وتدبير الجيوش، وخلع عليه، وذلك يوم الخميس للنصف من شهر رمضان وخلع في هذا النهار أيضا على القاسم بن سيما، وعقد له على الإسكندرية واعمال برقه.
وفي هذه السنه في جمادى الآخرة، ورد الخبر بوفاه على بن احمد الراسبى، وكان يتقلد جندى سابور والسوس وماذرايا الى آخر حدودها، وكان يورد من ذلك الف الف دينار وأربعمائة الف دينار في كل سنه، ولم يكن معه احد يشركه في هذه الاعمال من اصحاب السلطان لأنه تضمن الحرب والخراج والضياع والشحنه وسائر ما في عمله، فتخلف- فيما وردت به الاخبار- من العين الف الف دينار ومن آنيه الذهب والفضه قيمه مائه الف دينار ومن الخيل والبغال والجمال الف راس، ومن الخز الرفيع الطاقي ازيد من الف ثوب، وكان مع ذلك واسع الضيعه كثير الغلة وكان له ثمانون طرازا ينسج له فيها الثياب من الخز وغيره فلما ورد الخبر بوفاه الراسبى، انفذ المقتدر عبد الواحد بن الفضل بن وارث في جماعه من الفرسان والرجاله لحفظ ماله الى ان يوجه من ينظر فيه، ثم وجه مؤنس الخادم للنظر في ذلك، فيقال: انه صار اليه منه مال جليل، وخلع على ابراهيم بن عبد الله المسمعي، وولى النظر في دور الراسبى.
وتوفى مؤنس الخازن يوم الأحد لثمان بقين من شهر رمضان، ولم يتخلف احد عن جنازته من الرؤساء، وصلى عليه القاضى محمد بن يوسف، ودفن بطرف الرصافه، وكان جليل القدر عند السلطان، فلما مات قلد ابنه الحسن ما كان يتولاه من عرض الجيوش، فجلس ونظر، وعاقب واطلق، وفرق سائر الاعمال التي كانت الى مؤنس على جماعه من القواد الذين كانوا في رسمه، وضم اصحابه الى ملازمه ابى العباس بن المقتدر، ولم يخلع على الحسن بن مؤنس للولاية مكان ابيه، فعلم ان ولايته لا تتم وعزل بعد شهرين، وعزل محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان خليفته على الجانب الشرقى، وقدم مكانه بدر الشرابي، وعزل خزرى بن موسى خليفه مؤنس على الجانب الغربي وولى مكانه إسحاق الاشروسنى، وولى شفيع اللؤلؤى البريد وسمى شفيعا الاكبر.
وورد الخبر في شعبان بان احمد بن اسماعيل بن احمد صاحب خراسان قتله غلمانه غيله على فراشه، وكان قد اخاف بعضهم فتواطئوا على قتله ثم اجتمع سائر غلمانه فضبطوا الأمر وبايعوا لابنه نصر بن احمد وورد كتابه على المقتدر يسأله تجديد العهد له، ووردت كتب عمومته وبنى عمه يسال كل واحد منهم ناحيه من نواحي خراسان، فافرد الخليفة بالولاية ابنه وتم له الأمر.
قال الصولي: شهدت في هذا العام بين يدي محمد بن عبيد الله الوزير مناظره كانت بين ابن الجصاص وابراهيم بن احمد الماذرائى، فقال ابراهيم بن احمد الماذرائى في بعض كلامه: لابن الجصاص مائه الف دينار من مالي صدقه، لقد ابطلت في الذى حكيته وكذبت! فقال له ابن الجصاص:
قفيز دنانير من مالي صدقه، لقد صدقت انا وابطلت أنت، فقال له ابن الماذرائى: من جهلك انك لا تعلم ان مائه الف دينار اكثر من قفيز دنانير، فعجب الناس من كلامهما قال الصولي: وانصرفت الى ابى بكر بن حامد فخبرته الخبر، فقال: نعتبر هذا بمحنه، فاحضر كيلجه وملاها دنانير ثم وزنها فوجد فيها اربعه آلاف دينار، فنظرنا فإذا القفيز سته وتسعون الف دينار كما قال الماذرائى.
وفي هذه السنه مات ابو بكر جعفر بن محمد المعروف بالفاريابى المحدث، لاربع بقين من المحرم وصلى عليه ابنه ودفن في مقابر الشونيزيه وفيها توفى عبد الله بن محمد بن ناجيه المحدث وكان مولده سنه عشر ومائتين.
وفيها مات الحسن بن الحسن بن رجاء، وكان يتقلد اعمال الخراج والضياع بحلب، مات فجاءه، وحمل تابوته الى مدينه السلام، ووصل يوم السبت لخمس بقين من شهر ربيع الاول.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى المعروف بالأحنف، وكان خليفه ابيه على قضاء عسكر المهدى والشرقيه والنهروانات والزوابي والتل وقصر ابن هبيرة والبصره وكور دجلة وواسط والاهواز، ودفن يوم الأحد لتسع ليال خلون من جمادى الاولى في حجره بمقام باب الشام وله ثمان وثلاثون سنه وفي هذه السنه بعد قتل احمد بن اسماعيل ورد الخبر بان رجلا طالبيا حسينيا خرج بطبرستان يدعو الى نفسه يعرف بالأطروش.
وفي آخر هذه السنه توفى احمد بن عبد الصمد بن طومار الهاشمى، وكان من قبل نقيب بنى هاشم العباسيين والطالبيين، فقلد ما كان يتقلده أخو أم موسى، فضج الهاشميون من ذلك، وسألوا رد ما كان يتولاه ابن طومار الى ابنه محمد بن احمد، فأجيبوا الى ذلك، وكان لأحمد بن عبد الصمد يوم توفى اثنتان وثمانون سنه.
واقام الحج للناس في هذه السنه الفضل بن عبد الملك الهاشمى.