انت هذه السنه ببغداد وما والاها شديده الوطأة على الناس، حتى سميت سنه الدمار وذلك ان على بن محمد بن الفرات ولى فيها …
الوزارة المره الثالثه وتقبض على الوزير حامد بن العباس وعلى على بن عيسى وذلك يوم الخميس لتسع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، فدخل الجنابى والقرامطة البصره ليله الاثنين بعد ولايته باربعه ايام وكان خبر ولايه ابن الفرات والقبض على حامد وعلى بن عيسى قد وصل الى الجنابى واصحابه من وقته من قبل من كان يكاتبهم، لان بعض البصريين الثقات حكوا ان القرامطة كانوا يقولون لهم يوم دخولهم: ويلكم ما ارك سليطينكم في ابعاد ذلك الشيخ عن نفسه، وليعلمن ما يلقى بعده قالوا: ونحن لا ندري ما يقولون حتى وردنا الخبر بعد ذلك بالقبض على حامد وعلى وولايه ابن الفرات، فعلمنا ما ارادت القرامطة، وان الخبر أتاهم من وقته في جناح طائر على ما ازكن الناس آلته، واعتقدوا صحته فعاثت القرامطة في البصره، ودخلت الخيل المربد، وكان سبك المفلحى القائد بها، فلما سمع الصيحة وقت الفجر فخرج وهو يظن انها لفزعه دارت فلما توسط المربد يريد الدرب رأته القرامطة وهم وقوف بجانبي الشارع، فشدوا عليه فقتلوه، وقتلوا بعض من كان معه، وركض الباقون فافلتوا، وقاتلهم اهل البصره في شارع المربد الى عشى ذلك اليوم، ولا سلطان معهم فلم يظفروا بهم الا بالنار فإنهم كانوا كلما حووا موضعا احرقوه، وانهزم اهل البصره وجال القرامطة في شارع المربد، ومروا بالمسجد الجامع وسكه بنى سمره حتى انتهوا الى شط نهر البصره المعروف بنهر ابن عمر الذى كان انفذ حفره عبد الله بْن عمر بْن عبد العزيز، وكانوا يخرجون من البصره ليلا الى معسكرهم بظهر البصره، ولا يبيت بها منهم احد فرقا، فأقاموا أياما على ذلك، ثم انصرفوا، وقد كان السلطان انفذ الى البصره حين بلغه ذلك بنى بن نفيس وجعفر بن محمد الزرنجى في جيش.
ثم ولى شرطه البصره محمد بن عبد الله الفارقى وانفذه في جيش ثان.
وخرج ابن الفرات في هذه الوقعه مغيظا على الناس، واطلق يد ابنه المحسن، فقتل الناس، وأخذ أموالهم، وغلبا على أم المقتدر بالله وملكا امرها وكان الذى سفر لهما في ذلك مفلح الخادم الأسود، وكان الأمر كله اليه والى كاتبه النصراني المعروف ببشر بن عبد الله بن بشر، وكان مجبوبا، فاحتالوا على مؤنس المظفر، حتى اخرجوه الى الرقة وازعجوه من باب الشماسيه فكان كالنفى له وكان حامد بن العباس قد استتر وعليه من المال الذى عقده على نفسه الف الف دينار، فاحتال حامد الى ان وصل الى باب السلطان، فدخل الى نصر الحاجب، فقال له: قد تضمننى بألف الف دينار، فخذوا منى الف الف دينار وخمسمائة الف دينار واحبسونى عندكم، واحتسبوا لابن الفرات بألف الف دينار التي تضمننى بها ولا تطلقوا ايديهم على فاخبر بذلك الخليفة، واشار به عليه، وقال: هاهنا فضل مال، ويكون في حبسنا رجل هو بيت مال للسلطان، فتلوموا في ذلك وقال المحسن لمفلح الخادم يفسد على امرى كله، ولا بد من تسليمه الى، فلم يزل مفلح بالمقتدر والسيده حتى زالا عن الصواب، وسلما حامدا الى ابن الفرات فكان يصفع ويضرب، ويخرجه المحسن إذا شرب فيلبسه جلد قرد، له ذنب، ويقيم من يرقصه ويصفعه، ويشرب على ذلك، واجرى على حامد افاعيل قبيحه ليست من افاعيل الناس، ولا يستجيزها ذو دين ولا عقل، ولم يصل من ماله كثير شيء الى السلطان، وضاع ما كان بذله، وحدر الى واسط وسلم الى البزوفري العامل، فقتله، واخرجه الى اهل واسط، وسلمه الى من يجنه فاجتمع الناس، وصلوا عليه وعلى قبره أياما متواليه.
وزعم ابن الفرات للسلطان ان على بن عيسى خائن ممالئ للقرمطى، فصادره على مال استخرج بعضه من قبله، ثم نفاه الى اليمن ووكل به رجلا من اصحابه، وامره بالاحتيال لقتله، فقبض الله يده عن ذلك بصاحب لشفيع اللؤلؤى صاحب البريد، كان قد وكله به فلما خرج عن مكة لقيه اصحاب ابن يعفر، فحالوا بينه وبين الموكلين به، وأرادوا قتل الموكل به لأنه كان أضجعه بمكة ليذبحه، فخالفه عون كان معه، ودفع عنه، فمنع على بن عيسى من قتل الموكل به ولما بلغ ابن يعفر تلقاه اخوه ومعه هدايا عظيمه القدر، فاكرمه وانزله في دار عظيمه، وانزل الموكل به في دار غيرها، ولم يزل على بن عيسى يجرى بعد ذلك على العون المخالف في قتله، وعلى عياله الجرايات دهرا طويلا.
ووجه المحسن ابن ابى الحوارى الى الاهواز، فقتل بموضع يعرف بحصن مهدى، وكان نصر الحاجب يدارى المحسن وأباه، ويطيل عنده الى نصف الليل القعود، وينصرف عنه حتى اتصل به ان المحسن ضمن لعشرين غلاما عشرين الف دينار، على ان يقتلوا نصرا إذا خرج من عند ابيه في بعض الممرات فتحفظ منه، وكان لا يركب الا في غلمان كثيره وسلاح عتيد، واحتال في ازاله نصر بكل حيله، فما قدر على ذلك، واحتال على شفيع المقتدرى، فدس من يقع فيه ويقول: انه ان خرج الى الثغر يحصل عنده مال عظيم، فلم يجب الى ذلك، ونفى أبا القاسم سليمان ابن الحسن وأبا على محمد بن على بن مقله الى شيراز، وكتب الى ابراهيم بن عبد الله المسمعي في اتلافهما فسلمهما الله، ونفى النعمان بن عبد الله الكاتب، وكان رجل صدق، وقد اعتزل الاعمال، ولزم بيته وغله ضيعه له، فغربه الى واسط، ووجه المحسن رجلا كان يصحب ابن ابى العذافر خلفه، فذبحه بواسط، ونفى ابراهيم بن عيسى وعبد الله ابن ما شاء الله الى واسط، ودس إليهما من قتلهما، وطالب ابن حماد الموصلى الكاتب فقال له نصر الحاجب: سلمه الى وعلى مائه الف دينار من قبله، واسلمه بعد هذا إليكم على ان تلزموه بيته، فلم يفعل المحسن ذلك وعنف به وشتمه، فرد عليه ابن حماد القول فقتله.
وكان ابو بكر احمد بن محمد بن قرابه يتكلف للمحسن نفقاته كلها من ماله ايام نكبه ابيه وخموله، فلما ولى الوزارة اكرمه أبوه، واقبل عليه فحسده المحسن، وجعل يحتال في تلفه، وعزم على ان يركبه معه ليلا في طيارة من داره التي يسكنها المحسن الى دار ابيه بالمخرم، فإذا توسط دجلة امر من يرمى بابن قرابه فيها، وكانت ايام مدود قال الصولي: فعرفني بذلك سرا خادم للمحسن يقال له مريث لموده كانت بيني وبينه فاشعرت ابن قرابه بما ذهب اليه فيه، فلم يدخل له دارا ولا جلس معه في طيار الى ان فرج الله امرهم، ولم تطل المده قال الصولي: وكان المحسن مقيما عندي ايام نكوبهم، وكنت كثير الانحراف اليهم، فلما عادوا الى المنزله التي كانوا بعدوا عنها اختصني على بن الفرات وأمرني بملازمه مجلسه وزاد في رزقي سبعين دينارا وقال لي: انظر ما تريد من الاعمال اقلدك اياه، فسعى بي المحسن الى ابيه بفعل واش وشى بي اليه، فثقل جانبي على الوزير، حتى قلت في ذلك قصيده فاصغى إليها وقبل اعتذارى فيها، وزال ما كان في نفسه، وبقي المحسن على غله، ومن الشعر إذا اختصرناه.
قل لرحا ملكنا وللقطب *** وسيد وابن ساده نجب
وللوزير البعيد همته *** البالغ المجد غاية الرتب
لا والذى أنت من فواضله *** يا منقذ الملك من يد النوب
ما كان شيء مما وشى لكم *** ذو حسد مفتر وذو كذب
هل عله اوجبت على سوى *** مدحى وشكرى في الجد واللعب
اكفر نعماكم ويشكرها *** عدوكم ان ذا من العجب
فسائلوا علم ذاك انفسكم *** فليس رأيي عنكم بمحتجب
متى سمعتم من السعاة أراني *** الله أشلاءهم على الخشب
واوطن الحتف في ديارهم *** حتى يبادوا بالويل والحرب
وليكم راس مالكم ابدا *** والراس ان ضاع ليس كالذنب
وفي هذه السنه توفى يانس الموفقى، وكان رفيع المكانه عند السلطان، عظيم الغناء عنه، ولقد عزى به نصر الحاجب يوم وفاته، فجعل يبكى ولا يتعزى، وقال: لقد اصيب الملك مصيبه لا تنجبر، وقال: من اين للخليفة رجل مثله! شيخ ناصح مطاع ينزل عند سور داره من خيار الفرسان والغلمان والخدم الف مقاتل، فلو حزب السلطان امر وصاح به صائح من القصر لوافاه من ساعته في هذا العدد قبل ان يعلم بذلك غيرهم من جنسه فلما توفى يانس انتصح نصر الحاجب الخليفة في أمواله وكانت عظيمه، وكانت له ضياع ومستغلات وامتعه ووطاء وكسوه لا يعرف لشيء منها قدر، فقال نصر الحاجب للمقتدر ان يأنسا خلف ضياعا تغل ثلاثين الف دينار الى ما خلف من سائر المال، واشار عليه بان يوجه ابنه أبا العباس الى دار يانس، فيصلى عليه ويأمر بدفنه، ويحضر جميع فرسانه وخدمه وحاشيته فيقول لهم: انا مكان يانس لكم وفوقه، وزائد في الاحسان إليكم، والتفقد لأحوالكم ثم يحصى ما تخلفه ولا يفوت منه شيء، فيجمع بذلك الاستحماد الى الرجال والاحراز للمال فاصغى المقتدر الى نصيحه نصر الحاجب، وظهر له صواب قوله: فلما خرج عنه حوله ابن الفرات وولديه عن رايه، وامر المحسن بتحصيل التركه فاذهب أكثرها، وخان الخليفة فيها وأخذ اكثر ذلك لنفسه، حتى لقد كانت الشقاق الدبيقيه الشقيريات التي اقل ثمن كل واحده منها سبعون دينارا، تحشى بها المخاد الأرمينيه والمساور، وتباع فتشترى للمحسن على ان الذى داخلها حشو صوف، وكذلك فعل بالقصب المرتفع الرشيدي والملحم الشعبى والنيسابورى، ولقد أخذ من الوسائد الرفيعه والمساور المحكمه فحشاها بالندو العود، عتيا وطغيانا، وكذلك كان يتكئ عليها.
ومما يعتد به على ابن الفرات وولده ان احمد بن محمد بن خالد الكاتب المعروف بأخي ابى صخره كان قد ولى الدواوين وكان من مشايخ الكتاب ورؤسائهم فتوفى في هذا العام وخلف ورثه احداثا، فانهى كثره ما خلف من المال الى المقتدر، فامر بالتوكيل بخزانته وداره، فسار بعض الورثه الى المحسن وضمنوا له مالا على ازاله التوكيل وحل الاعتقال، فكلم المحسن أباه في ذلك، وركب الى المقتدر، فقال له: ان المعتضد والمكتفي قد كانا قطعا الدخول على الناس في المواريث، وانا ارى لمولاي ان يحيى رسومهما، وان يأمر باثبات عهد الا يتعرض احد في ميراث، فأجابه المقتدر الى ذلك إذ ظن انها نصيحه منه، فسلمت الدار الى ورثه الكاتب، وأنشأ ابن الفرات كتابا عن المقتدر في اسقاط المواريث نسخته.
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن امير المؤمنين المقتدر بالله يؤثر في الأمور كلها ما قربه من الله عز وجل، واجتلب له جزيل مثوبته، وواسع رحمته، وحسنته العائده على كافه رعيته كما جعل الله في طبعه، واولج في بيته، من التعطف عليها وايصال المنافع إليها، وابطال رسوم الجور التي كانت تعامل بها، جاريا مع احكام الكتاب والسنه، عاملا بالآثار عن الافاضل من الأئمة، وعلى الله يتوكل امير المؤمنين، واليه يفوض وبه يستعين.
وانهى الى امير المؤمنين المقتدر بالله ابو الحسن على بن محمد الوزير ما يلحق كثيرا من الناس من التحامل في مواريثهم، وما يتناول على سبيل الظلم من أموالهم، وانه قد كان شكى الى المعتضد بالله مثل ذلك، فكتب الى القاضيين يوسف بن يعقوب وعبد الحميد يسالهما عن العمل في المواريث، فكتبا اليه: ان عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وعبد الله بن العباس وعبد الله بن مسعود ومن اتبعهم من الأئمة وعلماء هذه الامه رحمهم الله رأوا ان يرد على اصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفروضه لهم في كتاب الله عز وجل من المواريث ان لم يكن للمتوفى عصبه يرثون ما بقي، ممتثلين في ذلك كتاب الله عز وجل في قوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، * ومحتملين على سنه رسول الله في توريث من لا فرض له في كتاب الله من الخال وابن الاخت والجده، وان تقليد العمال امر المواريث دون القضاه شيء لم يكن الا في خلافه المعتمد على الله، فانه خلط في ذلك، فامر المعتضد بابطال ما كان الأمر جرى عليه ايام المعتمد في المواريث، وترك العمل فيها بما روى عن زيد بن ثابت بان يرد على ذوى الارحام ما اوجب الله رده وأولو العلم من الأئمة.
فامر امير المؤمنين المقتدر بالله ان يجرى الأمر على ذلك ويعمل به، وكتب يوم الخميس. لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة احدى عشره وثلاثمائة، فلما نفذ كتاب المقتدر بهذا، واشهد على ورثه ابن خالد الكاتب بتسليم ما خلفه وقبضهم له وجه المحسن، اليهم من أخذ جميع مالهم وحبسهم واخافهم.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.