في صفر مات ابو النجم بدر الحمامي بشيراز، وكان يتولى اعمال الحرب والمعاون بفارس وكرمان ودفن بشيراز، ثم نبش وحمل الى بغداد، …
واضطرب الجند لموته بفارس، فكتب على بن عيسى الى ابى عبد الله جعفر بن القاسم الكرخي بضبط تلك البلدان، فضبطها واستمال الجند.
وخلع على مؤنس المظفر، وعقد له على غزاه الصائفه وكان ابو الهيجاء ابن حمدان قد خلع عليه لولاية فارس وكرمان، ثم عدل عنه الى ابراهيم بن عبد الله المسمعي، فقلد ذاك.
وعقدت الكوفه وطريق مكة على ورقاء بن محمد.
وفي شهر ربيع الآخر، صرف حامد بن العباس عن الوزارة، وعلى بن عيسى عن الدواوين، وكانت وزارة حامد اربع سنين وعشره اشهر واربعه وعشرين يوما.
وكثرت عداوة الناس لحامد لاسقاطه لارزاقهم ونقصانهم، فكان ذلك سبب عزله.
وكان على بن عيسى يكتب ليطالب جهبذ الوزير: اسعده بكذا، فسقط بذلك.
وجرى بين مفلح وبين حامد مناكره، فقال حامد: صح عزمي على ابتياع مائه اسود اقودهم، واسمى كل واحد منهم مفلحا.
وكان المقتدر يستدعى ابن الفرات ويشاوره وهو محبوس.
واتفق انه انفذ الى المقتدر وساله ان يقرضه الف دينار باثنى عشر الف دينار، فأجابه الى ذلك حياء من رده، مع ما أخذ من أمواله فلما أخذ ابن الفرات المال، جاء به الى المقتدر، فأفرغه بين يديه وقال: يا امير المؤمنين، ما تقول في رجل يسترزق في كل شهر هذا! فاستعظم المقتدر ذلك وقال: ومن الرجل؟ فقال: ابن الحوارى، هذا سوى ما يصله من المنافع، ويناله من الفوائد ورد ابن الفرات الدنانير، وسعى مفلح لتقليد ابن الفرات الوزارة، واعتقل على بن عيسى وسلم الى زيدان القهرمانه.
وخلع على ابن الفرات لتقليد الوزارة الثالثه، وعلى ابنه وأخيه، وجلسوا في دورهم، بسوق العطش للتهنئه، وسال ان يعاد الى داره بالمخرم، وكانت قد اقطعت للأمير ابى العباس، فاذن له المقتدر في ذلك وقبض ابن الفرات على جماعه من اسباب على بن عيسى، فيهم ابن مقله.
وأشير على ابن الحوارى بالاستتار، وقيل له: ان المقتدر لم يطو عنك وزارة ابن الفرات الا لتغير راى فيك، فقال: لا انكب نفسي، وستر حرمه.
ثم قبض ابن الفرات على ابن الحوارى، وقبض على صهره محمد بن خلف النيرمانى، وتوسط ابن قرابه حاله، فصادره على سبعمائة الف دينار، وصادر أبا الحسين ابن بسطام صهر حامد على مائتي الف دينار.
وشرط المقتدر على ابن الفرات، الا ينكب حامدا، وان يناظره على ما عليه، فناظره بمحضر الكتاب والقضاه، وقال المقتدر: انه خدمني ولم يأخذ رزقا، وشرط على الا اسلمه لمكروه، فاضطر ابن الفرات الى اقرار حامد على واسط، وكان يتأول عليه تاولا ديوانيا.
وكان حامد يطالب بما حبسه من النفقة على البثوق في ايام الخاقانى، وهي مائتان وخمسون الف دينار، فكانت تتأخر المطالبه جديده الضمان، ولأنه شرط انه يحسب ذلك من ماله، لا من مال السلطان.
فقلد ابن الفرات اعمال الصلح أبا العلاء محمد بن على البزوفري.
وقلد أبا سهل اسماعيل بن على النوبختى اعمال المبارك، وجعل الى كل واحد مطالبه حامد فاما ابو سهل فكان يخلط المطالبه برفق، وكان البزوفري يستعمل ضد ذلك، فكان حامد يقصده الى داره في رداء ونعل حذو، مع هيبة حامد العظيمه ومنزلته الجسمية منذ ستين سنه فلم ينفع ذلك في البزوفري، بل زاد عليه انه ابتاع ضياعات سلطانيه بنواحي الجامدة في ايام الخاقانى بخمسمائة الف دينار، وابن الفرات يحمل البزوفري على ما يعتمده.
وكاتب ابن الفرات ان حامدا ممتنع من أداء ما عليه، مع ميل اهل البلد اليه، واحتواء يده على أربعمائة غلام لكل واحد منهم غلمان وسبعمائة رجل، فأجابه ابن الفرات ان المقتدر قد تقدم الى مفلح بالانحدار في جيش للقبض على حامد.
فأظهر البزوفري الكتاب قبل وصول القوم.
فحينئذ اصعد حامد في سائر جيشه وكتابه وغلمانه، وضربت البوقات يوم خروجه، وخروج اصحابه، بعضهم في الماء، وبعضهم على الطريق، ولم يقدر البزوفري على منعه، فكاتب على اجنحه الطيور بالحال، فانفذ المقتدر نازوك الى المدائن للقبض عليه فاخذ نازوك ما وجده له فاستتر حامد.
وجاء احد الجهابذه فتقرب الى المقتدر بمائه الف دينار لحامد عنده.
وارجف الناس ببغداد ان المقتدر امر حامدا بالاستتار ليقبض على ابن الفرات، ويعيده الى مرتبته.
فاستتر آل ابن الفرات وأسبابه، غير الوزير.
وكانت سعاده حامد قد تناهت، فصار الى دار المقتدر، وعليه ثياب الرهبان، ومعه مؤنس خادمه، فصعد الى دار الحجبة، فقال له نصر: لم جئت الى هاهنا؟ ولم يقم له، واعتذر بانه تحت سخط الخليفة.
وقال لمفلح الأسود- وهو الذى يتولى الاستئذان على الخليفة- انه تحت رحمه، ومثلك من أزال ما يعانيه، وقال حامد لمفلح: تقول لمولانا امير المؤمنين عنى: إيثاري الاعتقال في الدار، كما اعتقل على بن عيسى، واناظر بحضره الفقهاء والقضاه والقواد، وامكن من استيفاء حججي وما يجب على من مال فقالت السيده: لا يضر ان يعتقل في الدار ويحفظ نفسه، فقال مفلح: ان فعل هذا، لم يتم لابن الفرات عمل وبطلت الاعمال، فقال المقتدر: صدقت، وامره بانفاذ حامد الى ابن الفرات، فبعد جهد، مكنه مفلح من تغيير زيه، وقال: لا احمله الا في زي الرهبان وهذا الصوف الذى عليه، حتى تشفع فيه نصر، وانفذه مع ابن الزنداق الحاجب.
فلما دخل على ابن الفرات، اسمع حامدا المكروه، وقال له: جئت بها طائيه، وكان الطائي قد ضمن اسماعيل بن بلبل من الناصر لدين الله، وأتاه في زي الرهبان، فسلمه الى اسماعيل بن بلبل فعامله باصناف المكاره، وأخذ منه مالا عظيما.
وامر ابن الفرات قهرمان داره، بان يفرد له دار أخيه، يفرشها فرشا جميلا وان يحضر بين يديه ما يختاره من الطعام، ويقطع له ما يؤثره من الكسوة، واستخدم له خادمين اعجميين ودخل اليه كل من عامله بالمكاره فوبخوه، فقال: قد اكثرتم، وانا اجمل الجواب، ان كان ما استعملته من الاحوال التي وصفتموها جميله العاقبه، قد اثمرت لي خيرا فاستعملوا مثله وزيدوا عليه، وان كان قبيحا- وهو الذى بلغ هذه الغاية- فتجنبوه، فان السعيد من وعظ بغيره.
فقال ابن الفرات لما بلغه ذلك: ما ادفع شهامته، ولكنه رجل من اهل النار، يقدم على الدماء ومكاره الناس.
ومثل هذه الحكاية، حكاية زينب بنت سليمان بْن علي بْن عبد الله بْن العباس، قالت: كنت عند الخيزران، فدخلت جاريه وقالت: بالباب امراه لها جمال وخلقه حسنه، وليس وراء ما هي عليه من سوء الحال غاية، تستأذن عليك، وقد سالتها عن اسمها، فامتنعت ان تخبرني، فقالت الخيزران: ما تريد؟ فقلت: ائذنى لها، فلن تعدمى ثوابا.
فدخلت امراه من اجمل النساء وأكملهن، لا تتوارى بشيء، وقالت: انا مزنه امراه مروان بن محمد الاموى، فقلت لها: لا حيا الله ولا قرب، الحمد لله الذى أزال نعمتك وهتك سترك، تذكرين يا عدوه الله، حين أتاك عجائز اهلى يسالنك ان تكلمى صاحبك في الاذن في دفن ابراهيم الامام، فوثبت عليهن، فاسمعتهن وامرت بإخراجهن على الجهة التي اخرجن عليها!
قالت: فضحكت، فما الدر احسن من ثغرها، وعلا صوتها بالقهقهة، ثم قالت: اى بنت عمى، اى شيء اعجبك من حسن صنع الله بي على العقوق حتى اردت ان تتأسى به! انى فعلت ما فعلت باهل بيتك، وأسلمني الله إليك ذليله فقيره، فكان هذا مقدار شكرك لله على ما اولاك في، ثم قالت: السلام عليكم، وولت فصاحت الخيزران بها: انها على استأذنت، والى قصدت، فما ذنبي! فرجعت وقالت: لعمري، لقد صدقت يا أخيه، وان مما ردني إليك ما انا عليه من الضر والجهد، فقامت الخيزران تعانقها، وامرت بها الى الحمام وخلعت عليها وجاء المهدى فاخبر بالحال، فسر بذلك، وكثر انعامه عليها، وافرد لها مقصوره من مقاصير حرمه. واقر حامد بمائتي الف دينار، ولم يقر بغيرها، وسلمت منه.
وضرب المحسن مؤنسا خادم حامد، فاقر بأربعين الف دينار دفنها في داره بالمدينة، فحملت.
وصودر مؤنس الفحل حاجب حامد على عشرين الف دينار وصودر محمد ابن عبد الله النصراني صاحبه، والحسن بن على الخصيب كاتبه على ثمانين الف دينار.
واستعمل الخصيب مع حامد من المكاشفه، ما لم يستعمله كاتب مع حاجب، فرد ابن الفرات عليه ما صادره به لذلك واشخص ابن الفرات الفقهاء والقضاه والكتاب، فيهم النعمان بن عبد الله، وكان قد تاب من عمل السلطان، فحضر بطيلسان، وناظره ابن الفرات مناظره طالت، وكان عمد ابن الفرات ان قال له: الضمان الذى ضمنته من الخاقانى سنه تسع وتسعين ومائتين لا يمضيه الفقهاء والكتاب لأنه ضمان مجهول، وضمنت اثمان غلات لم تزرع، فقال له حامد: فقد عملت بي كذلك حين ضمنتنى باعمال بالصدقات والضياع بالبصرة وكور دجلة، فقال ابن الفرات: الغلة بالبصرة يسيره، وانما ضمنت الثمره، فقال حامد فمن أحل بيع الثمره قبل إدراكها، وهي خضره في الزرع؟ فقال المحسن لحامد: هذا الكلوذانى، كاتبك وكتابه يشهدون عليك بما اقتطعته، فقال: هؤلاء كتاب الوزير الان هواه.
ولزمت ابن الفرات حججه، حتى قال له حامد: لم امضيت ضماني في وزارتك الثانيه؟ فقال ابن الفرات: لهذا نقلني امير المؤمنين الى حبسه.
وذكر حامد حججا كانت في يده، فقال ابن الفرات: انا فتشت صناديقك، فلم أجد فيها ما ذكرت، وانا المقدم بإحضارها وتفتيشها فقال حامد: افتشتها بعد ان فتشها الوزير، وقبضها نازوك وفتح أقفالها! فخجل ابن الفرات وتعجب الناس من استيفاء حامد الحجه.
فاخرج ابن الفرات عملا وجده في صناديق غريب غلام حامد، وهذا الغلام كان يتولى بيع غلات حامد، وحمل ذلك سهوا لان حامدا كان يجمع حسباناته، ويغرقها في دجلة، فراى انه قد بيع غلات تلك السنه سوى القضيم بخمسمائة الف دينار ونيف واربعين الف دينار، فبان الفضل، وظهر التضاعف، مع كون الأسعار رخيصه في تلك السنه، وعاليه فيما بعدها.
وقال حامد لابن الفرات: اننى اكرم الوزير عن اسماع ابنه جواب ما يشتمني، فحلف ابن الفرات برأس الخليفة، ان لم يمسك ابنه استعفى الخليفة في هذه القضية فامسك المحسن حينئذ، واعيد حامد الى محبسه وطولب بالمال، فأقام على انه لا مال عنده، وانه قد باع ضياعه، وباع داره من نازوك بمدينه السلام باثنى عشر الف دينار، وباع خدمه، وباع اخصهم به من نازوك بثلاثين الف دينار.
فالتفت الخادم الى نازوك وقال له: لا تستضع بي، فلا تبتعنى، فلم يقبل منه، وابتاعه، فلما كان في تلك الليلة شرب الخادم زرنيخا فمات من ليلته.
وخلا ابن الفرات بحامد، وقال: ان اخبرت باموالك، صنتك عن مكاره ابنى، ووليتك فارس، وحلف له على ذلك، فاقر بدفائنه في بلاليع بواسط، وقدرها خمسمائة الف دينار، وثلاثمائة الف عند قوم من العدول، واقر بقماش له عند ابن شابده وابن المنتاب وإسحاق بن أيوب وعلى بن فرج بثلاثمائة الف دينار.
فعرف المقتدر ذلك، وقال له ابن الفرات: قد اقر بذلك، عفوا من غير مكروه.
وما زال ابن الفرات مكرما لحامد، يلبسه لين الثياب، ويطعمه هنى الطعام، الى ان توصل المحسن على يدي مفلح الى المقتدر، ان يتقدم الى ابيه باستخلافه، فاستخلفه على كره من الأب لذلك، وخلع المقتدر عليه، وصار الى داره، فمضى اليه الكتاب والعمال للتهنئه، فسقطوا من درجه ساج صعدوا عليها من زبازبهم، فلحقتهم العلل لذلك.
وضمن حامدا الخمسمائة الف دينار، واحضره، فطالبه فقال: لم يبق غير ضياعي، وانا اوكل في بيعها، فامر بصفعه، فصفع خمسين صفعه، واحدره الى واسط مع خادم وعشره فرسان، وذلك في عاشر شهر رمضان سنه احدى عشره وثلاثمائة.
وشاع ببغداد ان حامدا اشتهى بيضا، فطرح له الخادم فيه سما، فأكله، فلحقه ذرب، ودخل واسطا، وهو مثخن، فقام اكثر من مائه مجلس.
فاراد البزوفري الاستظهار لنفسه، فاحضر القاضى وشهوده وكتب: ان حامدا، وصل الى واسط، فتسلمه البزوفري وهو عليل من ذرب وان تلف من ذلك، فإنما مات حتف انفه.
فلما دخل الشهود وقد قرر مع حامد الاشهاد على نفسه قال لهم: ان ابن الفرات الكافر الفاجر المجاهر بالرفض وبغض بنى العباس رحمه الله عليهم، عاهدني وحلف بالطلاق وايمان البيعه، على اننى ان اقررت بأموالي لم يسلمني الى ابنه، وصانني على المكروه وولانى، فلما اقررت سلمني الى ابنه فعذبني ودفعنى الى خادمه فسقاني بيضا مسموما، ولا صنع للبزوفرى في دمى الى وقتنا هذا، ولكنه، لعنه الله كفر إحساني ونسى اصطناعى، فاغرى ابن الفرات بي وسعى على دمى، ثم أخذ قطعه من أموالي، وجعل يحشوها في المساور البرتون، ويبتاع الواحدة منها بخمسه دراهم، وفيها امتعه تساوى ثلاثة آلاف دينار فاشهدوا على ما شرحته.
وتبين البزوفري انه قد أخطأ.
وكتب ابن بطحاء صاحب الخبر بواسط الى ابن الفرات بالحال، فشق عليه.
وتوفى ليله الخميس لثلاث عشره خلت من شهر رمضان سنه احدى عشره وثلاثمائة، وغسل وكفن، وصلى عليه القاضى والشهود بواسط.
وأخذ منه ابن الفرات الف الف وثلاثمائة الف دينار.
وقبض المحسن على ابى احمد محمد بن منتاب الواسطي، صاحب حامد، فصادره على مائه الف دينار.
وحكى التنوخي، عن بعض الكتاب قال: حضرت مائدة حامد بن العباس، وعليها عشرون نفسا، وكنت اسمع انه ينفق على مائدته مائتي دينار، فاستقللت ما رايت ثم خرجت فرايت في الدار نيفا وثلاثين مائدة منصوبه، على كل واحده ثلاثون نفسا، وكل مائدة مثل المائدة التي كنت عليها، حتى البوارد والحلوى، وكان لا يستدعى أحدا الى طعامه، بل يقدم الى كل قوم في أماكنهم، وكانت الموائد في الدهاليز، وكان يقدم لكل من يحضر جديا، فتكون الجداء بعدد الناس، ويرفع ما بقي، فتقتسمه الغلمان.
وقال حامد: انما فعلت هذا لأنني حضرت قبل علو امرى على مائدة بعض اصدقائى، وقدم عليها جدي، فعولت على اكل كليته، فسبقني رجل فأكلها، فاعتقدت في الحال: ان وسع الله على، وان اجعل جداء بعدد الحاضرين وركب حامد، وهو عامل واسط الى بستان له، فراى في طريقه دارا محترقه وشيخا يبكى وحوله نساء وصبيان على مثل حاله، فسال عنه، فقيل هذا رجل تاجر احترقت داره، فافتقر، وافلت بنفسه وعياله على هذه الصورة، فوجم ساعه، ثم قال: فلان الوكيل! فجاء، فقال: اريد ان اندبك لامر ان عملته كما اريد، فعلت بك وصنعت وذكر جميلا، وان تجاوزت فيه رسمي فعلت بك وصنعت- وذكر قبيحا، فقال: مر بأمرك، فقال: ترى هذا الشيخ، قد آلمني قلبي له، وقد تنغصت على نزهتى بسببه، وما تسمح نفسي بالتوجه الى بستاني الا بعد ان تضمن لي انى إذا عدت العشية مع النزهه وجدت الشيخ في داره، وهي كما كانت مبنية مجصصه، نظيفة، وفيها الفرش والصفر والمتاع من صنوفه وصنوف الآلات، مثل ما كان فيها، وعلى جميع عياله من كسوه الشتاء والصيف، مثل ما كان لهم.
قال الشيخ: فتقدم الى الخادم ان يطلق ما أريده، والى صاحب المعونة ان يقف معى، ويحضر كل ما أريده من الصناع، فتقدم حامد بذلك، وكان الزمان صيفا، فاحضر اصناف الروزجايه والبنائين، فكانوا ينقضون بيتا ويطرحون فيه من يبنيه وقيل لصاحب الدار: اكتب جميع ما ذهب منك، فكتب حتى المكنسه والمقدحة، واحضر جميع ذلك.
وصليت العصر، وقد سقفت الدار كلها، وجصصت وغلقت الأبواب ولم يبق الا البياض والطوابيق، فانفذ الى حامد وساله التوقف في البستان، والا يركب منه الى ان يصلى العشاء الأخيرة، وقد بيضت الدار وكنست وفرشت، ولبس الشيخ وعياله الثياب، ودفعت اليهم الصناديق والخزانه مملوءة بالأمتعة.
واجتاز حامد، والناس مجتمعون له كأنه نهار في يوم عيد، فضجوا بالدعاء له، فتقدم الى الجهبذ بخمسه آلاف درهم، يدفعها اليه، يزيدها في بضاعته، وسار حامد الى داره.
وفي هذه السنه، توفى ابو إسحاق ابراهيم بن السرى الزجاج، صاحب المعانى، وكان يخرط الزجاج، فاتى المبرد، وكان يعلم لكل واحد بأجره على قدر معيشته، وقال له: انى اكسب في كل يوم درهما ودانقين، وانى أعطيك درهما، ان تعلمت اولم اتعلم، حتى يفرق الموت بيننا، وآخذ منك، قال: قد رضيت قال: وانفذ اليه بنو مارمه من الصراة يطلبون مؤدبا لأولادهم، فانفذنى اليهم، وكنت اوجه اليه في كل شهر ثلاثين درهما وطلب عبيد الله بن سليمان منه مؤدبا لابنه القاسم، فقال: لا اعرف الا مؤدب بنى مارمه، فكتب اليه عبيد الله فاستنزلهم عنى وادبت القاسم، فكنت اقول له: ان ابلغك الله مبلغ ابيك تعطيني عشرين الف دينار؟ فيقول لي: نعم فما مضت الا سنون حتى ولى الوزارة، وانا على ملازمته، فقال لي باليوم الثالث: ما أراك ذكرتني بالنذر، فقلت: لا احتاج مع رعاية الوزير الى، اذكار خادم واجب الحق، فقال: انه المعتضد، ولولاه ما تعاظمنى ان ادفع ذلك في مكان واحد، ولكنى اخاف ان يصير لي حديثا، فخذه مفترقا، فقلت:
افعل، فقال: اجلس وخذ رقاع اصحاب الحوائج الكبار، ولا تمتنع من مساءلتي في شيء، فكنت اقول ضمن لي في هذه القصة كذا، فكان يقول غبنت فاستزد القوم، فحصل عندي عشرون الف دينار، فقال: حصل عندك مال النذر؟
قلت: لا، فلما حصل ضعفه، اخبرته، فوقع لي الى خازنه بثلاثة الاف دينار، فأخذتها وامتنعت ان اعرض عليه شيئا فلما كان من غد جئته، فأومأ الى، هات ما معك، فقلت: ما أخذت رقعه لان النذر قد وقع الوفاء به، ولم ادر كيف أقع مع الوزير! فقال: سبحان الله! اترانى كنت اقطع عنك شيئا قد صار لك به عاده، وصار لك به عند الناس منزله وغدو ورواح الى بابى، فيظن الناس ان انقطاعه لتغير رتبتك! اعرض على رسمك وخذ بلا حساب، فكنت اعرض عليه الى ان مات.
وحدث والدى رحمه الله، قال أخبرنا القاضى ابو الطيب، قال: حدثنى محمد بن طلحه الردادى، قال: حدثنى القاضى محمد بن احمد بن المخرمى انه جرى بين الزجاج وبين المعروف بمسينه- وكان من اهل العلم- شر، فاتصل، ونسجه ابليس واحكمه، حتى خرج ابراهيم الى حد السفه، فقال مسينه:
ابى الزجاج الا شتم عرضي *** لينفعه فإثمه وضره
واقسم صادقا ما كان حر *** ليطلق لفظه في شتم حره
ولو انى كررت لفر منى *** ولكن للمنون عليه كره
فاصبح قد وقاه الله شرى *** ليوم لا وقاه الله شره
فلما اتصل هذا بالزجاج قصده راجلا، حتى اعتذر وساله الصفح.
وورد الخبر بدخول ابى طاهر سليمان بن الحسن الجنابى البصره سحر يوم الاثنين لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وثلاثمائة، في الف وسبعمائة رجل، وانه وصل إليها بسلاليم نصبها على سورها وقتل الحراس وطرح بين كل مصراعين حمل رمل وحصى.
وقتل سبك المفلحى امير البصره، واحرق المربد، وبعض الجامع، ومسجد قبر طلحه رضى الله عنه، ولم يعرض للقرى وحاربه اهل البصره عشره ايام بالكلا، وهربوا منه، فطرح فيهم السيف، وغرق منهم الكثير، واقام بها سبعه عشر يوما، يحمل على جماله أموالهم، وسار الى بلده.
وادعى ابن الفرات على على بن عيسى، انه كاتب القرامطة، على المصير الى البصره، واحضر ونوظر، فلم يصح عليه امره.
وقال الهمانى: سمعت على بن عيسى، يعنف أبا عبد الله، حين حلفت ان استغلال ضيعتك بواسط عشره آلاف دينار، وقد وجد بها في حساب الهمانى انه يرتفع فيها ثلاثين الف دينار، فقال البريدى: تاسيت بسيدنا حين حلف لابن الفرات، ان استغلال ضيعته الصافية عشرون الف دينار، واستغلالها خمسون ألفا.
وعلم انه مع ديانته، لو لم يعلم ان البقية مباحة عند من يخافه لما حلف، فكانه القم عليا حجرا وامتنع المقتدر من تسليم على بن عيسى الى ابن الفرات، واراد حفظ نفسه، فادى ثمن دار كانت له بالجانب الغربي في سويقه ابى الورد، سبعه آلاف دينار، وقال للمحسن: ما يمكنني أداء مصادرتى في اعتقالى، فالبسه جبه صوف، وصفعه، فقام عند ذلك نازوك وقال: لا احضر مكروه من قبلت يده السنين الكثيره.
فلما علم ابن الفرات بفعل ابنه، لم يشك ان الخليفة ينكر ذلك، فبادر وكتب الى الخليفة، فسأله في على بن عيسى، وقال: هو من مشايخ الكتاب، وعرفه خدمته، فخرج خط المقتدر، بان الصواب ما فعله المحسن، وانه قد شفعه فيه، وحل قيوده.
واشارت زيدان القهرمانه على ابن الفرات، بتسليمه الى شفيع، والا تسلمه الخليفة، فاستدعى وسلمه اليه.
فخرج وقد أقيمت صلاه المغرب، فقدم على فصلى بالناس في المسجد الذى على دجلة.
ومضى مع شفيع فجلس في صدر طيارة، وجلس شفيع بين يديه، واسعف ابن الفرات وابنه على في مصادرته وحمل اليه ابو الهيجاء بن حمدان عشره آلاف دينار، فردها، فحلف ابو الهيجاء انها لا رجعت الى ملكه، ففرقت في الطالبين والفقراء، وبذل له شفيع اموالا فأبى من قبولها، وقال: لا اجمع عليك مئونتي ومعونتى.
ولما صعد درجه شفيع، مد شفيع يده فاتكا عليها، ولما قبض على ابن الفرات، جعل يرجف، فقال له: لم لم تعطني يدك كما أعطيتها عليا؟ فقال: لان عليا اتقى لله منك.
ولما ادى على مصادرته، اذن المقتدر لابن الفرات في ابعاده الى مكة، فاستاجر له جمالا واعطاه نفقه، وانفذ معه ابن الكوثانى صاحبه، فاراد قتل على، فبلغ ذلك اهل مكة فهموا بقتل ابن الكوثانى، فمنع على منه، وحفظه.
وصادر ابن الفرات جميع اسباب على، منهم ابن مقله والشافعى، ولما لم يجد على النعمان بن عبد الله، الذى تاب من التصرف، سبيلا في المصادره، وامتنع من الولاية، احدره الى واسط، وقبض البزوفري عليه من جامعها، لما راى من اكرام اهل البلد له، وأخذ منه سبعه آلاف دينار، ونفى ابن الحوارى الى الأبله، وخنق بالمناره بعد ان عذب، ثم نبشه اهله، وحمل الى بغداد.
وصادر المحسن أبا الحسن على بن مأمون الاسكافى على مائه الف دينار.
وصادر الماذرائيين حين قدموا من مصر على الف وسبعمائة الف دينار.
ونفى ابن مقله الى البصره.
وقدم مؤنس المظفر من الغزو وقد فتح عليه، فاخبر ابن الفرات ما تم على العمال منهم، فسعى به الى المقتدر، فقال له: ما شيء أحب الى من مقامك ببغداد، لانى اجمع بين الانس بقربك والتبرك برأيك، والصواب ان تقيم بالرقة، فتتوسط الاعمال، وتستحث على المال.
فعلم ان ذلك من عمل ابن الفرات، فأجاب اليه، وسئل في الماذرائيين فأطلقوا ونفذ في ذي القعده.
وشرع ابن الفرات في السعاية بنصر القشورى وشفيع المقتدرى، فالتجا نصر الى السيده، فقالت للمقتدر: ان ابن الفرات، ابعد عنك مؤنسا، وهو سيفك، وقد حل له ابعاد حاجبك.
واتفق انه وجد على سطح دار السر في يوم الثلاثاء لخمس خلون من محرم سنه اثنتى عشره وثلاثمائة رجلا أعجميا واقفا، عليه ثياب دبيقيه وتحتها قميص صوف، ومعه محبره وأقلام وورق وحبل، قيل انه دخل مع الصناع وبقي أياما، وعطش فخرج لطلب الماء، فظفر به، وسئل عن حاله، فقال: لا اخاطب غير صاحب الدار، فقال له ابن الفرات: أخبرني عن حالك، فقال: لا اخاطب غير الخليفة، فضرب وهو يقول ندانم حتى قتل بالعقوبة.
وخاطب ابن الفرات نصرا الحاجب بحضره المقتدر، وقال: كيف ترضى بهذا لأمير المؤمنين، وما يجوز ان ترضى به لنفسك، وما سمعنا ان هذا تم على خليفه قط، وهذا الرجل صاحب احمد بن على أخي صعلوك الذى قتله ابن ابى الساج، واما ان يكون قد دسسته ليفتك بامير المؤمنين، لتخوفك على نفسك منه.
وعداوتك لابن ابى الساج، وصداقتك لأحمد بن على، فقال له نصر: ليت شعرى، ادبر على امير المؤمنين لأنه أخذ أموالي، ونكبنى وهتك حرمي، وحبسنى عشر سنين! ولم يزل امر نصر يضعف والسيده مدافعه عنه.
وكان يوسف بن ابى الساج، حين قلد اعمال الري، قتل بها احمد بن على، أخا صعلوك، وانفذ برأسه الى مدينه السلام.
ولليلتين خلتا من شعبان، قرئت الكتب على المنابر بمدينه السلام بفتح مؤنس المظفر في بلد الروم، وامر فيه المقتدر برفع المواريث الحشريه، كما فعل ذلك المعتضد بالله رحمه الله.