ففيها كان خروج علي بْن عيسى بْن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا، فقتله بها،وسبى نساءه وذراريه، واستقامت خراسان …
وفيها حبس الرشيد ثمامة بْن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بْن عيسى بْن زيد.
وفيها مات جعفر بْن أبي جعفر المنصور عند هرثمة وتوفي العباس بْن محمد ببغداد.
ذكر حج الرشيد ثم كتابته العهد لابنائه
وحج بالناس فيها هارون الرشيد، وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان من هذه السنة، فمر بالأنبار، ولم يدخل مدينة السلام، ولكنه نزل منزلا على شاطئ الفرات يدعى الدارات، بينه وبين مدينة السلام سبعة فراسخ، وخلف بالرقة إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك، وأخرج معه ابنيه: محمدا الأمين وعبد الله المأمون، وليي عهده، فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاثة أعطية، كانوا يقدمون إليه فيعطيهم عطاء، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاء ثانيا، ثم إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثا، ثم صار الى مكة فاعطى أهلها، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وكان الرشيد عقد لابنه محمد ولاية العهد- فيما ذكر محمد بْن يزيد عن إبراهيم بْن محمد الحجبي- يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسماه الأمين، وضم إليه الشام والعراق في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم بايع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولاه من حد همذان إلى آخر المشرق، فقال في ذلك سلم بْن عمرو الخاسر:
بايع هارون إمام الهدى *** لذي الحجى والخلق الفاضل
المخلف المتلف أمواله *** والضامن الأثقال للحامل
والعالم النافذ في علمه *** والحاكم الفاضل والعادل
والراتق الفاتق حلف الهدى *** والقائل الصادق والفاعل
لخير عباس إذا حصلوا *** والمفضل المجدي على العائل
أبرهم برا وأولاهم *** بالعرف عند الحدث النازل
لمشبه المنصور في ملكه *** إذا تدجت ظلمة الباطل
فتم بالمأمون نور الهدى *** وانكشف الجهل عن الجاهل
وذكر الحسن بْن قريش أن القاسم بن الرشيد، كان في حجر عبد الملك ابن صالح، فلما بايع الرشيد لمحمد والمأمون، كتب إليه عبد الملك بْن صالح:
يأيها الملك الذي *** لو كان نجما كان سعدا
اعقد القاسم بيعة *** واقدح له في الملك زندا
الله فرد واحد *** فاجعل ولاة العهد فردا
فكان ذلك أول ما حض الرشيد على البيعة للقاسم ثم بايع للقاسم ابنه، وسماه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، فقال في ذلك:
حب الخليفة حب لا يدين به ***من كان لله عاص يعمل الفتنا
الله قلد هارونا سياستنا *** لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا
وقلد الارض هارون لرأفته *** بنا أمينا ومأموما ومؤتمنا
قال: ولما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة، قَالَ بعض العامة: قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك، فقال بعضهم:
أقول لغمة في النفس مني *** ودمع العين يطرد اطرادا
خذي للهول عدته بحزم *** سنلقى ما سيمنعك الرقادا
فإنك إن بقيت رأيت أمرا ***يطيل لك الكآبة والسهادا
رأى الملك المهذب شر رأى*** بقسمته الخلافة والبلادا
رأى ما لو تعقبه بعلم *** لبيض من مفارقه السوادا
أراد به ليقطع عن بنيه *** خلافهم ويبتذلوا الودادا
فقد غرس العداوة غير آل *** وأورث شمل ألفتهم بدادا
وألقح بينهم حربا عوانا *** وسلس لاجتنابهم القيادا
فويل للرعية عن قليل *** لقد أهدى لها الكرب الشدادا
وألبسها بلاء غير فان *** وألزمها التضعضع والفسادا
ستجري من دمائهم بحور ***زواخر لا يرون لها نفادا
فوزر بلائهم أبدا عليه *** أغيا كان ذلك أم رشادا
قال: وحج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ست وثمانين ومائة، وخلف بالرقة إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فانزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة أراءهم فيهما، أحدهما على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته ومن كان في الكعبه معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من اراد إخراجهما والذهاب بهما، فذكر عبد الله بْن محمد ومحمد بْن يزيد التميمي وإبراهيم الحجبي، أن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء، وادخلوا البيت الحرام، وامر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل إن هذا الأمر سريع انتقاضه قبل تمامه وكانت نسخة الْكِتَابِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بْن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره أن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعا، وولى عبد الله بن هارن العهد والخلافه وجميع امور المسلمين بعدي، برضا منى وتسليم، طائعا غير مكره، وولاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرزها وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعده وشرطت لعبد الله هارون امير المؤمنين برضا مني وطيب نفسي، أن لأخي عبد الله بْن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعا بعدي، وتسليم ذلك له، وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما اقطعه امير المؤمنين من قطعيه، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير، فهو لعبد الله بْن هارون أمير المؤمنين، موفرا مسلما إليه وقد عرفت ذلك كله شيئا شيئا فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافه الى محمد ابن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله ابن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين، وان يمضى عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله بن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب، من لدن الري الى اقصى عمل خراسان فليس لمحمد ابْن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائدا ولا مقودا ولا رجلا واحدا ممن ضم اليه من اصحابه الذين ضمهم الى أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابْن امير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلى همذان الى أقصى خراسان وثغورها وبلادها، وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه إليه، ولا يفرق أحدا من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحدا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بندارا، ولا محاسبا ولا عاملا، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضررا، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته وقضاته وعماله وكتابه وقواده وخدمه ومواليه وجنده، بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم ولا قراباتهم ولا مواليهم، ولا احد بسبيل منهم، ولا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في ضياعهم ودورهم ورباعهم وأمتعتهم ورقيقهم ودوابهم شيئا من ذلك صغيرا ولا كبيرا، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك وادهان منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته. وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله بن أمير المؤمنين عاصيا له أو مخالفا عليه، فعلى محمد بْن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابْن أمير المؤمنين بصغر له وقماء حتى ينفذ فيه رأيه وأمره.
فإن أراد محمد بن امير المؤمنين خلع عبد الله ابْن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله بن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها مما يلي همذان والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلا أو كثيرا مما جعله أمير المؤمنين له بوجه من الوجوه، أو بحيلة من الحيل، صغرت أو كبرت، فلعبد الله بْن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن امير المؤمنين، وهو ولى الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه، ما كانت الحياة في أبدانهم وليس لأحد منهم جميعا من كانوا، أو حيث كانوا، أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته، واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام في هذا الكتاب وعبد الله ابْن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم لمحمد ابْن أمير المؤمنين هارون إن نقص شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بْن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابْن أمير المؤمنين هارون ويسلم له الخلافة.
وليس لمحمد ابن امير المؤمنين هارون ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن يخلعا القاسم ابْن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحدا من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية، فإذا افضت الخلافه الى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، او صرف ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب ورأى. فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابْن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمه رسوله صلى الله عليه وسلم وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين والمرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى وكتب في كتابه هذا، واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم، فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئا، أو غيرتم، أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذرا واجبا لا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك، وكل مملوك لآحد منكم- أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين سنة- حر، وكل امرأة له فهي طالق ثلاثا البتة طلاق الحرج، لا مثنوية فيها والله عليكم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا.
نسخة الشرط الذي كتب عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بْن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، وشرط على محمد بْن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني امير المؤمنين، او ابتاع لي من الضياع والعقد والرباع او ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أبدا، ولا يدخل علي ولا عليهم ولا على من كان معي ومن استعنت به من جميع الناس مكروها، في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير.
فأجابه إلى ذلك، وأقر به وكتب له كتابا، أكد فيه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله، وعرف صدق نيته فيه فشرطت لأمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد وأطيع ولا أعصيه، وأنصحه ولا اغشه، واوفى بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن موازرته وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمرا من الأمور التي شرطها امير المؤمنين لي عليه.
فان احتاج محمد بن امير المؤمنين الى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو إلى عدو من أعدائه، خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا وولانا إياه، فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي وإن أراد محمد أن يولي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي، فذلك له ما وفى لي بما جعله أمير المؤمنين إلي واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له به، ولا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدا من ولدي، ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحدا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء له وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد علي الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفي لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا الكتاب الذي كتبه لي، وعلي عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عن نقضها وتبديلها، فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقيت الله يوم القيامة كافرا مشركا، وكل امرأه هي لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا ألبتة طلاق الحرج، وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذرا واجبا علي في عنقي حافيا راجلا، لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره.
وشهد سليمان بْن أمير المؤمنين وفلان وفلان وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة.
نسخة كتاب هارون بْن محمد الرشيد إلى العمال
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه، وهو المحمود على جميع آلائه، المسؤول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به، ويوجب له عليه أحسن المزيد من فضله وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين، من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة، ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما والثقة بهما، لعماد دينهم، وقوام أمورهم، وجمع ألفتهم، وصلاح دهمائهم، ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم، حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم وصفقات أيمانهم، بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم أراد الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرف له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمة كافة، لا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد ابْن أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين ولعبد الله ابْن أمير المؤمنين من بعد محمد ابْن أمير المؤمنين، يعمل فكره ورأيه ونظره ورويته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم، من أهل الكفر والنفاق والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك، ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما ولجميع الأمة، والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما فعزم الله لأمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله، وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع ألفتهما ومودتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم، والجهاد لعدو المسلمين، من كانوا وحيث كانوا، وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة، ومسر لها، وكل منافق ومارق، واهل الأهواء الضالة المضلة من تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة، والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة، نظرا من أمير المؤمنين لدينه ورعيته وأمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذبا عن سلطان الله الذي قدره، وتوحد فيه للذي حمله إياه، والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه، والوسيلة عنده.
فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما، بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده وصحابته وقضاته وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليهما كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة.
فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة، أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا كتابهما، أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحاج والعمار ووفود الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما، وقراءة ذلك عليهم ليفهموه ويعوه، ويعرفوه ويحفظوه، ويؤدوه إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعا في المسجد الحرام، فانصرفوا وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم وحقن دمائهم، ولم شعثهم وإطفاء جمرة أعداء الله، أعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك.
وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه، هذا فاحمد الله عز وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمدا كثيرا، واشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعه أمه محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا.
واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين، وأفهمهم إياه وقم به بينهم، وأثبته في الديوان قبلك وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وبه الحول والقوة والطول.
وكتب إسماعيل بْن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة.
قَالَ: وأمر هارون الرشيد لعبد الله المأمون بمائة ألف دينار، وحملت له إلى بغداد من الرقة.
قَالَ وكان الرشيد بعد مقتل جعفر بْن يحيى بالعمر، صار إلى الرقة، ثم قدم بغداد، وقد كانت توالت عليه الشكاية من علي بْن عيسى بْن ماهان من خراسان وكثر عليه القول عنده، فأجمع على عزله من خراسان، وأحب أن يكون قريبا منه فلما صار إلى بغداد شخص بعد مدة منها إلى قرماسين، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة، وأشخص إليها عدة رجال من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سواه اجمع لعبد الله المأمون، وانه ليس فيه قليل ولا كثير بوجه ولا سبب، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بْن هارون أمير المؤمنين وعلى من كان بحضرته لعبد الله والقاسم على النسخة التي كان أخذها عليه الرشيد بمكة، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله إذا أفضت إليه الخلافة، فقال:
إبراهيم الموصلي في بيعة هارون لابنيه في الكعبة:
خير الأمور مغبة *** وأحق أمر بالتمام
أمر قضى إحكامه الرحمان *** في البيت الحرام