ذكر خروج يوسف البرم، فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بْن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكرا هو ومن تبعه …
ممن كان على رأيه على المهدي- فيما زعم- الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه- فيما ذكر- بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بْن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرم على بعير قد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بْن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله، لأنه كان قتل أخا لهرثمه بخراسان
ذكر خبر خلع عيسى بن موسى وبيعه موسى الهادي
وفيها قدم عيسى بْن موسى مع أبي هريرة يوم الخميس لست خلون من المحرم- فيما ذكر- الفضل بْن سليمان فنزل دارا كانت لمحمد بْن سليمان على شاطئ دجلة في عسكر المهدي، فأقام أياما يختلف إلى المهدي، ويدخل مدخله الذي كان يدخله، لا يكلم بشيء، ولا يرى جفوة ولا مكروها ولا تقصيرا به، حتى أنس به بعض الأنس، ثم حضر الدار يوما قبل جلوس المهدي، فدخل مجلسا كان يكون للربيع في مقصورة صغيرة، وعليها باب، وقد اجتمع رؤساء الشيعة في ذلك اليوم على خلعه والوثوب عليه، ففعلوا ذلك وهو في المقصورة التي فيها مجلس الربيع، فأغلق دونهم المقصورة، فضربوا الباب بجرزهم وعمدهم، فهشموا الباب، وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح الشتم، وحصروه هنالك، وأظهر المهدي إنكارا لما فعلوا، فلم يردعهم ذلك عن فعلهم، بل شدوا في أمره، وكانوا بذلك هو وهم أياما، إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من أهل بيته بحضرة المهدي، فأبوا إلا خلعه، وشتموه في وجهه، وكان أشدهم عليه محمد بْن سليمان.
فلما رأى المهدي ذلك من رأيهم وكراهتهم لعيسى وولايته، دعاهم إلى العهد لموسى، فصار إلى رأيهم وموافقتهم، وألح على عيسى في إجابته وإياهم إلى الخروج مما له من العهد في أعناق الناس وتحليلهم منه، فأبى، وذكر أن عليه أيمانا محرجة في ماله وأهله، فأحضر له من الفقهاء والقضاة عدة، منهم محمد بْن عبد الله بْن علاثة والزنجي بن خالد المكى وغيرهما، فاتوه بما رأوا، وصار الى المهدى ابتياع ماله من البيعة في أعناق الناس بما يكون له فيه رضا وعوض، مما يخرج له من ماله لما يلزمه من الحنث في يمينه، وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر فقبل ذلك عيسى، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن أجاب محتسبا عنده في دار الديوان من الرصافة إلى أن صار إلى الرضا بالخلع والتسليم، والى أن خلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر، فبايع للمهدي ولموسى من بعده من الغد يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم لارتفاع النهار ثم أذن المهدي لأهل بيته، وهو في قبة كان محمد بْن سليمان أهداها له مضروبة في صحن الأبواب، ثم أخذ بيعتهم رجلا رجلا لنفسه ولموسى بْن المهدي من بعده، حتى أتى إلى آخرهم.
ثم خرج إلى مسجد الجماعة بالرصافة فقعد على المنبر، وصعد موسى حتى كأنه دونه وقام عيسى على أول عتبة من المنبر، فحمد الله المهدي وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بما أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره وغيرهم من أهل خراسان من خلع عيسى بْن موسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق الناس لموسى بْن أمير المؤمنين، لاختيارهم له ورضاهم به، وما رأى من إجابتهم إلى ذلك، لما رجا من مصلحتهم وألفتهم، وخاف مخالفتهم في نياتهم واختلاف كلمتهم، وأن عيسى قد خلع تقدمه، وحللهم مما كان له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى بْن أمير المؤمنين، بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته وشيعته في ذلك، وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم بأحسن السيرة وأعدلها، فبايعوا معشر من حضر، وسارعوا إلى ما سارع إليه غيركم، فإن الخير كله في الجماعة، والشر كله في الفرقة وأنا أسأل الله لنا ولكم التوفيق برحمته، والعمل بطاعته وما يرضيه، وأستغفر الله لي ولكم وجلس موسى دونه معتزلا للمنبر، لئلا يحول بينه وبين من صعد إليه، يبايعه ويمسح على يده، ولا يستر وجهه، وثبت عيسى قائما في مكانه، وقرئ عليه كتاب ذكر الخلع له، وخروجه مما كان إليه من ولاية العهد وتحليله جماعة من كان له في عنقه بيعة، مما عقدوا له في أعناقهم، وأن ذلك من فعله وهو طائع غير مكره، راض غير ساخط، محب غير مجبر فأقر عيسى بذلك، ثم صعد فبايع المهدي، ومسح على يده، ثم انصرف، وبايع أهل بيت المهدي على أسنانهم، يبايعون المهدي ثم موسى، ويمسحون على أيديهما، حتى فرغ آخرهم، وفعل من حضر من أصحابه ووجوه القواد والشيعة مثل ذلك، ثم نزل المهدى، فصار الى منزله، ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خاله يزيد بْن منصور، فتولى ذلك حتى فرغ من جميع الناس، ووفى المهدي لعيسى بما أعطاه وأرضاه مما خلعه منه من ولاية العهد، وكتب عليه بخلعه إياه كتابا أشهد عليه فيه جماعة أهل بيته وصحابته وجميع شيعته وكتابه وجنده في الدواوين، ليكون حجة على عيسى، وقطعا لقوله ودعواه فيما خرج منه.
وهذه نسخة الشرط الذي كتبه عيسى على نفسه:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهد المسلمين موسى بْن المهدي، ولأهل بيته وجميع قواده وجنوده من أهل خراسان وعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وحيث كان كائن منهم، كتبته للمهدي محمد أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين موسى بْن محمد ابن عبد الله بْن محمد بْن علي، فيما جعل إليه من العهد إذ كان إلي، حتى اجتمعت كلمة المسلمين، واتسق أمرهم، وائتلفت أهواؤهم، على الرضا بولاية موسى بْن المهدي محمد أمير المؤمنين، وعرفت الخط في ذلك علي والخط فيه لي، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون من الرضا بموسى بْن أمير المؤمنين، والبيعة له، والخروج مما كان لي في رقابهم من البيعة، وجعلتكم في حل من ذلك وسعة، من غير حرج يدخل عليكم، أو على أحد من جماعتكم وعامة المسلمين، وليس في شيء من ذلك، قديم ولا حديث لي دعوى ولا طلبة ولا حجة ولا مقالة ولا طاعة على أحد منكم، ولا على عامة المسلمين ولا بيعة في حياة المهدي محمد أمير المؤمنين ولا بعده ولا بعد ولي عهد المسلمين موسى، ولا ما كنت حيا حتى أموت وقد بايعت لمحمد المهدي أمير المؤمنين ولموسى بْن أمير المؤمنين من بعده، وجعلت لهما ولعامة المسلمين من أهل خراسان وغيرهم الوفاء بما شرطت على نفسي في هذا الأمر الذي خرجت منه، والتمام عليه علي بذلك عهد الله وما اعتقد أحد من خلقه من عهد أو ميثاق أو تغليظ أو تأكيد على السمع والطاعة والنصيحة للمهدي محمد أمير المؤمنين وولى عهده موسى ابن أمير المؤمنين، في السر والعلانية، والقول والفعل، والنيه والشده والرجاء والسراء والضراء والموالاة لهما ولمن والاهما، والمعاداة لمن عاداهما، كائنا من كان في هذا الأمر الذي خرجت منه فإن أنا نكبت أو غيرت أو بدلت أو دغلت أو نويت غير ما أعطيت عليه هذه الأيمان، أو دعوت إلى خلاف شيء مما حملت على نفسي في هذا الكتاب للمهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهده موسى ابن أمير المؤمنين ولعامة المسلمين، أو لم أف بذلك، فكل زوجة عندي يوم كتبت هذا الكتاب- أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة- طالق ثلاثا ألبتة طلاق الحرج وكل مملوك عندي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وكل مال لي نقد أو عرض أو قرض أو أرض، أو قليل أو كثير، تالد أو طارف أو أستفيده فيما بعد اليوم إلى ثلاثين سنة صدقة على المساكين، يضع ذلك الوالي حيث يرى، وعلي من مدينة السلام المشي حافيا إلى بيت الله العتيق الذي بمكة نذرا واجبا ثلاثين سنة، لا كفارة لي ولا مخرج منه، إلا الوفاء به.
والله على الوفاء بذلك راع كفيل شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً* وشهيد على عيسى ابن موسى باقراره بما في هذا الشرط أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة.
وكتب في صفر سنة ستين ومائة وختم عيسى بْن موسى. فقال بعض الشعراء:
كره الموت أبو موسى وقد *** كان في الموت نجاء وكرم
خلع الملك وأضحى ملبسا *** ثوب لوم ما ترى منه القدم
وفي سنة ستين ومائة وافى عبد الملك بْن شهاب المسمعي مدينة باربد بمن توجه معه من المطوعة وغيرهم، فناهضوها بعد قدومهم بيوم، وأقاموا عليها يومين، فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة، وتحاشد الناس، وحض بعضهم بعضا بالقرآن والتذكير، ففتحها الله عليهم عنوة، ودخلت خيلهم من كل ناحية، حتى ألجئوهم إلى بدهم، فأشعلوا فيها النيران والنفط، فاحترق منهم من احترق، وجاهد بعضهم المسلمين، فقتلهم الله أجمعين، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلا، وأفاءها الله عليهم وهاج البحر فلم يقدروا على ركوبه والانصراف، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم في أفواههم داء يقال له حمام قر، فمات نحو من ألف رجل، منهم الربيع بْن صبيح ثم انصرفوا لما أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلا من فارس، يقال له بحر حمران، فعصفت عليهم فيه الريح ليلا، فكسرت عامة مراكبهم، فغرق منهم بعض ونجا بعض، وقدموا معهم بسبي من سبيهم- فيهم بنت ملك باربد- على محمد بْن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة.
وفيها صير أبان بْن صدقة كاتبا لهارون بْن المهدي ووزيرا له.
وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، وولي مكانه معاذ بْن مسلم وفيها غزا ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة.
وفيها غزا الغمر بْن العباس الخثعمى بحر الشام.
ذكر خبر رد نسب آل بكره وآل زياد
وفيها رد المهدى آل بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سبب ذلك أن رجلا من آل أبي بكرة رفع ظلامة إلى المهدي، وتقرب اليه فيها بولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المهدي: أن هذا نسب واعتزاء، ما تقرون به إلا عند حاجة تعرض لكم، وعند اضطراركم إلى التقرب به إلينا فقال الحكم: يا أمير المؤمنين، من جحد ذلك فإنا سنقر، أنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ص، وتأمر بآل زياد بْن عبيد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقهم به معاوية رغبة عن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيردوا إلى نسبهم من عبيد في موالي ثقيف فأمر المهدي في آل أبي بكرة وآل زياد أن يرد كل فريق منهم إلى نسبه، وكتب إلى محمد بْن سليمان كتابا وأمره أن يقرأ في مسجد الجماعة على الناس، وأن يرد آل أبي بكرة إلى ولائهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبهم الى نفيع ابن مسروح، وأن يرد على من أقر منهم ما أمر برده عليهم من أموالهم بالبصرة مع نظرائهم، ممن أمر برد ماله عليه، والا يرد على من أنكر منهم، وأن يجعل الممتحن منهم والمستبرئ لما عندهم الحكم بْن سمرقند فأنفذ محمد ما أتاه في آل أبي بكرة إلا في أناس منهم غيب عنهم.
وأما آل زياد فإنه مما قوى رأي المهدي فيهم- فيما ذكر علي بْن سليمان- أن أباه حدثه، قَالَ: حضرت المهدي وهو ينظر في المظالم إذ قدم عليه رجل من آل زياد يقال له الصغدي بْن سلم بْن حرب، فقال له: من أنت؟
قَالَ: ابن عمك، قَالَ: أي ابن عمي أنت؟ فانتسب إلى زياد، فقال له المهدى: يا بن سمية الزانية، متى كنت ابن عمي! وغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وأخرج، ونهض الناس قَالَ: فلما خرجت لحقني عيسى بْن موسى- أو موسى بْن عيسى- فقال: أردت والله أن أبعث إليك، أن أمير المؤمنين التفت إلينا بعد خروجك، فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فو الله ما كان عند أحد منا من ذاك شيء، فما عندك يا أبا عبد الله؟ فما زلت أحدثه في زياد وآل زياد حتى صرنا إلى منزله بباب المحول، فقال: أسألك بالله والرحم لما كتبت لي هذا كله حتى أروح به إلى أمير المؤمنين، وأخبره عنك فانصرفت فكتبت، وبعثت به إليه فراح إلى المهدي، فأخبره، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد، وكان والي البصرة من قبله يأمره أن يكتب إلى واليها يأمره أن يخرج آل زياد من قريش وديوانهم والعرب، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أقر منهم ترك ماله في يده، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله.
فعرضهم، فأقروا جميعا بالولاء، إلا ثلاثة نفر، فاصطفيت أموالهم.
ثم إن آل زياد بعد ذاك رشوا صاحب الديوان حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار في ذلك:
إن زيادا ونافعا وأبا *** بكرة عندي من أعجب العجب
ذا قرشي كما يقول، وذا *** مولى، وهذا- بزعمه- عربي
نسخة كتاب المهدي إلى والي البصرة في رد آل زياد إلى نسبهم
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن أحق ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصهم وعوامهم في أمورهم وأحكامهم، العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصبر على ذلك، والمواظبة عليه، والرضا به فيما وافقهم وخالفهم، للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه، واتباع مرضاته، وإحراز جزائه وحسن ثوابه، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة.
وقد كان من رأي معاوية بْن أبي سفيان في استلحاقه زياد بْن عبيد عبد آل علاج من ثقيف، وادعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأمه من اهل الرضا والفضل والورع والعلم، ولم يدع معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى، ولا اتباع سنة هادية، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية، إلا الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسنة والعجب بزياد في جلده ونفاذه، وما رجا من معونته وموازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وآثاره وأعماله الخبيثة.
وقد قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، وقال: «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه لا صرفا ولا عدلا».
ولعمري ما ولد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عبيد عبدا لأبي سفيان، ولا سمية أمة له، ولا كانا في ملكه، ولا صارا إليه لسبب من الأسباب ولقد قَالَ معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بْن الحجاج بْن علاط السلمي ومن كان معه من موالي بني المغيرة المخزوميين وإرادتهم استلحاقه وإثبات دعوته، وقد أعد لهم معاوية حجرا تحت بعض فرشه فألقاه إليهم، فقالوا له: نسوغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا، فقال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم من قضاء معاوية فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه، أمر الله جل وعز وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع في ذلك هواه رغبة عن الحق ومجانبة له، وقد قَالَ الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ} [القصص: 50] ، وقال لداود صلى الله عليه وسلم «وقد أتاه الحكم والنبوة والمال والخلافة»: {يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ} [ص: 26] الآية إلى آخرها.
فأمير المؤمنين يسأل الله أن يعصم له نفسه ودينه، وأن يعيذه من غلبة الهوى، ويوفقه في جميع الأمور لما يحب ويرضى، إنه سميع قريب.
وقد رأى أمير المؤمنين أن يرد زيادا ومن كان من ولده إلى أمهم ونسبهم المعروف ويلحقهم بأبيهم عبيد، وأمهم سمية، ويتبع في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان أمير المؤمنين أحق من أخذ بذلك وعمل به، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه آثاره وإحيائه سنته، وإبطاله سنن غيره الزائغة الجائرة عن الحق والهدى.
وقد قَالَ الله جل وعز: {فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] .
فاعلم أن ذلك من رأي أمير المؤمنين في زياد، وما كان من ولد زياد فألحقهم بأبيهم زياد بْن عبيد، وأمهم سمية، واحملهم عليه، وأظهره لمن قبلك من المسلمين حتى يعرفوه ويستقيم فيهم، فإن أمير المؤمنين قد كتب إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم بذلك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب معاوية بْن عبيد الله في سنة تسع وخمسين ومائة فلما وصل الكتاب إلى محمد بن سليمان وقع بانقاذه، ثم كلم فيهم، فكف عنهم، وقد كان كتب إلى عبد الملك بْن أيوب بْن ظبيان النميري بمثل ما كتب به إلى محمد، فلم ينفذه لموضعه من قيس، وكراهته أن يخرج أحد من قومه إلى غيرهم.
وفيها كانت وفاة عبيد الله بْن صفوان الجمحي، وهو وال على المدينة، فولى مكانه محمد بْن عبد الله الكثيري، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزل وولى مكانه زفر بْن عاصم الهلالي وولى المهدي قضاء المدينة فيها عبد الله بْن محمد بْن عمران الطلحي.
وفيها خرج عبد السلام الخارجي، فقتل.
وفيها عزل بسطام بْن عمرو عن السند، واستعمل عليها روح بْن حاتم.
وحج بالناس في هذه السنة المهدي، واستخلف على مدينته حين شخص عنها ابنه موسى، وخلف معه يزيد بْن منصور خال المهدي وزيرا له ومدبرا لأمره.
وشخص مع المهدي في هذه السنة ابنه هارون وجماعة من أهل بيته، وكان ممن شخص معه يعقوب بْن داود، على منزلته التي كانت له عنده، فأتاه حين وافى مكة الحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله بْن الحسن الذي استأمن له يعقوب من المهدي على أمانة، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالا من الصوافي بالحجاز.
وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة، وذلك أن حجبة الكعبة- فيما ذكر- رفعوا إليه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجرده، ثم طلى البيت كله بالخلوق، وذكر أنهم لما بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجا ثخينا جيدا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن.
وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها- فيما ذكر- مالا عظيما، وفي أهل المدينة كذلك، فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي منه ما كان معاوية زاد فيه، فذكر عن مالك بْن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسر، فتركه المهدي.
وامر ايام مقامه بالمدينة باثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرسا له بالعراق وأنصارا، وأجرى عليهم أرزاقا سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه ببغداد قطيعة تعرف بهم وتزوج في مقامه بها برقية بنت عمرو العثمانية.
وفي هذه السنة حمل محمد بْن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى به مكة، فكان المهدي أول من حمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء.
وفيها رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت مقبوضة عنهم وكان على صلاة الكوفة وأحداثها في هذه السنة إسحاق بْن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك وعلى البصرة وأحداثها وأعمالها المفردة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بْن سليمان وكان على قضاء البصرة فيها عبيد الله بْن الحسن وعلى خراسان معاذ بْن مسلم، وعلى الجزيرة الفضل بْن صالح، وعلى السند روح بْن حاتم وعلى إفريقية يزيد بن حاتم وعلى مصر محمد بْن سليمان أبو ضمرة.