ففي هَذِهِ السنة كَانَتْ غزوة مالك بن عَبْدِ اللَّهِ سورية ودخول جناده ابن ابى اميه رودس، وهدمه مدينتها، في قول الواقدى …
ذكر عهد معاويه لابنه يزيد
وفيها كَانَ أخذ مُعَاوِيَة عَلَى الوفد الَّذِينَ وفدوا إِلَيْهِ مع عُبَيْد اللَّهِ بن زياد البيعة لابنه يَزِيد، وعهد إِلَى ابنه يَزِيد حين مرض فِيهَا مَا عهد إِلَيْهِ فِي النفر الَّذِينَ امتنعوا من البيعة ليزيد حين دعاهم إِلَى البيعة.
وَكَانَ عهده الَّذِي عهد، مَا ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة، أن مُعَاوِيَة لما مرض مرضته الَّتِي هلك فِيهَا دعا يَزِيد ابنه، فَقَالَ: يَا بني، إني قَدْ كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هَذَا الأمر الَّذِي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش:
الْحُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عُمَرَ، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ، وعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فأما عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فرجل قَدْ وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حَتَّى يخرجوه، فإن خرج عَلَيْك فظفرت بِهِ فاصفح عنه فإن لَهُ رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل إن رَأَى أَصْحَابه صنعوا شَيْئًا صنع مثلهم، ليس لَهُ همة إلا فِي النساء واللهو، وأما الَّذِي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزُّبَيْر، فإن هُوَ فعلها بك فقدرت عَلَيْهِ فقطعه إربا إربا.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: قَدْ سمعنا فِي حديث آخر أن مُعَاوِيَة لما حضره الموت- وَذَلِكَ فِي سنة ستين- وَكَانَ يَزِيد غائبا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري- وَكَانَ صاحب شرطته- ومسلم بن عُقْبَةَ المري، فأوصى إليهما فَقَالَ: بلغا يَزِيد وصيتي، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عَلَيْك مِنْهُمْ، وتعاهد من غاب، وأنظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عَنْهُمْ كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عَلَيْك مائة ألف سيف، وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شَيْء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إِلَى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حُسَيْن بن علي، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد الله ابن الزُّبَيْرِ، فأما ابن عمر فرجل قَدْ وقذه الدين، فليس ملتمسا شَيْئًا قبلك، وأما الْحُسَيْن بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه اللَّه بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن لَهُ رحما ماسة، وحقا عظيما، وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، وَلا أظن أهل العراق تاركيه حَتَّى يخرجوه، فإن قدرت عَلَيْهِ فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزُّبَيْر فإنه خب ضب، فإذا شخص لك فألبد لَهُ، إلا أن يلتمس مِنْكَ صلحا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك مَا استطعت
ذكر وفاه مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ
وفي هَذِهِ السنة هلك مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ بدمشق، فاختلف فِي وقت وفاته بعد إجماع جميعهم عَلَى أن هلاكه كَانَ فِي سنة ستين من الهجره، وفي رجب منها، فَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة لهلال رجب من سنة ستين.
وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مات مُعَاوِيَة للنصف من رجب.
وَقَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد: مات مُعَاوِيَة بدمشق سنة ستين يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحَارِث عنه
ذكر الخبر عن مدة ملكه
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت الرازي، قال: حدثني من سمع إسحاق بن عِيسَى يذكر عن أبي معشر، قَالَ: بويع لمعاوية بأذرح، بايعه الْحَسَن بن علي فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وتوفي مُعَاوِيَة فِي رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشره سنه وثلاثة اشهر.
وحدثني الحارث، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالُوا:
تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سَنَةً وَثَلاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، قَالَ: بايع أهل الشام مُعَاوِيَة بالخلافة فِي سنة سبع وثلاثين فِي ذي القعدة حين تفرق الحكمان، وكانوا قبل بايعوه عَلَى الطلب بدم عُثْمَان، ثُمَّ صالحه الْحَسَن بن علي، وَسَلَّمَ لَهُ الأمر سنة إحدى وأربعين، لخمس بقين من شهر ربيع الأول، فبايع الناس جميعا مُعَاوِيَة، فقيل: عام الجماعة، ومات بدمشق سنة ستين، يوم الخميس لثمان بقين من رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يَوْمًا.
قَالَ: ويقال: كَانَ بين موت علي ع وموت مُعَاوِيَة تسع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاث ليال وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: بويع لمعاوية بالخلافة فِي جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فولى تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر إلا أياما، ثُمَّ مات لهلال رجب من سنة ستين
ذكر مده عمره
واختلفوا فِي مدة عمره، وكم عاش؟ فَقَالَ بعضهم: مات يوم مات وَهُوَ ابن خمس وسبعين سنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: سَأَلَنِي الْوَلِيدُ عَنْ أَعْمَارِ الْخُلَفَاءِ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ! إِنَّ هَذَا لَعُمْرٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وسبعين سنة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير قَالَ: قَالَ عَلِيّ بن مُحَمَّد:
مات مُعَاوِيَة وَهُوَ ابن ثلاث وسبعين، قَالَ: ويقال ابن ثمانين سنة.
وَقَالَ آخرون: توفي وَهُوَ ابن ثمان وسبعين سنة.
ذكر من قَالَ ذلك:
حدثني الحارث، قَالَ: حدثنا محمد بن سعد، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: تُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ عَنْ أَبِيهِ ذكر العلة الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وفاته
حَدَّثَنِي الحارث، قال: حدثنا مُحَمَّد بن سعد، قال: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، قَالَ لأَهْلِهِ: احْشُوا عَيْنِي إِثْمِدًا، وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا، فَفَعَلُوا، وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بِالدُّهْنِ، ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ، فَجَلَسَ وَقَالَ:
أَسْنِدُونِي، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا قِيَامًا، وَلا يَجْلِسْ أَحَدٌ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ قَائِمًا فَيَرَاهُ مُكْتَحِلا مُدَّهِنًا فَيَقُولُ: يَقُولُ النَّاسُ: هُوَ لِمَآبِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُريهم *** أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لا أَتَضَعْضَعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا *** أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
قَالَ: وَكَانَ بِهِ النُّفَاثَاتُ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عن إِسْحَاق بن أيوب، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بن ميناس الكلبي، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَة، لابنتيه فِي مرضه الَّذِي مات فِيهِ وهما تقلبانه: تقلبان حولا قلبا، جمع المال من شب إِلَى دب إن لم يدخل النار، ثُمَّ تمثل:
لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب *** وَقَدْ كفيتكم التطواف والرحلا
ويقال: من جمع ذي حسب.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَسَانِي قَمِيصًا فَرَفَعْتُهُ.
وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ يَوْمًا، فَأَخَذْتُ قُلامَتَهُ فَجَعَلْتُهَا فِي قَارُورَةٍ، فَإِذَا مِتُّ فَأَلْبِسُونِي ذَلِكَ الْقَمِيصَ، وَقَطِّعُوا تِلَكَ الْقُلامَةَ، وَاسْحَقُوهَا وَذَرُوهَا فِي عَيْنِي، وَفِي فِيَّ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْحَمَنِي بِبَرَكَتِهَا! ثُمَّ قَالَ مُتَمَثِّلا بِشِعْرِ الأَشْهَبِ بْنِ رُمَيْلَةَ النَّهْشَلِيِّ يَمْدَحُ بِهِ الْقُبَاعَ:
إِذَا مِتَّ مَاتَ الْجُودُ وَانْقَطَعَ النَّدَى *** مِنَ النَّاسِ إِلا مِنْ قَلِيلٍ مُصَرَّدِ
وَرُدَّتْ أَكُفُّ السَّائِلِينَ وَأَمْسَكُوا *** مِنَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِخَلَفٍ مُجَدَّدِ
فَقَالَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ- أَوْ غَيْرُهَا: كَلا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْكَ، فَقَالَ مُتَمَثِّلا:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا *** أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقِي مَنِ اتَّقَاهُ، وَلا وَاقِيَ لِمَنْ لا يَتَّقِي اللَّهَ، ثم قضى.
حدثنا أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حُضِرَ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ أَرَادَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْبَاقِي، لأَنَّ عُمَرَ قَاسَمَ عُمَّالَهُ
ذكر الخبر عمن صلى عَلَى مُعَاوِيَة حين مات
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: صلى عَلَى مُعَاوِيَة الضحاك بن قيس الفهري، وَكَانَ يَزِيد غائبا حين مات مُعَاوِيَة.
وحدثت عن هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مخرمة، قَالَ: لما مات مُعَاوِيَة خرج الضحاك بن قيس حَتَّى صعد الْمِنْبَر وأكفان مُعَاوِيَة عَلَى يديه تلوح، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن مُعَاوِيَة كَانَ عود العرب، وحد العرب، قطع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْفِتْنَة، وملكه عَلَى العباد، وفتح بِهِ البلاد أَلا إنه قَدْ مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فِيهَا، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثُمَّ هُوَ البرزخ إِلَى يوم الْقِيَامَة، فمن كَانَ مِنْكُمْ يريد أن يشهده فليحضر عِنْدَ الأولى وبعث البريد إِلَى يَزِيد بوجع مُعَاوِيَة، فَقَالَ يَزِيد فِي ذَلِكَ:
جَاءَ البريد بقرطاس يخب بِهِ *** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا فِي كتابكمُ؟ *** قَالُوا: الخليفة أمسى مثبتا وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا *** كأن أغبر من أركانها انقطعا
من لا تزل نفسه توفي عَلَى شرف *** توشك مقاليد تِلَكَ النفس أن تقعا
لما انتهينا وباب الدار منصفق *** وصوت رملة ريع القلب فانصدعا
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، عن إِسْحَاق بن خليد، عن خليد ابن عجلان مولى عباد، قَالَ: مات مُعَاوِيَة ويزيد بحوارين، وكانوا كتبوا إِلَيْهِ حين مرض، فأقبل وَقَدْ دفن، فأتى قبره فصلى عَلَيْهِ، ودعا لَهُ، ثُمَّ أتى منزله، فَقَالَ: جَاءَ البريد بقرطاس الأبيات
ذكر الخبر عن نسبه وكنيته
أما نسبه فإنه ابن أبي سُفْيَان، واسم أبي سُفْيَان صخر بن حرب بن أُمَيَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وأمه هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بن قصي، وكنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن ذكر نسائه وولده
من نسائه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدى ابن زهير بن حَارِثَة بن جناب الكلبي، ولدت لَهُ يَزِيد بن مُعَاوِيَة قَالَ علي:
ولدت ميسون لمعاوية مع يَزِيد أمة- رب المشارق- فماتت صغيرة، ولم يذكرها هِشَام فِي أولاد مُعَاوِيَة.
ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عَمْرو بن نوفل بن عبد مناف ولدت له عبد الرحمن وعبد الله بنى مُعَاوِيَة، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ محمقا ضعيفا، وَكَانَ يكنى أبا الخير حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: مر عَبْد اللَّهِ بن مُعَاوِيَة يَوْمًا بطحان قَدْ شد بغله فِي الرحا للطحن، وجعل فِي عنقه جلاجل، فَقَالَ لَهُ:
لم جعلت فِي عنق بغلك هَذِهِ الجلاجل؟ فَقَالَ الطحان: جعلتها فِي عنقه لأعلم إن قد قام فلم تدر الرحا، فَقَالَ لَهُ: أرأيت إن هُوَ قام وحرك راسه كيف تعلم انه لا يدير الرحا؟ فَقَالَ لَهُ الطحان: إن بغلي هَذَا- أصلح اللَّه الأمير- ليس لَهُ عقل مثل عقل الأمير! وأما عبد الرَّحْمَن فإنه مات صغيرا.
ومنهن نائلة بنت عمارة الكلبية، تزوجها، فَحَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لما تزوج مُعَاوِيَة نائلة قَالَ لميسون: انطلقي فانظري إِلَى ابنة عمك، فنظرت إِلَيْهَا، فَقَالَ: كيف رأيتها؟ فَقَالَتْ: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن رأس زوجها فِي حجرها، فطلقها مُعَاوِيَة، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا بعد حبيب النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ، فقتل، ووضع رأسه فِي حجرها.
ومنهن كتوة بنت قرظه اخت فاخته، فغزا قبرس وَهِيَ مَعَهُ، فماتت هنالك
ذكر بعض مَا حضرنا من ذكر أخباره وسيره
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زهير، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لما بويع لمعاوية بالخلافة صير عَلَى شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثُمَّ عزله، وَاسْتَعْمَلَ زميل بن عَمْرو العذري- ويقال السكسكى وكان كاتبه وصاحب امره سر جون بن مَنْصُور الرومي، وعلى حرسه رجل من الموالي يقال لَهُ المختار، وقيل: رجل يقال لَهُ مالك، ويكنى أبا المخارق، مولى لحمير وَكَانَ أول من اتخذ الحرس وَكَانَ عَلَى حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأَنْصَارِيّ، فمات فاستقضى أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني الى هاهنا حديث أحمد، عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ غير علي: وَكَانَ عَلَى ديوان الخاتم عَبْد اللَّهِ بن محصن الحميري، وَكَانَ أول من اتخذ ديوان الخاتم قَالَ: وَكَانَ سبب ذَلِكَ أن مُعَاوِيَة أمر لعمرو بن الزُّبَيْرِ فِي معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بِذَلِكَ إِلَى زياد بن سمية وَهُوَ عَلَى العراق، ففض عَمْرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها مُعَاوِيَة، فأخذ عمرا بردها وحبسه، فأداها عنه أخوه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فأحدث معاويه عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب، ولم تكن تخزم.
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَذْكُرُونَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَدَهَاءَهُمَا وَعِنْدَكُمْ مُعَاوِيَةُ! حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ فُلَيْحٍ، قَالَ: اخبرت ان عمرو ابن الْعَاصِ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: انْظُرُوا، إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى ابْنِ هِنْدٍ فَلا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَإِنَّهُ اعظم لكم في عينه، وصغروه وَقَدْ صَغَّرَ أَمْرِي عِنْدَ الْقَوْمِ، فَانْظُرُوا إِذَا دَخَلَ الْوَفْدُ فَتَعْتِعُوهُمْ أَشَدَّ تَعْتَعَةً تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَلا يَبْلُغُنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلا وَقَدْ هَمَّتْهُ نَفْسُهُ بِالتَّلَفِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ ابْنَ الْخَيَّاطِ، فَدَخَلَ وَقَدْ تُعْتِعَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لَعَنَكُمُ اللَّهُ! نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالإِمَارَةِ، فَسَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ! قَالَ: وَلَبِسَ مُعَاوِيَةُ يَوْمًا عِمَامَتَهُ الْحُرْقَانِيَّةَ وَاكْتَحَلَ، وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ فِيهِ سَمِعَهُ أَوْ لَمْ يَسْمَعْهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الأُمَوِيُّ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ، فَرَأَى مُعَاوِيَةَ فِي مَوْكِبٍ يَتَلَقَّاهُ، وَرَاحَ إِلَيْهِ فِي مَوْكِبٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا مُعَاوِيَةُ، تَرُوحُ فِي مَوْكِبٍ وَتَغْدُو فِي مِثْلِهِ، وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تُصْبِحُ فِي مَنْزِلِكَ وَذَوُو الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ! قَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْعَدُوَّ بِهَا قَرِيبٌ مِنَّا، وَلَهُمْ عُيُونٌ وَجَوَاسِيسُ، فَأَرَدْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرَوْا لِلإِسْلامِ عِزًّا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَكَيْدُ رَجُلٍ لَبِيبٍ، أَوْ خُدْعَةُ رَجُلٍ أَرِيبٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ أَصِرْ إِلَيْهِ، قَالَ: وَيْحَكَ! مَا نَاظَرْتُكَ فِي أَمْرٍ أَعِيبُ عَلَيْكَ فِيهِ إِلا تَرَكْتَنِي مَا أَدْرِي آمُرُكَ أَمْ أَنْهَاكَ! حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله، عن مَعْمَرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَدَقَّ عَظْمِي، وَشَنِفَتْ لِي قُرَيْشٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَعْزِلَنِي فَاعْزِلْنِي.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: جَاءَنِي كِتَابَكَ تَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ كَبِرَتْ سِنُّكَ، فَلَعَمْرِي مَا أَكَلَ عُمُرُكَ غَيْرَكَ، وَتَذْكُرُ أَنَّ قُرَيْشًا شَنِفَتْ لَكَ، وَلَعَمْرِي مَا أَصَبْتَ خَيْرًا إِلا مِنْهُمْ وَتَسْأَلُنِي أَنْ أَعْزِلَكَ، فَقَدْ فَعَلْتُ، فَإِنْ تَكُ صَادِقًا فَقَدْ شَفَعْتُكَ، وَإِنْ تَكُ مُخَادِعًا فَقَدْ خَدَعْتُكَ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِذَا لم يكن الاموى مصلحا لما له، حَلِيمًا، لَمْ يُشْبِهْ مَنْ هُوَ مِنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْهَاشِمِيُّ سَخِيًّا جَوَادًا لَمْ يُشْبِهْ مَنْ هُوَ مِنْهُ، وَلا يَقْدُمُكَ مِنَ الْهَاشِمِيِّ اللِّسَانُ وَالسَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ عَوَانَةَ وَخَلادِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: تَغَدَّى مُعَاوِيَةُ يَوْمًا وَعِنْدَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ بَشِيرٌ- وَيُقَالُ: غَيْرُ بَشِيرٍ- فَأَكْثَرَ مِنَ الأَكْلِ، فَلَحَظَهُ مُعَاوِيَةُ، وَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَغْمِزَ ابْنَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى فَرَغَ، فَلَمَّا خَرَجَ لامَهُ عَلَى مَا صَنَعَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُكَ التِّلِقَّامَةُ؟ قَالَ: اشْتَكَى، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنْ أَكْلَهُ سَيُورِثُهُ دَاءً حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، قَالَ: قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي بُرْنُسٍ أَسْوَدَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِينَ اللَّهِ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدِمَ الشَّيْخُ لأُوَلِّيهِ، وَلا وَاللَّهِ لا أُوَلِّيهِ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ حيث اصابته قرحته، فقال: هلم يا بن أَخِي، نَحْوِي فَانْظُرْ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هِيَ قَدْ سُبِرَتْ، فَقُلْتُ:
لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلَ يَزِيدُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنْ وَلِيتَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا فَاسْتَوْصِ بِهَذَا، فَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ لِي خَلِيلا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ فِي الْقِتَالِ مَا لَمْ يَرَهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلأَحْنَفِ وَكَانَ يَبْدَأُ بِإِذْنِهِ، ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الأَشْعَثِ فَجَلَسَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالأَحْنَفِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّا لَمْ نَأْذَنْ لَهُ قَبْلَكَ فَتَكُونَ دُونَهُ، وَقَدْ فعلت فعال من احس مِنْ نَفْسِهِ ذُلا، إِنَّا كَمَا نَمْلِكُ أُمُورَكُمْ نَمْلِكُ إِذْنَكُمْ، فَأَرِيدُوا مِنَّا مَا نُرِيدُ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ أَبْقَى لَكُمْ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: خَطَبَ رَبِيعَةُ بْنُ عِسْلٍ الْيَرْبُوعِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اسْقُوهُ سَوِيقًا، وَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَا رَبِيعَةُ، كَيْفَ النَّاسُ عِنْدَكُمْ؟ قَالَ: مُخْتَلِفُونَ عَلَى كَذَا وَكَذَا فِرْقَةٍ، قَالَ: فَمِنْ أَيِّهِمْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْتَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعِنِّي فِي بِنَاءِ دَارِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ جَذَعٍ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ دَارَكَ؟ قَالَ بِالْبَصْرَةِ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ فَرْسَخَيْنِ فِي فَرْسَخَيْنِ، قَالَ: فَدَارُكَ فِي الْبَصْرَةِ، أَوِ الْبَصْرَةُ فِي دَارِكَ! فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِهِ عَلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ! أَنَا ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِهِ، خَطَبَ أَبِي إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ لِسَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ: مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَحْمَقِ قَوْمِهِ، قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: هَلْ زَوَّجَ أَبَاكَ مُعَاوِيَةُ؟
قَالَ: لا، قَالَ: فَلا أَرَى أَبَاكَ صَنَعَ شَيْئًا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ الْقُرَشِيِّ، قَالَ:
تَنَازَعَ عُتْبَةُ وَعَنْبَسَةُ ابْنَا أَبِي سُفْيَانَ- وَأُمُّ عُتْبَةَ هِنْدٌ وَأُمُّ عَنْبَسَةَ ابْنَةُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدَّوْسِيِّ- فَأَغْلَظَ مُعَاوِيَةُ لِعَنْبَسَةَ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: وَأَنْتَ أَيْضًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ: يَا عَنْبَسَةُ، إِنَّ عُتْبَةَ ابن هند، فقال عنبسة:
كنا بِخَيْرٍ صَالِحَا ذَاتِ بَيْنِنَا *** قَدِيمًا فَأَمْسَتْ فَرَّقَتْ بَيْنَنَا هِنْدُ
فَإِنْ تَكُ هِنْدٌ لَمْ تَلِدْنِي فَإِنَّنِي *** لِبَيْضَاءَ يُنْمِيهَا غَطَارِفَةٌ نُجْدُ
أَبُوهَا أَبُو الأَضْيَافِ فِي كُلِّ شِتْوَةٍ *** وَمَأْوَى ضِعَافٌ لا تُنُوءُ مِنَ الْجَهْدِ
جُفَيْنَاتُهُ مَا إِنْ تَزَالُ مُقِيمَةً *** لِمَنْ خَافَ مِنْ غَوْرِي تُهَامَةُ أَوْ نَجْدُ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا أُعِيدُهَا عَلَيْكَ أَبَدًا.
حدثني عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد اللَّهِ، عن حرملة بن عِمْرَان، قَالَ: أتى معاوية في ليلة أن قيصر قصد لَهُ فِي الناس، وأن ناتل بن قيس الجذامي غلب فلسطين وأخذ بيت مالها، وان المصريين الذين كان سجنهم هربوا، وأن عَلِيّ بن أبي طالب قصد لَهُ فِي الناس، فَقَالَ لمؤذنه: أذن هَذِهِ الساعة- وَذَلِكَ نصف الليل- فجاءه عَمْرو بن الْعَاصِ، فَقَالَ: لم أرسلت إلي؟ قَالَ: أنا مَا أرسلت إليك، قَالَ: مَا أذن المؤذن هَذِهِ الساعة إلا من أجلي، قَالَ: رميت بالقسي الأربع، قَالَ عَمْرو: أما هَؤُلاءِ الَّذِينَ خرجوا من سجنك، فإنهم إن خرجوا من سجنك فهم فِي سجن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وهم قوم شراة لا رحلة بهم، فاجعل لمن أتاك برجل مِنْهُمْ أو برأسه ديته، فإنك ستؤتى بهم، وانظر قيصر فوادعه، وأعطه مالا وحللا من حلل مصر، فإنه سيرضى منك بذاك، وانظر ناتل ابن قيس، فلعمري مَا أغضبه الدين، وَلا أراد إلا مَا أصاب، فاكتب إِلَيْهِ، وهب لَهُ ذَلِكَ، وهنئه إِيَّاهُ، فإن كَانَتْ لك قدرة عَلَيْهِ، وإن لم تكن لك فلا تأس عَلَيْهِ، واجعل حدك وحديدك لهذا الَّذِي عنده دم ابن عمك.
قَالَ: وَكَانَ القوم كلهم خرجوا من سجنه غير أبرهة بن الصباح، قَالَ مُعَاوِيَة: مَا منعك من أن تخرج مع أَصْحَابك؟ قَالَ: مَا منعني مِنْهُ بغض لعلي، وَلا حب لك، ولكني لم أقدر عَلَيْهِ، فخلى سبيله.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ:
حدثني عبد الله بن المبارك، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ بْنِ حَكَمَةَ الْفَزَارِيُّ مِنْ بَنِي آلِ بَدْرٍ، قَالَ: انْتَقَلَ مُعَاوِيَةُ مِنْ بَعْضِ كُوَرِ الشَّامِ إِلَى بَعْضِ عَمَلِهِ، فَنَزَلَ مَنْزِلا بِالشَّامِ، فَبُسِطَ لَهُ عَلَى ظَهْرِ أَجَارٍّ مِشْرَفٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَذِنَ لِي، فَقَعَدْتُ مَعَهُ، فَمَرَّتِ القطرات والرحائل والجوارى والخيول، فقال:
يا بن مَسْعَدَةَ، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا وَلَمْ تُرِدْهُ الدُّنْيَا، وَأَمَّا عُمَرَ- أَوْ قَالَ: ابْنُ حَنْتَمَةَ- فَأَرَادَتْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُرِدْهَا، وَأَمَّا عُثْمَانُ فَأَصَابَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَصَابَتْ مِنْهُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَتَمَرَّغْنَا فِيهَا، ثُمَّ كَأَنَّهُ نَدِمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمُلْكٌ آتَانَا اللَّهُ إِيَّاهُ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ:
كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَا كَانَ أَعْطَاهُ أَبَاهُ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَرَادَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَكْتُبَ فَهَدَرَ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي إِنْ بَقِيتُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَعْتُ عَهْدَهُ قَالَ: وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
مَا رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ مُتَّكِئًا قَطُّ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى كَاسِرًا عَيْنَهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ: تَكَلَّمْ، إِلا رَحْمَتُهُ قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَسْتُ أَنْصَحَ النَّاسِ لَكَ؟ قَالَ: بِذَلِكَ نِلْتَ مَا نِلْتَ.
قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عَلِيٌّ: عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ نَالَ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَزَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ جَالِسٌ، فَعَلاهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِزَيْدٍ: عَمَدْتَ إِلَى شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَيَّدِ أَهْلِ الشَّامِ فَضَرَبْتَهُ! وَأَقْبَلَ عَلَى بسر فقال: تشم عَلِيًّا وَهُوَ جَدُّهُ وَابْنُ الْفَارُوقِ عَلَى رُءُوسِ الناس، او كنت تَرَى أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ! ثُمَّ أَرْضَاهُمَا جَمِيعًا.
قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي لأَرْفَعُ نَفْسِي مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، وَجَهْلٌ أَكْثَرَ مِنْ حِلْمِي، أَوْ عَوْرَةٌ لا أُوَارِيهَا بِسِتْرِي، أَوْ إِسَاءَةٌ أَكْثَرَ مِنْ إِحْسَانِي قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: زَيْنُ الشَّرِيفِ الْعَفَافُ، قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَيْنٍ خَرَّارَةٍ، فِي أَرْضٍ خَوَّارَةٍ، فَقَالَ عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ عَرُوسًا بِعَقِيلَةٍ مِنْ عَقَائِلِ الْعَرَبِ، فَقَالَ وَرْدَانُ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العاص: ما من شيء أحب إلي من الإِفْضَالِ عَلَى الإِخْوَانِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أَحَقُّ بِهَذَا مِنْكَ، قَالَ: مَا تُحِبُّ فَافْعَلْ.
حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
كَانَ عامل مُعَاوِيَة عَلَى الْمَدِينَة إذا أراد أن يبرد بريدا إِلَى مُعَاوِيَةَ أمر مناديه فنادى: من لَهُ حاجة يكتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فكتب زر بن حبيش- أو أيمن بن خريم- كتابا لطيفا ورمى بِهِ فِي الكتب، وفيه:
إذا الرجال ولدت أولادها *** واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها *** فهي زروع قَدْ دنا حصادها
فلما وردت الكتب عَلَيْهِ فقرأ هَذَا الكتاب، قَالَ: نعى إلي نفسي.
قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا من شَيْء ألذ عندي من غيظ أتجرعه.
قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَة لعبد الرَّحْمَن بن الحكم بن ابى العاص: يا بن أخي، إنك قَدْ لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريما، وتستثير لئيما، والمدح، فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال مَا تزين بِهِ نفسك، وتؤدب بِهِ غيرك.
حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنِ بن حماد: نظر معاويه الى الثما فِي عباءة، فازدراه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فِيهَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَجُلانِ إِنْ مَاتَا لَمْ يَمُوتَا، وَرَجُلٌ إِنْ مَاتَ مَاتَ، أَنَا إِنْ مِتُّ خَلَفَنِي ابْنِي، وَسَعِيدٌ إِنْ مَاتَ خَلَفَهُ عمرو، وعبد الله بن عامر إِنْ مَاتَ مَاتَ، فَبَلَغَ مَرْوَانَ، فَقَالَ:
أَمَا ذَكَرَ ابْنَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِابْنِي ابْنَيْهُمَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ:
قَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: أَشَدُّهُمْ لِي تَحْبِيبًا إِلَى النَّاسِ قَالَ: وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: الْعَقْلُ وَالْحِلْمُ أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ، فَإِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا قَدَرَ غَفَرَ، وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ.
حَدَّثَنِي أحمد، عَنْ عَلِيٍّ، عن عَبْد اللَّهِ، وهشام بن سَعْدٍ، عن عبد الملك ابن عمير، قَالَ: أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل لَهُ: أتحلم عن هَذَا؟
فَقَالَ: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم مَا لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لامَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى الْغِنَاءِ، فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ بُدَيْحٌ، وَمُعَاوِيَةُ وَاضِعٌ رِجْلا عَلَى رِجْلٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِبُدَيْحٍ: إِيهًا يَا بُدَيْحُ! فَتَغَنَّى، فَحَرَّكَ مُعَاوِيَةُ رِجْلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
إِنَّ الْكَرِيمَ طُرُوبٌ.
قَالَ: وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ سَائِبُ خَاثِرٍ- وَكَانَ مَوْلًى لِبَنِي لَيْثٍ، وَكَانَ فَاجِرًا- فَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ حَوَائِجَكَ، فَفَعَلَ، وَرَفَعَ فِيهَا حَاجَةَ سَائِبِ خَاثِرٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ هَذَا؟ فَخَبَّرَهُ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُ، فلما قام على باب المجلس غنى:
لمن الدِّيَارَ رُسُومُهَا قَفْرُ *** لَعِبَتْ بِهَا الأَرْوَاحُ وَالْقَطْرُ!
وَخِلالُهَا مِنْ بُعْدِ سَاكِنِهَا *** حِجَجٌ خَلَوْنَ ثَمَانِ أَوْ عَشْرُ
وَالزَّعْفَرَانُ عَلَى تَرَائِبِهَا *** شَرِقَا بِهِ اللُّبَّاتُ وَالنَّحْرُ
فَقَالَ أَحْسَنْتَ، وَقَضَى حَوَائِجَهُ حَدَّثَنِي عبد الله بن أحمد، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان، قَالَ: حدثني عبد الله، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَخْلَقَ لِلْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، إِنْ كَانَ لَيَرِدُ النَّاسَ مِنْهُ عَلَى أَرْجَاءِ وَادٍ رَحْبٍ، وَلَمْ يكن كالضيق الخضخض، الْحَصَرِ- يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قَالَ: حَدَّثَنِي سليمان، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عن سُفْيَان بن عيينة، عن مُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عن قبيصة بن جابر الأسدي قَالَ: أَلا أخبركم من صحبت؟ صحبت عُمَر بن الْخَطَّابِ فما رأيت رجلا أفقه فقها، وَلا أحسن مدارسة مِنْهُ، ثُمَّ صحبت طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ، فما رأيت رجلا أعطى للجزيل مِنْ غَيْرِ مسألة مِنْهُ، ثُمَّ صحبت مُعَاوِيَة فما رأيت رجلا أحب رفيقا، وَلا أشبه سريرة بعلانية مِنْهُ، ولو أن الْمُغِيرَة جعل فِي مدينة لا يخرج من أبوابها كلها إلا بالغدر لخرج منها.
خلافة يَزِيد بن مُعَاوِيَة
وفي هَذِهِ السنة بويع ليزيد بن مُعَاوِيَة بالخلافة بعد وفاة أَبِيهِ، للنصف من رجب فِي قول بعضهم، وفي قول بعض: لثمان بقين مِنْهُ- عَلَى مَا ذكرنا قبل من وفاة والده مُعَاوِيَة- فأقر عُبَيْد اللَّهِ بن زياد عَلَى الْبَصْرَة، والنعمان بن بشير عَلَى الْكُوفَة.
وَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، ولي يَزِيد فِي هلال رجب سنة ستين، وأمير الْمَدِينَة الْوَلِيد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ، وأمير الكوفه النعمان ابن بشير الأَنْصَارِيّ، وأمير الْبَصْرَة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وأمير مكة عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الَّذِينَ أبوا عَلَى مُعَاوِيَة الإجابة إِلَى بيعة يَزِيد حين دعا الناس إِلَى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إِلَى الْوَلِيدِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من يَزِيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ بن عتبة، أَمَّا بَعْدُ، فإن مُعَاوِيَة كَانَ عبدا من عباد اللَّه، أكرمه اللَّه واستخلفه، وخوله، ومكن لَهُ، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه اللَّه، فقد عاش محمودا، ومات برا تقيا، والسلام.
وكتب إِلَيْهِ فِي صحيفة كأنها أذن فأرة:
أَمَّا بَعْدُ، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزُّبَيْرِ بالبيعة أخذا شديدا ليست فِيهِ رخصة حَتَّى يبايعوا، والسلام.
فلما أتاه نعي مُعَاوِيَة فظع بِهِ، وكبر عَلَيْهِ، فبعث إِلَى مَرْوَان بن الحكم فدعاه إِلَيْهِ- وَكَانَ الْوَلِيد يوم قدم الْمَدِينَة قدمها مَرْوَان متكارها- فلما رَأَى ذَلِكَ الْوَلِيد مِنْهُ شتمه عِنْدَ جلسائه، فبلغ ذَلِكَ مَرْوَان، فجلس عنه وصرمه، فلم يزل كذلك حَتَّى جَاءَ نعي مُعَاوِيَة إِلَى الْوَلِيدِ، فلما عظم عَلَى الْوَلِيدِ هلاك مُعَاوِيَة وما أمر بِهِ من أخذ هَؤُلاءِ الرهط بالبيعة، فزع عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مَرْوَان، ودعاه، فلما قرأ عَلَيْهِ كتاب يَزِيد، استرجع وترحم عَلَيْهِ، واستشاره الْوَلِيد فِي الأمر وَقَالَ: كيف ترى أن نصنع؟ قَالَ: فإني أَرَى أن تبعث الساعة إِلَى هَؤُلاءِ النفر فتدعوهم إِلَى البيعة والدخول فِي الطاعة، فإن فعلوا قبلت مِنْهُمْ، وكففت عَنْهُمْ، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت مُعَاوِيَة، فإنهم إن علموا بموت مُعَاوِيَة وثب كل امرئ مِنْهُمْ فِي جانب، وأظهر الخلاف والمنابذة، ودعا إِلَى نفسه لا أدري، أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال، وَلا يحب أنه يولى عَلَى الناس، إلا أن يدفع إِلَيْهِ هَذَا الأمر عفوا فأرسل عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَانَ- وَهُوَ إذ ذاك غلام حدث- إليهما يدعوهما، فوجدهما فِي المسجد وهما جالسان، فأتاهما فِي ساعة لَمْ يَكُنِ الْوَلِيد يجلس فِيهَا لِلنَّاسِ، وَلا يأتيانه فِي مثلها، فَقَالَ: أجيبا، الأمير يدعوكما، فقال لَهُ: انصرف، الآن نأتيه ثُمَّ أقبل أحدهما عَلَى الآخر، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ للحسين: ظن فيما تراه بعث إلينا فِي هَذِهِ الساعة الَّتِي لَمْ يَكُنْ يجلس فِيهَا! فَقَالَ حُسَيْن: قَدْ ظننت، أرى طاغيتهم قَدْ هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو فِي الناس الخبر، فَقَالَ: وأنا مَا أظن غيره قَالَ: فما تريد أن تصنع؟ قَالَ: أجمع فتياني الساعة، ثُمَّ أمشي إِلَيْهِ، فإذا بلغت الباب احتبستهم عَلَيْهِ، ثُمَّ دخلت عَلَيْهِ.
قَالَ: فإني أخافه عَلَيْك إذا دخلت، قَالَ: لا آتيه إلا وأنا عَلَى الامتناع قادر فقام فجمع إِلَيْهِ مواليه وأهل بيته، ثُمَّ أقبل يمشي حَتَّى انتهى إِلَى باب الْوَلِيد وَقَالَ لأَصْحَابه: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قَدْ علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حَتَّى أخرج إليكم، فدخل فسلم عَلَيْهِ بالإمرة ومروان جالس عنده، فَقَالَ حُسَيْن، كأنه لا يظن مَا يظن من موت مُعَاوِيَة: الصلة خير من القطيعة، أصلح اللَّه ذات بينكما! فلم يجيباه فِي هَذَا بشيء، وجاء حَتَّى جلس، فأقرأه الْوَلِيد الكتاب، ونعى لَهُ مُعَاوِيَة، ودعاه إِلَى البيعة، [فَقَالَ حُسَيْن: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ورحم اللَّه مُعَاوِيَة، وعظم لك الأجر! أما مَا سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، وَلا أراك تجتزئ بِهَا مني سرا دون أن نظهرها عَلَى رءوس الناس علانية، قَالَ: أجل،] قَالَ: فإذا خرجت إِلَى النَّاسِ فدعوتهم إِلَى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد- وَكَانَ يحب العافية: فانصرف عَلَى اسم اللَّه حَتَّى تأتينا مع جماعة الناس، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: وَاللَّهِ لَئِنْ فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت مِنْهُ عَلَى مثلها أبدا حَتَّى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، وَلا يخرج من عندك حَتَّى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عِنْدَ ذلك الحسين، [فقال: يا بن الزرقاء، أنت تقتلني أم هُوَ! كذبت وَاللَّهِ وأثمت،] ثُمَّ خرج فمر بأَصْحَابه، فخرجوا مَعَهُ حَتَّى أتى منزله فَقَالَ مَرْوَان للوليد:
عصيتني، لا وَاللَّهِ لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا، قَالَ الْوَلِيد: وبخ غيرك يَا مَرْوَان، إنك اخترت لي الَّتِي فِيهَا هلاك ديني، وَاللَّهِ مَا أحب أن لي مَا طلعت عَلَيْهِ الشمس وغربت عنه من مال الدُّنْيَا وملكها، وأني قتلت حسينا، سبحان اللَّه! أقتل حسينا إن قَالَ: لا أبايع! وَاللَّهِ إني لا أظن امرأً يحاسب بدم حُسَيْن لخفيف الميزان عِنْدَ اللَّه يوم الْقِيَامَة فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: فإذا كَانَ هَذَا رأيك فقد أصبت فِيمَا صنعت، يقول هَذَا لَهُ وَهُوَ غير الحامد لَهُ عَلَى رأيه.
وأما ابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: الآن آتيكم، ثُمَّ أتى داره فكمن فِيهَا، فبعث الْوَلِيد إِلَيْهِ فوجده مجتمعا فِي أَصْحَابه متحرزا، فألح عَلَيْهِ بكثرة الرسل والرجال فِي إثر الرجال، فأما حُسَيْن فَقَالَ: كف حَتَّى تنظر وننظر، وترى ونرى، وأما ابن الزُّبَيْر فَقَالَ: لا تعجلوني فإني آتيكم، أمهلوني، فألحوا عليهما عشيتهما تِلَكَ كلها وأول ليلهما، وكانوا عَلَى حُسَيْن أشد إبقاء، وبعث الْوَلِيد إِلَى ابن الزُّبَيْر موالي لَهُ فشتموه وصاحوا به: يا بن الكاهلية، وَاللَّهِ لتأتين الأمير أو ليقتلنك، فلبث بِذَلِكَ نهاره كله وأول ليله يقول: الآن أجيء، فإذا استحثوه قَالَ: وَاللَّهِ لقد استربت بكثرة الإرسال، وتتابع هَذِهِ الرجال، فلا تعجلوني حَتَّى أبعث إِلَى الأمير من يأتيني برأيه وأمره، فبعث إِلَيْهِ أخاه جَعْفَر بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ: رحمك اللَّه! كف عن عَبْد اللَّهِ فإنك قَدْ أفزعته وذعرته بكثرة رسلك، وَهُوَ آتيك غدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فمر رسلك فلينصرفوا عنا فبعث إِلَيْهِم فانصرفوا، وخرج ابن الزُّبَيْر من تحت الليل فأخذ طريق الفرع هُوَ وأخوه جَعْفَر، ليس مَعَهُمَا ثالث، وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب، وتوجه نحو مكة، فلما أصبح بعث إِلَيْهِ الْوَلِيد فوجده قَدْ خرج، فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ إن أخطأ مكة فسرح فِي إثره الرجال، فبعث راكبا من موالي بني أُمَيَّة فِي ثمانين راكبا، فطلبوه فلم يقدروا عَلَيْهِ، فرجعوا، فتشاغلوا عن حُسَيْن بطلب عَبْد اللَّهِ يومهم ذَلِكَ حَتَّى أمسوا، ثُمَّ بعث الرجال إِلَى حُسَيْن عِنْدَ المساء فَقَالَ: أصبحوا ثُمَّ ترون ونرى، فكفوا عنه تِلَكَ الليلة، ولم يلحوا عَلَيْهِ، فخرج حُسَيْن من تحت ليلته، وَهِيَ ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين.
وَكَانَ مخرج ابن الزُّبَيْر قبله بليلة، خرج ليلة السبت فأخذ طريق الفرع، فبينا عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ يساير أخاه جعفرا إذ تمثل جَعْفَر بقول صبرة الحنظلي:
وكل بني أم سيمسون ليلة *** ولم يبق من أعقابهم غير واحد
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ! سبحان اللَّه، مَا أردت إِلَى مَا أسمع يَا أخي! قَالَ: وَاللَّهِ يَا أخي مَا أردت بِهِ شَيْئًا مما تكره، فَقَالَ: فذاك وَاللَّهِ أكره إلي أن يكون جَاءَ عَلَى لسانك مِنْ غَيْرِ تعمد- قَالَ: وكأنه تطير مِنْهُ- وأما الْحُسَيْن فإنه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجل اهل بيته، الا محمد بن الحنفية فإنه قَالَ لَهُ: يَا أخي، أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بِهَا مِنْكَ، تنح بتبعتك عن يَزِيد بن مُعَاوِيَة وعن الأمصار مَا استطعت، ثُمَّ ابعث رسلك إِلَى النَّاسِ فادعهم إِلَى نفسك فإن بايعوا لك حمدت اللَّه عَلَى ذَلِكَ، وإن أجمع الناس عَلَى غيرك لم ينقص اللَّه بِذَلِكَ دينك وَلا عقلك، وَلا يذهب بِهِ مروءتك وَلا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هَذِهِ الأمصار وتأتي جماعة مِنَ النَّاسِ، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عَلَيْك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هَذِهِ الأمة كلها نفسا وأبا، وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: فإني ذاهب يَا أخي، قَالَ: فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذَلِكَ، وإن نبت بك لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وخرجت من بلد إِلَى بلد حَتَّى تنظر إِلَى مَا يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك اصوب ما تكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، وَلا تكون الأمور عَلَيْك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا، [قَالَ: يَا أخي، قَدْ نصحت فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا] .
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعد المقبري، قَالَ: نظرت إِلَى الْحُسَيْن داخلا مسجد الْمَدِينَة وإنه ليمشي وَهُوَ معتمد عَلَى رجلين، يعتمد عَلَى هَذَا مرة وعلى هَذَا مرة، وَهُوَ يتمثل بقول ابن مفرغ:
لا ذعرت السوام فِي فلق الصبح *** مغيرا وَلا دعيت يزيدا
يوم أعطى من المهابة ضيما *** والمنايا يرصدنني أن أحيدا
قَالَ: فقلت فِي نفسي: وَاللَّهِ مَا تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد، قَالَ: فما مكث إلا يومين حَتَّى بلغني أنه سار إِلَى مكة.
ثُمَّ إن الْوَلِيد بعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بن عُمَرَ فَقَالَ: بايع ليزيد، فَقَالَ: إذا بايع الناس بايعت، فَقَالَ رجل: مَا يمنعك أن تبايع؟ انما تريد ان يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا، فإذا جهدهم ذَلِكَ قَالُوا: عَلَيْكُمْ بعبد اللَّه بن عُمَرَ، لم يبق غيره، بايعوه! قَالَ عَبْد اللَّهِ: مَا أحب أن يقتتلوا وَلا يختلفوا وَلا يتفانوا، ولكن إذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت، قَالَ: فتركوه وكانوا لا يتخوفونه قَالَ: ومضى ابن الزُّبَيْر حَتَّى أتى مكة وعليها عَمْرو بن سَعِيد، فلما دخل مكة قَالَ: إنما أنا عائذ، ولم يكن يصلي بصلاتهم، وَلا يفيض بإفاضتهم، كَانَ يقف هُوَ وأَصْحَابه ناحية، ثُمَّ يفيض بهم وحده، ويصلي بهم وحده، قَالَ: [فلما سار الْحُسَيْن نحو مكة، قال: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ} [القصص: 21] فلما دخل مكة قَالَ:
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} [القصص: 22]
ذكر عزل الوليد عن المدينة وولايه عمر بن سعيد
وفي هَذِهِ السنة عزل يَزِيد الْوَلِيد بن عتبة عن الْمَدِينَة، عزله فِي شهر رمضان، فأقر عَلَيْهَا عَمْرو بن سَعِيد الأشدق.
وفيها قدم عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الْمَدِينَة فِي رمضان، فزعم الْوَاقِدِيّ أن ابن عمر لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ حين ورد نعي مُعَاوِيَة وبيعة يَزِيد عَلَى الْوَلِيدِ، وأن ابن الزُّبَيْر والحسين لما دعيا إِلَى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إِلَى مكة، فلقيهما ابن عَبَّاس وابن عمر جائيين مِنْ مَكَّةَ، فسألاهما، مَا وراءكما؟
قَالا: موت مُعَاوِيَة والبيعة ليزيد، فَقَالَ لهما ابن عمر: اتقيا اللَّه وَلا تفرقا جماعة الْمُسْلِمِينَ، وأما ابن عمر فقدم فأقام أياما، فانتظر حَتَّى جاءت البيعة من البلدان، فتقدم إِلَى الْوَلِيدِ بن عتبة فبايعه، وبايعه ابن عَبَّاس.
وفي هَذِهِ السنة وجه عَمْرو بن سَعِيد عَمْرو بن الزُّبَيْرِ إِلَى أخيه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ لحربه.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر مُحَمَّد بن عُمَرَ أن عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ الأشدق قدم الْمَدِينَة فِي رمضان سنة ستين فدخل عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة، فدخلوا عَلَى رجل عظيم الكبر مفوه قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا هِشَام بن سَعِيد، عن شيبة بن نصاح، قَالَ: كَانَتِ الرسل تجري بين يَزِيد بن مُعَاوِيَة وابن الزبير في البيعه، فحلف يزيد الا يقبل مِنْهُ حَتَّى يؤتى بِهِ فِي جامعة، وَكَانَ الْحَارِث بن خَالِد المخزومي عَلَى الصَّلاة، فمنعه ابن الزُّبَيْر، فلما منعه كتب يَزِيد إِلَى عَمْرو بن سَعِيد، أن ابعث جيشا إِلَى ابن الزُّبَيْر، وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد لما قدم الْمَدِينَة ولى شرطته عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، لما كَانَ يعلم مَا بينه وبين عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ من البغضاء، فأرسل إِلَى نفر من أهل الْمَدِينَة فضربهم ضربا شديدا.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: حَدَّثَنِي شُرَحْبِيل بن أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: نظر إِلَى كل من كَانَ يهوى هوى ابن الزبير فضربه، وكان ممن ضرب المنذر ابن الزُّبَيْرِ، وابنه مُحَمَّد بن المنذر، وعبد الرَّحْمَن بن الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وعثمان بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد ابن عمار بن ياسر، فضربهم الأربعين إِلَى الخمسين إِلَى الستين، وفر مِنْهُ عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَانَ وعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سهل فِي أناس إِلَى مكة، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد لعمرو بن الزُّبَيْرِ: من رجل نوجه إِلَى أخيك؟ قَالَ: لا توجه إِلَيْهِ رجلا أبدا أنكأ لَهُ مني، فأخرج لأهل الديوان عشرات، وخرج من موالي أهل الْمَدِينَة ناس كثير، وتوجه مَعَهُ أنيس بن عَمْرو الأسلمي في سبعمائة، فوجهه فِي مقدمته، فعسكر بالجرف، فَجَاءَ مَرْوَان بن الحكم إِلَى عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ: لا تغز مكة، واتق اللَّه، وَلا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزُّبَيْر فقد كبر، هَذَا لَهُ بضع وستون سنة، وَهُوَ رجل لجوج، وَاللَّهِ لَئِنْ لم تقتلوه ليموتن، فَقَالَ عَمْرو بن الزُّبَيْرِ وَاللَّهِ لنقاتلنه ولنغزونه فِي جوف الكعبة عَلَى رغم أنف من رغم، فَقَالَ مَرْوَان: وَاللَّهِ إن ذَلِكَ ليسوءني، فسار أنيس بن عَمْرو الأسلمي حَتَّى نزل بذي طوى، وسار عَمْرو بن الزُّبَيْرِ حَتَّى نزل بالأبطح، فأرسل عَمْرو بن الزُّبَيْرِ إِلَى أخيه: بريمين الخليفة، واجعل فِي عنقك جامعة من فضة لا ترى، لا يضرب الناس بعضهم بعضا، واتق اللَّه فإنك فِي بلد حرام.
قَالَ ابن الزُّبَيْر: موعدك المسجد، فأرسل ابن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بن صفوان الْجُمَحِيّ إِلَى أنيس بن عَمْرو من قبل ذي طوى، وَكَانَ قَدْ ضوى إِلَى عَبْد الله ابن صفوان قوم ممن نزل حول مكة، فقاتلوا انيس بن عمرو، فهزم انيس ابن عمرو اقبح هزيمه، وتفرق عن عَمْرو جماعة أَصْحَابه، فدخل دار عَلْقَمَة، فأتاه عبيدة بن الزُّبَيْرِ فأجاره، ثُمَّ جَاءَ إِلَى عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ فَقَالَ:
إني قَدْ أجرته، فَقَالَ: أتجير من حقوق الناس! هَذَا مَا لا يصلح.
قَالَ مُحَمَّد بن عُمَرَ: فحدثت هَذَا الحديث مُحَمَّد بن عبيد بن عمير فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرو بن دينار، قَالَ: كتب يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى عَمْرو ابن سَعِيد: أن استعمل عَمْرو بن الزُّبَيْرِ عَلَى جيش، وابعثه إِلَى ابن الزُّبَيْر، وابعث مَعَهُ أنيس بن عَمْرو، قَالَ: فسار عَمْرو بن الزُّبَيْرِ حَتَّى نزل فِي داره عِنْدَ الصفا، ونزل أنيس بن عَمْرو بذي طوى، فكان عَمْرو بن الزُّبَيْرِ يصلي بِالنَّاسِ، ويصلي خلفه عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فإذا انصرف شبك أصابعه فِي أصابعه، ولم يبق أحد من قريش إلا أتى عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، وقعد عَبْد اللَّهِ بن صفوان فَقَالَ: ما لي لا أَرَى عَبْد اللَّهِ بن صفوان! أما وَاللَّهِ لَئِنْ سرت إِلَيْهِ ليعلمن أن بني جمح ومن ضوى إِلَيْهِ من غيرهم قليل، فبلغ عَبْد اللَّهِ بن صفوان كلمته هَذِهِ، فحركته، فَقَالَ لعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ: إني أراك كأنك تريد البقيا عَلَى أخيك، فَقَالَ عبد الله: أنا أبقي عَلَيْهِ يَا أَبَا صفوان! وَاللَّهِ لو قدرت عَلَى عون الذر عَلَيْهِ لاستعنت بِهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ ابن صفوان: فأنا أكفيك أنيس بن عَمْرو، فاكفني أخاك، قَالَ ابن الزُّبَيْر: نعم، فسار عَبْد اللَّهِ ابن صفوان إِلَى أنيس بن عَمْرو وَهُوَ بذي طوى، فلاقاه فِي جمع كثير من أهل مكة وغيرهم من الأعوان، فهزم أنيس بن عمرو ومن معه، وقتلوا مدبرهم، واجهزوا على جريحهم، وسار معصب بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى عَمْرو، وتفرق عنه أَصْحَابه حَتَّى تخلص إِلَى عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ عبيدة بن الزُّبَيْرِ لعمرو:
تعال أنا أجيرك فَجَاءَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: قَدْ أجرت عمرا، فأجره لي، فأبى أن يجيره، وضربه بكل من كَانَ ضرب بِالْمَدِينَةِ، وحبسه بسجن عارم قَالَ الْوَاقِدِيّ: قَدِ اختلفوا علينا فِي حديث عَمْرو بن الزُّبَيْرِ، وكتبت كل ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي خَالِد بن إلياس، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي الجهم، قَالَ:
لما قدم عَمْرو بن سَعِيد الْمَدِينَة واليا، قدم فِي ذي القعدة سنة ستين، فولى عَمْرو ابن الزُّبَيْرِ شرطته، وَقَالَ: قَدْ أقسم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الا يقبل بيعة ابن الزُّبَيْر إلا أن يؤتى بِهِ فِي جامعة، فليبر يمين أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فإني أجعل جامعة خفيفة من ورق أو ذهب، ويلبس عَلَيْهَا برنسا، وَلا ترى إلا أن يسمع صوتها، وَقَالَ:
خذها فليست للعزيز بخطة *** وفيها مقال لامرئ متذلل
أعامر إن القوم ساموك خطة *** ومالك فِي الجيران عذل معذل
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي رِيَاحُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ: [لا تَغْزُ مَكَّةَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ لِي فِي الْقِتَالِ بِمَكَّةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِهَا،] فَأَبَى عَمْرٌو أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَهُ، وَقَالَ:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَبَعَثَ عَمْرٌو جيشا مع عمرو ومعه انيس ابن عَمْرٍو الأَسْلَمِيُّ، وَزَيْدٌ غُلامُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، – وَكَانُوا نَحْوَ أَلْفَيْنِ- فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، فَقُتِلَ أُنَيْسُ بْنُ عَمْرٍو وَالْمُهَاجِرُ مَوْلَى الْقَلَمَّسِ فِي نَاسٍ كَثِيرٍ، وَهُزِمَ جَيْشُ عَمْرٍو، فَجَاءَ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لأَخِيهِ عَمْرٍو: أَنْتَ فِي ذِمَّتِي، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا هَذَا الدَّمُ الَّذِي فِي وَجْهِكَ يَا خَبِيثُ! فَقَالَ عَمْرٌو:
لَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا *** وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا
فَحَبَسَهُ وَأَخْفَرَ عُبَيْدَةَ، وَقَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تُجِيرَ هَذَا الْفَاسِقَ الْمُسْتَحِلَّ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ أَقَادَ عَمْرًا مِنْ كُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ إِلا الْمُنْذِرَ وَابْنَهُ، فَإِنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ يَسْتَقِيدَا، وَمَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِجْنُ عَارِمٍ لِعَبْدٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ: زيد عَارِمٍ، فَسُمِّيَ السِّجْنُ بِهِ، وَحَبَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ عَمْرًا فِيهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن أبي يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ مع أنيس بن عَمْرو ألفان.
وفي هَذِهِ السنة وجه أهل الْكُوفَة الرسل إِلَى الحسين ع وَهُوَ بمكة يدعونه إِلَى القدوم عَلَيْهِم، فوجه إِلَيْهِم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
. ذكر الخبر عن مراسله الكوفيين الحسين ع للمصير إِلَى مَا قبلهم وأمر مسلم بن عقيل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حَدَّثَنِي زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جناب المصيصي- ويكنى أبا الْوَلِيد- قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِد بن يَزِيدَ بن أسد بن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عمار الدهني، قَالَ: [قلت لأبي جَعْفَر:
حَدَّثَنِي بمقتل الْحُسَيْن حَتَّى كأني حضرته، قَالَ: مات مُعَاوِيَة والوليد بن عتبة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمَدِينَة، فأرسل إِلَى الْحُسَيْن بن علي ليأخذ بيعته، فَقَالَ لَهُ: أخرني وارفق، فأخره، فخرج إِلَى مكة، فأتاه أهل الْكُوفَة ورسلهم:
إنا قَدْ حبسنا أنفسنا عَلَيْك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدم علينا- وَكَانَ النُّعْمَان بن بشير الأَنْصَارِيّ عَلَى الْكُوفَة، قَالَ: فبعث الْحُسَيْن إِلَى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فَقَالَ لَهُ: سر إِلَى الْكُوفَةِ فانظر مَا كتبوا بِهِ إلي، فإن كَانَ حقا خرجنا إِلَيْهِم فخرج مسلم حَتَّى أتى الْمَدِينَة، فأخذ منها دليلين، فمرا بِهِ فِي البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إِلَى الْحُسَيْن يستعفيه، فكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن: أن امض إِلَى الْكُوفَةِ] .
فخرج حَتَّى قدمها، ونزل عَلَى رجل من أهلها يقال لَهُ ابن عوسجة، قَالَ: فلما تحدث أهل الْكُوفَة بمقدمه دبوا إِلَيْهِ فبايعوه، فبايعه مِنْهُمُ اثنا عشر ألفا قَالَ: فقام رجل ممن يهوى يَزِيد بن مُعَاوِيَة إِلَى النُّعْمَان بن بشير، فَقَالَ لَهُ: إنك ضعيف أو متضعف، قَدْ فسد البلاد! فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان: أن أكون ضعيفا وأنا فِي طاعة اللَّه أحب إلي من أن أكون قويا فِي معصية اللَّه، وما كنت لأهتك سترا ستره اللَّه.
فكتب بقول النُّعْمَان إِلَى يَزِيد، فدعا مولى لَهُ يقال لَهُ: سرجون، – وَكَانَ يستشيره- فأخبره الخبر، فَقَالَ لَهُ: أكنت قابلا من مُعَاوِيَة لو كَانَ حيا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فاقبل مني، فإنه ليس للكوفة إلا عُبَيْد اللَّهِ ابن زياد، فولها إِيَّاهُ- وَكَانَ يَزِيد عَلَيْهِ ساخطا، وَكَانَ هم بعزله عن الْبَصْرَة- فكتب إِلَيْهِ برضائه، وأنه قَدْ ولاه الْكُوفَة مع الْبَصْرَة، وكتب إِلَيْهِ أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.
قَالَ: فأقبل عُبَيْد اللَّهِ فِي وجوه أهل الْبَصْرَة حَتَّى قدم الْكُوفَة متلثما، وَلا يمر عَلَى مجلس من مجالسهم فيسلم الا قالوا: عليك السلام يا بن بنت رَسُول اللَّهِ- وهم يظنون أنه الْحُسَيْن بن على ع- حَتَّى نزل القصر، فدعا مولى لَهُ فأعطاه ثلاثة آلاف، وَقَالَ لَهُ: اذهب حَتَّى تسأل عن الرجل الَّذِي يبايع لَهُ أهل الْكُوفَة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إِلَيْهِ ليتقوى فلم يزل يتلطف ويرفق بِهِ حَتَّى دل عَلَى شيخ من أهل الْكُوفَة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فَقَالَ لَهُ الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي، وَقَدْ ساءني، فأما مَا سرني من ذَلِكَ فما هداك اللَّه لَهُ، وأما مَا ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد فأدخله إِلَيْهِ، فأخذ مِنْهُ المال وبايعه، ورجع إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فأخبره.
فتحول مسلم حين قدم عُبَيْد اللَّهِ بن زياد من الدار الَّتِي كَانَ فِيهَا إِلَى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إِلَى الحسين بن على ع يخبره ببيعة اثني عشر ألفا من أهل الْكُوفَة، ويأمره بالقدوم.
وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ لوجوه أهل الْكُوفَة: ما لي أَرَى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قَالَ: فخرج إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث فِي ناس من قومه وَهُوَ عَلَى باب داره، فَقَالُوا: إن الأمير قَدْ ذكرك واستبطأك، فانطلق إِلَيْهِ، فلم يزالوا بِهِ حَتَّى ركب معهم وسار حَتَّى دخل عَلَى عُبَيْد اللَّهِ وعنده شريح القاضي، فلما نظر إِلَيْهِ قَالَ لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلم عَلَيْهِ قَالَ: يَا هانئ، أين مسلم؟ قَالَ: مَا أدري، فأمر عُبَيْد اللَّهِ مولاه صاحب الدراهم فخرج إِلَيْهِ، فلما رآه قطع بِهِ، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! وَاللَّهِ مَا دعوته إِلَى منزلي ولكنه جَاءَ فطرح نفسه علي، قَالَ: ائتني بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لو كَانَ تحت قدمي مَا رفعتهما عنه، قَالَ: أدنوه إلي، فأدني فضربه عَلَى حاجبه فشجه، قَالَ: وأهوى هانئ إِلَى سيف شرطي ليسله، فدفع عن ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ أحل اللَّه دمك، فأمر بِهِ فحبس فِي جانب القصر.
وَقَالَ غير ابى جعفر: الذى جاء بهانىء بن عروة إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد. عَمْرو بن الحجاج الزبيدي:
ذكر من قَالَ ذَلِكَ:
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابو قتيبة، قال: حدثنا يونس ابن أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: حدثنا عماره بن عقبه ابن أَبِي مُعَيْطٍ، فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ ابْنِ زِيَادٍ فَحَدَّثَ، قَالَ: طَرَدْتُ الْيَوْمَ حُمُرًا فَأَصَبْتُ مِنْهَا حِمَارًا فَعَقَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيُّ:
إِنَّ حِمَارًا تَعْقِرُهُ أَنْتَ لَحِمَارٌ حَائِنٌ، فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِأَحْيَنَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ! رَجُلٌ جِيءَ بِأَبِيهِ كَافِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ؟ قَالَ: النَّارُ، فَأَنْتَ مِنَ الصِّبْيَةِ، وَأَنْتَ فِي النَّارِ، قَالَ: فَضَحِكَ ابْنُ زِيَادٍ رجع الحديث إِلَى حديث عمار الدهني، عن أبي جَعْفَر قَالَ: فبينا هُوَ كذلك إذ خرج الخبر إِلَى مذحج، فإذا عَلَى باب القصر جلبة سمعها عُبَيْد اللَّهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: مذحج، فَقَالَ لشريح: اخرج إِلَيْهِم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينا عَلَيْهِ من مواليه يسمع مَا يقول، فمر بهانىء بن عروة، فَقَالَ لَهُ هانئ: اتق اللَّه يَا شريح، فإنه قاتلي، فخرج شريح حَتَّى قام عَلَى باب القصر، فَقَالَ: لا بأس عَلَيْهِ، إنما حبسه الأمير ليسائله، فَقَالُوا: صدق، ليس عَلَى صاحبكم بأس، فتفرقوا، فأتى مسلما الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إِلَيْهِ أربعة آلاف من أهل الْكُوفَة، فقدم مقدمته، وعبى ميمنته وميسرته، وسار فِي القلب إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، وبعث عُبَيْد اللَّهِ إِلَى وجوه أهل الْكُوفَة فجمعهم عنده فِي القصر، فلما سار إِلَيْهِ مسلم فانتهى إِلَى باب القصر أشرفوا عَلَى عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أَصْحَاب مسلم يتسللون حتى امسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أُولَئِكَ أَيْضًا.
فلما رَأَى مسلم أنه قَدْ بقي وحده يتردد في الطرق أتى بابا فنزل عَلَيْهِ، فخرجت إِلَيْهِ امرأة، فَقَالَ لها: اسقيني، فسقته، ثُمَّ دخلت فمكثت مَا شاء اللَّه، ثُمَّ خرجت فإذا هُوَ عَلَى الباب، قالت: يَا عَبْد اللَّهِ، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، قَالَ: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل، وَكَانَ ابنها مولى لمُحَمَّد بن الأشعث، فلما علم بِهِ الغلام انطلق إِلَى مُحَمَّد فأخبره، فانطلق مُحَمَّد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فأخبره، فبعث عُبَيْد اللَّهِ عَمْرو بن حريث المخزومي- وَكَانَ صاحب شرطه- إِلَيْهِ، وَمَعَهُ عبد الرحمن ابن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث، فلم يعلم مسلم حَتَّى أحيط بالدار، فلما رَأَى ذَلِكَ مسلم خرج إِلَيْهِم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرَّحْمَن الأمان، فأمكن من يده، فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فأمر بِهِ فأصعد إِلَى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثته إِلَى النَّاسِ، وأمر بهانىء فسحب إِلَى الكناسة، فصلب هنالك، وَقَالَ شاعرهم فِي ذَلِكَ:
فإن كنت لا تدرين مَا الموت فانظري *** إِلَى هانئ فِي السوق وابن عقيل أصابهما أمر الإمام فأصبحا *** أحاديث من يسعى بكل سبيل
أيركب أسماء الهماليج آمنا *** وَقَدْ طلبته مذحج بذحول!
وأما أَبُو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إِلَى الْكُوفَةِ ومقتله قصة هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني عن أبي جَعْفَر الَّذِي ذكرناه، مَا حدثت عن هِشَام بن مُحَمَّد، عنه، قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: حَدَّثَنِي عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة حُسَيْن- وكانت مع سكينة ابنة حُسَيْن، وَهُوَ مولى لأبيها، وَهِيَ إذ ذاك صغيرة- قَالَ: خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، [فَقَالَ للحسين أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزُّبَيْر لا يلحقك الطلب، قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا أفارقه حَتَّى يقضي اللَّه مَا هُوَ أحب إِلَيْهِ، قَالَ:
فاستقبلنا عَبْد اللَّهِ بن مطيع فَقَالَ للحسين: جعلت فداك! أين تريد؟ قَالَ:
أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فانى أستخير اللَّه،] قَالَ: خار اللَّه لك، وجعلنا فداك، فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الْكُوفَة، فإنها بلدة مشئومة، بِهَا قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي عَلَى نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، لا يعدل بك وَاللَّهِ أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمى وخالي، فو الله لَئِنْ هلكت لنسترقن بعدك فأقبل حَتَّى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إِلَيْهِ ويأتونه ومن كَانَ بِهَا من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزُّبَيْر بِهَا قَدْ لزم الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف، ويأتي حسينا فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كل يومين مرة، وَلا يزال يشير عَلَيْهِ بالرأي وَهُوَ أثقل خلق اللَّه عَلَى ابن الزُّبَيْر، قَدْ عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه وَلا يتابعونه أبدا مَا دام حُسَيْن بالبلد، وإن حسينا أعظم فِي أعينهم وأنفسهم مِنْهُ،.
وأطوع فِي الناس مِنْهُ.
فلما بلغ أهل الْكُوفَة هلاك مُعَاوِيَة أرجف أهل العراق بيزيد، وَقَالُوا: قَدِ امتنع حُسَيْن وابن الزُّبَيْر، ولحقا بمكة، فكتب أهل الْكُوفَة إِلَى حُسَيْن، وعليهم النُّعْمَان بن بشير.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر الهمداني، قَالَ: اجتمعت الشيعة فِي منزل سُلَيْمَان بن صرد، فذكرنا هلاك مُعَاوِيَة، فحمدنا اللَّه عَلَيْهِ، فَقَالَ لنا سُلَيْمَان بن صرد: إن مُعَاوِيَة قَدْ هلك، وإن حسينا قَدْ تقبض عَلَى القوم ببيعته، وَقَدْ خرج إِلَى مكة، وَأَنْتُمْ شيعته وشيعة أَبِيهِ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إِلَيْهِ، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، قَالُوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قَالَ: فاكتبوا إِلَيْهِ، فكتبوا إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لحسين بن علي من سُلَيْمَان بن صرد والمسيب ابن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين من أهل الْكُوفَة سلام عَلَيْك، فإنا نحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي قصم عدوك الجبار العنيد الَّذِي انتزى عَلَى هَذِهِ الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عَلَيْهَا بغير رضا منها، ثُمَّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال اللَّه دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا لَهُ كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللَّه أن يجمعنا بك عَلَى الحق والنعمان ابن بشير فِي قصر الإمارة لسنا نجتمع مَعَهُ فِي جمعة، وَلا نخرج مَعَهُ إِلَى عيد، ولو قَدْ بلغنا أنك قَدْ أقبلت إلينا أخرجناه حَتَّى نلحقه بِالشَّامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام ورحمة اللَّه عَلَيْك.
قَالَ: ثُمَّ سرحنا بالكتاب مع عَبْد اللَّهِ بن سبع الهمداني وعبد اللَّه بن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجلان مسرعين حَتَّى قدما عَلَى حُسَيْن لعشر مضين من شهر رمضان بمكة، ثُمَّ لبثنا يومين، ثم سرحنا اليه قيس ابن مسهر الصيداوي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة، الصحيفة من الرجل والاثنين والأربعة قَالَ: ثُمَّ لبثنا يومين آخرين، ثُمَّ سرحنا إِلَيْهِ هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحتفى، وكتبنا مَعَهُمَا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لحسين بن علي من شيعته من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، اما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، وَلا رأي لَهُمْ فِي غيرك، فالعجل العجل، والسلام عَلَيْك.
وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومُحَمَّد بن عمير التميمي:
أَمَّا بَعْدُ، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم عَلَى جند لك مجند، والسلام عَلَيْك.
وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثُمَّ كتب مع هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، وكانا آخر الرسل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من حُسَيْن بن علي إِلَى الملإ من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، أَمَّا بَعْدُ، فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وَقَدْ فهمت كل الَّذِي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل اللَّه أن يجمعنا بك عَلَى الهدى والحق وقد بعثت إليكم أخي وابن عمى وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قَدْ أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى مِنْكُمْ عَلَى مثل مَا قدمت علي بِهِ رسلكم، وقرأت فِي كتبكم، أقدم عَلَيْكُمْ وشيكا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فلعمري مَا الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه عَلَى ذات اللَّه والسلام.
قَالَ أَبُو مخنف: وذكر أَبُو المخارق الراسبي، قَالَ: اجتمع ناس من الشيعة بِالْبَصْرَةِ فِي منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد- أو منقذ- أياما، وكانت تشيع، وَكَانَ منزلها لَهُمْ مألفا يتحدثون فِيهِ، وَقَدْ بلغ ابن زياد إقبال الْحُسَيْن، فكتب إِلَى عامله بالبصرة ان يضع المناظر ويأخذ قَالَ: فأجمع يَزِيد بن نبيط الخروج- وَهُوَ من عبد القيس- إِلَى الْحُسَيْن، وَكَانَ لَهُ بنون عشرة، فَقَالَ: أيكم يخرج معي؟ فانتدب مَعَهُ ابنان لَهُ: عَبْد اللَّهِ وعبيد اللَّه، فَقَالَ لأَصْحَابه فِي بيت تِلَكَ المرأة: إني قَدْ أزمعت عَلَى الخروج، وأنا خارج، فَقَالُوا لَهُ: إنا نخاف عَلَيْك أَصْحَاب ابن زياد، فقال: انى والله لو قد استوت اخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني.
قَالَ: ثم خرج فتقدى في الطريق حتى انتهى الى حسين ع، فدخل فِي رحله بالأبطح، وبلغ الْحُسَيْن مجيئه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إِلَى رحل الْحُسَيْن، فقيل لَهُ: قَدْ خرج إِلَى منزلك، فأقبل فِي أثره، ولما لم يجده الْحُسَيْن جلس فِي رحله ينتظره، وجاء البصري فوجده فِي رحله جالسا، فَقَالَ: «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» قَالَ: فسلم عَلَيْهِ، وجلس إِلَيْهِ، فخبره بِالَّذِي جَاءَ لَهُ، فدعا لَهُ بخير، ثُمَّ أقبل مَعَهُ حَتَّى أتى فقاتل مَعَهُ، فقتل مَعَهُ هُوَ وابناه ثُمَّ دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الكدن الأرحبي، فأمره بتقوى اللَّه وكتمان أمره، واللطف، فإن رَأَى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إِلَيْهِ بِذَلِكَ.
فأقبل مسلم حَتَّى أتى الْمَدِينَة فصلى فِي مسجد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وودع من أحب من أهله، ثُمَّ استأجر دليلين من قيس، فأقبلا بِهِ، فضلا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وَقَالَ الدليلان: هَذَا الطريق حتى تنتهي إِلَى الماء، وَقَدْ كادوا أن يموتوا عطشا فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى حُسَيْن، وَذَلِكَ بالمضيق من بطن الخبيت:
أَمَّا بَعْدُ، فإني أقبلت مِنَ الْمَدِينَةِ معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حَتَّى انتهينا إِلَى الماء، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وَذَلِكَ الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت، وَقَدْ تطيرت من وجهي هَذَا، فإن رأيت أعفيتني مِنْهُ، وبعثت غيري، والسلام فكتب إِلَيْهِ حُسَيْن:
أَمَّا بَعْدُ، فقد خشيت أَلا يكون حملك عَلَى الكتاب إلي فِي الاستعفاء من الوجه الَّذِي وجهتك لَهُ إلا الجبن، فامض لوجهك الَّذِي وجهتك لَهُ، والسلام عَلَيْك.
فَقَالَ مسلم لمن قرأ الكتاب: هَذَا مَا لست أتخوفه عَلَى نفسي، فأقبل كما هُوَ حَتَّى مر بماء لطيئ، فنزل بهم، ثُمَّ ارتحل مِنْهُ، فإذا رجل يرمي الصيد، فنظر إِلَيْهِ قَدْ رمى ظبيا حين أشرف لَهُ، فصرعه، فَقَالَ مسلم:
يقتل عدونا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أقبل مسلم حَتَّى دخل الكوفه، فنزل دار المختار ابن أبي عبيد- وَهِيَ الَّتِي تدعى الْيَوْم دار مسلم بن المسيب- وأقبلت الشيعة تختلف إِلَيْهِ، فلما اجتمعت إِلَيْهِ جماعة مِنْهُمْ قرأ عَلَيْهِم كتاب حُسَيْن، فأخذوا يبكون.
فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فإني لا أخبرك عن الناس، وَلا أعلم مَا فِي أنفسهم، وما أغرك مِنْهُمْ، وَاللَّهِ لأحدثنك عما أنا موطن نفسي عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حَتَّى ألقى اللَّه، لا أريد بِذَلِكَ إلا مَا عند الله.
فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي، فَقَالَ: رحمك اللَّه! قَدْ قضيت مَا فِي نفسك، بواجز من قولك، ثُمَّ قَالَ: وأنا وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ عَلَى مثل مَا هَذَا عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ الحنفي مثل ذَلِكَ فَقَالَ الحجاج بن علي: فقلت لمُحَمَّد بن بشر: فهل كان منك أنت قول؟ فقال: إن كنت لأحب أن يعز اللَّه أَصْحَابي بالظفر، وما كنت لأحب أن أقتل، وكرهت أن أكذب.
واختلفت الشيعة إِلَيْهِ حَتَّى علم مكانه، فبلغ ذَلِكَ النُّعْمَان بن بشير.
قَالَ أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قَالَ:
خرج إلينا النُّعْمَان بن بشير فصعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فاتقوا اللَّه عباد اللَّه وَلا تسارعوا إِلَى الْفِتْنَة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال- وَكَانَ حليما ناسكا يحب العافية- قَالَ: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، وَلا أثب عَلَى من لا يثب علي، وَلا أشاتمكم، وَلا أتحرش بكم، وَلا أخذ بالقرف وَلا الظنة وَلا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم امامكم، فو الله الَّذِي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، ولو لَمْ يَكُنْ لي مِنْكُمْ ناصر أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق مِنْكُمْ أكثر ممن يرديه الباطل.
قَالَ: فقام إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن سَعِيد الحضرمي حليف بني أُمَيَّة فَقَالَ: إنه لا يصلح مَا ترى إلا الغشم، إن هَذَا الَّذِي أنت عَلَيْهِ فِيمَا بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فَقَالَ: أن أكون من المستضعفين فِي طاعة اللَّه أحب إلي من أن أكون من الأعزين فِي معصية اللَّه، ثُمَّ نزل.
وخرج عَبْد اللَّهِ بن مسلم، وكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة: أَمَّا بَعْدُ، فإن مسلم بن عقيل قَدْ قدم الْكُوفَة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كَانَ لك بالكوفة حاجة فابعث إِلَيْهَا رجلا قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك فِي عدوك، فإن النُّعْمَان بن بشير رجل ضعيف، أو هُوَ يتضعف فكان أول من كتب إِلَيْهِ.
ثُمَّ كتب إِلَيْهِ عمارة بن عُقْبَةَ بنحو من كتابه، ثُمَّ كتب اليه عمر بن سعد ابن أَبِي وَقَّاص بمثل ذَلِكَ.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: فلما اجتمعت الكتب عِنْدَ يَزِيد ليس بين كتبهم إلا يومان، دعا يَزِيد بن مُعَاوِيَة سرجون مولى مُعَاوِيَة فَقَالَ: مَا رأيك؟
فإن حسينا قَدْ توجه نحو الْكُوفَة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وَقَدْ بلغني عن النُّعْمَان ضعف وقول سيئ- وأقرأه كتبهم- فما ترى من أستعمل عَلَى الْكُوفَة؟ وَكَانَ يَزِيد عاتبا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ سرجون: أرأيت مُعَاوِيَة لو نشر لك، أكنت آخذا برأيه؟ قَالَ: نعم، فأخرج عهد عُبَيْد اللَّهِ عَلَى الْكُوفَة فَقَالَ: هَذَا رأي مُعَاوِيَة، ومات وَقَدْ أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه وضم المصرين إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، وبعث إِلَيْهِ بعهده عَلَى الْكُوفَة ثُمَّ دعا مسلم بن عَمْرو الباهلي- وَكَانَ عنده- فبعثه إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بعهده إِلَى الْبَصْرَة، وكتب إِلَيْهِ مَعَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الْكُوفَة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين، فسر حين قرأ كتابي هَذَا حَتَّى تأتي أهل الْكُوفَة فتطلب ابن عقيل كطلب الحرزه حَتَّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام.
فأقبل مسلم بن عَمْرو حَتَّى قدم عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بِالْبَصْرَةِ، فأمر عُبَيْد اللَّهِ بالجهاز والتهيؤ والمسير إِلَى الْكُوفَةِ من الغد.
وَقَدْ كَانَ حُسَيْن كتب إِلَى أهل الْبَصْرَة كتابا، قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف:
حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن أبي عُثْمَان النهدي، قَالَ: كتب حُسَيْن مع مولى لَهُمْ يقال لَهُ: سُلَيْمَان، وكتب بنسخة إِلَى رءوس الأخماس بِالْبَصْرَةِ وإلى الأشراف، فكتب إِلَى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عَمْرو، والى قيس ابن الهيثم، والى عمرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن معمر، فجاءت مِنْهُ نسخة واحدة إِلَى جميع أشرافها: أَمَّا بَعْدُ، فان الله اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم عَلَى خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثُمَّ قبضه اللَّه إِلَيْهِ وَقَدْ نصح لعباده، وبلغ ما ارسل به صلى الله عليه وسلم، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه فِي الناس، فاستأثر علينا قومنا بِذَلِكَ، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بِذَلِكَ الحق المستحق علينا ممن تولاه، وَقَدْ أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق، فرحمهم اللَّه، وغفر لنا ولهم.
وَقَدْ بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إِلَى كتاب الله وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن السنة قَدْ أميتت، وإن البدعة قَدْ أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه.
فكل من قرأ ذَلِكَ الكتاب من أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عُبَيْد اللَّهِ، فجاءه بالرسول من العشية الَّتِي يريد صبيحتها أن يسبق إِلَى الْكُوفَةِ، وأقرأه كتابه، فقدم الرسول فضرب عنقه وصعد عُبَيْد اللَّهِ منبر الْبَصْرَة فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، فو الله مَا تقرن بي الصعبة، وَلا يقعقع لي بالشنان، وإني لنكل لمن عاداني، وسم لمن حاربني، أنصف القارة من راماها يَا أهل البصره، ان امير المؤمنين ولانى الكوفه وأنا غاد إِلَيْهَا الغداة، وَقَدِ استخلفت عَلَيْكُمْ عُثْمَان بن زياد بن أَبِي سُفْيَانَ، وإياكم والخلاف والارجاف، فو الذى لا إله غيره لَئِنْ بلغني عن رجل مِنْكُمْ خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حَتَّى تستمعوا لي، وَلا يكون فيكم مخالف وَلا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطيء الحصى ولم ينتزعني شبه خال وَلا ابن عم.
ثُمَّ خرج مِنَ الْبَصْرَةِ واستخلف أخاه عُثْمَان بن زياد، وأقبل إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُ مسلم بن عَمْرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، حَتَّى دخل الْكُوفَة وعليه عمامة سوداء، وَهُوَ متلثم والناس قَدْ بلغهم إقبال حُسَيْن إِلَيْهِم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عُبَيْد اللَّهِ أنه الْحُسَيْن، فأخذ لا يمر عَلَى جماعة مِنَ النَّاسِ الا سلموا عليه، وقالوا: مرحبا بك يا بن رَسُول اللَّهِ! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين ع مَا ساءه، فَقَالَ مسلم بن عَمْرو لما أكثروا: تأخروا، هَذَا الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فاخذ حين أقبل عَلَى الظهر، وإنما مَعَهُ بضعة عشر رجلا، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد دخلهم من ذَلِكَ كآبة وحزن شديد، وغاظ عُبَيْد اللَّهِ مَا سمع مِنْهُمْ، وَقَالَ: أَلا أَرَى هَؤُلاءِ كما أَرَى.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي المعلى بن كليب، عن أبي وداك، قَالَ: لما نزل القصر نودي: الصَّلاة جامعة، قَالَ: فاجتمع الناس، فخرج إلينا فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أصلحه اللَّه ولاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إِلَى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة عَلَى مريبكم وعاصيكم، وانا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي عَلَى من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه.
الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، ثُمَّ نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، فَقَالَ: اكتبوا إلي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الَّذِينَ رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحدا، فيضمن لنا ما في عرافته الا يخالفنا مِنْهُمْ مخالف، وَلا يبغي علينا مِنْهُمْ باغ، فمن لم يفعل برئت مِنْهُ الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيما عريف وجد فِي عرافته من بغية أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أحد لم يرفعه إلينا صلب عَلَى باب داره، والقيت تِلَكَ العرافة من العطاء، وسير إِلَى موضع بعمان الزارة.
وأما عِيسَى بن يَزِيدَ الكناني فإنه قَالَ- فِيمَا ذكر عُمَر بن شَبَّةَ، عن هَارُون بن مسلم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح، عنه- قَالَ: لما جَاءَ كتاب يَزِيد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، انتخب من اهل البصره خمسمائة، فِيهِمْ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث بن نوفل، وشريك بن الأعور- وَكَانَ شيعة لعلي، فكان أول من سقط بِالنَّاسِ شريك، فيقال: إنه تساقط غمرة وَمَعَهُ ناس- ثُمَّ سقط عَبْد الله ابن الْحَارِث وسقط مَعَهُ ناس، ورجوا أن يلوي عَلَيْهِم عُبَيْد اللَّهِ ويسبقه الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَةِ، فجعل لا يلتفت إِلَى من سقط، ويمضي حَتَّى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه، فَقَالَ: أيا مهران، عَلَى هَذِهِ الحال، إن أمسكت عنك حَتَّى تنظر إِلَى القصر فلك مائة ألف، قَالَ: لا، وَاللَّهِ مَا أستطيع فنزل عُبَيْد اللَّهِ فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن، ثُمَّ اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته، ثُمَّ انحدر راجلا وحده، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إِلَيْهِ لم يشكوا أنه الْحُسَيْن، فيقولون: مرحبا بك يا بن رَسُول اللَّهِ! وجعل لا يكلمهم، وخرج إِلَيْهِ الناس من دورهم وبيوتهم، وسمع بهم النُّعْمَان بن بشير فغلق عَلَيْهِ وعلى خاصته، وانتهى إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ وَهُوَ لا يشك أنه الْحُسَيْن، وَمَعَهُ الخلق يضجون، فكلمه النُّعْمَان، فَقَالَ: أنشدك اللَّه ألا تنحيت عني! مَا أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي فِي قتلك من أرب، فجعل لا يكلمه ثُمَّ إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفين، فجعل يكلمه فَقَالَ: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسان خلفه، فتكفى إِلَى القوم، فَقَالَ: أي قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فَقَالُوا:
ويحك! إنما هُوَ الْحُسَيْن، ففتح لَهُ النُّعْمَان، فدخل، وضربوا الباب فِي وجوه الناس، فانفضوا، وأصبح فجلس عَلَى الْمِنْبَر فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني لأعلم أنه قَدْ سار معي، وأظهر الطاعة لي من هُوَ عدو للحسين حين ظن أن الْحُسَيْن قد دخل البلد وغلب عليه، والله مَا عرفت مِنْكُمْ أحدا، ثُمَّ نزل وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة، وأنه بناحية الْكُوفَة، فدعا مولى لبني تميم فأعطاه مالا، وَقَالَ: انتحل هَذَا الأمر، وأعنهم بالمال، واقصد لهانئ ومسلم وانزل عَلَيْهِ، فَجَاءَ هانئا فأخبره أنه شيعة، وأن مَعَهُ مالا وقدم شريك بن الأعور شاكيا، فَقَالَ لهانئ: مر مسلما يكن عندي، فإن عُبَيْد اللَّهِ يعودني، وَقَالَ شريك لمسلم: أرأيتك إن أمكنتك من عُبَيْد اللَّهِ أضاربه أنت بالسيف؟ قَالَ: نعم وَاللَّهِ وجاء عُبَيْد اللَّهِ شريكا يعوده فِي منزل هانئ- وَقَدْ قَالَ شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول: اسقوني ماء فاخرج عَلَيْهِ فاضربه- وجلس عُبَيْد اللَّهِ عَلَى فراش شريك، وقام عَلَى رأسه مهران، فَقَالَ: اسقوني ماء، فخرجت جارية بقدح، فرأت مسلما، فزالت، فَقَالَ شريك: اسقوني ماء، ثُمَّ قَالَ الثالثة: ويلكم تحموني الماء! اسقونيه ولو كَانَتْ فِيهِ نفسي، ففطن مهران فغمز عُبَيْد اللَّهِ، فوثب، فَقَالَ شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك، قَالَ: أعود إليك، فجعل مهران يطرد بِهِ، وَقَالَ: أراد وَاللَّهِ قتلك، قَالَ: وكيف مع إكرامي شريكا وفي بيت هانئ ويد أبي عنده يد! فرجع فأرسل إِلَى أسماء بن خارجة ومُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: ائتياني بهانىء، فقالا لَهُ: إنه لا يأتي إلا بالأمان، قَالَ: وما لَهُ وللأمان! وهل أحدث حدثا! انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه فدعواه، فَقَالَ: إنه إن أخذني قتلني، فلم يزالا بِهِ حَتَّى جاءا بِهِ وعبيد اللَّه يخطب يوم الجمعة، فجلس فِي المسجد، وَقَدْ رجل هانئ غديرتيه، فلما صلى عُبَيْد اللَّهِ، قَالَ: يَا هانئ، فتبعه، ودخل فسلم، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: يَا هانئ، أما تعلم أن أبي قدم هَذَا البلد فلم يترك أحدا من هَذِهِ الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر، وَكَانَ من حجر مَا قَدْ علمت، ثُمَّ لم يزل يحسن صحبتك، ثُمَّ كتب إِلَى أَمِير الْكُوفَة: إن حاجتي قبلك هانئ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فكان جزائي أن خبأت فِي بيتك رجلا ليقتلني! قَالَ: مَا فعلت، فأخرج التميمي الَّذِي كَانَ عينا عَلَيْهِم، فلما رآه هانئ علم أن قَدْ أخبره الخبر، فَقَالَ: أيها الأمير، قَدْ كَانَ الَّذِي بلغك، ولن أضيع يدك عني، فأنت آمن وأهلك، فسر حَيْثُ شئت.
فكبا عُبَيْد اللَّهِ عندها، ومهران قائم عَلَى رأسه فِي يده معكزة، فَقَالَ:
وا ذلاه! هَذَا العبد الحائك يؤمنك فِي سلطانك! فَقَالَ: خذه، فطرح المعكزة، وأخذ بضفيرتي هانئ، ثُمَّ أقنع بوجهه، ثُمَّ أخذ عُبَيْد اللَّهِ المعكزة فضرب بِهَا وجه هانئ، وندر الزج، فارتز فِي الجدار، ثُمَّ ضرب وجهه حَتَّى كسر أنفه وجبينه، وسمع الناس الهيعة، وبلغ الخبر مذحج، فأقبلوا، فأطافوا بالدار، وأمر عُبَيْد اللَّهِ بهانىء فألقي فِي بيت، وصيح المذحجيون، وأمر عُبَيْد اللَّهِ مهران أن يدخل عَلَيْهِ شريحا، فخرج، فأدخله عَلَيْهِ، ودخلت الشرط مَعَهُ، فَقَالَ: يَا شريح، قَدْ ترى مَا يصنع بي! قَالَ: أراك حيا، قَالَ: وحي أنا مع مَا ترى! أخبر قومي أَنَّهُمْ إن انصرفوا قتلني، فخرج إِلَى عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ: قَدْ رأيته حيا، ورأيت أثرا سيئا، قَالَ: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته! اخرج إِلَى هَؤُلاءِ فأخبرهم، فخرج، وأمر عُبَيْد اللَّهِ الرجل فخرج مَعَهُ، فَقَالَ لَهُمْ شريح: مَا هَذِهِ الرعة السيئة! الرجل حي، وَقَدْ عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه، فانصرفوا وَلا تحلوا بأنفسكم وَلا بصاحبكم.
فانصرفوا.
وذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قَالَ: نزل شريك بن الأعور عَلَى هانئ بن عروة المرادي، وَكَانَ شريك شيعيا، وَقَدْ شهد صفين مع عمار وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عُبَيْد اللَّهِ ومقالته الَّتِي قالها، وما أخذ بِهِ العرفاء والناس، فخرج من دار المختار- وَقَدْ علم بِهِ- حَتَّى انتهى إِلَى دار هانئ بن عروة المرادي، فدخل بابه، وأرسل إِلَيْهِ أن اخرج، فخرج إِلَيْهِ هانئ، فكره هانئ مكانه حين رآه، فَقَالَ لَهُ مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فَقَالَ: رحمك اللَّه! لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني، غير أنه يأخذني من ذَلِكَ ذمام، وليس مردود مثلي عَلَى مثلك عن جهل، أدخل.
فآواه، وأخذت الشيعة تختلف إِلَيْهِ فِي دار هانئ بن عروة، ودعا ابن زياد مولى لَهُ يقال لَهُ معقل، فَقَالَ لَهُ: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثُمَّ اطلب مسلم ابن عقيل، واطلب لنا أَصْحَابه، ثُمَّ أعطهم هَذِهِ الثلاثة آلاف، فقل لَهُمُ:
استعينوا بِهَا عَلَى حرب عدوكم، وأعلمهم أنك مِنْهُمْ، فإنك لو قَدْ أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شَيْئًا من أخبارهم، ثُمَّ اغد عَلَيْهِم ورح ففعل ذَلِكَ، فَجَاءَ حَتَّى أتى إِلَى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة فِي المسجد الأعظم وَهُوَ يصلي، وسمع الناس يقولون:
إن هَذَا يبايع للحسين، فَجَاءَ فجلس حَتَّى فرغ من صلاته ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، إني امرؤ من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، أنعم اللَّه علي بحب أهل هَذَا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بِهَا لقاء رجل مِنْهُمْ بلغني أنه قدم الكوفه يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عَلَيْهِ وَلا يعرف مكانه، فإني لجالس آنفا فِي المسجد إذ سمعت نفرا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يقولون: هَذَا رجل لَهُ علم بأهل هَذَا البيت، وإني أتيتك لتقبض هَذَا المال وتدخلني عَلَى صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي لَهُ قبل لقائه، فَقَالَ: أحمد اللَّه عَلَى لقائك إياي، فقد سرني ذَلِكَ لتنال مَا تحب، ولينصر اللَّه بك أهل بيت نبيه، وَلَقَدْ ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هَذَا الطاغية وسطوته.
فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عَلَيْهِ المواثيق المغلظة ليناصح وليكتمن، فأعطاه من ذَلِكَ مَا رضي بِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اختلف إلي أياما فِي منزلي، فأنا طالب لك الإذن عَلَى صاحبك فأخذ يختلف مع الناس، فطلب لَهُ الإذن فمرض هانئ بن عروة، فَجَاءَ عُبَيْد اللَّهِ عائدا لَهُ، فَقَالَ لَهُ عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هَذَا الطاغية، فقد أمكنك اللَّه مِنْهُ فاقتله، قَالَ هانئ: مَا أحب أن يقتل فِي داري، فخرج فما مكث إلا جمعة حَتَّى مرض شريك بن الأعور- وَكَانَ كريما عَلَى ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وَكَانَ شديد التشيع- فأرسل إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ:
أني رائح إليك العشية، فَقَالَ لمسلم: إن هَذَا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إِلَيْهِ فاقتله، ثُمَّ اقعد فِي القصر، ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هَذَا أيامي هَذِهِ سرت إِلَى الْبَصْرَة وكفيتك أمرها.
فلما كَانَ من العشي أقبل عُبَيْد اللَّهِ لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وَقَالَ لَهُ شريك: لا يفوتنك إذا جلس، فقام هانئ بن عروة إِلَيْهِ فَقَالَ: إني لا أحب أن يقتل فِي داري- كأنه استقبح ذلك- فجاء عبيد الله ابن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكا عن وجعه، وَقَالَ: مَا الَّذِي تجد؟
ومتى أشكيت؟ فلما طال سؤاله إِيَّاهُ، ورأى أن الآخر لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول:
مَا تنتظرون بسلمى أن تحيوها
أسقنيها وإن كَانَتْ فِيهَا نفسي، فَقَالَ ذَلِكَ مرتين أو ثلاثا، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ، وَلا يفطن مَا شأنه: أترونه يهجر؟ فَقَالَ لَهُ هانئ: نعم أصلحك اللَّه! مَا زال هَذَا ديدنه قبيل عماية الصبح حَتَّى ساعته هَذِهِ ثُمَّ إنه قام فانصرف، فخرج مسلم، فَقَالَ لَهُ شريك: مَا منعك من قتله؟ فَقَالَ:
خصلتان: أما إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل فِي داره، وأما الأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الإيمان قيد الفتك، وَلا يفتك مؤمن،» فَقَالَ هانئ: أما وَاللَّهِ لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا، ولكن كرهت أن يقتل فِي داري ولبث شريك بن الأعور بعد ذَلِكَ ثلاثا ثُمَّ مات، فخرج ابن زياد فصلى عَلَيْهِ، وبلغ عُبَيْد اللَّهِ بعد مَا قتل مسلما وهانئا أن ذَلِكَ الَّذِي كنت سمعت من شريك فِي مرضه إنما كَانَ يحرض مسلما، ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: وَاللَّهِ لا أصلي عَلَى جنازة رجل من اهل العراق ابدا، وو الله لولا أن قبر زياد فِيهِمْ لنبشت شريكا.
ثُمَّ إن معقلا مولى ابن زياد الَّذِي دسه بالمال إِلَى ابن عقيل وأَصْحَابه، اختلف إِلَى مسلم بن عوسجة أياما ليدخله عَلَى ابن عقيل، فأقبل بِهِ حَتَّى أدخله عَلَيْهِ بعد موت شريك بن الأعور، فأخبره خبره كله، فأخذ ابن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي، فقبض ماله الَّذِي جَاءَ بِهِ- وَهُوَ الَّذِي كَانَ يقبض أموالهم، وما يعين بِهِ بعضهم بعضا، يشتري لَهُمُ السلاح، وَكَانَ بِهِ بصيرا، وَكَانَ من فرسان العرب ووجوه الشيعة- وأقبل ذَلِكَ الرجل يختلف إِلَيْهِم، فهو أول داخل وآخر خارج، يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، ثُمَّ ينطلق بِهَا حَتَّى يقرها فِي أذن ابن زياد قَالَ: وَكَانَ هانئ يغدو ويروح إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فلما نزل بِهِ مسلم انقطع من الاختلاف وتمارض، فجعل لا يخرج، فَقَالَ ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أَرَى هانئا! فَقَالُوا: هُوَ شاك، فَقَالَ: لو علمت بمرضه لعدته! قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، قَالَ: دعا عُبَيْد اللَّهِ مُحَمَّد بن الأشعث وأسماء بن خارجة.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَسَن بن عُقْبَةَ المرادي أنه بعث مَعَهُمَا عَمْرو بن الحجاج الزبيدي.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قَالَ: كَانَتْ روعة أخت عَمْرو بن الحجاج تحت هانئ بن عروة، وَهِيَ أم يَحْيَى بن هانئ فَقَالَ لَهُمْ: مَا يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ قَالُوا: مَا ندري أصلحك اللَّه!
وإنه ليتشكى، قَالَ: قَدْ بلغني أنه قَدْ برأ، وَهُوَ يجلس عَلَى باب داره، فالقوه، فمروه الا يدع مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ من الحق، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب فأتوه حَتَّى وقفوا عَلَيْهِ عشية وَهُوَ جالس عَلَى بابه، فَقَالُوا: مَا يمنعك من لقاء الأمير، فإنه قَدْ ذكرك، وَقَدْ قَالَ: لو أعلم أنه شاك لعدته؟ فَقَالَ لَهُمُ: الشكوى تمنعني، فَقَالُوا لَهُ: يبلغه أنك تجلس كل عشية عَلَى باب دارك، وَقَدِ استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عَلَيْك لما ركبت معنا! فدعا بثيابه فلبسها، ثُمَّ دعا ببغلة فركبها حَتَّى إذا دنا من القصر، كأن نفسه أحست ببعض الذى كان، فقال لحسان ابن أسماء بن خارجه: يا بن أخي، إني وَاللَّهِ لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟
قَالَ: أي عم، وَاللَّهِ مَا أتخوف عَلَيْك شَيْئًا، ولم تجعل عَلَى نفسك سبيلا وأنت بريء؟ وزعموا أن أسماء لم يعلم فِي أي شَيْء بعث إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ، فأما مُحَمَّد فقد علم بِهِ، فدخل القوم عَلَى ابن زياد، ودخل معهم، فلما طلع قَالَ عُبَيْد اللَّهِ: أتتك بحائن رجلاه! وَقَدْ عرس عُبَيْد اللَّهِ إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عُقْبَةَ، فلما دنا من ابن زياد وعنده شريح القاضي التفت نحوه، فَقَالَ:
أريد حباءه ويريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد
وَقَدْ كَانَ لَهُ أول مَا قدم مكرما ملطفا، فَقَالَ لَهُ هانئ: وما ذاك أيها الأمير؟ قَالَ: إيه يَا هانئ بن عروة! مَا هَذِهِ الأمور الَّتِي تربص فِي دورك لأمير الْمُؤْمِنِينَ وعامة الْمُسْلِمِينَ! جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت لَهُ السلاح والرجال فِي الدور حولك، وظننت أن ذَلِكَ يخفى علي لك! قَالَ: مَا فعلت، وما مسلم عندي، قَالَ: بلى قَدْ فعلت، قَالَ: مَا فعلت، قَالَ:
بلى، فلما كثر ذَلِكَ بينهما، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا ذَلِكَ العين، فَجَاءَ حَتَّى وقف بين يديه فَقَالَ: أتعرف هَذَا؟
قَالَ: نعم، وعلم هانئ عِنْدَ ذَلِكَ أنه كَانَ عينا عَلَيْهِم، وأنه قَدْ أتاه باخبارهم، فسقط فِي خلده ساعة ثُمَّ إن نفسه راجعته، فَقَالَ لَهُ: اسمع مني، وصدق مقالتي، فو الله لا أكذبك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله غيره مَا دعوته إِلَى منزلي، وَلا علمت بشيء من أمره، حَتَّى رأيته جالسا عَلَى بابي، فسألني النزول علي، فاستحييت من رده، ودخلني من ذَلِكَ ذمام، فأدخلته داري وضفته وآويته، وَقَدْ كَانَ من أمره الَّذِي بلغك، فإن شئت أعطيت الآن موثقا مغلظا وما تطمئن اليه الا أبغيك سوءا، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون فِي يدك حَتَّى آتيك، وأنطلق إِلَيْهِ فأمره أن يخرج من داري إِلَى حَيْثُ شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره، فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تفارقني أبدا حَتَّى تأتيني به، فقال: لا، والله لا أجيئك أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله! قَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لا آتيك بِهِ.
فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عَمْرو الباهلي- وليس بالكوفة شامي وَلا بصري غيره- فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير! خلني وإياه حَتَّى أكلمه، لما رَأَى لجاجته وتأبيه عَلَى ابن زياد أن يدفع إِلَيْهِ مسلما، فَقَالَ لهانئ: قم الى هاهنا حَتَّى أكلمك، فقام فخلا بِهِ ناحية من ابن زياد، وهما مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ قريب حَيْثُ يراهما، إذا رفعا أصواتهما سمع مَا يقولان، وإذا خفضا خفي عَلَيْهِ مَا يقولان، فَقَالَ لَهُ مسلم: يَا هانئ، إني أنشدك اللَّه أن تقتل نفسك، وتدخل البلاء عَلَى قومك وعشيرتك! فو الله إني لأنفس بك عن القتل، وَهُوَ يرى أن عشيرته ستحرك فِي شأنه أن هَذَا الرجل ابن عم القوم، وليسوا قاتليه وَلا ضائريه، فادفعه إِلَيْهِ فإنه ليس عَلَيْك بِذَلِكَ مخزاة وَلا منقصة، إنما تدفعه إِلَى السلطان، قَالَ: بلى، وَاللَّهِ إن علي فِي ذَلِكَ للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! وَاللَّهِ لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حَتَّى أموت دونه.
فأخذ يناشده وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لا أدفعه إِلَيْهِ أبدا، فسمع ابن زياد ذَلِكَ، فَقَالَ: أدنوه مني، فأدنوه مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ أو لأضربن عنقك، قَالَ: إذا تكثر البارقة حول دارك، فَقَالَ: والهفا عليك! أبا لبارقه تخوفني! وَهُوَ يظن أن عشيرته سيمنعونه، فَقَالَ ابن زياد: أدنوه مني، فأدني، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حَتَّى كسر أنفه، وسيل الدماء عَلَى ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه عَلَى لحيته حَتَّى كسر القضيب، وضرب هانئ بيده إِلَى قائم سيف شرطي من تِلَكَ الرجال، وجابذه الرجل ومنع، فقال عبيد الله: احروري سائر الْيَوْم! أحللت بنفسك، قَدْ حل لنا قتلك، خذوه فألقوه فِي بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عَلَيْهِ بابه، واجعلوا عَلَيْهِ حرسا، ففعل ذلك به، فقام اليه أسماء ابن خارجة فَقَالَ: أرسل غدر سائر الْيَوْم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حَتَّى إذا جئناك بِهِ وأدخلناه عَلَيْك هشمت وجهه، وسيلت دمه عَلَى لحيته، وزعمت أنك تقتله! فَقَالَ لَهُ عُبَيْد الله: وانك لهاهنا! فأمر بِهِ فلهز وتعتع بِهِ، ثُمَّ ترك فحبس.
وأما مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: قَدْ رضينا بِمَا رَأَى الأمير، لنا كَانَ أم علينا، إنما الأمير مؤدب وبلغ عَمْرو بن الحجاج أن هانئا قَدْ قتل، فأقبل فِي مذحج حَتَّى أحاط بالقصر وَمَعَهُ جمع عظيم، ثُمَّ نادى: أنا عَمْرو بن الحجاج، هَذِهِ فرسان مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعه، ولم تفارق جماعة، وَقَدْ بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذَلِكَ، فقيل لعبيد اللَّه: هَذِهِ مذحج بالباب، فَقَالَ لشريح القاضي: ادخل عَلَى صاحبهم فانظر إِلَيْهِ، ثُمَّ اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل، وأنك قَدْ رأيته، فدخل إِلَيْهِ شريح فنظر إِلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عبد الرَّحْمَن بن شريح، قَالَ: سمعته يحدث إِسْمَاعِيل بن طَلْحَة، قَالَ: دخلت عَلَى هانئ، فلما رآني قَالَ: يَا لله يا للمسلمين! اهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين! وأين أهل المصر! تفاقدوا! يخلوني، وعدوهم وابن عدوهم! والدماء تسيل عَلَى لحيته، إذ سمع الرجة عَلَى باب القصر، وخرجت واتبعني، فَقَالَ:
يَا شريح، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني، قَالَ: فخرجت إِلَيْهِم ومعي حميد بن بكير الأحمري- أرسله معي ابن زياد، وَكَانَ من شرطه ممن يقوم عَلَى رأسه- وايم اللَّه لولا مكانه معي لكنت أبلغت أَصْحَابه مَا أمرني بِهِ، فلما خرجت إِلَيْهِم قلت:
إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم فِي صاحبكم أمرني بالدخول إِلَيْهِ، فأتيته فنظرت إِلَيْهِ، فأمرني أن ألقاكم، وأن أعلمكم أنه حي، وأن الَّذِي بلغكم من قتله كَانَ باطلا فَقَالَ عَمْرو واصحابه: فاما إذ لم يقتل فالحمد لِلَّهِ، ثُمَّ انصرفوا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الحجاج بن علي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر الهمداني، قَالَ: لما ضرب عُبَيْد اللَّهِ هانئا وحبسه خشي أن يثب الناس بِهِ، فخرج فصعد الْمِنْبَر وَمَعَهُ أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فاعتصموا بطاعة اللَّه وطاعة أئمتكم، وَلا تختلفوا وَلا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا، إن أخاك من صدقك، وَقَدْ أعذر من أنذر قَالَ: ثُمَّ ذهب لينزل، فما نزل عن الْمِنْبَر حَتَّى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون: قَدْ جَاءَ ابن عقيل! قَدْ جَاءَ ابن عقيل! فدخل عُبَيْد اللَّهِ القصر مسرعا، وأغلق أبوابه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن خازم، قَالَ:
أنا وَاللَّهِ رسول ابن عقيل إِلَى القصر لأنظر إِلَى مَا صار أمر هانئ، قَالَ:
فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل عَلَى مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يَا عثرتاه! يَا ثكلاه! فدخلت عَلَى مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن أنادي فِي أَصْحَابه وَقَدْ ملأ مِنْهُمُ الدور حوله، وَقَدْ بايعه ثمانية عشر ألفا، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فَقَالَ لي: ناد: يَا منصور أمت، فناديت: يَا منصور أمت، وتنادى أهل الْكُوفَة فاجتمعوا إِلَيْهِ، فعقد مسلم لعبيد اللَّه بن عمرو بن عزيز الكندي عَلَى ربع كندة وربيعة، وَقَالَ: سر أمامي فِي الخيل، ثُمَّ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي عَلَى ربع مذحج وأسد، وَقَالَ: انزل فِي الرجال فأنت عَلَيْهِم، وعقد لأبي ثمامة الصائدي عَلَى ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي عَلَى ربع الْمَدِينَة، ثُمَّ أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز فِي القصر، وغلق الأبواب قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق، عن عباس الجدلي قَالَ: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر الا ونحن ثلاثمائة.
قَالَ: وأقبل مسلم يسير فِي الناس من مراد حَتَّى أحاط بالقصر، ثُمَّ إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فو الله مَا لبثنا إلا قليلا حَتَّى امتلأ المسجد مِنَ النَّاسِ والسوق، وما زالوا يثوبون حَتَّى المساء، فضاق بعبيد اللَّه ذرعه، وَكَانَ كبر أمره أن يتمسك بباب القصر، وليس مَعَهُ إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الَّذِي يلي دار الروميين، وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عَلَيْهِم، فينظرون إِلَيْهِم فيتقون أن يرموهم بالحجارة، وأن يشتموهم وهم لا يفترون عَلَى عُبَيْد اللَّهِ وعلى أَبِيهِ ودعا عُبَيْد اللَّهِ كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب، ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر مُحَمَّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ مثل ذَلِكَ للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا إِلَيْهِم لقلة عدد من مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي أن كثيرا ألفى رجلا من كلب يقال لَهُ عبد الأعلى بن يَزِيدَ، قَدْ لبس سلاحه يريد ابن عقيل فِي بني فتيان، فأخذه حَتَّى أدخله عَلَى ابن زياد، فأخبره خبره، فَقَالَ لابن زياد:
إنما أردتك، قَالَ: وكنت وعدتني ذَلِكَ من نفسك، فأمر بِهِ فحبس، وخرج مُحَمَّد بن الأشعث حَتَّى وقف عِنْدَ دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأَزْدِيّ وَهُوَ يريد ابن عقيل، عَلَيْهِ سلاحه، فأخذه فبعث بِهِ إِلَى ابن زياد فحبسه، فبعث ابن عقيل إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث من المسجد عبد الرَّحْمَن ابن شريح الشبامي، فلما رَأَى مُحَمَّد بن الأشعث كثرة من أتاه، أخذ يتنحى ويتأخر، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث: قَدْ جلت عَلَى ابن عقيل من العرار، فتأخر عن موقفه، فأقبل حَتَّى دخل عَلَى ابن زياد من قبل دار الروميين، فلما اجتمع عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ كثير بن شهاب ومُحَمَّد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم، قال لَهُ كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد: أصلح اللَّه الأمير! معك فِي القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إِلَيْهِم، فأبى عُبَيْد اللَّهِ، وعقد لشبث بن ربعي لواء، فأخرجه، وأقام الناس مع ابن عقيل يكبرون ويثوبون حَتَّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عُبَيْد اللَّهِ إِلَى الأشراف فجمعهم إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أشرفوا عَلَى الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إِلَيْهِم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن عَبْد اللَّهِ بن خازم الكثيري من الأزد، من بني كثير، قَالَ: أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حَتَّى كادت الشمس أن تجب، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، الحقوا بأهاليكم، وَلا تعجلوا الشر، وَلا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هَذِهِ جنود أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد قَدْ أقبلت، وَقَدْ أعطى اللَّه الأمير عهدا:
لَئِنْ أتممتم عَلَى حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم فِي مغازي أهل الشام عَلَى غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حَتَّى لا يبقى لَهُ فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال مَا جرت أيديها، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هَذَا، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون، وأخذوا ينصرفون.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيد، أن المرأة كَانَتْ تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إِلَى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر! انصرف فيذهب بِهِ، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حَتَّى أمسى ابن عقيل وما مَعَهُ ثلاثون نفسا فلما رَأَى إنه قَدْ أمسى وليس مَعَهُ إلا أُولَئِكَ النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة، وبلغ الأبواب وَمَعَهُ مِنْهُمْ عشرة، ثُمَّ خرج من الباب وإذا ليس مَعَهُ إنسان، والتفت فإذا هُوَ لا يحس أحدا يدله عَلَى الطريق، وَلا يدله عَلَى منزل وَلا يواسيه بنفسه إن عرض لَهُ عدو، فمضى عَلَى وجهه يتلدد فِي أزقة الْكُوفَة لا يدري أين يذهب! حَتَّى خرج إِلَى دور بني جبلة من كندة، فمشى حَتَّى انتهى إِلَى باب امرأة يقال لها طوعة- أم ولد كَانَتْ للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت لَهُ بلالا، وَكَانَ بلال، قَدْ خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره- فسلم عَلَيْهَا ابن عقيل، فردت عَلَيْهِ، فَقَالَ لها: يَا أمة اللَّه، اسقيني ماء، فدخلت فسقته، فجلس وأدخلت الإناء، ثُمَّ خرجت فَقَالَتْ: يَا عَبْد اللَّهِ ألم تشرب! قَالَ: بلى، قالت: فاذهب إِلَى أهلك، فسكت، ثُمَّ عادت فَقَالَتْ مثل ذَلِكَ، فسكت، ثُمَّ قالت له: في الله، سبحان اللَّه يَا عَبْد اللَّهِ! فمر إِلَى أهلك عافاك اللَّه، فإنه لا يصلح لك الجلوس عَلَى بابي، وَلا أحله لك، فقام فَقَالَ: يَا أمة اللَّه، مَا لي فِي هَذَا المصر منزل وَلا عشيرة، فهل لك إِلَى أجر ومعروف، ولعلي مكافئك بِهِ بعد الْيَوْم! فَقَالَتْ: يَا عَبْد اللَّهِ، وما ذاك؟ قَالَ: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هَؤُلاءِ القوم وغروني، قالت: أنت مسلم! قَالَ: نعم قالت: ادخل، فأدخلته بيتا فِي دارها غير البيت الَّذِي تكون فِيهِ، وفرشت لَهُ، وعرضت عَلَيْهِ العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جَاءَ ابنها فرآها تكثر الدخول فِي البيت والخروج مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إنه ليريبني كثرة دخولك هَذَا البيت منذ الليلة وخروجك مِنْهُ! إن لك لشأنا، قالت: يَا بني، اله عن هَذَا، قَالَ لها: وَاللَّهِ لتخبرني: قالت: أقبل عَلَى شأنك وَلا تسألني عن شَيْء، فألح عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا بني، لا تحدثن أحدا مِنَ النَّاسِ بِمَا أخبرك بِهِ، وأخذت عَلَيْهِ الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت- وزعموا أنه قَدْ كَانَ شريدا مِنَ النَّاسِ وَقَالَ بعضهم: كَانَ يشرب مع أَصْحَاب لَهُ- ولما طال عَلَى ابن زياد، وأخذ لا يسمع لأَصْحَاب ابن عقيل صوتا كما كَانَ يسمعه قبل ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه: أشرفوا فانظروا هل ترون مِنْهُمْ أحدا! فأشرفوا فلم يروا أحدا، قَالَ: فانظروا لعلهم تحت الظلال قَدْ كمنوا لكم، ففرعوا بحابح المسجد، وجعلوا يخفضون شعل النار فِي أيديهم، ثُمَّ ينظرون: هل فِي الظلال أحد؟ وكانت أحيانا تضيء لَهُمْ، وأحيانا لا تضيء لَهُمْ كما يريدون، فدلوا القناديل وأنصاف الطنان تشد بالحبال، ثُمَّ تجعل فِيهَا النيران، ثُمَّ تدلى، حَتَّى تنتهي إِلَى الأرض ففعلوا ذَلِكَ فِي أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حَتَّى فعلوا ذَلِكَ بالظلة الَّتِي فِيهَا الْمِنْبَر، فلما لم يروا شَيْئًا أعلموا ابن زياد، ففتح باب السدة الَّتِي فِي المسجد ثُمَّ خرج فصعد الْمِنْبَر، وخرج أَصْحَابه مَعَهُ، فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة، وأمر عَمْرو بن نافع فنادى: أَلا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا فِي المسجد، فلم يكن لَهُ إلا ساعة حَتَّى امتلأ المسجد مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ أمر مناديه فأقام الصَّلاة، فَقَالَ الحصين بن تميم: إن شئت صليت بِالنَّاسِ، أو يصلي بهم غيرك، ودخلت أنت فصليت فِي القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فَقَالَ: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كَانُوا يقفون، ودر فِيهِمْ فإني لست بداخل إذا.
فصلى بِالنَّاسِ، ثُمَّ قام فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل، قَدْ أتى مَا قَدْ رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة اللَّه من رجل وجدناه فِي داره، ومن جَاءَ بِهِ فله ديته اتقوا اللَّه عباد اللَّه، والزموا طاعتكم وبيعتكم، وَلا تجعلوا عَلَى أنفسكم سبيلا يَا حصين ابن تميم، ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الْكُوفَة، أو خرج هَذَا الرجل ولم تأتني بِهِ، وَقَدْ سلطتك عَلَى دور أهل الْكُوفَة، فابعث مراصدة عَلَى أفواه السكك، وأصبح غدا واستبر الدور وجس خلالها حَتَّى تأتيني بهذا الرجل- وَكَانَ الحصين عَلَى شرطه، وَهُوَ من بني تميم- ثُمَّ نزل ابن زياد فدخل وَقَدْ عقد لعمرو بن حريث راية وأمره عَلَى الناس، فلما أصبح جلس مجلسه وأذن لِلنَّاسِ فدخلوا عَلَيْهِ، وأقبل مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: مرحبا بمن لا يستغش ولايتهم! ثُمَّ أقعده إِلَى جنبه، وأصبح ابن تِلَكَ العجوز وَهُوَ بلال بن أسيد الَّذِي آوت أمه ابن عقيل، فغدا إِلَى عبد الرَّحْمَن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عِنْدَ أمه، قَالَ: فأقبل عبد الرَّحْمَن حَتَّى أتى أباه وَهُوَ عِنْدَ ابن زياد، فساره، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا قَالَ لك؟
قَالَ: أَخْبَرَنِي أن ابن عقيل فِي دار من دورنا، فنخس بالقضيب فِي جنبه ثُمَّ قَالَ: قم فأتني بِهِ الساعة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعِيد بن زائدة بن قدامة الثقفي، أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إِلَى عَمْرو بن حريث وَهُوَ فِي المسجد خليفته عَلَى الناس، أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس- وإنما كره أن يبعث مَعَهُ قومه لأنه قَدْ علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فِيهِمْ مثل ابن عقيل- فبعث مَعَهُ عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن عباس السلمي فِي ستين أو سبعين من قيس، حَتَّى أتوا الدار الَّتِي فِيهَا ابن عقيل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قَدْ أتي، فخرج إِلَيْهِم بسيفه، واقتحموا عَلَيْهِ الدار، فشد عَلَيْهِم يضربهم بسيفه حَتَّى أخرجهم من الدار، ثُمَّ عادوا إِلَيْهِ، فشد عَلَيْهِم كذلك، فاختلف هُوَ وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأشرع السيف فِي السفلى، ونصلت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة فِي رأسه منكرة، وثنى بأخرى عَلَى حبل العاتق كادت تطلع عَلَى جوفه فلما رأوا ذَلِكَ أشرفوا عَلَيْهِ من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار فِي أطنان القصب، ثُمَّ يقلبونها عَلَيْهِ من فوق البيت، فلما رَأَى ذَلِكَ خرج عَلَيْهِم مصلتا بسيفه فِي السكة فقاتلهم، فأقبل عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: يَا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك، فأقبل يقاتلهم، وَهُوَ يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حرا *** وإن رأيت الموت شَيْئًا نكرا
كل امرئ يَوْمًا ملاق شرا *** ويخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فاستقر *** أخاف أن أكذب أو أغرا
فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن الأشعث: إنك لا تكذب وَلا تخدع وَلا تغر، إن القوم بنو عمك، وليسوا بقاتليك وَلا ضاربيك، وَقَدْ أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال وانبهر، فأسند ظهره إِلَى جنب تلك الدار، فدنا محمد ابن الأشعث فَقَالَ: لك الأمان، فَقَالَ: آمن أنا؟ قَالَ: نعم، وَقَالَ القوم:
أنت آمن، غير عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن العباس السلمي فإنه قَالَ:
لا ناقة لي فِي هَذَا وَلا جمل، وتنحى.
وَقَالَ ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني مَا وضعت يدي فِي أيديكم وأتي ببغلة فحمل عَلَيْهَا، واجتمعوا حوله، وانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه عِنْدَ ذَلِكَ آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثُمَّ قَالَ: هذا أول الغدر، قال محمد ابن الاشعث: أرجو الا يكون عَلَيْك بأس، قَالَ: مَا هُوَ إلا الرجاء، أين أمانكم! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وبكى، فَقَالَ لَهُ عَمْرو بن عُبَيْد اللَّهِ بن عباس: إن من يطلب مثل الَّذِي تطلب إذا نزل بِهِ مثل الَّذِي نزل بك لم يبك، قَالَ: إني وَاللَّهِ مَا لنفسي أبكي، وَلا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حُسَيْن! ثُمَّ أقبل عَلَى مُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ، إني أراك وَاللَّهِ ستعجز عن أماني، فهل عندك خير! تستطيع أن تبعث من عندك رجلا عَلَى لساني يبلغ حسينا، فإني لا أراه إلا قَدْ خرج إليكم الْيَوْم مقبلا، او هو خرج غدا هُوَ وأهل بيته، وإن مَا ترى من جزعي لذلك، فيقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وَهُوَ فِي أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حَتَّى تقتل، وَهُوَ يقول: ارجع بأهل بيتك، وَلا يغرك أهل الْكُوفَة فإنهم أَصْحَاب أبيك الَّذِي كَانَ يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الْكُوفَة قَدْ كذبوك وكذبوني، وليس لمكذب رأي، فَقَالَ ابن الأشعث: وَاللَّهِ لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قَدْ أمنتك قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي جَعْفَر بن حُذَيْفَة الطائي- وقد عرف سعيد ابن شيبان الحديث- قَالَ: دعا مُحَمَّد بن الأشعث إياس بن العثل الطَّائِيّ من بني مالك ابن عَمْرو بن ثمامة، وَكَانَ شاعرا، وَكَانَ لمُحَمَّد زوارا، فَقَالَ لَهُ: الق حسينا فأبلغه هَذَا الكتاب، وكتب فِيهِ الَّذِي أمره ابن عقيل، وَقَالَ لَهُ: هَذَا زادك وجهازك، ومتعة لعيالك، فَقَالَ: من أين لي براحلة، فإن راحلتي قَدْ أنضيتها؟ قَالَ: هَذِهِ راحلة فاركبها برحلها ثُمَّ خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلغه الرسالة، [فَقَالَ لَهُ حُسَيْن: كل مَا حم نازل، وعند اللَّه نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا] .
وَقَدْ كَانَ مسلم بن عقيل حَيْثُ تحول إِلَى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا، قدم كتابا إِلَى حُسَيْن مع عابس بن أبي شبيب الشاكري:
أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، وَقَدْ بايعني من أهل الْكُوفَة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لَهُمْ فِي آل مُعَاوِيَة رأي وَلا هوى، والسلام.
وأقبل مُحَمَّد بن الأشعث بابن عقيل إِلَى باب القصر، فاستأذن فأذن لَهُ، فأخبر عُبَيْد اللَّهِ خبر ابن عقيل وضرب بكير إِيَّاهُ، فَقَالَ: بعدا لَهُ! فأخبره مُحَمَّد بن الأشعث بِمَا كَانَ مِنْهُ وما كَانَ من أمانه إِيَّاهُ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: مَا أنت والأمان! كأنا أرسلناك تؤمنه! انما أرسلناك لتأتينا بِهِ، فسكت وانتهى ابن عقيل إِلَى باب القصر وَهُوَ عطشان، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، مِنْهُمْ عمارة بن عُقْبَةَ بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعْد أن مسلم بن عقيل حين انتهى إِلَى باب القصر فإذا قلة باردة موضوعة عَلَى الباب، فَقَالَ ابن عقيل:
اسقوني من هَذَا الماء، فَقَالَ لَهُ مسلم بن عَمْرو: أتراها مَا أبردها! لا وَاللَّهِ لا تذوق منها قطرة أبدا حَتَّى تذوق الحميم فِي نار جهنم! قَالَ لَهُ ابن عقيل: ويحك! من أنت؟ قَالَ: أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عَمْرو الباهلي، فَقَالَ ابن عقيل: لأمك الثكل! مَا أجفاك، وما أفظك، وأقسى قلبك واغلظك! أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود فِي نار جهنم مني، ثُمَّ جلس متساندا إِلَى حائط.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي قدامة بن سَعْد أن عَمْرو بن حريث بعث غلاما يدعى سُلَيْمَان، فجاءه بماء فِي قلة فسقاه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي سَعِيد بن مدرك بن عمارة، أن عمارة بن عُقْبَةَ بعث غلاما لَهُ يدعى قيسا، فجاءه بقلة عَلَيْهَا منديل وَمَعَهُ قدح فصب فِيهِ ماء، ثُمَّ سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فِيهِ، فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ! لو كَانَ لي من الرزق المقسوم شربته وأدخل مسلم عَلَى ابن زياد فلم يسلم عَلَيْهِ بالإمرة، فَقَالَ لَهُ الحرسي: أَلا تسلم عَلَى الأمير! فَقَالَ لَهُ: إن كَانَ يريد قتلي فما سلامي عَلَيْهِ! وإن كَانَ لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: لعمري لتقتلن، قَالَ: كذلك؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
فدعني أوص إِلَى بعض قومي، فنظر إِلَى جلساء عُبَيْد اللَّهِ وفيهم عُمَر بن سَعْدٍ، فقال: يا عمر، ان بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وَقَدْ يجب لي عَلَيْك نجح حاجتي، وَهُوَ سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فَقَالَ لَهُ عبيد اللَّهِ: لا تمتنع أن تنظر فِي حاجة ابن عمك، فقام مَعَهُ فجلس حَيْثُ ينظر إِلَيْهِ ابن زياد، فَقَالَ لَهُ: إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الْكُوفَة، سبعمائة درهم، فاقضها عني، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، وابعث إِلَى حُسَيْن من يرده، فإني قَدْ كتبت إِلَيْهِ أعلمه أن الناس مَعَهُ، وَلا أراه إلا مقبلا، فَقَالَ عمر لابن زياد: أتدري مَا قَالَ لي؟ إنه ذكر كذا وكذا، قَالَ لَهُ ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قَدْ يؤتمن الخائن، أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فِيهِ مَا أحببت، وأما حُسَيْن فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك فِيهَا، إنه ليس بأهل منا لذلك، قَدْ جاهدنا وخالفنا، وجهد عَلَى هلاكنا.
وزعموا أنه قال: اما جثته فانا لا نبالى إذ قتلناه مَا صنع بِهَا ثُمَّ إن ابن زياد قال: ايه يا بن عقيل! أتيت الناس وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، لتشتتهم، وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم عَلَى بعض! قَالَ: كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فِيهِمْ أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إِلَى حكم الكتاب، قَالَ: وما أنت وذاك يا فاسق! او لم نكن نعمل بذاك فِيهِمْ إذ أنت بِالْمَدِينَةِ تشرب الخمر! قَالَ: أنا أشرب الخمر! وَاللَّهِ إن اللَّه ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأني لست كما ذكرت وان أحق بشرب الخمر مني وأولى بِهَا من يلغ فِي دماء الْمُسْلِمِينَ ولغا، فيقتل النفس الَّتِي حرم اللَّه قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل عَلَى الغضب والعداوة وسوء الظن، وَهُوَ يلهو ويلعب كأن لم يصنع شَيْئًا فَقَالَ لَهُ ابن زياد: يَا فاسق، إن نفسك تمنيك مَا حال اللَّه دونه، ولم يرك أهله، قَالَ: فمن اهله يا بن زياد؟ قَالَ: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَلَى كل حال، رضينا بِاللَّهِ حكما بيننا وبينكم، قَالَ: كأنك تظن أن لكم فِي الأمر شَيْئًا! قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بالظن، ولكنه اليقين، قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد فِي الإِسْلام! قَالَ: أما إنك أحق من أحدث فِي الإِسْلام مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، وَلا أحد مِنَ النَّاسِ أحق بِهَا مِنْكَ وأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه وزعم أهل العلم أن عُبَيْد اللَّهِ أمر لَهُ بماء فسقي بخزفة، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إنه لم يمنعنا أن نسقيك فِيهَا إلا كراهة أن تحرم بالشرب فِيهَا، ثُمَّ نقتلك، ولذلك سقيناك فِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: اصعدوا بِهِ فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم اتبعوا جسده راسه، فقال: يا بن الأشعث، أما وَاللَّهِ لولا أنك آمنتني مَا استسلمت، قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك، ثم قال:
يا بن زياد، أما وَاللَّهِ لو كَانَتْ بيني وبينك قرابة مَا قتلتني، ثُمَّ قَالَ ابن زياد:
أين هَذَا الَّذِي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدعي، فَقَالَ:
اصعد فكن أنت الَّذِي تضرب عنقه، فصعد بِهِ وَهُوَ يكبر ويستغفر ويصلي عَلَى ملائكة اللَّه ورسله وَهُوَ يقول: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا وأشرف بِهِ عَلَى موضع الجزارين الْيَوْم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.
قَالَ أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قَالَ: نزل الأحمري بكير بن حمران الَّذِي قتل مسلما، فَقَالَ لَهُ ابن زياد:
قتله؟ قال: نعم، قَالَ: نعم، قَالَ: فما كَانَ يقول وَأَنْتُمْ تصعدون بِهِ؟ قَالَ: كَانَ يكبر ويسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قَالَ: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا، فقلت له: ادن منى، الحمد لله الَّذِي أقادني مِنْكَ، فضربته ضربة لم تغن شَيْئًا، فَقَالَ أما ترى فِي خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد! فَقَالَ ابن زياد: او فخرا عِنْدَ الموت! قَالَ: ثُمَّ ضربته الثانية فقتلته.
قَالَ: وقام مُحَمَّد بن الأشعث إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد فكلمه فِي هانئ بن عروة، وَقَالَ: إنك قَدْ عرفت منزلة هانئ بن عروة فِي المصر، وبيته فِي العشيرة، وَقَدْ علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك اللَّه لما وهبته لي، فإني أكره عداوة قومه، هم أعز أهل المصر، وعدد أهل اليمن! قَالَ: فوعده أن يفعل، فلما كَانَ من أمر مسلم بن عقيل مَا كَانَ، بدا لَهُ فِيهِ، وأبى أن يفي له بما قال.
قال: فامر بهانىء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال: اخرجوا الى السوق فاضربوا عنقه، قال: فاخرج بهانىء حَتَّى انتهى إِلَى مكان من السوق كَانَ يباع فِيهِ الغنم وَهُوَ مكتوف، فجعل يقول: وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! وا مذحجاه، وأين مني مذحج! فلما رَأَى أن أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف، ثُمَّ قَالَ: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش بِهِ رجل عن نفسه! قَالَ: ووثبوا إِلَيْهِ فشدوه وثاقا، ثُمَّ قيل لَهُ: امدد عنقك، فَقَالَ:
مَا أنا بِهَا مجد سخي، وما أنا بمعينكم عَلَى نفسي.
قَالَ: فضربه مولى لعبيد اللَّه بن زياد- تركي يقال لَهُ رشيد- بالسيف، فلم يصنع سيفه شَيْئًا، فَقَالَ هانئ: إِلَى اللَّهِ المعاد! اللَّهُمَّ إِلَى رحمتك ورضوانك! ثُمَّ ضربه أخرى فقتله.
قَالَ: فبصر بِهِ عبد الرَّحْمَن بن الحصين المرادي بخازر، وَهُوَ مع عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ الناس: هَذَا قاتل هانئ بن عروة، فَقَالَ ابن الحصين: قتلني اللَّه إن لم أقتله أو أقتل دونه! فحمل عَلَيْهِ بالرمح فطعنه فقتله ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الَّذِي كَانَ أخذه كثير بن شهاب فِي بني فتيان، فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ:
أَخْبَرَنِي بأمرك، فَقَالَ: أصلحك اللَّه! خرجت لأنظر مَا يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب، فَقَالَ لَهُ: فعليك وعليك، من الأيمان المغلظة، إن كَانَ أخرجك إلا مَا زعمت! فأبى أن يحلف، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ: انطلقوا بهذا إِلَى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بِهَا، قَالَ: فانطلق بِهِ فضربت عنقه، قَالَ: وأخرج عمارة بن صلخب الأَزْدِيّ- وَكَانَ ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره- فأتي بِهِ أَيْضًا عُبَيْد اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من الأزد.
قَالَ: انطلقوا بِهِ إِلَى قومه، فضربت عنقه فِيهِمْ، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الأسدي فِي قتلة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادى- ويقال: قاله الفرزدق:
ان كنت لا تدرين مَا الموت فانظري *** إِلَى هانئ فِي السوق وابن عقيل
إِلَى بطل قَدْ هشم السيف وجهه *** وآخر يهوي من طمار قتيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا *** أحاديث من يسري بكل سبيل
ترى جسدا قَدْ غير الموت لونه *** ونضح دم قَدْ سال كل مسيل
فتى هُوَ أحيا من فتاة حيية *** وأقطع من ذي شفرتين صقيل
أيركب أسماء الهماليج آمنا *** وَقَدْ طلبته مذحج بذحول!
تطيف حواليه مراد وكلهم *** عَلَى رقبه من سائل ومسول
فان أنتم لم تثأروا بأخيكمُ *** فكونوا بغايا أرضيت بقليل
قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب يَحْيَى بن أبي حية الكلبي، قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما قتل مسلما وهانئا بعث برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي وَالزُّبَيْر بن الأروح التميمي إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وأمر كاتبه عَمْرو بن نافع أن يكتب إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة بِمَا كَانَ من مسلم وهانئ، فكتب إِلَيْهِ كتابا أطال فِيهِ- وَكَانَ أول من أطال فِي الكتب- فلما نظر فِيهِ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد كرهه، وَقَالَ: مَا هَذَا التطويل وهذه الفضول؟ اكتب:
أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي أخذ لأمير الْمُؤْمِنِينَ بحقه، وكفاه مؤنة عدوه أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه اللَّه أن مسلم بن عقيل لجأ إِلَى دار هانئ بن عروة المرادي، وأني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حَتَّى استخرجتهما، وأمكن اللَّه منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وَقَدْ بعثت إليك برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني وَالزُّبَيْر بن الأروح التميمي- وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة- فليسألهما أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عما أحب من أمر، فإن عندهما علما وصدقا، وفهما وورعا، والسلام.
فكتب إِلَيْهِ يَزِيد: أَمَّا بَعْدُ، فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك، وَقَدْ دعوت رسوليك فسألتهما، وناجيتهما فوجدتهما فِي رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا، وإنه قَدْ بلغني أن الْحُسَيْن بن علي قَدْ توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس عَلَى الظن، وخذ عَلَى التهمه، غير الا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي فِي كل مَا يحدث من الخبر، والسلام عَلَيْك ورحمة اللَّه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة، قَالَ: كَانَ مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين- ويقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ مقبلا إِلَى الْكُوفَةِ بيوم- قَالَ: وَكَانَ مخرج الْحُسَيْن مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثُمَّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية فِي الْيَوْم الَّذِي خرج فِيهِ مسلم بن عقيل.
وذكر هَارُون بن مسلم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صالح، عن عِيسَى بن يَزِيدَ، أن المختار بن أبي عبيد وعبد اللَّه بن الْحَارِث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عَبْد اللَّهِ براية حمراء، وعليه ثياب حمر، وجاء المختار برايته فركزها عَلَى باب عَمْرو بن حريث، وَقَالَ: إنما خرجت لأمنع عمرا، وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلما وأَصْحَابه عشية سار مسلم إِلَى قصر ابن زياد قتالا شديدا، وأن شبثا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرقوا، فَقَالَ لَهُ القعقاع: إنك قَدْ سددت عَلَى الناس وجه مصيرهم، فافرج لَهُمْ ينسربوا، وإن عُبَيْد اللَّهِ أمر أن يطلب المختار وعبد اللَّه بن الْحَارِث، وجعل فيهما جعلا، فاتى بهما فحبسا.
ذكر مسير الحسين الى الكوفه
وفي هذه السنه كان خروج الحسين ع مِنْ مَكَّةَ متوجها إِلَى الْكُوفَةِ.
ذكر الخبر عن مسيره إِلَيْهَا وما كَانَ من أمره فِي مسيره ذَلِكَ:
قَالَ هِشَام عن أبي مخنف: حَدَّثَنِي الصَّقْعَبُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ عُمَر بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ المخزومي، قَالَ: لما قدمت كتب أهل العراق إِلَى الْحُسَيْن وتهيأ للمسير إِلَى العراق، أتيته فدخلت عَلَيْهِ وَهُوَ بمكة، فحمدت اللَّه وأثنيت عَلَيْهِ، ثُمَّ قلت: أَمَّا بَعْدُ، فإني أتيتك يا بن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني وإلا كففت عما اريد ان اقول، فقال: قل، فو الله ما اظنك بسيئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل، قَالَ: قلت لَهُ: إنه قَدْ بلغني أنك تريد المسير إِلَى العراق، وإني مشفق عَلَيْك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فِيهِ عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، وَلا آمن عَلَيْك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحب إِلَيْهِ ممن يقاتلك مَعَهُ، [فقال الحسين: جزاك الله خيرا يا بن عم، فقد وَاللَّهِ علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح] .
قَالَ: فانصرفت من عنده فدخلت عَلَى الْحَارِث بن خَالِد بن الْعَاصِ بن هِشَام، فسألني: هل لقيت حسينا؟ فقلت له: نعم، قال: فما قَالَ لك، وما قلت لَهُ؟ قَالَ: فقلت لَهُ: قلت كذا وكذا، وَقَالَ كذا وكذا، فَقَالَ:
نصحته ورب المروة الشهباء، أما ورب البنية إن الرأي لما رأيته، قبله أو تركه، ثُمَّ قَالَ:
رب مستنصح يغش ويردي *** وظنين بالغيب يلفى نصيحا
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان، أن حسينا لما أجمع المسير إِلَى الْكُوفَةِ أتاه عَبْد الله بن عباس فقال: يا بن عم، إنك قَدْ أرجف الناس إنك سائر إِلَى العراق، فبين لي مَا أنت صانع؟ قَالَ:
إني قَدْ أجمعت المسير فِي أحد يومي هَذَيْنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: فإني أعيذك بِاللَّهِ من ذَلِكَ، أَخْبَرَنِي رحمك اللَّه! أتسير إِلَى قوم قَدْ قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كَانُوا قَدْ فعلوا ذَلِكَ فسر إِلَيْهِم، وإن كَانُوا إنما دعوك إِلَيْهِم وأميرهم عَلَيْهِم قاهر لَهُمْ، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك إِلَى الحرب والقتال، وَلا آمن عَلَيْك أن يغروك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عَلَيْك، [فَقَالَ لَهُ حُسَيْن: وإني أستخير اللَّه وأنظر مَا يكون] .
قَالَ: فخرج ابن عَبَّاس من عنده، وأتاه ابن الزُّبَيْر فحدثه ساعة، ثُمَّ قَالَ: مَا أدري مَا تركنا هَؤُلاءِ القوم وكفنا عَنْهُمْ، ونحن أبناء الْمُهَاجِرِينَ، وولاة هَذَا الأمر دونهم! خبرني مَا تريد أن تصنع؟ [فَقَالَ الْحُسَيْن: وَاللَّهِ لقد حدثت نفسي بإتيان الْكُوفَة، وَلَقَدْ كتب إلي شيعتي بِهَا وأشراف أهلها، وأستخير اللَّه،] فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: أما لو كَانَ لي بِهَا مثل شيعتك مَا عدلت بِهَا، قَالَ: ثُمَّ إنه خشي أن يتهمه فَقَالَ: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثُمَّ اردت هذا الأمر هاهنا مَا خولف عَلَيْك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قام فخرج من عنده، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ها إن هَذَا ليس شَيْء يؤتاه من الدُّنْيَا أحب إِلَيْهِ من أن أخرج من الحجاز إِلَى العراق، وَقَدْ علم أنه ليس لَهُ من الأمر معي شَيْء، وأن الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو لَهُ] .
قَالَ: فلما كَانَ من العشي أو من الغد، أتى الْحُسَيْن عَبْد اللَّهِ بن العباس فقال: يا بن عم إني أتصبر وَلا أصبر، إني أتخوف عَلَيْك فِي هَذَا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كَانَ أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إِلَيْهِم فلينفوا عدوهم، ثُمَّ أقدم عَلَيْهِم، فإن أبيت الا انه تخرج فسر إِلَى اليمن فإن بِهَا حصونا وشعابا، وَهِيَ أرض عريضة طويلة، ولأبيك بِهَا شيعة، وأنت عن الناس فِي عزلة، فتكتب إِلَى النَّاسِ وترسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عِنْدَ ذَلِكَ الَّذِي تحب فِي عافية، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: يا بن عم، إني وَاللَّهِ لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قَدْ أزمعت وأجمعت عَلَى المسير،] فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاس: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عُثْمَان ونساؤه وولده ينظرون إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ابن عَبَّاس: لقد أقررت عين ابن الزُّبَيْر بتخليتك إِيَّاهُ والحجاز والخروج منها، وَهُوَ الْيَوْم لا ينظر إِلَيْهِ أحد معك، وَاللَّهِ الَّذِي لا إله إلا هُوَ لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حَتَّى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذَلِكَ قَالَ: ثُمَّ خرج ابن عَبَّاس من عنده، فمر بعبد اللَّه بن الزبير، فقال: قرت عينك يا بن الزبير! ثم قال:
يا لك من قبره بمعمر *** خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري مَا شئت أن تنقري.
هَذَا حُسَيْن يخرج إِلَى العراق، وعليك بالحجاز.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ أَبُو جناب يَحْيَى بن أبي حية، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عَبْد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قَالا:
خرجنا حاجين من الْكُوفَة حَتَّى قدمنا مكة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ قائمين عِنْدَ ارتفاع الضحى فِيمَا بين الحجر والباب، قَالا: فتقربنا منهما، فسمعنا ابن الزُّبَيْر وَهُوَ يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هَذَا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: إن أبي حَدَّثَنِي أن بِهَا كبشا يستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذَلِكَ الكبش،] فَقَالَ لَهُ ابن الزُّبَيْر: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع وَلا تعصى، فَقَالَ: وما أريد هَذَا أَيْضًا، قَالا: ثُمَّ إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حَتَّى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إِلَى منى عِنْدَ الظهر، قَالا: فطاف الْحُسَيْن بالبيت وبين الصفا والمروة، وقص من شعره، وحل من عمرته، ثُمَّ توجه نحو الْكُوفَة، وتوجهنا نحو الناس إِلَى منى.
قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي سَعِيد عقيصى، عن بعض أَصْحَابه، [قَالَ:
سمعت الْحُسَيْن بن علي وَهُوَ بمكة وَهُوَ واقف مع عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ ابن الزبير الى يا بن فاطمة، فأصغى إِلَيْهِ، فساره، قَالَ: ثُمَّ التفت إلينا الْحُسَيْن فَقَالَ: أتدرون مَا يقول ابن الزُّبَيْر؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا اللَّه فداك! فَقَالَ: قَالَ: أقم فِي هَذَا المسجد أجمع لك الناس، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْن:
وَاللَّهِ لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر، وايم اللَّه لو كنت فِي جحر هامة من هَذِهِ الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، وو الله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود فِي السبت] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان قَالَ: لما خرج الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ اعترضه رسل عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، عَلَيْهِم يَحْيَى بن سَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ: انصرف، أين تذهب! فأبى عَلَيْهِم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط ثُمَّ ان الحسين واصحابه امتنعوا امتناعا قويا، ومضى الحسين ع عَلَى وجهه، فنادوه:
يَا حُسَيْن، أَلا تتقي اللَّه! تخرج من الجماعة، وتفرق بين هَذِهِ الأمة! [فتأول حُسَيْن قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] .
قَالَ: ثُمَّ إن الْحُسَيْن أقبل حَتَّى مر بالتنعيم، فلقي بِهَا عيرا قَدْ أقبل بِهَا من اليمن، بعث بِهَا بحير بن ريسان الحميري إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، – وَكَانَ عامله على اليمن- وعلى العمير الورس والحلل ينطلق بِهَا إِلَى يَزِيد فأخذها الْحُسَيْن، فانطلق بِهَا، [ثُمَّ قَالَ لأَصْحَاب الإبل: لا أكرهكم، من أحب أن يمضي معنا إِلَى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هَذَا أعطيناه من الكراء عَلَى قدر مَا قطع من الأرض، قَالَ: فمن فارقه مِنْهُمْ حوسب فأوفي حقه، ومن مضى مِنْهُمْ مَعَهُ أعطاه كراءه وكساه] .
قَالَ أَبُو مخنف، عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله ابن سليم والمذري قَالا: [أقبلنا حَتَّى انتهينا إِلَى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسينا فَقَالَ لَهُ: أعطاك اللَّه سؤلك وأملك فِيمَا تحب، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: بين لنا نبأ الناس خلفك، فَقَالَ لَهُ الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أُمَيَّة، والقضاء ينزل من السماء، واللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ، * فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: صدقت، لِلَّهِ الأمر، واللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ*، وكُلَّ يَوْمٍ ربنا فِي شَأْنٍ، أن نزل القضاء بِمَا نحب فنحمد اللَّه عَلَى نعمائه، وَهُوَ المستعان عَلَى أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كَانَ الحق نيته، والتقوى سريرته، ثُمَّ حرك الْحُسَيْن راحلته فَقَالَ: السلام عَلَيْك، ثُمَّ افترقا] .
قَالَ هِشَام، عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حججت بأمي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم فِي أيام الحج، وَذَلِكَ فِي سنة ستين، إذ لقيت الْحُسَيْن بن علي خارجا مِنْ مَكَّةَ مَعَهُ أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هَذَا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي، فأتيته فقلت: بابى وأمي يا بن رَسُول اللَّهِ! مَا أعجلك عن الحج؟ فَقَالَ: لو لم أعجل لأخذت، قَالَ: ثُمَّ سألني: ممن أنت؟ فقلت لَهُ: امرؤ من العراق، قال: فو الله مَا فتشني عن أكثر من ذَلِكَ، واكتفى بِهَا مني، [فَقَالَ:
أَخْبَرَنِي عن الناس خلفك؟ قَالَ: فقلت لَهُ: القلوب معك، والسيوف مع بني أُمَيَّة، والقضاء بيد اللَّه، قَالَ: فَقَالَ لي: صدقت،] قَالَ: فسألته عن أشياء، فأخبرني بِهَا من نذور ومناسك، قَالَ: وإذا هُوَ ثقيل اللسان من برسام أصابه بِالْعِرَاقِ، قَالَ: ثُمَّ مضيت فإذا بفسطاط مضروب فِي الحرم، وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هُوَ لعبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فسألني، فأخبرته بلقاء الْحُسَيْن بن علي، فقال لي: ويلك! فهلا اتبعته، فو الله ليملكن، وَلا يجوز السلاح فِيهِ وَلا فِي أَصْحَابه، قَالَ: فهممت وَاللَّهِ أن ألحق بِهِ، ووقع فِي قلبي مقالته، ثُمَّ ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدني ذَلِكَ عن اللحاق بهم، فقدمت على اهلى بعسفان، قال: فو الله إني لعندهم إذ أقبلت عير قَدِ امتارت من الْكُوفَة، فلما سمعت بهم خرجت فِي آثارهم حَتَّى إذا أسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم: أَلا مَا فعل الْحُسَيْن ابن علي؟ قَالَ: فردوا علي: أَلا قَدْ قتل، قَالَ: فانصرفت وأنا ألعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: وَكَانَ أهل ذَلِكَ الزمان يقولون ذَلِكَ الأمر، وينتظرونه فِي كل يوم وليلة قَالَ: وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو يقول:
لا تبلغ الشجرة وَلا النخلة وَلا الصغير حَتَّى يظهر هَذَا الأمر، قَالَ: فقلت لَهُ: فما يمنعك أن تبيع الوهط؟ قَالَ: فَقَالَ لي: لعنة اللَّه عَلَى فلان- يعني مُعَاوِيَة- وعليك، قَالَ: فقلت: لا، بل عَلَيْك لعنة اللَّه، قَالَ: فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمه أحد فألقى مِنْهُمْ شرا، قَالَ: فخرجت وَهُوَ لا يعرفني- والوهط حائط لعبد اللَّه بن عَمْرو بالطائف، قَالَ: وَكَانَ مُعَاوِيَة قَدْ ساوم بِهِ عَبْد اللَّهِ بن عَمْرو، وأعطاه بِهِ مالا كثيرا، فأبى أن يبيعه بشيء- قَالَ: وأقبل الْحُسَيْن مغذا لا يلوي عَلَى شَيْء حَتَّى نزل ذات عرق.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب الوالبي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن ابن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لما خرجنا مِنْ مَكَّةَ كتب عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْحُسَيْن بن علي مع ابنيه: عون ومُحَمَّد: أَمَّا بَعْدُ، فإني أسألك بِاللَّهِ لما انصرفت حين تنظر فِي كتابي، فإني مشفق عَلَيْك من الوجه الَّذِي توجه لَهُ أن يكون فِيهِ هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت الْيَوْم طفئ نور الأرض، فإنك علم المهتدين، ورجاء الْمُؤْمِنِينَ، فلا تعجل بالسير فإني فِي أثر الكتاب، والسلام.
قَالَ: وقام عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر إِلَى عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فكلمه.
وَقَالَ: اكتب إِلَى الْحُسَيْن كتابا تجعل لَهُ فِيهِ الأمان، وتمنيه فِيهِ البر والصلة، وتوثق لَهُ فِي كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إِلَى ذَلِكَ فيرجع، فقال عمرو ابن سَعِيد: اكتب مَا شئت وأتني بِهِ حَتَّى أختمه، فكتب عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر الكتاب، ثُمَّ أتى بِهِ عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ له: اختمه، وابعث بِهِ مع أخيك يَحْيَى بن سَعِيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إِلَيْهِ، ويعلم أنه الجد مِنْكَ، ففعل، وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة عَلَى مكة، قَالَ: فلحقه يَحْيَى وعبد اللَّه بن جَعْفَر، ثُمَّ انصرفا بعد أن أقرأه يَحْيَى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا بِهِ، وَكَانَ مما اعتذر بِهِ إلينا أن قَالَ: إني رايت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت فِيهَا بأمر أنا ماض لَهُ، علي كان اولى، فقالا لَهُ: فما تِلَكَ الرؤيا؟ قَالَ: مَا حدثت أحدا بِهَا، وما أنا محدث بِهَا حَتَّى ألقى ربي.
قَالَ: وَكَانَ كتاب عَمْرو بن سَعِيد إِلَى الْحُسَيْن بن علي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من عَمْرو بن سَعِيد إِلَى الْحُسَيْن بن علي، أَمَّا بَعْدُ، فإني اسال الله ان يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قَدْ توجهت إِلَى العراق، وإني أعيذك بِاللَّهِ من الشقاق، فإني أخاف عَلَيْك فِيهِ الهلاك، وَقَدْ بعثت إليك عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر ويحيى بن سَعِيد، فأقبل إلي مَعَهُمَا، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار لك، اللَّه علي بِذَلِكَ شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عَلَيْك.
قَالَ: وكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن: أَمَّا بَعْدُ، فإنه لم يشاقق اللَّه ورسوله من دعا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وعمل صالحا وَقَالَ إنني مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ دعوت إِلَى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان اللَّه، ولن يؤمن اللَّه يوم الْقِيَامَة من لم يخفه فِي الدُّنْيَا، فنسأل اللَّه مخافة فِي الدُّنْيَا توجب لنا أمانة يوم القيامه، فان كنت نويت بالكتاب صلى وبري، فجزيت خيرا فِي الدُّنْيَا والآخرة، والسلام.
رجع الحديث إِلَى حديث عمار الدهني عن أبي جَعْفَر فَحَدَّثَنِي زكرياء بن يَحْيَى الضرير، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن جناب المصيصي قَالَ:
حَدَّثَنَا خَالِد بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيّ قَالَ: [حَدَّثَنَا عمار الدهني قَالَ:
قلت لأبي جَعْفَر: حَدَّثَنِي عن مقتل الْحُسَيْن حَتَّى كأني حضرته، قَالَ: فأقبل حُسَيْن بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كَانَ إِلَيْهِ، حَتَّى إذا كَانَ بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يَزِيدَ التميمي، فَقَالَ لَهُ: أين تريد؟
قَالَ: أريد هَذَا المصر، قَالَ لَهُ: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه، فهم أن يرجع، وَكَانَ مَعَهُ إخوة مسلم بن عقيل، فَقَالُوا: والله لا نرجع حَتَّى نصيب بثأرنا أو نقتل، فَقَالَ: لا خير فِي الحياة بعدكم! فسار فلقيته أوائل خيل عُبَيْد اللَّهِ، فلما رَأَى ذَلِكَ عدل إِلَى كربلاء فأسند ظهره إِلَى قصباء وخلا كيلا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب أبنيته، وَكَانَ أَصْحَابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وَكَانَ عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص قَدْ ولاه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الري وعهد إِلَيْهِ عهده فَقَالَ: اكفني هَذَا الرجل، قَالَ: أعفني، فأبى أن يعفيه، قَالَ: فأنظرني الليلة، فأخره، فنظر فِي أمره فلما أصبح غدا عَلَيْهِ راضيا بِمَا أمر بِهِ، فتوجه إِلَيْهِ عُمَر بن سَعْد، فلما أتاه قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فأنصرف من حَيْثُ جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إِلَى يَزِيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذَلِكَ عمر، فكتب إِلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ: لا وَلا كرامة حَتَّى يضع يده فِي يدي!] [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا وَاللَّهِ لا يكون ذَلِكَ أبدا] [، فقاتله فقتل أَصْحَاب الْحُسَيْن كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابنا لَهُ مَعَهُ فِي حجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللَّهُمَّ احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، ثُمَّ أمر بحبرة فشققها، ثُمَّ لبسها وخرج بسيفه، فقاتل حتى قتل صلى الله عليه وسلم، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، وانطلق بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ وَقَالَ:
أوقر ركابي فضة وذهبا *** فقد قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا *** وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وأوفده إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة وَمَعَهُ الرأس، فوضع رأسه بين يديه وعنده أَبُو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب عَلَى فِيهِ ويقول:
يفلقن هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
فَقَالَ لَهُ أَبُو برزه: ارفع قضيبك، فو الله لربما رايت فا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى فِيهِ يلثمه! وسرح عُمَر بن سَعْد بحرمه وعياله إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، ولم يكن بقي من أهل بيت الْحُسَيْن بن علي ع إلا غلام كَانَ مريضا مع النساء، فأمر بِهِ عُبَيْد اللَّهِ ليقتل، فطرحت زينب نفسها عَلَيْهِ وقالت:
وَاللَّهِ لا يقتل حَتَّى تقتلوني! فرق لها، فتركه وكف عنه قَالَ: فجهزهم وحملهم إِلَى يَزِيد، فلما قدموا عَلَيْهِ جمع من كَانَ بحضرته من أهل الشام، ثُمَّ أدخلوهم، فهنئوه بالفتح، قَالَ رجل مِنْهُمْ أزرق أحمر ونظر إِلَى وصيفة من بناتهم فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ، فَقَالَتْ زينب: لا وَاللَّهِ وَلا كرامة لك وَلا لَهُ إلا أن يخرج من دين اللَّه، قَالَ:
فأعادها الأزرق، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: كف عن هَذَا، ثُمَّ أدخلهم عَلَى عياله، فجهزهم وحملهم إِلَى الْمَدِينَة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها، واضعة كمها عَلَى رأسها تلقاهم وَهِيَ تبكي وتقول:
ماذا تقولون إن قَالَ النَّبِيّ لكم *** ماذا فعلتم وَأَنْتُمْ آخر الأمم!
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي *** مِنْهُمْ أسارى وقتلى ضرجوا بدم
مَا كَانَ هَذَا جزائي إذ نصحت لكم *** أن تخلفوني بسوء فِي ذوي رحمي
!
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْحُسَيْنَ ع.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ على ع كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّهُ مَعَكَ مِائَةُ أَلْفٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَقَدِمَ الْكُوفَةَ، فَنَزَلَ دَارَ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، فَأُخْبِرَ ابْنُ زِيَادٍ بِذَلِكَ زَادَ الْحُسَيْنُ بْنُ نَصْرٍ فِي حَدِيثِهِ: فَأَرْسَلَ إِلَى هَانِئٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: أَلَمْ أُوَقِّرْكَ! أَلَمْ أُكْرِمْكَ! أَلَمْ أَفْعَلْ بِكَ! قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَما جَزَاءُ ذَلِكَ؟
قَالَ: جَزَاؤُهُ أَنْ أَمْنَعَكَ، قَالَ: تَمْنَعُنِي! قَالَ: فَأَخَذَ قَضِيبًا مَكَانَهُ فَضَرَبَهُ بِهِ، وَأَمَرَ فَكُتِفَ ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِبَابِ الْقَصْرِ فَأُغْلِقَ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، فَلا أَحَدٌ يُجُيبُهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ فِي مَلإٍ مِنَ النَّاسِ.
قَالَ حصين: فَحَدَّثَنِي هلال بن يساف قَالَ: لقيتهم تِلَكَ الليلة فِي الطريق عِنْدَ مسجد الأنصار، فلم يكونوا يمرون في طريق يمينا ولا شمالا الا وذهبت مِنْهُمْ طائفة، الثلاثون والأربعون، ونحو ذَلِكَ قَالَ: فلما بلغ السوق، وَهِيَ ليلة مظلمة، ودخلوا المسجد، قيل لابن زياد: وَاللَّهِ مَا نرى كثير أحد، وَلا نسمع أصوات كثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع، ثُمَّ أمر بحرادي فِيهَا النيران، فجعلوا ينظرون، فإذا قريب خمسين رجلا.
قَالَ: فنزل فصعد الْمِنْبَر وَقَالَ لِلنَّاسِ: تميزوا أرباعا أرباعا، فانطلق كل قوم إِلَى رأس ربعهم، فنهض إِلَيْهِم قوم يقاتلونهم، فجرح مسلم جراحة ثقيلة، وقتل ناس من أَصْحَابه، وانهزموا، فخرج مسلم فدخل دارا من دور كندة، فَجَاءَ رجل إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث وَهُوَ جالس إِلَى ابن زياد، فساره، فَقَالَ لَهُ: إن مسلما فِي دار فلان، فَقَالَ ابن زياد: مَا قَالَ لك؟ قَالَ:
إن مسلما فِي دار فلان، قَالَ ابن زياد لرجلين: انطلقا فأتياني بِهِ، فدخلا عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ امرأة قَدْ أوقدت لَهُ النار، فهو يغسل عنه الدماء، فقالا لَهُ: انطلق، الأمير يدعوك، فَقَالَ: اعقدا لي عقدا، فقالا: مَا نملك ذاك، فانطلق مَعَهُمَا حَتَّى أتاه فأمر بِهِ فكتف ثُمَّ قَالَ: هيه هيه يا بن خليه- قال الحسين في حديثه: يا بن كذا- جئت لتنزع سلطاني! ثُمَّ أمر بِهِ فضربت عنقه قَالَ حصين: فَحَدَّثَنِي هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ مَا بين واقصة إِلَى طريق الشام إِلَى طريق الْبَصْرَة، فلا يدعون أحدا يلج وَلا أحدا يخرج، فأقبل الْحُسَيْن وَلا يشعر بشيء حَتَّى لقي الأعراب، فسألهم، فَقَالُوا:
لا وَاللَّهِ مَا ندري، غير أنا لا نستطيع أن نلج وَلا نخرج، قَالَ: فانطلق يسير نحو طريق الشام نحو يَزِيد، فلقيته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم اللَّه والإسلام، قَالَ: وَكَانَ بعث إِلَيْهِ عُمَر بن سَعْدٍ وشمر بن ذي الجوشن وحصين ابن نميم، فناشدهم الْحُسَيْن اللَّه والإسلام أن يسيروه إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فيضع يده فِي يده، فَقَالُوا: لا، إلا عَلَى حكم ابن زياد، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ الحر بن يَزِيدَ الحنظلي ثُمَّ النهشلي عَلَى خيل، فلما سمع مَا يقول الْحُسَيْن قَالَ لَهُمْ: ألا تقبلون من هَؤُلاءِ مَا يعرضون عَلَيْكُمْ! وَاللَّهِ لو سألكم هَذَا الترك والديلم مَا حل لكم أن تردوه! فأبوا إلا عَلَى حكم ابن زياد، فصرف الحر وجه فرسه، وانطلق إِلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه، فظنوا أنه إنما جَاءَ ليقاتلهم، فلما دنا مِنْهُمْ قلب ترسه وَسَلَّمَ عَلَيْهِم، ثُمَّ كر عَلَى أَصْحَاب ابن زياد فقاتلهم، فقتل مِنْهُمْ رجلين، ثُمَّ قتل رحمة اللَّه عَلَيْهِ وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الْحُسَيْن وَكَانَ حاجا، فأقبل مَعَهُ، وخرج إِلَيْهِ ابن ابى بحريه المرادي ورجلان آخران وعمرو بن الحجاج ومعن السلمي، قَالَ الحصين: وَقَدْ رأيتهما.
قَالَ الحصين: وَحَدَّثَنِي سعد بن عبيدة، قَالَ: إن أشياخا من أهل الْكُوفَة لوقوف عَلَى التل يبكون ويقولون: اللَّهُمَّ أنزل نصرك، قَالَ: قلت: يَا أعداء اللَّه، أَلا تنزلون فتنصرونه! قَالَ: فأقبل الْحُسَيْن يكلم من بعث إِلَيْهِ ابن زياد، قَالَ: وإني لأنظر إِلَيْهِ وعليه جبة من برود، فلما كلمهم انصرف، فرماه رجل من بني تميم يقال لَهُ: عمر الطهوي بسهم، فإني لأنظر إِلَى السهم بين كتفيه متعلقا فِي جبته، فلما أبوا عَلَيْهِ رجع إِلَى مصافه، وإني لأنظر إِلَيْهِم، وانهم لقريب من مائه رجل، فيهم لصلب على بن ابى طالب ع خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سليم حليف لَهُمْ، ورجل من بني كنانة حليف لَهُمْ، وابن عُمَر بن زياد.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي سعد بن عبيدة، قَالَ: إنا لمستنقعون فِي الماء مع عُمَر بن سَعْد، إذ أتاه رجل فساره وَقَالَ لَهُ: قَدْ بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي، وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك، قَالَ: فوثب إِلَى فرسه فركبه، ثُمَّ دعا سلاحه فلبسه، وإنه عَلَى فرسه، فنهض بِالنَّاسِ إِلَيْهِم فقاتلوهم، فجيء برأس الْحُسَيْن إِلَى ابن زياد، فوضع بين يديه، فجعل ينكت بقضيبه، ويقول: إن أبا عَبْد اللَّهِ قَدْ كَانَ شمط، قَالَ: وجيء بنسائه وبناته وأهله، وَكَانَ أحسن شَيْء صنعه أن أمر لهن بمنزل فِي مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقا، وأمر لهن بنفقة وكسوة قَالَ: فانطلق غلامان مِنْهُمْ لعبد اللَّه بن جَعْفَر- أو ابن ابن جَعْفَر- فأتيا رجلا من طيئ فلجأ إِلَيْهِ، فضرب أعناقهما، وجاء برءوسهما حَتَّى وضعهما بين يدي ابن زياد، قَالَ: فهم بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي مولى لمعاوية بن أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لما أتي يَزِيد برأس الْحُسَيْن فوضع بين يديه، قَالَ: رأيته يبكي، وَقَالَ: لو كَانَ بينه وبينه رحم مَا فعل هَذَا.
قَالَ حصين: فلما قتل الْحُسَيْن لبثوا شهرين أو ثلاثة، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حَتَّى ترتفع.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي العلاء بن أبي عاثة قَالَ: حَدَّثَنِي رأس الجالوت، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حَتَّى أخلف المكان، قَالَ: قلت: لم؟ قَالَ: كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول فِي ذَلِكَ المكان، قَالَ: وكنت أخاف أن أكون أنا، فلما قتل الْحُسَيْن قلنا: هَذَا الَّذِي كنا نتحدث قَالَ: وكنت بعد ذَلِكَ إذا مررت بِذَلِكَ المكان أسير وَلا أركض.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قال: حدثني علي بن محمد، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: [قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لا يَدْعُونِي حَتَّى يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلَّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مَنْ فرم الامه،] فقدم للعراق فَقَتَلَ بِنِينَوَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ.
قَالَ الْحَارِث: قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عُمَرَ، قَالَ:
قتل الْحُسَيْن بن علي ع فِي صفر سنة إحدى وستين وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابن خمس وخمسين.
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أفلح بن سَعِيدٍ، عن ابن كعب القرظي، قَالَ الْحَارِث:
حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، عن أبي معشر، قَالَ: قتل الْحُسَيْن لعشر خلون من المحرم قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا أثبت.
قَالَ الْحَارِث: قَالَ ابن سعد: أَخْبَرَنَا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عطاء ابن مسلم، عمن أخبره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قَالَ: أول رأس رفع عَلَى خشبة، رأس الْحُسَيْن رَضِيَ الله عنه وصلى اللَّه عَلَى روحه.
قَالَ أَبُو مخنف: عن هِشَام بن الْوَلِيد، عمن شهد ذَلِكَ، قال: اقبل الحسين ابن على باهله من مكة ومحمد بن الحنفية بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فبلغه خبره وَهُوَ يتوضأ فِي طست، قَالَ: فبكى حَتَّى سمعت وكف دموعه فِي الطست.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يونس بن أبي إِسْحَاق السبيعي، قَالَ: ولما بلغ عُبَيْد اللَّهِ إقبال الْحُسَيْن مِنْ مَكَّةَ الى الكوفه، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حَتَّى نزل القادسية ونظم الخيل مَا بين القادسية إِلَى خفان، وما بين القادسية إِلَى القطقطانة وإلى لعلع، وَقَالَ الناس: هَذَا الْحُسَيْن يريد العراق.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قيس أن الْحُسَيْن أقبل حَتَّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى أهل الْكُوفَة، وكتب مَعَهُ إِلَيْهِم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من الْحُسَيْن بن علي إِلَى إخوانه من الْمُؤْمِنِينَ والمسلمين، سلام عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فِيهِ بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم عَلَى نصرنا، والطلب بحقنا، فسألت اللَّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم عَلَى ذَلِكَ أعظم الأجر، وَقَدْ شخصت إليكم مِنْ مَكَّةَ يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية،، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا امركم ووجدوا، فإني قادم عَلَيْكُمْ فِي أيامي هَذِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، والسلام عَلَيْكُمْ ورحمة اللَّه وبركاته.
وكان مسلم ابن عقيل قَدْ كَانَ كتب إِلَى الْحُسَيْن قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة: أَمَّا بَعْدُ، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جمع أهل الْكُوفَة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عَلَيْك.
قَالَ: فأقبل الْحُسَيْن بالصبيان والنساء مَعَهُ لا يلوي عَلَى شَيْء، وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إِلَى الْكُوفَةِ بكتاب الْحُسَيْن، حَتَّى إذا انتهى إِلَى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّهِ: اصعد إِلَى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب، فصعد ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إن هَذَا الْحُسَيْن بن علي خير خلق اللَّه، ابن فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ، وأنا رسوله إليكم، وَقَدْ فارقته بالحاجر، فأجيبوه، ثُمَّ لعن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فامر به عبيد الله ابن زياد أن يرمى بِهِ من فوق القصر، فرمي بِهِ، فتقطع فمات ثُمَّ أقبل الْحُسَيْن سيرا إِلَى الْكُوفَةِ، فانتهى إِلَى ماء من مياه العرب، فإذا عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن مطيع العدوى، وهو نازل هاهنا، فلما رَأَى الْحُسَيْن قام إِلَيْهِ، فَقَالَ: بأبي أنت وأمي يا بن رَسُول اللَّهِ! مَا أقدمك! واحتمله فأنزله، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: كَانَ من موت مُعَاوِيَة مَا قَدْ بلغك، فكتب إلي أهل العراق يدعونني إِلَى أنفسهم،] فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بن مطيع: اذكرك الله يا بن رَسُول اللَّهِ وحرمة الإِسْلام أن تنتهك! أنشدك الله في حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم! أنشدك الله في حرمه العرب! فو الله لَئِنْ طلبت مَا فِي أيدي بني أُمَيَّة ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا وَاللَّهِ إنها لحرمة الإِسْلام تنتهك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل، وَلا تأت الْكُوفَة، وَلا تعرض لبني أُمَيَّة، قَالَ: فأبى إلا ان يمضى، قال: فاقبل الحسين حتى كَانَ بالماء فوق زرود.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي السدي، عن رجل من بني فزارة قَالَ: لما كَانَ زمن الحجاج بن يُوسُفَ كنا فِي دار الْحَارِث بن أَبِي رَبِيعَةَ الَّتِي فِي التمارين، الَّتِي أقطعت بعد زهير بن القين، من بني عَمْرو بن يشكر من بجيلة، وَكَانَ أهل الشام لا يدخلونها، فكنا مختبئين فِيهَا، قَالَ: فقلت للفزاري:
حَدَّثَنِي عنكم حين أقبلتم مع الْحُسَيْن بن علي، قَالَ: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا مِنْ مَكَّةَ نساير الْحُسَيْن، فلم يكن شَيْء أبغض إلينا من أن نسايره فِي منزل، فإذا سار الْحُسَيْن تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الْحُسَيْن تقدم زهير، حَتَّى نزلنا يَوْمَئِذٍ فِي منزل لم نجد بدا من أن ننازله فِيهِ، فنزل الْحُسَيْن فِي جانب، ونزلنا فِي جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الْحُسَيْن حَتَّى سلم، ثُمَّ دخل فَقَالَ: يَا زهير بن القين، إن أبا عَبْد اللَّهِ الْحُسَيْن بن علي بعثني إليك لتأتيه، قَالَ: فطرح كل إنسان مَا فِي يده حَتَّى كأننا عَلَى رءوسنا الطير.
قَالَ أَبُو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عَمْرو امرأة زهير بن القين، قالت: فقلت لَهُ: أيبعث إليك ابن رَسُول اللَّهِ ثُمَّ لا تأتيه! سبحان اللَّه! لو أتيته فسمعت من كلامه! ثُمَّ انصرفت، قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جَاءَ مستبشرا قَدْ أسفر وجهه، قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم، وحمل إِلَى الْحُسَيْن، ثُمَّ قَالَ لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: من أحب مِنْكُمْ أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، إني سأحدثكم حديثا، غزونا بلنجر، ففتح اللَّه علينا، وأصبنا غنائم، فَقَالَ لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بِمَا فتح اللَّه عَلَيْكُمْ، وأصبتم من الغنائم! فقلنا: نعم، فَقَالَ لنا: إذا أدركتم شباب آل مُحَمَّد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم منكم بِمَا أصبتم من الغنائم، فأما أنا فإني أستودعكم اللَّه، قَالَ: ثُمَّ وَاللَّهِ مَا زال فِي أول القوم حَتَّى قتل.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عَبْد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قَالا: لما قضينا حجنا لَمْ يَكُنْ لنا همة إلا اللحاق بالحسين فِي الطريق لننظر مَا يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حَتَّى لحقناه بزرود، فلما دنونا مِنْهُ إذا نحن برجل من أهل الْكُوفَة قَدْ عدل عن الطريق حين رَأَى الْحُسَيْن، قَالا: فوقف الْحُسَيْن كأنه يريده، ثُمَّ تركه، ومضى ومضينا نحوه، فَقَالَ أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إِلَى هَذَا فلنسأله، فإن كَانَ عنده خبر الْكُوفَة علمناه، فمضينا حَتَّى انتهينا إِلَيْهِ، فقلنا: السلام عَلَيْك، قَالَ: وعَلَيْكُمُ السلام ورحمة اللَّه، ثُمَّ قلنا: فمن الرجل؟ قَالَ: أسدي: فقلنا: فنحن أسديان فمن أنت؟ قَالَ: أنا بكير بن المثعبة، فانتسبنا لَهُ، ثُمَّ قلنا: أَخْبَرَنَا عن الناس وراءك، قَالَ: نعم، لم أخرج من الْكُوفَة حَتَّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، فرأيتهما يجران بأرجلهما فِي السوق، قَالا: فأقبلنا حَتَّى لحقنا بالحسين، فسايرناه حَتَّى نزل الثعلبية ممسيا، فجئناه حين نزل، فسلمنا عَلَيْهِ فرد علينا، فقلنا لَهُ: يرحمك اللَّه، إن عندنا خبرا، فإن شئت حَدَّثَنَا علانية، وإن شئت سرا، [قَالَ: فنظر إِلَى أَصْحَابه وَقَالَ: مَا دون هَؤُلاءِ سر،] فقلنا لَهُ: أرأيت الراكب الَّذِي استقبلك عشاء أمس؟ قَالَ: نعم، وَقَدْ أردت مسألته، فقلنا: قَدِ استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وَهُوَ امرؤ من أسد منا، ذو رأي وصدق، وفضل وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حَتَّى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وحتى رآهما يجران فِي السوق بأرجلهما، [فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! رحمة اللَّه عليهما، فردد ذَلِكَ مرارا،] فقلنا: ننشدك اللَّه فِي نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هَذَا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر وَلا شيعة، بل نتخوف أن تكون عَلَيْك! قَالَ: فوثب عِنْدَ ذَلِكَ بنو عقيل بن أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ خَالِدٍ، عن زَيْد بن عَلِيّ بن حُسَيْن، وعن دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس، أن بني عقيل قَالُوا: لا وَاللَّهِ لا نبرح حَتَّى ندرك ثأرنا، أو نذوق مَا ذاق أخونا قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، [عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، قالا: فنظر إلينا الْحُسَيْن فَقَالَ: لا خير فِي العيش بعد هَؤُلاءِ،] قَالا: فعلمنا أنه قَدْ عزم لَهُ رأيه عَلَى المسير، قَالا: فقلنا: خار اللَّه لك! قَالا: فَقَالَ: رحمكما اللَّه! قَالا:
فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه: إنك وَاللَّهِ مَا أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الْكُوفَة لكان الناس إليك أسرع، [قَالَ الأسديان: ثُمَّ انتظر حَتَّى إذا كَانَ السحر قَالَ لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا، ثُمَّ ارتحلوا وساروا حَتَّى انتهوا إِلَى زبالة] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو علي الأَنْصَارِيّ، عن بكر بن مصعب المزني، قَالَ: كَانَ الْحُسَيْن لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إِلَى زبالة سقط إِلَيْهِ مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عَبْد اللَّهِ بن بقطر، وَكَانَ سرحه إِلَى مسلم بن عقيل من الطريق وَهُوَ لا يدري أنه قَدْ أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية، فسرح بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فَقَالَ: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب، ثُمَّ انزل حَتَّى أَرَى فيك رأيي! قَالَ: فصعد، فلما أشرف عَلَى الناس قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إني رسول الْحُسَيْن ابن فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنصروه وتوازروه عَلَى ابن مرجانة ابن سمية الدعي فأمر بِهِ عُبَيْد اللَّهِ فألقي من فوق القصر إِلَى الأرض، فكسرت عظامه، وبقي بِهِ رمق، فأتاه رجل يقال لَهُ عَبْد الْمَلِكِ بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ: إنما أردت أن أريحه.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بن عَيَّاش عمن أخبره، قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ عَبْد الْمَلِكِ بن عمير الَّذِي قام إِلَيْهِ فذبحه، ولكنه قام إِلَيْهِ رجل جعد طوال يشبه عَبْد الْمَلِكِ بن عمير قَالَ: فأتى ذَلِكَ الخبر حسينا وَهُوَ بزبالة، فأخرج لِلنَّاسِ كتابا، فقرأ عَلَيْهِم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فإنه قَدْ أتانا خبر فظيع، قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة وعبد اللَّه بن بقطر، وَقَدْ خذلتنا شيعتنا، فمن أحب مِنْكُمُ الانصراف فلينصرف، ليس عَلَيْهِ منا ذمام.
قَالَ: فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا وشمالا حَتَّى بقي فِي أَصْحَابه الَّذِينَ جاءوا مَعَهُ من الْمَدِينَة، وإنما فعل ذَلِكَ لأنه ظن أنما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قَدِ استقامت لَهُ طاعة أهله، فكره أن يسيروا مَعَهُ إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وَقَدْ علم أَنَّهُمْ إذا بين لَهُمْ لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت مَعَهُ قَالَ: فلما كَانَ من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثُمَّ سار حَتَّى مر ببطن العقبة، فنزل بِهَا قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي لوذان أحد بني عِكْرِمَة إن أحد عمومته سأل الحسين ع أين تريد؟ فحدثه، فَقَالَ لَهُ: إني أنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلا عَلَى الأسنة وحد السيوف، فإن هَؤُلاءِ الَّذِينَ بعثوا إليك لو كَانُوا كفوك مؤنة القتال، ووطئوا لك الأشياء فقدمت عَلَيْهِم كَانَ ذَلِكَ رأيا، فأما عَلَى هَذِهِ الحال الَّتِي تذكرها فإني لا أَرَى لَكَ أن تفعل.
قَالَ: [فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْد اللَّهِ، إنه ليس يخفى علي، الرأي مَا رأيت، ولكن اللَّه لا يغلب عَلَى أمره، ثُمَّ ارتحل منها] .
ونزع يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة الْوَلِيد بن عتبة عن مكة، وولاها عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ، وَذَلِكَ فِي شهر رمضان منها، فحج بِالنَّاسِ عمرو ابن سَعِيد فِي هَذِهِ السنة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وَكَانَ عامله عَلَى مكة والمدينة فِي هَذِهِ السنة بعد ما عزل الْوَلِيد بن عتبة عَمْرو بن سَعِيدٍ، وعلى الْكُوفَة والبصرة وأعمالهما عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح بن الْحَارِث، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة.