فمن ذلك كان قدوم الورثاني على المعتصم في المحرم بالأمان وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامرا، وفيها خرج المعتصم إلى السن، واستخلف …
أشناس، وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسي، وتوجه ووشحه في شهر ربيع الأول. وفيها أحرق غنام المرتد.
وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرية، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما، وعزله عن اليمن، وولاها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها وجه عبد الله بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدسكرة، فأدخله سامرا في شوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته *** يحمل جيلان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه *** إلا لذي شأن من الشان
فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين، وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقر المازيار أن الأفشين كان يكاتبه، ويصوب له الخلاف والمعصية، فأمر برد الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطا، وطلب ماء فسقي، فمات من ساعته.
ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الافشين وحبسه
وفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه:
ذكر أن الأفشين كان أيام حربه بابك ومقامه بأرض الخرمية، لا يأتيه هدية من أهل أرمينية إلا وجه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم بخبره، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة، ففعل عبد الله بذلك، وكان الأفشين كلما تهيأ عنده مال حمله أوساط اصحابه من الدنانير في وسطه، فأخبر عبد الله بذلك، فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجه إليهم عبد الله بن طاهر، وأخذهم ففتشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين، وهذه أمواله فقال:
كذبتم، لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلي يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته، لأن هذا مال عظيم، وإنما أنتم لصوص.
فأخذ عبد الله بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إلي تعلمني لأبذرقه، فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجهه إلي أمير المؤمنين في كل سنة، وإن كان المال لك- كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحق بهذا المال، وإنما دفعته إلى الجند لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك.
فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد، ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة، فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا، فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين.
ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم كلاما يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها، فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان، ظنا منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان، فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره.
وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل، فتحقق عند المعتصم- بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به- ما كان اتهمه به من أمر منكجور، وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به، فتغير المعتصم للأفشين لذلك، وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم- فيما ذكر- على أن يهيئ أطوافا في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف، حتى يصير إلى بلاد أرمينية، ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سما كثيرا، وعزم على أن يعمل طعاما ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم، فان لم يجبه المعتصم استاذنه في قواد الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم، فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجيء الى الزاب فيعبر باثقاله على الاطواف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية، وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم يصير هو إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام، فكان في تهيئة ذلك.
وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد، فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث، فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم، فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن، فحكاه للأفشين وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى أتى دار أمير المؤمنين، وقد نام المعتصم، فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة، فقال له إيتاخ: أليس الساعة كنت هاهنا! قد نام أمير المؤمنين فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن، فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علي في غد فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك فبيته إيتاخ عنده، فلما أصبح بكر به مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الافشين، فجاء الافشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق، ثم بنى له حبسا مرتفعا، وسماه لؤلؤه داخل الجوسق، وهو يعرف الى الان بالافشين.
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين- وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد- يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به امير المؤمنين في امره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له، فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه فكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد.
فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه، حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن اسد، وشده وثاقا.
ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم وكان الحبس الذي بني للأفشين شبيها بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه، وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات، فاتى بالافشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحد من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس.
وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش- وهو أحد ملوك السغد- ورجلان من أهل السغد، فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة، فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن، وهذا إمام، بنيا مسجدا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط، وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه، فوثب هذان على بيت كان فيه أصنامهم- يعني أهل أشروسنة- فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجدا، فضربتهما على هذا ألفا ألفا لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه أدب من آداب العجم، وما ذكرت من الكفر، فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه، فتركته على حاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
وقال لي يوما: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه، حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل، ولبست النعل، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة- يعني لم يطل ولم يختتن.
فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقة هو في دينه؟ – وكان الموبذ مجوسيا أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه- قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوة تطلع علي منها وتعرف أخباري منها؟
قال: لا، قال: أفليس كنت ادخلك الى وابثك سري وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت علي سرا أسررته إليك.
ثم تنحى الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، فقال له المرزبان: يا ممخرق، كم تدافع وتموه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدي قال: فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان، قال: بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيت لفرعون حين قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات: 24] ! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم فقال له إسحاق بن ابراهيم بن مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف بالله لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين، وأنت تدعي ما ادعى فرعون! قال: يا أبا الحسين، هذه سورة قرأها عجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي، فانظر غدا من يقرؤها عليك! قال: ثم قدم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفشين: تعرف هذا؟
قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآن، قالوا: هل كاتبته؟
قال: لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار، أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك وغير بابك، فاما بابك فانه بحمقه قتيل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلا أن دلاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبوس، وهؤلاء الذباب- يعني المغاربة- إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعني الأتراك- فإنما هي ساعه حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم فقال الأفشين: هذا يدعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب علي، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر، لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي به عبد الله بن طاهر عند الخليفة ثم نحى المازيار.
ولما قال الأفشين للمرزبان التركشى ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن ابى دواد الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد الله ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة، فقال له ابن ابى دواد: أمطهر أنت؟ قال: لا، قال: فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أوليس في دين الإسلام استعمال التقية؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت، قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام، فقال ابن ابى دواد: قد بان لكم أمره يا بغا- لبغا الكبير أبي موسى التركي- عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم اخرجه من باب الوزيري الى محبسه.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامرا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.