ذكر الخبر عن توليه خالد بن برمك الموصل، فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره إياه بعزل موسى بْن كعب عن …
الموصل وتولية يحيى بْن خالد بْن برمك عليها.
وكان سبب ذلك- فيما ذكر الحسن بْن وهب بْن سعيد عن صالح بْن عطية- قَالَ: كان المنصور قد ألزم خالد بْن برمك ثلاثة آلاف ألف، ونذر دمه فيها، وأجله ثلاثة أيام بها، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني، إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي، وإنما يراد بذلك دمي، فانصرف إلى حرمتك وأهلك، فما كنت فاعلا بهم بعد موتي فافعله ثم قَالَ له: يا بني، لا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بْن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي فتعلمهم حالنا.
قَالَ: فذكر صالح بْن عطية أن يحيى حدثه، قَالَ: أتيتهم فمنهم من تجهمني وبعث بالمال سرا إلي، ومنهم من لم يأذن لي، وبعث بالمال في أثري قَالَ: واستأذنت على عمارة بْن حمزة، فدخلت عليه وهو في صحن داره، مقابل بوجهه الحائط، فما انصرف إلي بوجهه، فسلمت عليه، فرد علي ردا ضعيفا، وقال: يا بني، كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم.
قَالَ: فما رد علي قليلا ولا كثيرا، قَالَ: فضاق بي موضعي، ومادت بي الأرض قَالَ: ثم كلمته فيما أتيته له قَالَ: فقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك، قَالَ يحيى: فانصرفت وأنا أقول في نفسي: لعن الله كل شيء يأتي من تيهك وعجبك وكبرك! وصرت إلى أبي، فأخبرته الخبر، ثم قلت له: وأراك تثق من عمارة بْن حمزة بما لا يوثق به! قال: فو الله إني لكذلك، إذ طلع رسول عمارة بْن حمزة بالمائة ألف قَالَ: فجمعنا في يومين الفى الف وسبعمائة الف، وبقيت ثلاثمائة ألف بوجودها يتم ما سعينا له، وبتعذرها يبطل قال: فو الله إني لعلى الجسر ببغداد مارا مهموما مغموما، إذ وثب إلي زاجر، فقال: فرخ الطائر أخبرك! قَالَ: فطويته مشغول القلب عنه، فلحقني وتعلق بلجامي، وقال لي: أنت والله مهموم، وو الله ليفرجن الله همك، ولتمرن غدا في هذا الموضع واللواء بين يديك قَالَ: فأقبلت أعجب من قوله قَالَ: فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم؟
قلت: نعم- ولو قَالَ خمسون ألفا لقلت نعم، لبعد ذلك عندي من أن يكون- قَالَ: ومضيت وورد على المنصور انتقاض الموصل وانتشار الأكراد بها، فقال: من لها؟ فقال له المسيب بْن زهير- وكان صديقا لخالد بْن برمك: عندي يا أمير المؤمنين رأي، أرى انك لا تنتصحه، وانك ستلقاني بالرد، ولكني لا أدع نصحك فيه والمشورة عليك به، قَالَ: قل، فلا أستغشك، قلت: يا أمير المؤمنين ما رميتها بمثل خالد، قَالَ: ويحك! فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه! قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، إنما قومته بذلك وأنا الضامن عليه، قَالَ: فهو لها والله، فليحضرني غدا فأحضر، فصفح له عن الثلثمائه ألف الباقية، وعقد له.
قَالَ يحيى: ثم مررت بالزاجر، فلما رآنى قال: انا هاهنا أنتظرك منذ غدوة، قلت: امض معي، فمضى معى، فدفعت اليه الخمسة الآلاف.
قَالَ: وقال لي أبي: أي بني، إن عماره تلزمه حقوق، وتنوبه نوائب فاته، فاقرئه السلام، وقل له: إن الله قد وهب لنا رأي أمير المؤمنين، وصفح لنا عما بقي علينا، وولاني الموصل، وقد أمر برد ما استسلفت منك قَالَ: فأتيته فوجدته على مثل الحال التي لقيته عليه، فسلمت فما رد السلام علي، ولا زادني على أن قَالَ: كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقول كذا وكذا، قَالَ: فاستوى جالسا، ثم قَالَ لي: ما كنت إلا قسطارا لأبيك، يأخذ مني إذا شاء، ويرد إذا شاء! قم عني لا قمت! قَالَ: فرجعت إلى أبي فأعلمته، فقال لي أبي: يا بني، هو عمارة ومن لا يعترض عليه! قَالَ: فلم يزل خالد على الموصل إلى أن توفي المنصور ويحيى على أذربيجان، فذكر عن أحمد بْن محمد بْن سوار الموصلي أنه قَالَ: ما هبنا قط أميرا هيبتنا خالد بْن برمك من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبرية، ولكن هيبة كانت له في صدورنا.
وذكر أحمد بْن معاوية بْن بكر الباهلي، عن أبيه، قَالَ: كان أبو جعفر غضب على موسى بْن كعب- وكان عامله على الجزيرة والموصل- فوجه المهدي إلى الرقة لبناء الرافقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره بالمرور والمضي على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى بْن كعب فقيده، وولى خالد بْن برمك الموصل مكانه، ففعل المهدي ذلك، وخلف خالدا على الموصل، وشخص معه أخو خالد: الحسن وسليمان ابنا برمك، وقد كان المنصور دعا قبل ذلك يحيى بْن خالد، فقال له: قد أردتك لأمر مهم من الأمور، واخترتك لثغر من الثغور، فكن على أهبة، ولا يعلم بذلك أحد حتى أدعو بك فكتم أباه الخبر، وحضر الباب فيمن حضر، فخرج الربيع، فقال:
يحيى بْن خالد! فقام فأخذ بيده، فأدخله على المنصور، فخرج على الناس وأبوه حاضر واللواء بين يديه على أذربيجان، فأمر الناس بالمضي معه، فمضوا في موكبه، وهنئوه وهنئوا أباه خالدا بولايته، فاتصل عملهما.
وقال أحمد بْن معاوية: كان المنصور معجبا بيحيى، وكان يقول:
ولد الناس ابنا وولد خالد أبا.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد.
وفيها سخط المنصور على المسيب بْن زهير وعزله عن الشرطة، وأمر بحبسه وتقييده، وكان سبب ذلك أنه قتل أبان بْن بشير الكاتب بالسياط، لأمر كان وجد عليه فيما كان من شركته لأخيه عمرو بْن زهير في ولاية الكوفة وخراجها، وولى مكان المسيب الحكم بْن يوسف صاحب الحرب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب، فرضي عنه بعد حبسه إياه أياما، وأعاد إليه ما كان يلي من شرطه.
وفيها وجه المنصور نصر بْن حرب التميمي واليا على ثغر فارس.
وفيها سقط المنصور عن دابته بجرجرايا، فانشج ما بين حاجبيه، وذلك أنه كان خرج لما وجه ابنه المهدي إلى الرقة مشيعا له، حتى بلغ موضعا يقال له جب سماقا، ثم عدل إلى حولايا، ثم أخذ على النهروانات فانتهى- فيما ذكر- إلى بثق من النهروانات يصب إلى نهر ديالي، فأقام على سكره ثمانية عشر يوما، فأعياه، فمضى إلى جرجرايا، فخرج منها للنظر إلى ضيعة كانت لعيسى بْن علي هناك، فصرع من يومه ذلك عن برذون له ديزج، فشج في وجهه، وقدم عليه وهو بجرجرايا أسارى من ناحية عمان من الهند، بعث بهم إليه تسنيم بْن الحواري مع ابنه محمد، فهم بضرب أعناقهم، فساءلهم فأخبروه بما التبس به أمرهم عليه، فأمسك عن قتلهم وقسمهم بين قواده ونوابه.
وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان.
وفيها أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض، الذي كان كسرى بناه، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخسرواني، مما نقضه من بناء الأكاسرة، وقال: هذا فيء المسلمين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر.
وفيها غزا الصائفة معيوف بْن يحيى من درب الحدث، فلقي العدو فاقتتلوا ثم تحاجزوا.
ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري
وفي هذه السنة حبس محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي، وهو أمير مكة- فيما ذكر- بأمر المنصور إياه بحبسهم: ابن جريج وعباد بْن كثير والثوري، ثم أطلقهم من الحبس بغير إذن أبي جعفر، فغضب عليه أبو جعفر.
وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن عمران مولى محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس حدثه عن أبيه، قَالَ: كتب المنصور الى محمد ابن إبراهيم- وهو أمير على مكة- يأمره بحبس رجل من آل علي بْن أبي طالب كان بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بْن كثير والثوري، قَالَ: فحبسهم، فكان له سمار يسامرونه بالليل، فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها، ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا قَالَ: فدنوت منه فقلت له: قد رأيت ما بك، فما لك؟ قَالَ: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، وإلى عيون من عيون الناس فحبستهم، فيقدم أمير المؤمنين ولا أدري ما يكون، فلعله أن يأمر بهم فيقتلوا، فيشتد سلطانه وأهلك ديني، قَالَ: فقلت له: فتصنع ماذا؟ قَالَ: أوثر الله، وأطلق القوم، اذهب إلى إبلي فخذ راحلة منها، وخذ خمسين دينارا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام، وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحلله من ترويعه إياك، وتركب هذه الراحلة، وتأخذ هذه النفقة قَالَ: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما أبلغته قَالَ: هو في حل ولا حاجة لي إلى الراحلة ولا إلى النفقة قَالَ: قلت: إن أطيب لنفسه أن تأخذ، ففعل قَالَ: ثم جئت إلى ابن جريج وإلى سفيان بْن سعيد وعباد بْن كثير فأبلغتهم ما قَالَ، قالوا: هو في حل، قَالَ: فقلت لهم: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم ما دام المنصور مقيما قَالَ: فلما قرب المنصور وجهني محمد بْن إبراهيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بْن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها.قَالَ: فلما صار إلى بئر ميمون لقيه محمد بْن إبراهيم، فلما أخبر بذلك أمر بدوابه فضربت وجوهها، فعدل محمد، فكان يسير في ناحية قال: وعدل بأبي جعفر عن الطريق في الشق الأيسر فأنيخ به، ومحمد واقف قبالته، ومعه طبيب له، فلما ركب أبو جعفر وسار، وعديله الربيع أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر، فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد.
ذكر الخبر عن وفاه ابى جعفر المنصور
وفيها شخص أبو جعفر من مدينة السلام، متوجها إلى مكة، وذلك في شوال، فنزل- فيما ذكر- عند قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس، ثم مضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم أهل منها بالحج والعمرة، وساق معه الهدي وأشعره وقلده، لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي توفي منه.
واختلف في سبب الوجع الذي كانت منه وفاته، فذكر عن علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، عن أبيه، أنه كان يقول: كان المنصور لا يستمرئ طعامه، ويشكو من ذلك إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات، فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منه عليه، حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قَالَ له غيره، فكان يتخذ له سفوفا جوارشنا يابسا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده قَالَ: فقال لي أبي: قَالَ لي كثير من متطببي العراق: لا يموت والله أبو جعفر أبدا إلا بالبطن، قَالَ: قلت له: وما علمك؟ قَالَ: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه، ويخلق من زئير معدته في كل يوم شيئا، وشحم مصارينه، فيموت ببطنه وقال لي: اضرب لذلك مثلا، أرأيت لو أنك وضعت جرا على مرفع، ووضعت تحتها آجرة جديدة فقطرت، أما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر! أو ما علمت أن لكل قطرة خدا! قَالَ: فمات والله أبو جعفر- كما قَالَ- بالبطن.
وقال بعضهم: كان بدء وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر، وكان رجلا محرورا على سنه، يغلب عليه المرار الأحمر، ثم هاض بطنه، فلم يزل كذلك حتى نزل بستان ابن عامر، فاشتد به، فرحل عنه فقصر عن مكة، ونزل بئر ابن المرتفع، فأقام بها يوما وليلة، ثم صار منها إلى بئر ميمون، وهو يسأل عن دخوله الحرم، ويوصي الربيع بما يريد أن يوصيه، وتوفي بها في السحر أو مع طلوع الفجر ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه، فكتم الربيع موته، ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه والصراخ، ثم أصبح فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وجلسوا مجالسهم، فكان أول من دعي به عيسى بْن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لعيسى بْن موسى- وقد كان فيما خلا يقدم في الإذن على عيسى بْن علي، فكان ذلك مما ارتيب به- ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان من أهل البيت، ثم لعامتهم، فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بْن موسى من بعده، على يد موسى بْن المهدي حتى فرغ من بيعة بني هاشم، ثم دعا بالقواد فبايعوا ولم ينكل منهم عن ذلك رجل إلا علي ابن عيسى بْن ماهان، فإنه أبى عند ذكر عيسى بْن موسى أن يبايع له، فلطمه محمد بْن سليمان، وقال: ومن هذا العلج! وأمصه، وهم بضرب عنقه، فبايع، وتتابع الناس بالبيعة وكان المسيب بْن زهير أول من استثنى في البيعة، وقال: عيسى بْن موسى: ان كان كذلك فامضوه.
وخرج موسى بْن المهدي إلى مجلس العامة، فبايع من بقي من القواد والوجوه، وتوجه العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان إلى مكة ليبايع أهلها بها، وكان العباس يومئذ المتكلم، فبايع الناس للمهدي بين الركن والمقام، وتفرق عدة من أهل بيت المهدي في نواحي مكة والعسكر فبايعه الناس، وأخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه، وتولى ذلك من أهل بيته العباس بْن محمد والربيع والريان وعدة من خدمه ومواليه، ففرغ من جهازه مع صلاة العصر، وغطى من وجهه وجميع جسده بأكفانه إلى قصاص شعره، وأبدى رأسه مكشوفا من أجل الإحرام، وخرج به أهل بيته والأخص من مواليه، وصلى عليه- فيما زعم الواقدي- عيسى بْن موسى في شعب الخوز.
وقيل: إن الذي صلى عليه إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي وقيل: إن المنصور كان أوصى بذلك، وذلك أنه كان خليفته على الصلاة بمدينة السلام.
وذكر علي بْن محمد النوفلي، عن أبيه، أن إبراهيم بْن يحيى صلى عليه في المضارب قبل أن يحمل، لأن الربيع قَالَ: لا يصلي عليه أحد يطمع في الخلافة، فقدموا إبراهيم بْن يحيى- وهو يومئذ غلام حدث- ودفن في المقبرة التي عند ثنية المدنيين التي تسمى كذا، وتسمى ثنية المعلاة، لأنها بأعلى مكة، ونزل في قبره عيسى بْن علي والعباس بْن محمد وعيسى بْن موسى، والربيع والريان مولياه، ويقطين بْن موسى.
واختلف في مبلغ سنه يوم توفي، فقال بعضهم: كان يوم توفي ابن أربع وستين سنة. وقال بعضهم: كان يومئذ ابن خمس وستين سنة.
وقال بعضهم: كان يوم توفي ابن ثلاث وستين سنة.
وقال هشام بْن الكلبي: هلك المنصور وهو ابن ثمان وستين سنة وقال هشام: ملك المنصور اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما.
واختلف عن أبي معشر في ذلك، فحدثني أحمد بْن ثابت الرازي عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى عنه أنه قَالَ: توفي أبو جعفر قبل يوم التروية بيوم يوم السبت، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام.
وروي عن ابن بكار عنه أنه قَالَ: إلا سبع ليال.
وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلا ستة أيام.
وقال عمر بْن شبة: كانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير يومين.
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي.
وفي هذه السنة هلك طاغية الروم.
ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور
ذكر أنه كان أسمر طويلا، نحيفا خفيف العارضين، وكان ولد بالحميمة.
ذكر الخبر عن بعض سيره
ذكر عن صالح بْن الوجيه، عن أبيه، قَالَ: بلغ المنصور أن عيسى ابن موسى قتل رجلا من ولد نصر بْن سيار، كان مستخفيا بالكوفة، فدل عليه، فضرب عنقه فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل فكتب إليه:
أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بْن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره، من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبدن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة، فإنه لا يرى ان يأخذ أحدا بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدث كان منه في حرب أعقبه الله منها سلما ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور، وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدبر، كما أنه لا يأمن إدبار مقبل إن شاء الله والسلام.
وذكر عن عباس بْن الفضل، قَالَ: حدثني يحيى بْن سليم كاتب الفضل بْن الربيع، قَالَ: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يوما واحدا، فإنا رأينا ابنا له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابنى ابى جعفر من الطلحيه، توفي وهو حدث، قد خرج على الناس متنكبا قوسا، متعمما بعمامة، مترديا ببرد، في هيئة غلام أعرابي، راكبا على قعود بين جوالقين، فيهما مقل ونعال ومساويك وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك وأنكروه قَالَ: فمضى الغلام حتى عبر الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدى إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.
وذكر عن حماد التركي، قَالَ: كنت واقفا على رأس المنصور، فسمع جلبة في الدار، فقال: ما هذا يا حماد؟ انظر، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها.
ووصفتها له، فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت:
رأيته بخراسان، قَالَ: نعم هناك، ثم قَالَ: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويدا حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قَالَ: أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه.
وذكر العباس بْن الفضل عن سلام الأبرش، قَالَ: كنت وأنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلا في منزله، وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقا ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتربد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك، فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه.
وقال لي يوما: يا بنى إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي، فلا يدنون مني أحد منكم مخافة أن أعره بشيء.
وذكر أبو الهيثم خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير بْن حازم، قَالَ: حدثني عبد الله بْن محمد- يلقب بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد- قَالَ: حدثني معن بْن زائدة، قال: كنا في الصحابه سبعمائة رجل، فكنا ندخل على المنصور في كل يوم، قَالَ: فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم نسبا فتكون في آخرهم، وإن مرتبتك لتشبه نسبك قَالَ: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي قَالَ: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قَالَ: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عمودا من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط، لا نجوت إن نجوت مني قَالَ: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قَالَ: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعا، واسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم راى، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيرا ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علتي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر قَالَ: فاستل عهدا من بين فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معنا إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل ثم قَالَ: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، أعزز علي أن تضم إلى ابن أخيك! قَالَ: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيرا، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.
وذكر حماد بْن أحمد اليماني، قَالَ: حدثني محمد بن عمر اليماني أبو الرديني، قَالَ: أراد معن بْن زائدة أن يوفد إلى المنصور قوما يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة، فكان فيمن اختار مجاعة بْن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحدا واحدا، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعه ابن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك، حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بْن عتيق المزنى، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك، فإن سها عن شيء فتلافه واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بْن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله، حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه فلما انتهى كلامه، قَالَ المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، واما ما ذكرت من النبي ص فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين، فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقبل ما ذكرت قَالَ: صدق امير المؤمنين، وو الله ما كذبت في صاحبي فاخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال: ما ذكرت؟
فكر عليه الكلام، حتى كأنه كان في صحيفه يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعا، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلا أربط جأشا، ولا أظهر بيانا، رده يا غلام فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال له المنصور: اقصد لجاجتك وحاجة صاحبك قَالَ: يا أمير المؤمنين، معن بْن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجا من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساع أو واش أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته فقبل وفادتهم، وقبل العذر من معن، وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضا قبل ما بين عينيه، وشكر اصحابه، وخلع عليهم واجازهم على اقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة:
آليت في مجلس من وائل قسما *** ألا أبيعك يا معن بأطماع
يا معن إنك قد أوليتني نعما *** عمت لجيما وخصت آل مجاع
فلا أزال إليك الدهر منقطعا *** حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي
قَالَ: وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج، منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد،وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبجبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع إلى معن كان أول شيء سأله أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد زهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده فقال له معن: حاجتك الثانية، قَالَ: الحائط الذي فيه منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له، وقال: حاجتك الثالثة؟ قَالَ: تهب لي مالا.
قَالَ: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله.
وذكر عن محمد بْن سالم الخوارزمي- وكان أبوه من قواد خراسان- قَالَ: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بْن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قَالَ: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم، كما أن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم، إن نقصت واحدة وهي، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع- ثم عض على أصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه آه- قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة.
وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك، قَالَ: والله ما أملك شيئا، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهاده ان لا إله إلا الله، فخلى سبيله.
قَالَ: وولى المنصور رجلا من أهل الشام شيئا من الخراج، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! الساعة يا أخا أهل الشام! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة، يلزمك العمل قَالَ: وولى رجلا من أهل العراق شيئا من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر أخرج عنى وامض الى عملك، فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه قال: فوليا جميعا وصححا وناصحا.
ذكر الصباح بْن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بْن موسى بْن عيسى، أن المنصور ولى رجلا من العرب حضرموت، فكتب إليه وإلى البريد أنه يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولم نستكفك أمور الوحش، سلم ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بْن فلان، والحق بأهلك ملوما مدحورا.
وذكر الربيع أنه قَالَ: أدخل على المنصور سهيل بْن سالم البصري، وقد ولي عملا فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قَالَ: بئس العبد أنت! قَالَ: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قَالَ:أما لك فلا.
قَالَ: وذكر عن الفضل بْن الربيع عن أبيه، أنه قَالَ: بينا أنا قائم بين يدي المنصور أو على رأسه، إذ أتي بخارجي قد هزم له جيوشا، فأقامه ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يا بن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها ابدا! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجها حولا.
ذكر عبد الله بْن عمرو الملحي أن هارون بْن محمد بْن إسماعيل بْن موسى الهادي، قَالَ: حدثني عبد الله بْن مُحَمَّد بْن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قَالَ: حدثني عمارة بْن حمزة، قَالَ: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدى في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطي الله عهدا لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت: أمر حدث، فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قَالَ: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قَالَ: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك.
وذكر عن أحمد بْن يوسف بْن القاسم، قَالَ: سمعت إبراهيم بْن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الإذن فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بْن زائدة، وممن ذمه الحسن بْن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بْن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني أبقى حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيثنى عليه فقال أبو جعفر: وما استنكرت من ذلك! رجل استكفاه قوم فكفاهم، والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين قَالَ: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قَالَ: ومن هم؟ كأنك تريد نفسك! قَالَ: وإن أردتها فلم أبعد من ذلك، قَالَ: كلا لست كذاك، إن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا!
ذكر الهيثم بْن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يوما، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جبة خز، وعمامة عدنية، وفي يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما راى منه، فقال: انشدنى، فانشده شعرا لاوس بْن حجر وغيره من الشعراء من بني عمرو بْن تميم، وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بْن تميم العنبري، وهو قوله:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها *** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه *** وإن أخف آمنا تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت *** إن الأمور لها ورد وإصدار
فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قَالَ هذا الشعر؟ قَالَ: كان أثقل العرب على عدوه وطأة وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبة، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقراهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره، اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم اقر له بهذه الخلال، غير أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى أن جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قَالَ: يا أخا بني تميم، لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه، أنا الذي وصف لا هو. وذكر أحمد بْن خالد الفقيمي أن عدة من بني هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامره، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه، فأسبغ وضوءه، وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
قَالَ إسحاق: حدثت عن عبد الله بْن الربيع، قَالَ: قَالَ أبو جعفر لإسماعيل بْن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشام حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكتفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديما فهم لكل قوم عبيد قَالَ: فأي الولاة أفضل؟ قَالَ: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة قَالَ: فأيهم أخرق؟ قَالَ: أنهكهم للرعية، وأتعبهم لها بالخرق والعقوبة قَالَ: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسر الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة على المحبة تضمر الاجتهاد وتبالغ عند الغفلة قَالَ: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قَالَ: أولاهم بالمضرة والمنفعة قَالَ: ما علامة ذلك؟ قَالَ: سرعة الإجابة وبذل النفس قَالَ: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيرا؟ قَالَ: أسلمهم قلبا، وأبعدهم من الهوى.
وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قَالَ: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع، ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله.
وذكر الزبير بْن بكار، قَالَ: حدثني مبارك الطبري، قَالَ: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمرا حتى تفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه.
وذكر الزبير أيضا، عن مصعب بْن عبد الله، عن أبيه، قَالَ: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره.
وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلسا إلا ومعك من أهل العلم من يحدثك، فإن محمد بْن شهاب الزهري قَالَ: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثوهم، وصدق أخو زهرة!
وذكر عن علي بْن مجاهد بْن محمد بْن علي، أن المنصور قَالَ للمهدي: يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره.
وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله، يقول: قَالَ المنصور للمهدي:
يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.
وذكر الفقيمي، عن عتبة بْن هارون، قَالَ: قَالَ أبو جعفر يوما للمهدي:
كم راية عندك؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ: هذا والله التضييع، أنت لأمر الخلافة أشد تضييعا، ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت، فاتق الله فيما خولك.
وذكر علي بْن محمد عن حفص بْن عمر بْن حماد، عن خالصة، قالت:
دخلت على المنصور، فإذا هو يتشكى وجع ضرسه، فلما سمع حسي، قَالَ: ادخلي، فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قَالَ لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قَالَ:
ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار، قَالَ:
احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما، فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع، ولكني سألته أمس مالا فتمارض، احملي إليه ما قلت، ففعلت، فلما أتاه المهدي، قَالَ: يا أبا عبد الله، تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بْن محمد: قَالَ واضح مولى أبي جعفر، قَالَ: قَالَ أبو جعفر يوما: انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل، وليكن معها رقاع ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك- ولم يقل: دانق- فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد قَالَ: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل.
وذكر علي بْن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بْن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بْن أميل- وذكره أيضا عبد الله بْن الحسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بْن أميل حدثه- قَالَ: قدمت على المهدي- قَالَ ابن مرثد في خبره: وهو ولي عهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد- فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم قَالَ أبو قدامة: فكتب إلي كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدا من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا ممن يمر به، حتى يظفر بالمؤمل، فلما رآه قَالَ له: من أنت؟ قَالَ: أنا المؤمل بْن أميل، من زوار الأمير المهدي، قَالَ: إياك طلبت قَالَ المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال:
هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد علي السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قَالَ: أنت المؤمل بْن أميل؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قَالَ: هيه! اتيت غلاما غرا فخدعته! قَالَ: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع، قَالَ: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو المهدي إلا أن فيه *** مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما *** أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل *** وهذا في النهار سراج نور
ولكن فضل الرحمن هذا *** على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير *** وماذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا *** منير عند نقصان الشهور
فيا بن خليفة الله المصفى *** به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا *** إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى *** بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت وراءه تجري حثيثا *** وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس: ما هذان إلا *** بمنزلة الخليق من الجدير
لئن سبق الكبير فأهل سبق *** له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير *** لقد خلق الصغير من الكبير
فقال: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم.
وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قَالَ: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ منه الباقي قَالَ، فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي قَالَ: فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يوما رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قَالَ: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت وذكر واضح مولى المنصور، قَالَ: إني لواقف على رأس أبي جعفر يوما إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفا وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به، فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به، فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله، فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالا للمواهب، أم بطرا للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين وإرشادك، والحمد لله على نعمه، وأسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته ثم انصرف.
قَالَ العباس بْن الوليد بْن مزيد: قَالَ: سمعت ناعم بْن مزيد، يذكر عن الوضين بْن عطاء، قَالَ: استزارني أبو جعفر- وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة- فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوما، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما مالك؟ قلت: الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قَالَ: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قَالَ: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فو الله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني، قَالَ: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، اربعه مغازل يدرن في بيتك وذكر بشر المنجم، قَالَ: دعاني أبو جعفر يوما عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي: خذ هذا واحتفظ به، قَالَ: فهو عندي إلى الساعة.
وذكر أبو الجهم بْن عطية، قَالَ: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم، فأخذها منه، وقال: هذا مالي، قَالَ: ومن اين يكون مالك! فو الله ما وليت لك عملا قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قَالَ: بلى، كنت تزوجت مولاه لعيينه بن موسى ابن كعب فورثتك مالا، وكان ذلك قد عصي وأخذ مالي وهو وال على السند، فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بْن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قَالَ: ولى أبو جعفر رجلا باروسما، فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئا، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئا من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلا إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك فقال: ما أظنك إلا صادقا، هلم درهمنا فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟ فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قَالَ: وما مجير أم عامر، فذكر قصة الضبع ومجيرها، قَالَ: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئا.
وذكر عن هشام بْن محمد أن قثم بْن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قَالَ: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر:
وللكبراء أكل كيف شاءوا *** وللصغراء أكل واقتثام
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بْن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قَالَ: وأنت مثله! إنا لا نلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئا، وفي منزلنا من هداياه بقية، وأنت لم تفعل من هذا شيئا.
وذكر عن سوادة بْن عمرو السلمي، عن عبد الملك بْن عطاء- وكان في صحابة المنصور- قَالَ: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه: ما رأيت رجلا قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئا نكسره به، فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي سوداء، وإنه لكما قَالَ الأعشى:
يقوم على الرغم من قومه *** فيعفو إذا شاء أو ينتقم
أخو الحرب لا ضرع واهن *** ولم ينتعل بنعال خذم
وذكر إبراهيم بْن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلا على رجل يقال له أزهر السمان- وليس بالمحدث- وذلك قبل خلافته، فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله، فأمر له باثني عشر ألف درهم، ثم قَالَ: يا أزهر، لا تأتنا طالب حاجة، قَالَ: أفعل فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قَالَ: جئت مسلما يا أمير المؤمنين، قَالَ: إنه ليقع في نفسي أشياء، منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى، فأمر له باثني عشر ألف درهم أخرى، ثم قَالَ: يا أزهر، لا تأتنا طالب حاجة ولا مسلما، قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ثم لم يلبث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قَالَ: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده، فإنه غير مستجاب، لأني قد دعوت الله به ان يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئا.
وذكر الهيثم بن عدى ان ابن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغنى تجبينك إياي، فكتب اليه: يا بن هبيرة، انك امرؤ متعد طورك، جار في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده، فرويدا يتم الكتاب أجله، وقد ضربت مثلي ومثلك، بلغني أن أسدا لقي خنزيرا، فقال له الخنزير: قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفء ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيرا، فلم أعتقد بذلك فخرا ولا ذكرا، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك.
وذكر عن محمد بْن رياح الجوهري، قَالَ: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بْن عبد الملك في حرب كانت له، فبعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة- رصافة هشام- يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال: أنت صاحب هشام؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قَالَ: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع بأن قَالَ: فعل كذا رضي الله عنه، فأحفظ ذلك المنصور، فقال: قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ، وهو يقول:
إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي، فأمر المنصور برده، وقال: اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت: إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب عربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا يجب علي أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم، ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور: عند مثل هذا تحسن الصنيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله!
وذكر عن حفص بْن غياث، عن ابن عياش، قَالَ: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلاما فيه طعن على سلطانهم، فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: أخرج إلي من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رءوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منازلكم، وابقوا على أنفسكم فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له: والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت- وكان ابن عياش منتوفا- فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بْن صالح: حدثني محمد بْن عقبة الصيداوي عن نصر بْن حرب- وكان في حرس أبي جعفر- قَالَ: رفع إلي رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قَالَ: أصبغ! قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قَالَ: بلى، قَالَ: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قَالَ: أخطأت وأمير المؤمنين أولى بالعفو قَالَ: فدعا أبو جعفر عمارة- وكان حاضرا- فقال: يا عمارة، هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: علي بكيس عطائي، فأتي بكيس فيه خمسمائة درهم، فقال: خذها فإنها وضح، ويلك، وعليك بعملك- واشار بيده يحركها- قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قَالَ: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي. قَالَ نصر: ثم أتي به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قَالَ: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين، فقدمه فضرب عنقه.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان النوفلي، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ:
كان خضاب المنصور زعفرانيا، وذلك أن شعره كان لينا لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة، فكنت أراه على المنبر يخطب ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه.
وذكر إبراهيم بْن عبد السلام، ابن أخي السندي بْن شاهك السندي، قَالَ:
ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قَالَ: نعم، فقال له المنصور: من أين أتي بنو أمية حتى انتشر امرهم؟ قال: من تضييع الاخبار، وقال: فأي الأموال وجدوها أنفع؟ قَالَ: الجوهر، قَالَ فعند من وجدوا الوفاء؟ قَالَ: عند مواليهم، قَالَ: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قَالَ: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه.
وذكر علي بْن محمد الهاشمي أن أباه محمد بْن سليمان حدثه، قَالَ: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد، فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلا من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فيه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قَالَ: ما هو إلا ما ترى.
قَالَ: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بْن محمد، قَالَ: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة، وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه- أو قَالَ: بالفقر في ملكه.
قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان المنصور لا يولي أحدا ثم يعزله إلا ألقاه في دار خالد البطين- وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقا لدار صالح المسكين- فيستخرج من المعزول مالا، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكتب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت مال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع ثم قَالَ للمهدي: إني قد هيأت لك شيئا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم كل ما أخذ منهم، فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة، ففعل ذلك المهدي لما ولي.
قَالَ علي بْن محمد: فكان المنصور ولى محمد بْن عبيد الله بْن محمد بْن سليمان بْن محمد بْن عبد المطلب بْن ربيعة بْن الحارث البلقاء، ثم عزله، وأمر أن يحمل إليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفي معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد- وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقة ووسادتين وطستا وإبريقا وأشناندانه نحاس- فوجد ذلك مجموعا كهيئته، إلا أن المتاع قد تاكل، فاخذ الفى الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال: لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنه الملقب ربرا المدينة.
وذكر أحمد بْن الهيثم بْن جعفر بْن سليمان بن على، قال: حدثنى صباح ابن خاقان، قَالَ: كنت عند المنصور حين أتي برأس ابراهيم بن عبد الله ابن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظرا شديدا، وقال لي: دق أنفه، قَالَ: فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته أعمدة الحرس، فما زال يهشم بها حتى خمد، ثم جر برجله.
قَالَ الأصمعي: حدثني جعفر بْن سليمان، قَالَ: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربة وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟
لمن طلل بذات الجيش *** أمسى دارسا خلقا
علون بظاهر البيداء *** فالمحزون قد قلقا
فقال: أخذت الغناء من معبد، ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قَالَ: عليكم بأشعب، فإنه أحسن تأدية له مني.
قَالَ الأصمعي: وقال جعفر بْن سليمان: قَالَ أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتفي منك، قَالَ: ولم يا أبه؟ قَالَ: لأني أكسب خلق الله لرغيف، وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئا، قَالَ: بلى والله، إني لأكسب، ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها.
وذكر علي بْن محمد بْن سليمان الهاشمي، أن أباه محمدا حدثه أن الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى بأطنان القصب والخلاف طوالا غلاظا، فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها، وكانت بنو أمية تفعل ذلك، وكان أول من اتخذ الخيش المنصور.
وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه، فاتخذ له أبو أيوب الخوزي ثيابا كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب أن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل، وكانت أبرد، فاتخذ له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس.
وقال علي بْن محمد عن أبيه: أن رجلا من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم بالغلو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم ان الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بْن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بْن محمد، وأنهم آلهة، واستحلوا الحرمات، فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته، فبلغ ذلك أسد بْن عبد الله، فقتلهم وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قَالَ: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت قَالَ: فحكي لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت، وخرجت روحه.
قَالَ أحمد بْن ثابت مولى محمد بْن سليمان بْن علي عن ابيه: ان عبد الله ابن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بْن علي أشرف يوما ومعه بعض مواليه ومولى لسليمان بْن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بْن علي، فقال: من هذا؟ قَالَ له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضبا وصفق بيديه عجبا، وقال: ان طريقنا لنبك بعد، يا فلان- لمولى له- انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف:
علام، وفيم نترك عبد شمس *** لها في كل راعية ثغاء!
فما بالرمس في حران منها *** ولو قتلت بأجمعها وفاء
وذكر علي بْن محمد المدائني أنه قدم على أبي جعفر المنصور- بعد انهزام عبد الله بْن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد- وفد من أهل الشام فيهم الحارث بْن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث ابن عبد الرحمن، فقال أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة، وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فان تعاقبنا فيما أجرمنا، وإن تعف عنا فبفضلك علينا، فاصفح عنا إذ ملكت، وامنن إذ قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قَالَ أبو جعفر: قد فعلت.
وذكر عن الهيثم بْن عدي عن زيد مولى عيسى بْن نهيك، قَالَ: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قَالَ: فأين هي؟ قلت: أنفقتها الحرة في مأتمه قَالَ: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قَالَ: كم خلف من البنات؟ قلت: ستا، فأطرق مليا ثم رفع رأسه، وقال: اغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره، ولا أدري لم دعيت! قَالَ: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: اغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم، قَالَ: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعا، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك.
وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشره آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحدا من الناس.
وقال العباس بْن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، بني علي بْن عبد الله بْن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال، فكانت تجري في الدواوين.
وذكر عن إسحاق بْن إبراهيم الموصلي، قَالَ: حدثني الفضل بْن الربيع، عن أبيه، قَالَ: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلسا عاما ببغداد- وكان وفد إليه منهم جماعة- فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بْن حزم، فانتسب ثم قَالَ:
يا أمير المؤمنين، قَالَ الأحوص فينا شعرا، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده:
لا تأوين لحزمي رأيت به *** فقرا وإن ألقي الحزمي في النار
الناخسين بمروان بذي خشب *** والداخلين على عثمان في الدار
قَالَ: والشعر في المدح للوليد بْن عبد الملك، فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قَالَ الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فامر باستصفاء أموالهم.
فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثا، فقال له أبو جعفر: لا جرم، أنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قَالَ لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب الى عماله ان ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته قَالَ: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس.
وحدثني جعفر بْن أحمد بْن يحيى، قَالَ: حدثني أحمد بْن أسد، قَالَ: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قَالَ: ما يقولون؟ قَالَ: يقولون: عليل، فأطرق قليلا ثم قَالَ: يا ربيع، ما لنا وللعامة! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بعض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيئهم عدوهم، وقد فعلنا ذلك بهم ثم مكث أياما، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل، فركب حتى رآه العامة.
وذكر علي بْن محمد، قَالَ: حدثني أبي، قَالَ: وجه أبو جعفر مع محمد بْن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون، وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق زينب بنت سليمان بْن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها، يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه، فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعرا، فقال فيها أبياتا، يقول فيها:
يا ساكن المربد قد هجت لي *** شوقا فما أنفك بالمربد
قَالَ: فحدثني أبي قَالَ: كان المنصور نازلا على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه، وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولا يأمره أن يتوخى قتل محمد بْن أبي العباس، فاتخذ سما قاتلا، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها فكتبت بذلك أم محمد بْن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها فكتب المنصور يأمر بحمله إليه، فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطا ضربا خفيفا، وحبسه أياما، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابا أكدته وأشهدت عليه شهودا، فعزب بها عشر سنين في سلطانه، فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة، فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته، فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد، فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر، وكانت أم موسى ولدت له جعفرا والمهدي.
وذكر عن علي بْن الجعد أنه قَالَ: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قَالَ: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعاما ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئا يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب.
وذكر عن يحيى بْن الحسن أن أباه حدثه، قَالَ: كتب المنصور الى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا، فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلا، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك.
وذكر أبو بكر الهذلي ان أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت.
وقال الفضل بْن الربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح.
وذكر عن أبان بْن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] ، إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت به علينا من عطيتك قَالَ: وقرأ الهيثم عنده: {ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ} [النساء: 37] فقال للناس: لولا أن الأموال حصن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما، لما أجد لبذل المال من اللذاذة، ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.
ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قَالَ: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه قَالَ: فمن هناك! قَالَ: وكان المنصور كثيرا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئا أو لاحيا.
وذكر عن قحطبة، قَالَ: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك.
وذكر علي بْن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك، فانظر من تملكه.
وذكر الزبير بْن بكار، عن عمر، قَالَ: لما حمل عبد الجبار بْن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قَالَ له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قَالَ: تركتها وراءك يا بن اللخناء! وذكر عن عمر بْن شبة، أن قحطبة بْن غدانة الجشمي- وكان من الصحابة- قَالَ: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب بمدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم، ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه.
وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بْن حديد، قَالَ: حدثنى بعض الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح.
وذكر أحمد بْن خالد، قَالَ: حدثني يحيى بْن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا!
قَالَ: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريما، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، فلا تلتمس من غيرك شكر ما آتيته الى نفسك، ووقيت به عرضك واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك، فأكرم وجهك عن رده.
وذكر عمر بْن شبة أن محمد بْن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، قَالَ: سمعت إسحاق بْن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بْن علي والعباس بْن محمد.
وذكر عن أحمد بْن خالد، قَالَ: حدثني إسماعيل بْن إبراهيم الفهري، قَالَ: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة- وقال قوم: بل خطب في أيام منى- فقال في خطبته: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول تبارك وتعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً} [المائدة: 3] أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب.
وذكر عن داود بْن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن بِهِ وأتوكل عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، اذكرك من ذكرت به فقطع الخطبة ثم قَالَ: سمعا سمعا، لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا، وأن تأخذني العزة بالإثم،{قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] وأنت ايها القائل، فو الله ما أردت بها وجه الله، ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت وإياك وإياكم معشر الناس أختها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وذكر عن أبي توبة الربيع بْن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قَالَ:
قمت إلى أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرات: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك قَالَ: فخرجت من عنده سليما.
وقال عيسى بْن عبد الله بْن حميد: حدثني إبراهيم بْن عيسى، قَالَ: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد- يعني به مسجد المدينة ببغداد- فلما بلغ: {ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [المائدة: 102] ، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعا سمعا، لمن ذكر بالله، هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئا، فقال أبو جعفر: الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تحملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به، لا يقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه ثم قَالَ: خذه إليك يا ربيع، قَالَ: فوثقنا له بالنجاة- وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروها قَالَ: خذه إليك يا مسيب- قَالَ: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر، وجعل عيسى بْن موسى يمشى على هينته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: كأنك خفتني على هذا الرجل! قَالَ: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك، إلا أن أمير المؤمنين أكثر علما، وأعلى نظرا من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه فلما جلس قَالَ: علي بالرجل، فأتي به، فقال: يا هذا، إنك لما رأيتني على المنبر، قلت، هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك، فأشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغبير قدميك في سبيل الله، انطه يا ربيع أربعمائة درهم، واذهب فلا تعد.
وذكر عن عبد الله بْن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قَالَ: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيبا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذِّكْرِ أَنَّ ٱلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدا للقوم الظالمين، الذين اتخذوا الكعبة عرضا، والفيء إرثا، و{جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91]، لقد {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8]، فكم ترى من {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45]، أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، ثم اخذهم، ف {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم: 98] وذكر الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش، قَالَ: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثل:
تفرقت الظباء على خداش *** فما يدري خداش ما يصيد
قَالَ: ثم أمر بإحضار القواد والموالي والصحابة وأهل بيته، وامر حمادا التركي بإسراج الخيل وسليمان بْن مجالد بالتقدم والمسيب بْن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر قَالَ: فأزم عليه طويلا لا ينطق قَالَ رجل لشبيب بْن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قَالَ: فافترع الخطبة، ثم قَالَ:
ما لي أكفكف عن سعد ويشتمني *** ولو شتمت بني سعد لقد سكنوا
جهلا علي وجبنا عن عدوهم *** لبئست الخلتان الجهل والجبن
ثم جلس وقال:
فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن *** لأكشفه إلا لإحدى العظائم
والله لقد عجزوا عن أمر قمنا به، فما شكروا الكافي، ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصص، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحدا بإهانة نفسي، والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي، والسعيد من وعظ بغيره قدم يا غلام، ثم ركب .
وذكر الفقيمي أن عبد الله بْن محمد بْن عبد الرحمن مولى محمد بْن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الله بْن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد الْمِنْبَر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ:
يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بْن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير، فقام فيها علي بْن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمين، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن على، فو الله ما كان فيها برجل، قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية، إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بْن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدره السوداء- واشار الى الكوفه- فو الله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بْن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه، وقد كان أتى محمد بْن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بْن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل، وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا، والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها، وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة، حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
فلما استقرت الأمور فينا على قرارها، من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلما وحسدا منهم لنا، وبغيا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه صلى الله عليه وسلم
جهلا علي وجبنا عن عدوهم *** لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالا يعملون عليه، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال، فو الله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين.
ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} [سبأ: 54].
قَالَ: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال:
أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه، بإعزاز دينه، وإعلاء حقه إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم.
إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا، ولم تمنعنا رعاية الحق له من اقامه الحق عليه.
وذكر اسحق بْن إبراهيم الموصلي أن الفضل بْن الربيع أخبره عن أبيه، قَالَ: قَالَ المنصور: قَالَ ابى: سمعت ابى، علي بْن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بْن جميل الكاتب- وأصله من الربذة- فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته، ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشره دره، وقال: تلبس سراويل كتان فإنه من السرف.
وذكر محمد بْن إسماعيل الهاشمي، أن الحسن بْن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بْن عبد الله بالمدينة وأخاه ابراهيم بباخمرى وخرج إبراهيم بْن حسن بْن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بْن أبي طالب بالمدينة كتابا يذكر لهم فيه إبراهيم بْن الحسن بْن الحسن وخروجه بمصر، وإنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وانهم يدابون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم، حتى وثب بنو أبيه غضبا لهم على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بْن ربيعة بْن معاوية اليربوعي:
فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم *** وبالله أحمي عنكم وأدافع
لضاعت امور منكم لا ارى لها *** كفاه وما لا يحفظ الله ضائع
فسموا لنا من طحطح الناس عنكم *** ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع!
وما زال منا قد علمتم عليكم *** على الدهر إفضال يرى ومنافع
وما زال منكم أهل غدر وجفوة *** وبالله مغتر وللرحم قاطع
وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم *** وقائع منكم ثم فيها مقانع
وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم *** كذاك الأمور، خافضات روافع
وهل تعلون أقدام قوم صدورهم *** وهل تعلون فوق السنام الأكارع!
ودب رجال للرئاسة منكم *** كما درجت تحت الغدير الضفادع؟
وذكر عن يحيى بْن الحسن بْن عبد الخالق، قَالَ: كان أرزاق الكتاب والعمال ايام ابى جعفر ثلاثمائة درهم، فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بْن سهل، فأما في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائه إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن ابى مسلم ثلاثمائة درهم في الشهر.
وذكر إبراهيم بْن موسى بْن عيسى بْن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة، فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذاك عن سعره، فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقة حتى يعود سعره ذلك إلى حاله، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك، وسأل من بحضرته عن عمله، فإن أنكر شيئا عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه.
وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بْن خاقان التميمي، قَالَ: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قَالَ: ذكر الوليد عند المنصور ايام نزوله بغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا: لعن الله الملحد الكافر- قَالَ: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي ابن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة- فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قَالَ: حضرت الوليد بْن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلنا الضعف من ساداتهم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين، فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قَالَ: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلى دين ابن الزبعرى يوم قَالَ هذا الشعر قَالَ: فلعنه المنصور ولعنه جلساؤه، وقال: الحمد لله على نعمته وتوحيده.
وذكر عن أبي بكر الهذلي، قَالَ: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور:
إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذموما، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا.
وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب الى العامل هناك: دمه في دمك إلا توجهه إلي، فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه، قَالَ له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له- وقد كان شيخا كبير السن- بصوت ضعيف ضئيل غير مستعل:
أتروض عرسك بعد ما هرمت *** ومن العناء رياضه الهرم
قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال: يا ربيع، ما يقول؟ فقال:
يقول:
العبد عبدكم والمال مالكم *** فهل عذابك عني اليوم منصرف!
قَالَ: يا ربيع، قد عفوت عنه، فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته.
قَالَ: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حدا من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فانصف هذا المتظلم من هذه الظلامة.
قَالَ: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد، فزد في خطاك تزدد من الثواب.
قَالَ: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال، في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقا فجيء به ملببا فقد أذنا لك في ذلك.
وذكر عمر بْن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قَالَ: بلغني أن السيد بْن محمد مات بالكرخ- أو قَالَ: بواسط- ولم يدفنوه، ولئن حق ذلك عندي لأحرقنها وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمان المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم.
وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بْن علي وعبد الجبار بْن عبد الرحمن، وصار ببغداد، واستقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت:
تبيت من البلوى على حد مرهف *** مرارا ويكفي الله ما أنت خائف
قَالَ: وأنشدني عبد الله بْن الربيع، قَالَ: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء:
ورب أمور لا تضيرك ضيرة *** وللقلب من مخشاتهن وجيب
وقال الهيثم بْن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بْن حسن في البلاد هربا من عقابه، تمثل:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها *** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه *** وإن أخف آمنا تقلق به الدار
سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم *** إني لكل امرئ من جاره جار
وذكر علي بْن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قَالَ: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشتريتهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهما، قَالَ: صالحان، استحطه، فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما عليه فحطني عشرين درهما، قَالَ: أحسنت، اقطع أحدهما قميصا، واجعل الآخر رداء لي ففعلت، فلبس القميص خمسة عشر يوما لم يلبس غيره.
وذكر مولى لعبد الصمد بْن علي، قَالَ: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب، فإن رأى أحدا منهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قَالَ: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك، وإني لأراها تلمع في لحية فلان، فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم، وإن رأى على أحد منهم وشيا طاهرا عضه بلسانه.
وذكر عن أحمد بْن خالد، قَالَ: كان المنصور يسأل مالك بْن أدهم كثيرا عن حديث عجلان بْن سهيل، أخي حوثرة بْن سهيل، قَالَ: كنا جلوسا مع عجلان، إذ مر بنا هشام بْن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قَالَ: من تعني؟ قَالَ: هشاما، قَالَ: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات.
وقال أحمد بْن خالد: قَالَ إبراهيم بْن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال له المنصور يوما: ما جنسك؟ قَالَ: عربي يا أمير المؤمنين، قَالَ: ومن أي العرب أنت؟ قَالَ: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك قَالَ: أما إنك نعم الغلام، ولكن لا يدخل قصري عربي يخدم حرمي، اخرج عافاك الله، فاذهب حيث شئت!
وذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل بْن داود بْن معاوية بْن بكر- وكان من الصحابة- أن المنصور ضم رجلا من اهل الكوفة، يقال له الفضيل بْن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله من المهدي، وقد كان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بْن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر قَالَ: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بْن غزوان مولى عثمان بْن نهيك إلى الفضيل- وهو مع جعفر بحديثة الموصل- وقال: إذا رأيتما فضيلا فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتابا منشورا، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله قَالَ: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن، فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد، فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه- وكان الفضيل رجلا عفيفا دينا- فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه فوجه رسولا، وجعل له عشرة آلاف درهم أن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه.
فذكر معاوية بْن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفرا أرسل إليه، فقال:
ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قَالَ سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء، وهو أعلم بما يصنع، فقال: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة قَالَ فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بْن عبد الله بْن علي، وقد قتل عبد الله بْن الحسن وغيره من اولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلما، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قَالَ: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله.
وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بْن عفان أن حفصا الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بْن أبي جمعة، مولى عباد بْن زياد، وكان المنصور صيره مؤدبا للمهدي في مجالسه، وكان مداحا لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي أيام ولايته العهد، ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة قَالَ: وكان مما مدح به بني أمية قوله:
أين روقا عبد شمس اين هم *** أين أهل الباع منهم والحسب!
لم تكن أيد لهم عندكم *** ما فعلتم آل عبد المطلب!
أيها السائل عنهم أولو *** جثث تلمع من فوق الخشب
إن تجذوا الأصل منهم سفها *** يا لقوم للزمان المنقلب!
ان فاحلبوا ما شئتم في صحنكم *** فستسقون صرى ذاك الحلب
وقيل: إن حفصا الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت؟ فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قَالَ: مولى لي مثلك لا أعرفه! قَالَ: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين، فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به.
ومما رثي به قول سلم الخاسر:
عجبا للذي نعى الناعيان *** كيف فاهت بموته الشفتان!
ملك إن غدا على الدهر يوما *** أصبح الدهر ساقطا للجران
ليت كفا حثت عليه ترابا *** لم تعد في يمينها ببنان
حين دانت له البلاد على العسف *** وأغضى من خوفه الثقلان
أين رب الزوراء قد قلدته *** الملك، عشرون حجة واثنتان
إنما المرء كالزناد إذا ما *** أخذته قوادح النيران
ليس يثني هواه زجر ولا يقدح *** في حبله ذوو الأذهان
قلدته أعنة الملك حتى *** قاد أعداءه بغير عنان
يكسر الطرف دونه وترى الأيدي *** من خوفه على الأذقان
ضم أطراف ملكه ثم أضحى *** خلف أقصاهم ودون الداني
هاشمي التشمير لا يحمل الثقل *** على غارب الشرود الهدان
ذو أناة ينسى لها الخائف الخوف *** وعزم يلوي بكل جنان
ذهبت دونه النفوس حذارا *** غير أن الأرواح في الأبدان.
ذكر أسماء ولده ونسائه
فمن ولده المهدي- واسمه محمد- وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بْن منصور الحميري، وكانت تكنى أم موسى، وهلك جعفر هذا قبل المنصور.
وسليمان وعيسى ويعقوب، وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحه بن عبيد الله.
وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية.
وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة.
والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم، ولها بباب الشام بستان يعرف إلى اليوم ببستان أم القاسم.
والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بْن سليمان ابن علي بْن عبد الله بْن العباس وذكر عن إسحاق بْن سليمان أنه قَالَ:
قَالَ لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس، العالية بنت أمير المؤمنين.
قَالَ: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قَالَ: أعداؤنا من بني أمية.
ذكر الخبر عن وصاياه
ذكر عن الهيثم بْن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجها إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أياما والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بينا إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكا.
فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها- وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدا، يصر مفتاحه في كم قميصه قَالَ: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم- فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث، حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة، فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة، فإياك أن تستبدل بها، فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور، فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل بيتك، أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل.
وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل خراسان خيرا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل.
وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل وإياك أن تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل.
وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال:
يا أبا عبد الله، إني سائر وانى غير راجع، ف {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختوما، فإذا بلغك انى قدمت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين فأحب أن تقضيه وتضمنه، قَالَ: هو علي يا امير المؤمنين، قال: فانه ثلاثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها قَالَ: أفعل، هو علي قَالَ: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي، وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لإخوتك الأصاغر.
قَالَ: نعم، قَالَ: ورقيقي الخاصة هم لك، فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم الحاجة قَالَ: أفعل، قَالَ: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قَالَ: أفعل، قَالَ: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع قَالَ: والمتاع والثياب، سلمه لهم، قَالَ: أفعل قَالَ: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه.
ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلا بالعمرة والحج، قد ساق هديه من البدن، وأشعر وقلد، وذلك لأيام خلت من ذي القعدة.
وذكر أبو يعقوب بْن سليمان، قَالَ: حدثتني جمرة العطارة- عطارة أبي جعفر- قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي- وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر- فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها واحلفها، ووكد الايمان الا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي، ولا هي، إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث، حتى يفتحا الخزانة فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحدا حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان.
وذكر عن إسحاق بْن عيسى بْن علي، عن أبيه، قَالَ: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله، إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجا- أو قَالَ: فرجا ومخرجا- ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب احفظ يا بني محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظ الله عليك أمورك وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحلال، فان ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله لو علم أن شيئا أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا، مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: {إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33] الآية فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، وأقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن.
واحكم بالعدل ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبذير، فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة، وهي من شيم الزمان وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع جد في أحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسيء الظن بعمالك وكتابك.
وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل أذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينا غير نائمة، ونفسا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك. قَالَ: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه.
وذكر عمر بْن شبة عن سعيد بْن هريم، قَالَ: لما حج المنصور في السنة التي توفي فيها شيعه المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها، ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بْن موسى، وعيسى بْن زيد، فأما عيسى بْن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، وو الله لو لم يكن إلا أن يقول قولا لما خفته عليك، فأخرجه من قلبك وأما عيسى بْن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك.
وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه، قَالَ: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم.
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت *** سنوك، وأمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم *** لك اليوم من حر المنية مانع!
قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: ألم آمرك ألا يدخل المنزل أحد من الدعار! قَالَ: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوبا، قَالَ: ما أرى شيئا يا أمير المؤمنين، قَالَ: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوبا، قَالَ: ما أرى على صدر البيت شيئا، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. {وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ، فأمر بفكيه فوجئا وقال: ما وجدت شيئا تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيرا مما كان، وركب فرسا، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر- وكان آخر منزل بطريق مكة- كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون.
وذكر عن محمد بْن عبد الله مولى بني هاشم، قَالَ: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قَالَ: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول:
أما ورب السكون والحرك *** إن المنايا كثيرة الشرك
عليك يا نفس إن أسأت وإن *** أحسنت بالقصد، كل ذاك لك
ما اختلف الليل والنهار ولا *** دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملك *** إذا انقضى ملكه الى ملك
حتى يصيرا به إلى ملك *** ما عز سلطانه بمشترك
ذاك بديع السماء والأرض والمرسي *** الجبال المسخر الفلك
فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي.
وذكر عبد الله بْن عبيد الله، أن عبد العزيز بْن مسلم حدثه أنه قَالَ: دخلت على المنصور يوما أسلم عليه، فإذا هو باهت لا يحير جوابا، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم، كأن رجلا ينشدني هذه الأبيات:
أأخي أخفض من مناكا *** فكأن يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدهر من *** تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت الناقص العبد *** الذليل فأنت ذاكا
ملكت ما ملكته *** والأمر فيه إلى سواكا
فهذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك.
وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بْن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بْن العباس بمكة، صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور وذلك يوم السبت لست ليال خلون من ذي الحجه سنه ثمان وخمسين، كذلك قَالَ هشام بْن محمد ومحمد بْن عمر وغيرهما.
وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة.
وأم المهدي أم موسى بنت منصور بْن عبد الله بْن يزيد بْن شمر الحميري.
خلافة المهدي محمد بْن عبد الله بْن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة
ذكر علي بْن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قَالَ: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة، وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق، ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب من الزوال، ثم أنصرف- وكذلك كان يفعل الهاشميون- وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم، فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بْن عون بْن عبد الله بْن الحارث- وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم، وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدا السيف عليهما- قَالَ: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بْن الخطاب وعبد الله بْن جعفر وقول علي بْن أبي طالب فيه فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بْن محمد ومحمد بْن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بْن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: احسب الرجل قد مات، فأرادا أن يحصنا مكة، فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير، إذا رجل خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، ثم أقبل علينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه في كل يوم، فإذا بموسى بْن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بْن منصور في ناحية السرادق- وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطه، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه- قَالَ: فلما رأيته في ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرا، علمت أن المنصور قد مات قَالَ: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بْن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسا من بكاء، فقال لي الحسن: أترى الرجل مات!
قلت: لا أحسب ذلك، ولكن لعله ثقيل، أو أصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم وقال ابن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبيا رطبا ما يتحلحل.
ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين- ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء، ولكن هذا عهد عهده أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة- أما بعد: فانى كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، واسال الله الا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض يا بني هاشم، ويا أهل خراسان ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب.
قَالَ النوفلي: قَالَ أبي: وكان هذا شيئا وضعه الربيع، ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بْن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال: يأيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واصطفى مالي، فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده.
ثم جاء الربيع إلى محمد بْن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني، فكنت الثالث، وبايع الناس، فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه، فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريرة نحمله، فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه، وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه، حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها.
قَالَ: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بْن عيسى بْن ماهان، أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بْن موسى على بيعة مجددة للمهدي- وكان القائم بذلك الربيع- فأبى عيسى بن موسى، واقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون، فنهض علي بْن عيسى بْن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده.
وذكر عيسى بْن محمد أن موسى بْن هارون حدثه أن موسى بْن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي، وبعثا بعد بقضيب النبي صلى الله عليه وسلم وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة، ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بْن المسيب بْن زهير بالحربة بين يدي صالح بْن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بْن نصر بْن مالك، وهو يومئذ على شرطة موسى بْن المهدي، واندس علي بْن عيسى بْن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بْن موسى.
وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروذي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح.
وتحرك في ذلك محمد بْن سليمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته، الا ان محمدا كان أحسنهم قياما به حتى طفئ ذلك وسكن وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بْن عيسى عن حرس موسى بْن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حرب بْن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بْن محمد ومحمد ابن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بْن محمد وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصل الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام.
وذكر الهيثم بْن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب- أو غيره من منازل طريق مكة- رؤيا- وكان الربيع عديله- وفزع منها، وقال: يا ربيع، ما أحسبني إلا ميتا في وجهي هذا، وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قَالَ الربيع: فقلت له: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين، ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله.
قَالَ: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربا من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه.
قَالَ الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجهه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم، ويكبت عدوكم، ويسر وليكم، وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي، لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين، نحن إلى ذاك أسرع قَالَ: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم، فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيا مشقوق الجيب لاطما رأسه، فقال بعض من حضر: ويلى عليك يا بن شاة! يريد الربيع- وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة- قَالَ: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها، لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه.
قَالَ: وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر.
قَالَ: فبلغ المهدي، فلما قدم عليه الربيع قَالَ: يا عبد، ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين إن فعلت ما فعلت به! وقال قوم: إنه ضربه، ولم يصح ذلك.
قَالَ: وذكر من حضر حجة المنصور، قَالَ: رأيت صالح بْن المنصور وهو مع أبيه والناس معه، وان موسى بن المهدى لقى تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحا معه وذكر عن الأصمعي أنه قَالَ: أول من نعى أبا جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال:
قد طرقت ببكرها أم طبق.
قَالَ يونس: وماذا؟ قَالَ:
تنتجوها خير أضخم العنق *** موت الإمام فلقة من الفلق
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد بْن علي، وكان المنصور- فيما ذكر- أوصى بذلك.
وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد ابن علي بْن عبد الله بْن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بْن علي، وعلى الكوفة عمرو بْن زهير الضبي أخو المسيب بْن زهير- وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بْن أبي إسماعيل الثقفي، وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس- وعلى قضائها شريك بْن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بْن موسى، وعلى خراسان حميد بْن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله.
وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله محمد بْن صفوان الجمحي وشريك بْن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة وقيل: إن شريكا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها.
وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور- فيما ذكر- عمر بْن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بْن عبد الرحمن وقيل كان موسى بْن كعب.
وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بْن حمزة وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بْن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بْن دعلج.
وأصاب الناس- فيما ذكر محمد بْن عمر- في هذه السنة وباء شديد.