ذكر غزاه وصيف التركى الروم
فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم …
وما كان في ذلك من وصيف:ذكر أن السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض، فلما استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازيا إلى الثغر، فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو.وقد ذكر عن المنتصر أنه لما عزم على أن يغزي وصيفا الثغر الشامي، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفا بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار، فاذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه، فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه، فإما شخصت وإما شخصت، فقال وصيف:بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد، انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما نعم! قم الساعة لذلك، يا وصيف مر كاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح.
وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفا وأمره بالغزو، قال له: إن الطاغية- يعني ملك الروم- قد تحرك، ولست آمنه أن يهلك كل ما يمر به من بلاد الإسلام، ويقتل ويسبي الذراري، فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال، فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل، فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان، أخو الفتح بن خاقان، وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي، واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته، وكان على الشرطة بسامرا.
وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفا مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتابا نسخته:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم: من عبد اللَّه محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين.
سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله أما بعد:
فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلا نهجا إلى رحمته، وسببا إلى مذخور كرامته، فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها، وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه، وأنجحها وسيلة إليه، لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل أمرا بالجهاد، ومفترضا له: {انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ، وليست تمضي بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصبا ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدوا، ولا يقطع بلدا، ولا يطأ أرضا، إلا وله بذلك امر مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 – 121]
ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 95] فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمنا لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها، وعدا منه حقا لا ريب فيه، وحكما عدلا لا تبديل له، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [آل عمران: 169 – 170]. وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة، لان اهله بذلوا الله أنفسهم، لتكون كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو.
وقد رأى أمير المؤمنين- لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته- أن ينهض وصيفا مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازيا لما عرف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربه من الله ومن خليفته.
وقد رأى أمير المؤمنين- والله ولي معونته وتوفيقه- أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز، فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا، ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والخفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائتين، وصير على ما ذكر على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي.
وكتب معه المنتصر كتابا إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأتيه رأي امير المؤمنين.
ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما
وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث.
ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما:
ذكر أن محمدا المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقي منا باقية، ويبيد خضراءنا، والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين، تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب، فلم يزالوا به حتى فعل، ولم يزل مكرما المعتز والمؤيد، على ميل منه شديد إلى المؤيد، فلما كان بعد أربعين يوما من ولايته، أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك، فبينا هم كذلك، إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز:
ما كنت لأفعل، فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا عليه الباب.
فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني اكلمه، فكاعوا
عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت، فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك- وهو هو- ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك ولا تراجعهم!، قال: سبحان الله! أمر قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فو الله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين.
قال: أفعل قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيرا، ودخل معهم كاتب قد سماه، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاسا، أملل ما شئت، فأملى علي كتابا إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر، وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذ لم أكن موضعا له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال: بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا، وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوف، وقال: أترياني خلعتكما طمعا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط، وإذا لم يكن في ذلك طمع، فو الله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من ان يليها بنو عمى، ولكن هؤلاء- واما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد- ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما تريانى صانعا! اقتله؟ فو الله ما تفي دماؤهم كلهم بدم بعضكم، فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل علي قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمهما إليه، ثم انصرفا.
وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع له، وأن الناس في حل من حلها ونقضها، وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد وبني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك.
والنسخة التي كتباها:
بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير، من غير إرادتي ومحبتي، فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد احللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم، ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد، وأنتم براء من ذلك.
وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب ثم قام كل واحد منهما قائما، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي، فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من أيمانكم، وحللتكم منها، فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتابا إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله
ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بْن عبد الله مولى أمير المؤمنين، أما بعد، فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، جعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسوله ص والذابين عن دينه، والداعين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قواما لعباده، وصلاحا لبلاده، ورحمه غمر بها خلقه وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأوجبها في محكم تنزيله، لما جمع فيها من سكون الدهماء، واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 95]، فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسببا لرضاه ومثوبته، لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم، وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين.
وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه، وتذللا لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعينه بتوفيقه على طاعته، أنه سميع قريب.
وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما، يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما، وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين، ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامهما ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في حل، إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده، وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعا ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك، ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وانهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من لهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته، قريبهم وبعيدهم، وحاضرهم وغائبهم، في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم، ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما.
وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله، وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين أن يظهر ما فعلاه، وينشره، ويحضر جميع أوليائه، ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين، طائعين غير مكرهين ولا مجبرين، ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكرا من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد، وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بها ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم، وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما، إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به ورأى أمير المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك، قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف بين قلوبهم ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب التدبير ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما بأخوتهما وماس رحمهما، لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه، لم يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين ضرره، ويعم المسلمين مكروهه، ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه، فخلعهما أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع إخوة أمير المؤمنين ومن بحضرته، من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين، الذين كانت أخذت لهما البيعة عليهم وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد، إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحللا الخاص والعام، والحاضر والغائب، والداني والقاصي منه، ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد، وذكر ما نسبا إليه من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم، والدعاء لهما على المنابر، ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضموما إليهما، ويزيلوا ما على الأعلام والمطارد من ذكرهما، وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من أسمائهما ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص الله لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك، ما أوجب الله لك بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك، واجتهادك في قضاء الحق وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي.
ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه احد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة دواوينه.
فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز إليهم في العمل على حسبه إن شاء الله، والسلام
وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين.
ذكر الخبر عن وفاه المنتصر
وفي هذه السنة توفي المنتصر.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته:
فأما العلة التي كانت بها وفاته، فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم:
أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الأول، ومات مع صلاة العصر من يوم الأحد لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر.
وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر، وإن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات، وإن علته كانت ثلاثة أيام أو نحوها.
وحدثني بعض أصحابنا انه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يتطبب له، وأمره بفصده، ففصده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فصده انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذا له، فأمره بفصده ووضع مباضعه بين يديه ليتخير أجودها، وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر، وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعا أجود من المبضع المسموم، ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره، فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك، فأوصى من ساعته، وهلك من يومه وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه دهنا، فورم رأسه، وعوجل فمات وقد قيل: إن ابن الطيفورى انما سمه في محاجمه.
قال ابو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولي إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل أبيه، مستفيضا ذلك على ألسن العامة والخاصة.وذكر عن يسر الخادم، وكان- فيما ذكر- يتولى بيت المال للمنتصر في أيام إمارته، أنه قال: كان المنتصر يوما من الأيام في خلافته نائما في إيوانه، فانتبه وهو يبكى وينتخب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت وراء الباب، فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه، فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائما فانتبه باكيا، فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟! قال: ادن مني يا عبد الله، فدنا منه فقال له: كنت نائما، فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي: ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني وغبنتنى في خلافتي، والله لا تمتعت بها بعدي إلا أياما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار.فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي فقال له عبد الله: هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله، فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا تعبأ بالرؤيا قال: ففعل ذلك، وما زال منكسرا إلى أن توفي.وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكي عنه أمورا قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب، فأشاروا عليه بقتله، فكان من أمره ما ذكرنا بعضه.
وذكر عنه أنه لما اشتدت به علته، خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال: ذهبت والله مني الدنيا والآخرة.
قال ابراهيم بن جيش: حدثنى موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمى يعقوب وابن عمى يزيد، ان المنتصر لما افضت الخلافه اليه، كان يكثر إذا سكر قتل ابيه المتوكل، ويقول في الاتراك: هؤلاء قتله الخلفاء، ويذكر من ذلك ما تخوفوه، فجعلوا الخادم له ثلاثين الف دينار على ان يحتال في سمه، وجعلوا لعلى بن طيفور جمله، وكان المنتصر يكثر اكل الكمثرى إذا قدمت اليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور الى كمثراه كبيره نضيجه، فادخل في راسها خلاله، ثم سقاها سما، فجعلها الخادم في اعلى الكمثرى الذى قدمه اليه، فلما نظر إليها المنتصر امره ان يقشرها ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم اعطاه قطعه قطعه حتى اتى عليها، فلما أكلها وجد فتره، فقال لابن طيفور: أجد حراره، فقال: يا امير المؤمنين، احتجم تبرا من عله الدم، وقدر انه إذ خرج الدم قوى عليه السم فحجم فحم، وغلظت علته عليه فتخوف هو والاتراك ان تطول علته، فقال له: يا امير المؤمنين، ان الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافيتك، وتحتاج الى الفصد، فانه انجح لما تريد، فقال: افعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش، فالقاه في مباضعه- وكان أحدها وأجودها ثم ان على بن طيفور، وجد حراره، فدعا تلميذا له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد احد منه، ولا اخير ففصده، فكانت منيته فيه.
وذكر عن ابن دهقانه أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يوما بعد ما قتل المتوكل، فتحدث المسدود الطنبوري بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟ فقال: ليلة لا ناه ولا زاجر، فأحفظ ذلك المنتصر.
وذكر عن سعيد بن سلمة النصراني أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب مسرورا يذكر أن أمير المؤمنين المنتصر رأى في ليلة في المنام، أنه صعد درجة حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها، فقيل له: هذا ملكك، وبلغ الخبر ابن المنجم، فدخل عليه محمد بن موسى وعلي بن يحيى المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم احمد ابن الخصيب، ولكني حين بلغت أخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك، واغتم لذلك غما شديدا، فعاش بعد ذلك أياما تتمة سنة، ثم مات وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل: توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة.وستة أشهر وقيل: بل كان عمره أربعا وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة اشهر ، في قول بعضهم ويومين.
وقيل: كانت ستة أشهر سواء.
وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يوما.وكان وفاته بسامرا بالقصر المحدث، بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة، وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال:
فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها *** ولكن إلى الرب الكريم أصير
وهو أول خليفة من بني العباس- فيما بعد- عرف قبره.
وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره وكانت كنيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أم ولد رومية.
ذكر بعض سيره
ذكر أن المنتصر لما ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتوليه علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها، فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودعه، فقال لي:
يا علي، إني أوجهك إلى لحمي ودمي- ومد جلد ساعده- وقال: إلى هذا وجهتك، فانظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيده الله فيهم إن شاء الله، فقال: إذا تسعد بذلك عندي وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولا على فراشه، به عده ضربات بالسيف، فأحضر ولده خادما أسود كان له ووصيفا، ذكر أن الوصيف أقر على الأسود، فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقر به، ووصف فعله به وسبب قتله إياه، فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره، فأشاروا بقتله، فضرب عنقه وصلبه، عند خشبة بابك 4 وفي هذه السنة حكم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرا مع عدة من أصحابه، فقتلوا وصلبوا 34 وفيها تحرك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة.
وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلى أنه قال: كان لأبي مؤذن، فرآه بعض أهلنا في المنام كأنه أذن أذانا لبعض الصلوات، ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر،{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ}.
وذكر عن بنان المغني- وكان فيما قيل أخص الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولي الخلافة- أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة، فقال: او خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال: تتمارض حتى أعودك، فإنه سيهدى لك أكثر من الثوب الديباج، قال: فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئا.
وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بن محمد بن المعتصم.
ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه:
ذكر أن المنتصر لما توفي، وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ سَنَةِ ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية- وكان الذى يستحلفهم على بن الحسين ابن عبد الأعلى الإسكافي كاتب بغا الكبير- على ان يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبير اوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولى الخلافة أحد من ولد المتوكل، لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم، فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم، وقد كانوا قبله ذكروا جماعة من بني هاشم، فبايعوه وقت العشاء الآخرة من ليلة الاثنين، لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ مِنْ السنة، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس.فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر اوتامش فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة، وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسني باب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصف أصحابه صفين، وقام في الصف هو وعدة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبيين وغيرهم ممن لهم مرتبه، فبينا هم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف، جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق، فإذا نحو من خمسين فارسا من الشاكرية، ذكروا أنهم من أصحاب أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبرية وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل، فشهروا السلاح، وصاحوا: يا معتز يا منصور، وشدوا على صفي الأشروسنية اللذين صفهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضة مع الشاكرية، فكثروا، فشد عليهم المغاربة والأشروسنية، فهزموهم حتى أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزون وحمل قوم منهم على المعتزية، فكشفوهم، حتى جاوزوا بهم دار أخي عزون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزية هنالك، ورمى الأشروسنية عدة منهم بالنشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزية والغوغاء يكبرون، فوقعت بينهم قتلى كثيرة، إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم، وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب وخرج المستعين من باب العامة منصرفا إلى الهاروني، فبات هنالك ومضى الأشروسنية إلى الهاروني، وقد قتل من الفريقين عدد كثير، ودخل قوم من الأشروسنية دورا، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانه التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها، وربما مر أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقاع تراس خيزران وقنا بلا أسنة، فكثرت الرماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الصغير من درب زرافه، فاحلوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلا ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم، وأقبل الغوغاء لا يمر أحد من الأتراك من أسافل سامرا يريد باب العامة إلا انتهبوا سلاحه، وقتلوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش أخي يعقوب قوصرة في شوارع سامرا، وعامة من انتهب- فيما ذكر- هذا السلاح أصحاب الفقاع والناطف وأصحاب الحمامات والسقاءون وغوغاء الأسواق، فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرك أهل السجن بسامرا في هذا اليوم، فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به أخ لأتامش ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على خراسان والاعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان.
ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها وولي ديوان البريد.
وفي هذه السنه وجه انوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي، فقتله يوم السبت بكفرتوثى لخمس بقين من شهر ربيع الآخر.
وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج، فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج.
وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئا استثنى منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة، فلما كان يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار، فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ، وأشهدا عليهما بذلك الفقهاء والقضاة وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وحبسا في حجرة الجوسق، ووكل بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما، فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما، وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب، وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفي ماله ومال ولده، ونفي إلى أقريطش.
وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على أرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة.
وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم.
وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيما بالثغر الشامي حتى ورد عليه موت المنتصر، ثم دخل بلاد الروم، فافتتح حصنا يقال له فروريه، وعقد المستعين فيها لاوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرا.
وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجانقذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره، وقدمه اوتامش على جميع الناس.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن سليمان الزينبي.