ذكر خبر شخوص الرشيد الى الري
فمن ذلك ما كان من شخوص هارون الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري …
ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره:
ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بْن خالد في تولية خراسان علي بْن عيسى بْن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بْن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالا جليلا، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثياب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به علي إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبه يحيى بْن خالد، فقال له: يا أبا علي، هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة- وهو كالمازح معه إذ ذاك- فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي، وما أحسن هذا وأكثره إن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء عاقبته ونتائج مكروهه، قَالَ: وما ذاك؟ فأعلمه، قَالَ: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الاشراف، أخذ أكثرها ظلما وتعديا، ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: قد ساومنا عونا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، واعطيناه به سبعه آلاف الف، فأبى ان يبيعه، فابعث اليه الساعة بحاجتي فأمره أن يرده إلينا، لنعيد فيه نظرنا، فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرا من فعل علي بْن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية، مما جمع علي في ثلاث سنين.
فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك عن ذكر علي بْن عيسى عنده، فلما عاث علي بْن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده فدعا يحيى بْن خالد، فشاوره في أمر علي بْن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق فأشار عليه بيزيد بْن مزيد، فلم يقبل مشورته.
وكان قيل للرشيد: إن علي بْن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس له فيه قليل ولا كثير وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بْن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بْن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله، إذا أفضت الخلافة إليه ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحوا من أربعة أشهر، حتى قدم عليه علي بْن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهو مشيع له، فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بْن هانئ في ذلك:
تبارك من ساس الأمور بعلمه *** وفضل هارونا على الخلفاء
نزال بخير ما انطوينا على التقى *** وما ساس دنيانا أبو الأمناء
وفي هذه السنة- حين صار الرشيد إلى الري- بعث حسينا الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب، من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لوندا هرمز، جد مازيار والثالث فيه أمان لمرزبان ابن جستان، صاحب الديلم فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم وندا هرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك، فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة وقدم عليه الري أيضا خزيمة بْن خازم، وكان والي أرمينية، فأهدى هدايا كثيرة.
وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بْن مالك طبرستان والري والرويان ودنباوند وقومس وهمذان وقال أبو العتاهية في خرجة هارون هذه- وكان هارون ولد بالري:
إن أمين الله في خلقه *** حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها *** ويمطر الخير بها من يده
وولى هارون في طريقه محمد بْن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بْن جعفر بْن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصنا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بْن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص، فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين بقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بْن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجها إلى الرقة، فنزل السيلحين وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قَالَ لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينة ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها، وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها، وما رأى أحد من آبائي سوءا ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة- بني أمية- مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدا.
وقال العباس بْن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نفرق *** بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا *** فقرنا وداعهم بالسؤال
وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به- فيما ذكر- فقال مروان بْن أبي حفصة في ذلك:
وفكت بك الأسرى التي شيدت لها ***محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها *** وقالوا: سجون المشركين قبورها
ورابط فيها القاسم بدابق وحج بالناس فيها العباس بْن موسى بْن عيسى بْن موسى.