فمن ذلك غزوة الوليد بْن القعقاع العبسي أرض الروم وفيها غزا أسد بْن عبد الله الختل، فافتتح قلعة زغرزك، وسار منها إلى خداش، …
وملأ يديه من السبي والشاء، وكان الجيش قد هرب الى الصين.
ذكر غزو الترك ومقتل خاقان
وفيها لقي أسد خاقان صاحب الترك فقتله، وقتل بشرا كثيرا من أصحابه، وسلم أسد والمسلمون، وانصرفوا بغنائم كثيرة وسبي.
ذكر الخبر عن هذه الغزوة:
ذكر علي بْن محمد عن شيوخه، أنهم قالوا: كتب ابن السائجي إلى خاقان أبي مزاحم – وإنما كني أبا مزاحم لأنه كان يزاحم العرب – وهو موالث، يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها، وأنه بحال مضيعة فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز – وكان لخاقان مرج وجبل حمى لا يقربهما احد، ولا يتصيد فيهما، يتركان للجهاد فضاء، ما كان في المرج ثلاثة أيام، وما في الجبل ثلاثة أيام – فتجهزوا وارتعوا ودبغوا مسوك الصيد، واتخذوا منها أوعية، واتخذوا القسي والنشاب، ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت ثم علقت في المعاليق، ثم أخذ شيئا من ملح فصيره في كيس، وجعله في منطقته، وأمر كل تركي أن يفعل مثل ذلك، وقال: هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختل.
وأخذ طريق خشوراغ، فلما أحس ابن السائجي أن خاقان قد أقبل بعث إلى أسد: اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلك فشتم رسوله، ولم يصدقه، فبعث صاحب الختل: إني لم أكذبك، وأنا الذي أعلمته دخولك، وتفرق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته المدد، غير أنك أمعرت البلاد، وأصبت الغنائم، فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك، وعادتني العرب أبدا ما بقيت واستطال علي خاقان واشتدت مؤونته، وامتن علي بقوله: أخرجت العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك، فعرف أسد أنه قد صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدم، وولى عليها إبراهيم بْن عاصم العقيلي الجزري، الذي كان ولي سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة، فيهم كثير ابن أمية، أبو سليمان بْن كثير الخزاعي وفضيل بْن حيان المهري وسنان بْن داود القطعي، وكان على أهل العالية سنان الأعرابي السلمي، وعلى الاقباض عثمان ابن شباب الهمذاني، جد قاضي مرو، فسارت الأثقال، فكتب أسد إلى داود بْن شعيب والأصبغ بن ذؤاله الكلبي- وقد كان وجههما في وجه: إن خاقان قد أقبل، فانضما إلى الأثقال، إلى إبراهيم بْن عاصم.
قَالَ: ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسي، فأشاع أن خاقان قد كسر المسلمين، وقتل أسدا.
وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإن فينا هشاما ننحاز إليه، فقال داود بْن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ: حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجراح ومن معه فما ضر المسلمين كثير ضر، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حي قيوم، وأمير المؤمنين حي وجنود المسلمين كثير فقال داود:
أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة ونيران الأتراك متفرقة، فقال الأصبغ: هم في مضيق ودنوا فسمعوا نهيق الحمير، فقال داود: أما علمت أن الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ: أصابوها بالأمس، ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين، فقال داود: نسرح فارسين فيكبران، فبعثا فارسين، فلما دنوا من العسكر كبرا، فأجابهما العسكر بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال، ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه، فقام إبراهيم بْن عاصم مبادرا.
قَالَ: وأقبل أسد من الختل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بْن عاصم بالسبي وما أصاب فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بْن زحر وعبد الرحمن بْن خنفر الأزديان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراء ظهرك فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه.
فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعا يخوضه الناس، وفي موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كل رجل شاة، وحمل هو بنفسه شاة، فقال له عثمان بْن عبد الله بْن مطرف ابن الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخطر مما تخاف، وقد فرقت الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر الناس بالاستعداد فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء، الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه، وخاض الناس ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع سباخه فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر- ويقال كانت المسلحة على الأزد وتميم، وقد خلف ضعفة الناس- وركب أسد النهر، وأمر بالإبل أن يقطع بها إلى ما وراء النهر، حتى تحمل عليها الأثقال، وأقبل رهج من ناحية الختل، فإذا خاقان، فلما توافى معه صدر من جنده حمل على الأزد وبني تميم فانكشفوا، وركض أسد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه.
أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي قَالَ: وأقبل خاقان، فظن المسلمون أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر، فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند- وهو يومئذ اصبهبذ نسف- أن يسير في الصف حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق، حتى انتهى إلى الأشتيخن، فقال: بلى يطاق، لأنا خمسون الف فارس، فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة رد بعضنا عن بعض الماء فذهب جريته قَالَ: فضربوا بكوساتهم فظن أسد ومن معه أنه منهم وعيد، فأقحموا دوابهم، فجعلت تنخر أشد النخير، فلما رأى المسلمون اقتحام الترك ولوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر الرجل دابته، ولا يعرف بعضهم بعضا، فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان خارجا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك، فأدبروا، وبات أسد، فلما أصبح- وقد كان عبأ أصحابه من الليل تخوفا من غدر خاقان وغدوه عليه، ولم ير شيئا- دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل العافية، قَالَ: ما هذه عافية، بل هي بلية، لقينا خاقان أمس فظفر بنا وأصاب من الجند والسلاح، فما منعه منا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعا فيها فارتحل فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلاما من اعلام الاشكند، في بشر قليل فسار والدواب مثقلة، فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل العافية، قَالَ: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بلية وذهاب الأنفس والأموال فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس: أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية، وما عسى أن يكون ذهاب المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بْن سيار مطرق، فقال أسد: ما لك يا بن سيار مطرقا لا تتكلم! قَالَ: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت قحمه لا بد من قطوعها فقبل رأيه وسار يومه كله قَالَ: ودعا أسد سعيدا الصغير- وكان فارسا مولى باهلة، وكان عالما بأرض الختل- فكتب كتابا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد، فإن خاقان قد توجه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل، فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك، وإن أنت لحقت بالحارث فعلى اسد مثل الذى حلف، ان لم يبع امرأتك الدلال في سوق بلخ وجميع أهل بيتك قَالَ سعيد: فادفع إلي فرسك الكميت الذنوب قَالَ:
لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم فدفعه إليه، فسار على دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه، فلما حاذى الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم، فتحول على فرس أسد، فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع- يقال عشرون رجلا- حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه.
فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقا، فأتاهم وهم قيام عليه، فأمر أهل السغد بقتالهم، فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلا، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلا فجعل ينظر العورة، ووجه القتال، قَالَ: وهكذا كان يفعل، ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة فلما صعد التل رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة، فدعا بعض قواد الترك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم، فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم، وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامة أصحابه، واحتووا على أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء، فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجب من كفهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد.
قَالَ: وكان أسد قد أغذ السير، فأقبل حتى وقف على التل الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير، قتل يومئذ بركة بْن خولى الراسبى وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت زوجها، فبكى أسد معها حتى علا صوته، ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري.
قَالَ: وكان مصعب بْن عمرو الخزاعي ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا، فلا تعرضوا لهم وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بْن سريج فأمره فنادى: يا أسد، أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد كان لك عن الختل مندوحة، وهي أرض آبائي وأجدادي فقال أسد: كان ما رأيت، ولعل الله أن ينتقم منك قَالَ كورمغانون- وكان من عظماء الترك: لم أر يوما كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟
قَالَ: أصبت أموالا عظيمة، ولم أر عدوا أسمج من أسراء العرب، يعدو أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه.
وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد، فلما أشرف على الظهر، ورأى المسلمين الترك فامتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا، فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم.
قَالَ: فأردف كل رجل منهم وصيفا أو وصيفة، ثم أقبلوا إلى عسكر أسد عند مغيب الشمس قَالَ: وسار أسد بالناس، حتى نزل مع الثقل.
تفرق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي هذه الغزاة قيل له بالفارسية:
أز ختلان آمديه *** برو تباه آمديه
آبار باز آمديه *** خشك نزار آمديه
قَالَ: وكان الحارث بْن سريج بناحية طخارستان، فانضم إلى خاقان، فلما كان ليلة الأضحى قيل لأسد: إن خاقان نزل جزة، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب الناس، وقال: إن عدو الله الحارث بْن سريج استجلب طاغيته ليطفئ نور الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله وإن عدوكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم، وأخلصوا له الدعاء ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكون في الفتح، ثم نزل عن المنبر وضحى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك قَالَ: والله لأخرجن، فإما ظفر وإما شهادة.
ويقال: أقبل خاقان، وقد استمد من وراء النهر واهل طخارستان وجبغويه الطخاري بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفا، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة، عليها أبو العوجاء بْن سعيد العبدي، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء، فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان فكتب أبو العوجاء إلى أسد بمسيرهم قَالَ: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده وقال آخرون: تأخذ في طريق زم، وتسبق خاقان إلى مرو.
وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم، فوافق قولهم رأي أسد وما كان عزم عليه من لقائهم ويقال: إن خاقان حين فارق أسدا، ارتفع حتى صار بأرض طخارستان عند جبغويه، فلما كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبث الغارات، وذلك أن الحارث بْن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند، فقال البختري ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بث الخيول حتى تنزل الجوزجان فلما بث الخيل، قَالَ له البختري: كيف رأيت رأيي؟ قَالَ: وكيف رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بْن أبي رواد عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل خراسان وأهل الشام سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بْن علي، وأمره ألا يدع أحدا يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة فقال له نصر بْن سيار الليثي والقاسم بْن بخيت المراغي من الأزد وسليم بْن سليمان السلمي وعمرو بْن مسلم بْن عمرو ومحمد بْن عبد العزيز العتكي وعيسى الأعرج الحنظلي والبختري بْن أبي درهم البكري وسعيد الأحمر وسعيد الصغير مولى باهلة:
أصلح الله الأمير، ائذن لنا في الخروج، ولا تهجن طاعتنا فأذن لهم ثم خرج فنزل بابا من أبواب بلخ وضربت له قبة، فازتان، وألصق إحداهما بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس:
ادعوا الله، وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمن الناس على دعائه، فقال:
نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله، ثلاث مرات، ثم نادى مناديه: برئت ذمة الله من رجل حمل امرأة ممن كان من الجند، قالوا: إن أسدا إنما خرج هاربا، فخلف أم بكر أم ولده وولده، فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟
فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بْن الحارث البكري- وزياد جالس- فقطب اسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم علي، فأضرب ظهره وبطنه، فقال زياد: إن كانت لي فهى حره، لا والله أيها الأمير ما معي امرأة، فإن هذا عدو حاسد.
وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قَالَ لمسعود بْن عمرو الكرماني، وهو يومئذ خليفة الكرماني على الأزد: ابغني خمسين رجلا ودابة أخلفهم على هذه القنطرة، فلا تدع أحدا ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود: ومن أين أقدر على خمسين رجلا! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه، فقام إليه قوم فكلموه فكف عنه، فلما جاز القنطرة نزل منزلا، فأقام فيه حتى أصبح، وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بْن زيد: ليأتمر الأمير على المقام يومه حتى يتلاحق الناس قَالَ: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة لنا إلى المتخلفين، ثم ارتحل، وعلى مقدمته سالم بن منصور البجلي في ثلاثمائه، فلقى ثلاثمائه من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم معه، وهرب بقيتهم، فأتى به أسد قَالَ: فبكى التركي، قَالَ: ما يبكيك؟ قَالَ: لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قَالَ: كيف؟ قَالَ: لأنه قد فرق جنوده فيما بينه وبين مرو.
قَالَ: وسار أسد، حتى نزل السدرة – قرية ببلخ – وعلى خيل أهل العالية ريحان بْن زياد العامري العبدلي من بني عبد الله بْن كعب قَالَ:
فعزله، وصير على أهل العالية منصور بْن سالم، ثم ارتحل من السدرة، فنزل خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقار بْن ذعير، فتطير من اسمه واسم أبيه، فقال: ردوه، قَالَ: إني مقتول بجراتى على الترك، قَالَ: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارة استقبله بشر بْن رزين- أو رزين بْن بشر- فقال بشارة ورزانة، ما وراءك يا رزين؟ قَالَ: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قَالَ: قل للمقدام بْن عبد الرحمن يطاول رمحى، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد ابن المثنى ورأيته، ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته أن رهجا ساطعا طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث، فقال: ألم تزعم أن أسدا ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ، قَالَ الحارث: هذا اللص الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي فبعث خاقان طلائع، فقال:
انظروا هل ترون على الإبل سريرا وكراسي؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنهم عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرة والكراسي، وهذا أسد قد أتاك فسار أسد غلوة فلقيه سالم بْن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله فقال المجشر بْن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك، فضرب وجه دابته، وقال: لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يا أهل الصباح، انزلوا، فنزلوا وقربوا دوابهم، وأخذوا النبل والقسي.
قَالَ: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة.
قَالَ: وقال عمرو بْن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلى الغداة، فمر بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان قَالَ: وقصور الجوزجان إذ ذاك ذليلة قَالَ: وأتاه المقدام بْن عبد الرحمن بْن نعيم الغامدي في مقاتلته وأهل الجوزجان- وكان عاملها- فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بْن الجوزجان: سر معي، وكان على التعبئه القاسم بن بخيت المراغي، فجعل الأزد وبني تميم والجوزجان بْن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بْن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين عليهم صغراء بْن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة، عليهم يحيى بْن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرئ من حمير، وعلى المقدمة منصور بْن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بْن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد.
قَالَ: وعبى خاقان الحارث بن سريج واصحابه وملك السغد وصاحب الشاش وخرابغره أبا خاناخره، جد كاوس وصاحب الختل جبغويه، والترك كلهم ميمنة فلما التقوا حمل الحارث ومن معه من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل الشام، فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد، فشدت عليهم الميمنة- وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان- فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث والأتراك، وحمل الناس جميعا، فقال أسد: اللهم إنهم عصوني فانصرهم، وذهب الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم، فاستاقوا أكثر من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة وأخذ خاقان طريقا غير الجادة في الجبل، والحارث بْن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر ويقال: لما واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع، فقال رجل من بني قيس بْن ثعلبة: يا أهل الشام، أهكذا رأيكم، إذا حضر الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون واقبل خاقان في قريب من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوري: إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رايت من اهل الجوزجان موليا فاقتله وقال الجوزجان لعثمان بْن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي وطرقها، فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قَالَ: ما هو؟ قَالَ: تتبعني، قَالَ: نعم، فأخذ طريقا يسمى ورادك، فأشرفوا على طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف وقد شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصراف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا، ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على الطوقات، وولى خاقان مدبرا منهزما، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بْن سريج قَالَ: ولم يعلم الناس أنه خاقان، ووجد عسكر الترك مشحونا من كل شيء من آنية الفضة وصناجات الترك وأراد الخصي أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرك، فأخذوا خفها وهو من لبود مضرب.
قَالَ: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين قَالَ: وأقام أسد خمسة أيام قَالَ: فكانت الخيول التي فرق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي:
لو سرت في الأرض تقيس الأرضا *** تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيرا مرة ونقضا *** من الأمير أسد وامضى
أفضى إلينا، الخير حين أفضى *** وجمع الشمل وكان رفضا
ما فاته خاقان إلا ركضا *** قد فض من جموعه ما فضا
يا بن سريج قد لقيت حمضا *** حمضا به يشفى صداع المرضى
قَالَ: وارتحل أسد، فنزل جزة الجوزجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هاربا منه وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشام وأهل العراق، فاستعمل عليهم جعفر بْن حنظلة البهراني، فساروا ونزلوا مدينة تسمى ورد من أرض جزة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر- ويقال:
أصابهم الثلج- فرجعوا ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاري، وانصرف البهراني إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم، وكان الترك قد بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع، فلما صار ببلخ أمر الناس بالصوم لافتتاح الله عليهم.
قَالَ: وكان أسد يوجه الكرماني في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون الرجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك، ومضى خاقان إلى طخارستان العليا، فأقام عند جبغويه الخزلخى تعززا به، وأمر بصنيعة الكوسات، فلما جفت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده، فلما ورد شروسنة، تلقاه خرابغره ابو خاناخره، جد كاوس أبي أفشين باللعابين، وأعد له هدايا ودواب له ولجنده- وكان الذي بينهما متباعدا- فلما رجع منهزما أحب أن يتخذ عنده يدا، فأتاه بكل ما قدر عليه ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بْن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرق براذين في قواد الترك، فلاعب خاقان يوما كورصول بالنرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الترقشي، فطلب منه التدرجة، فقال: أنثى، فقال: الآخر ذكر، فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرن يد كورصول، وبلغ كورصول، فتنحى وجمع جمعا من أصحابه، فبيت خاقان فقتله، فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجردا، فأتاه زريق بْن طفيل الكشاني وأهل بيت الحموكيين – وهم من عظماء الترك- فحمله ودفنه، وصنع به ما يصنع بمثله إذا قتل.
فتفرقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشاش، فعند ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها قال: فلم يسلم من خيل الترك التي تفرقت في الغارات إلا زر بْن الكسي، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان، وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بْن وصاف العجلي على فرس، فسار حتى نزل الشبورقان قَالَ: وفيها إبراهيم بْن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد حتى قدم على خالد بْن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدقه، وقال للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامه الكبرى إذا كان صادقا، ولا أراه صادقا، اذهب فعده ثم سله عما يقوله وأتني بما يقول.
فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشاما قَالَ: فدخل عليه أمر عظيم، فدعا به بعد، فقال: من القاسم بْن بخيت منكم؟ قَالَ:
ذلك صاحب العسكر، قَالَ: فإنه قد أقبل، قَالَ: فإن كان قد أقبل فقد فتح الله على أمير المؤمنين- وكان أسد وجهه حين فتح الله عليه- فأقبل القاسم بْن بخيت، فكبر على الباب، ثم دخل يكبر وهشام يكبر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير المؤمنين، وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر، وهي واحدة عندهم قَالَ: فحسدت القيسية أسدا وخالدا، وأشاروا على هشام أن يكتب إلى خالد بْن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بْن حيان، فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بْن حيان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق، فإنك لا تقول غير الحق إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك.
قالوا: إذا لا يأخذ شيئا، قَالَ: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وكذا، وجهزه.
فسار فقدم على هشام بْن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال: غزونا الختل، فأصبنا أمرا عظيما، وانذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة قريبا من خلم، فانتهى الناس الى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدو، فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراري من ذراري المسلمين، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم الظفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان، فأجلى عنه- وهشام متكئ فاستوى جالسا عند ذكره عسكر خاقان- فقال ثلاثا: أنتم استبحتم عسكر خاقان! قَالَ: نعم، قَالَ: ثم ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا.
قَالَ هشام: إن أسدا لضعيف، قَالَ: مهلا يا أمير المؤمنين، ما أسد بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قَالَ: إن يزيد بْن المهلب أخذ من أبي حيان مائة ألف درهم بغير حق، فقال له هشام:
لا أكلفك شاهدا، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردها عليه من بيت مال خراسان، وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها، فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيان على كتاب الله وفرائضه.
ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقا أعطي مائة ألف درهم.
وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بْن الأشهب بْن عتبة الحنظلي قَالَ: فأوفد أسد إلى خالد بْن عبد الله وفدا في هزيمته يوم سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام، فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهندي الأسدي لأسد يذكر وقعة سان:
أبا منذر رمت الأمور فقستها *** وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته *** برأيك إلا مثل رأي البهائم
أبا منذر لولا مسيرك لم يكن *** عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله- مذ حج- راكب *** ولا عمر البطحاء بعد المواسم
فكم من قتيل بين سان وجزة *** كثير الأيادي من ملوك قماقم
تركت بأرض الجوزجان تزوره *** سباع وعقبان لحز الغلاصم
وذي سوقة فيه من السيف خطة *** به رمق حامت عليه الحوائم
فمن هارب منا ومن دائن لنا *** أسير يقاسي مبهمات الأداهم
فدتك نفوس من تميم وعامر *** ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت *** جلائبه ترجو احتواء المغانم
قَالَ: وكان السبل أوصى عند موته ابن السائجى حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم، فإني ملك ولست بملك، إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتملون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى ترده إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كل حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم فقال له ابن السائجى: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من رد الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قَالَ: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم، إني قد جربت قوتكم بقوتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم.
قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجى الذي أخبر أسد بْن عبد الله بمسير خاقان اليه، فكره محاربه اسد.
ذكر الخبر عن مقتل المغيره بن سعيد ونفر معه
وفي هذه السنة خرج المغيرة بْن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم.
ذكر الخبر عن مقتلهم:
أما المغيرة بْن سعيد، فإنه كان- فيما ذكر- ساحرا حَدَّثَنَا ابن حميد، قَالَ: حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، قَالَ: سمعت المغيرة بْن سعيد، يقول:
لو أردت ان احيى عادا او ثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا لأحييتهم قَالَ الأعمش:
وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور، أو نحو هذا من الكلام.
وذكر أبو نعيم، عن النضر بْن محمد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ليلى، قَالَ: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب العلم، فكان عندنا، فأمرت جاريتي يوما أن تشتري لي سمكا بدرهمين، ثم انطلقت أنا والبصري إلى المغيرة بْن سعيد، فقال لي: يا محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قَالَ أفتحب أن أخبرك لم سماك أهلك محمدا؟ قلت: لا، قَالَ: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكا بدرهمين قَالَ:
فنهضنا عنه قَالَ أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد القسري فقتله وصلبه.
وذكر أبو زيد أن أبا بكر بْن حفص الزهري، قَالَ: أخبرني محمد بْن عقيل، عن سعيد بن مردابند، مولى عمرو بْن حريث، قَالَ: رأيت خالدا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا فكع عنه وتأنى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بيانا آخرهم فقدم إلى الطن مبادرا فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه.
قَالَ أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانا أرسل إلى مالك بْن أعين الجهني فسأله فصدقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به- وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان- قَالَ:
ضربت له بين الطريقين لاحبا *** وطنت عليه الشمس فيمن يطينها
وألقيته في شبهة حين سالني *** كما اشتبها في الخط سين وشينها
فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه.
قَالَ أحمد بْن زهير، عن علي بْن محمد، قَالَ: خرج المغيرة بْن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل، فقال:
أخالد لا جزاك الله خيرا *** وأير في أمك من أمير
تمنى الفخر في قيس وقسر *** كأنك من سراة بني جرير
وأمك علجة وأبوك وغد *** وما الاذناب عدلا للصدور
جرير من ذوي يمن أصيل *** كريم الأصل ذو خطر كبير
وأنت زعمت انك من يزيد *** وقد ادحقتم دحق العبور
وكنت لدى المغيرة عبد سوء *** تبول من المخافة للزئير
وقلت لما أصابك: أطعموني *** شرابا ثم بلت على السرير
لأعلاج ثمانية وشيخ *** كبير السن ليس بذي نصير.
خبر مقتل بهلول بن بشر
وفي هذه السنة حكم بهلول بْن بشر الملقب كثارة فقتل.
ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله:
ذكر أبو عبيدة معمر بْن المثنى أن بهلولا كان يتأله، وكان له قوت دانق، وكان مشهورا بالبأس عند هشام بْن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلا بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فامر بردها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية- وهي من السواد- فكلمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك، فمضى بهلول في حجه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلا، وأمروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألا يمروا بأحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه بذلك وأخذوا دواب من دواب البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخل فأعطي خمرا، قَالَ بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قَالَ ما قَالَ، فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد، فان بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره، فننشدك الله ان تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد، ويبني البيع والكنائس، ويولي المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات، لعلنا نقتله فيريح الله منه قَالَ:
والله لا أدع ما يلزمني لما بعده، وأرجو أن أقتل هذا الذي قَالَ لي ما قَالَ وأدرك خالدا فاقتله، وإن تركت هذا وأتيت خالدا شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قَالَ الله عز وجل: {قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، قالوا: أنت ورأيك فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرابا، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت، وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم.
فخرج خالد من واسط حتى اتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشام من بني القين في جيش قد وجهوا مددا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة، فإن من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشام، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند – وكان الخروج إلى أرض الهند شاقا عليهم – فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا فتوجه القينى اليهم في ستمائه، وضم إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا – وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد – وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه، فأنفذه فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله.
وولى أهل الشام مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا باب الكوفة، وبهلول وأصحابه يقتلونهم فأما الشاميون فإنهم كانوا على خيل جياد ففاتوه، وأما شرط الكوفة فإنه لحقهم، فقالوا: اتق الله فينا فانا مكرهون مقهورون، فجعل يقرع رءوسهم بالرمح، ويقول: الحقوا! النجاء النجاء! ووجد البهلول مع القيني بدرة فأخذها وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي البهلول، فخرجوا إليه يريدون اللحاق به فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: من قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا، وهذا يقول:
أنا، حتى عرفهم، وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم مالا لقتلهم من قتلوا فقال بهلول لأهل القرية: أصدق هؤلاء، هم قتلوا النفر؟ قالوا:
نعم، وخشي بهلول أنهم ادعوا ذلك طمعا في المال، فقال لأهل القرية:
انصرفوا أنتم، وأمر بأولئك فقتلوا، وعاب عليه أصحابه فحاجهم، فأقروا له بالحجة وبلغت هزيمة القوم خالدا وخبر من قتل من أهل صريفين، فوجه قائدا من بني شيبان أحد بني حوشب بْن يزيد بْن رويم، فلقيهم فيما بين الموصل والكوفة، فشد عليهم البهلول، فقال: نشدتك بالرحم! فإني جانح مستجير! فكف عنه، وانهزم أصحابه، فأتوا خالدا وهو مقيم بالحيرة ينتظر، فلم يرعه إلا الفل قد هجم عليه، فارتحل البهلول من يومه يريد الموصل، فخافه عامل الموصل، فكتب إلى هشام: إن خارجة خرجت فعاثت وأفسدت، وأنه لا يأمن على ناحيته، ويسأله جندا يقاتلهم به، فكتب إليه هشام: وجه إليهم كثارة بْن بشر- وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه- فكتب إليه العامل: إن الخارج هو كثارة.
قَالَ: ثم قَالَ البهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئا – يعني خالدا – وما خرجت إلا لله، فلم لا نطلب الرأس الذي يسلط خالدا وذوي خالد! فتوجه يريد هشاما بالشام، فخاف عمال هشام موجدته إن تركوه يجوز بلادهم حتى ينتهى الى الشام، فجند له خالد جندا من أهل العراق، وجند له عامل الجزيرة جندا من أهل الجزيرة، ووجه إليه هشام جندا من أهل الشام، فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم – ويقال: التقوا بالكحيل دون الموصل – فأقبل بهلول، فنزل على باب الدير، فقالوا له: تزحزح عن باب الدير حتى نخرج إليك، فتنحى وخرجوا، فلما رأى كثرتهم وهو في سبعين جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل عليهم فقال: أكلكم يرجو أن يقتلنا ثم يأتي بلده وأهله سالما؟ قالوا: إنا نرجو ذلك إن شاء الله، فشد على رجل منهم فقتله، فقال: أما هذا فلا يأتي أهله أبدا، فلم يزل ذلك ديدنه حتى قتل منهم ستة نفر، فانهزموا، فدخلوا الدير فحاصرهم، وجاءتهم الأمداد فكانوا عشرين ألفا، فقال له أصحابه: ألا نعقر دوابنا، ثم نشد عليهم شدة واحدة؟ فقال: لا تفعلوا حتى نبلي الله عذرا ما استمسكنا على دوابنا، فقاتلوهم يومهم ذلك كله إلى جنح العصر حتى أكثروا فيهم القتل والجراح.
ثم ان بهلولا وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا، وأصلتوا لهم السيوف، فأوجعوا فيهم، فقتل عامة أصحاب بهلول وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، وحمل عليه رجل من جديلة قيس يكنى أبا الموت، فطعنه فصرعه، فوافاه من بقي من أصحابه، فقالوا له: ول أمرنا من بعدك من يقوم به، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، فإن هلك دعامة فأمير المؤمنين عمرو اليشكري، وكان أبو الموت إنما ختل البهلول ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم، فقال رجل من شعرائهم:
لبئس أمير المؤمنين دعامة *** دعامة في الهيجاء شر الدعائم
وقال الضحاك بْن قيس يرثي بهلولا، ويذكر أصحابه:
بدلت بعد أبي بشر وصحبته *** قوما علي مع الأحزاب أعوانا
كأنهم لم يكونوا من صحابتنا *** ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا
يا عين أذري دموعا منك تهتانا *** وابكي لنا صحبة بانوا وإخوانا
خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها *** وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا
قَالَ أبو عبيدة: لما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل ثم خرج العنزي صاحب الأشهب- وبهذا كان يعرف- على خالد في ستين، فوجه إليه خالد السمط بْن مسلم البجلي في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات، فشد العنزي على السمط، فضربه بين أصابعه فألقى سيفه، وشلت يده، وحمل عليهم فانهزمت الحرورية فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم، فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم.
قَالَ أبو عبيدة: ثم خرج وزير السختياني على خالد في نفر، وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها، ولا أحد إلا قتله، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجه اليه خالد قائدا من أصحابه وشرطا من شرط الكوفة، فقاتلوه وهو في نفير، فقاتل حتى قتل عامة أصحابه، وأثخن بالجراح، فأخذ مرتثا، فأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، وتلا عليه آيات من القرآن فأعجب خالدا ما سمع منه، فأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان لا يزال يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشاما وسعى به إليه، وقيل: أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال، فاستبقاه فاتخذه سميرا فغضب هشام، وكتب إلى خالد يشتمه، ويقول: لا تستبق فاسقا قتل وحرق، وأباح الأموال، فكان خالد يقول:
إني أنفس به عن الموت لما كان يسمع من بيانه وفصاحته فكتب فيه إلى هشام يرقق من أمره- ويقال: بل لم يكتب ولكنه كان يؤخر أمره ويدفع عنه- حتى كتب إليه هشام يؤنبه ويأمره بقتله وإحراقه، فلما جاءه أمر عزيمة لا يستطيع دفعه بعث إليه وإلى نفر من أصحابه كانوا أخذوا معه، فامر بهم فادخلوا المسجد، وأدخلت أطنان القصب فشدوا فيها، ثم صب عليهم النفط، ثم أخرجوا فنصبوا في الرحبة، ورموا بالنيران، فما منهم أحد إلا من اضطراب وأظهر جزعا، إلا وزيرا فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وفي هذه السنة غزا أسد بْن عبد الله الختل وفيها قتل اسد بدرطاخان ملك الختل ذكر الخبر عن غزوة أسد الختل هذه الغزوة وسبب قتله بدر طرخان.
ذكر علي بْن محمد عن أشياخه الذين ذكرناهم قبل انهم قالوا: غزا اسد ابن عبد الله الختل وهي غزوة بدر طرخان، فوجه مصعب بْن عمرو الخزاعي إليها، فلم يزل مصعب يسير حتى نزل بقرب بدر طرخان، فطلب الأمان على أن يخرج إلى أسد فأجابه مصعب، فخرج إلى أسد فطلب منه أشياء فامتنع، ثم ساله بدر طرخان أن يقبل منه ألف ألف درهم، فقال له أسد:
إنك رجل غريب من أهل الباميان، اخرج من الختل كما دخلتها فقال له بدر طرخان: دخلت أنت خراسان على عشرة من المحذفة، ولو خرجت منها اليوم لم تستقل على خمسمائة بعير، وغير ذلك أني دخلت الختل بشيء فاردده علي حتى أخرج منها كما دخلتها قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ:
دخلتها شابا فكسبت المال بالسيف، ورزق الله أهلا وولدا، فاردد علي شبابي حتى أخرج منها، هل ترى أن أخرج من أهلي وولدي! فما بقائي بعد أهلي وولدي! فغضب أسد.
قَالَ: وكان بدر طرخان يثق بالأمان، فقال له أسد: اختم في عنقك، فإني أخاف عليك معرة الجند، قَالَ: لست أريد ذلك، وأنا أكتفي من قبلك برجل يبلغ بي مصعبا فأبى أسد إلا أن يختم في عنقه، فختم في رقبته ودفعه إلى أبي الأسد مولاه، فسار به أبو الأسد، فانتهى إلى عسكر المصعب عند المساء وكان سلمة بْن أبي عبد الله في الموالي مع مصعب، فوافى أبو الأسد سلمة، وهو يضع الدراجة في موضعها، فقال سلمة لأبي الأسد: ما صنع الأمير في امر بدر طرخان؟ فقص الذى عرض عليه بدر طرخان وإباء أسد ذلك، وسرحه معه إلى المصعب ليدخله الحصن، فقال سلمة: إن الأمير لم يصب فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم، إنما كان ينبغي له أن يقبض ما عرض عليه أو يحبسه فلا يدخله حصنه، فإنا إنما دخلناه بقناطر اتخذناها، ومضايق أصلحناها، وكان يمنعه أن يغير علينا رجاء الصلح، فإما إذ يئس من الصلح فإنه لا يدع الجهد فدعه الليلة في قبتي، ولا تنطلق به إلى مصعب، فإنه ساعة ينظر إليه يدخله حصنه.
قال: فأقام ابو الأسد وبدر طرخان معه في قبة سلمة، وأقبل أسد بالناس في طريق ضيق، فتقطع الجند، ومضى أسد حتى انتهى إلى نهر وقد عطش- ولم يكن أحد من خدمه- فاستسقى، وكان السغدي بْن عبد الرحمن ابو طعمه الحزمي معه شاكري له، ومع الشاكري قرن تبتي، فأخذ السغدي القرن، فجعل فيه سويقا، وصب عليه ماء من النهر، وحركه وسقى أسدا وقوما من رؤساء الجند، فنزل أسد في ظل شجرة، ودعا برجل من الحرس، فوضع رأسه في فخذه، وجاء المجشر بْن مزاحم السلمي يقود فرسه حتى قعد تجاهه حيث ينظر أسدا، فقال أسد: كيف أنت يا أبا العدبس؟ قَالَ:
كنت أمس أحسن حالا مني اليوم، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: كان بدر طرخان في أيدينا وعرض ما عرض، فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شد يده عليه، لكنه خلى سبيله، وأمر بإدخاله حصنه لما عنده- زعم- من الوفاء فندم أسد عند ذلك، ودعا بدليل من أهل الختل ورجل من أهل الشام نافذ، فاره الفرس فأتى بهما، فقال للشامي: إن أنت أدركت بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم، فتوجها حتى انتهيا إلى عسكر مصعب، فنادى الشامي: ما فعل العلج؟ قيل: عند سلمة، وانصرف الدليل إلى أسد بالخبر، واقام الشامي مع بدرطرخان في قبة سلمه، وبعث اسد الى بدر طرخان فحوله اليه فشتمه، فعرف بدر طرخان أنه قد نقض عهده، فرفع حصاة فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد الله، وأخذ أخرى فرمى بها إلى السماء، وقال:
هذا عهد محمد ص، وأخذ يصنع كذلك بعهد أمير المؤمنين وعهد المسلمين، فأمر أسد بقطع يده، وقال أسد: من هاهنا من أولياء ابى فديك رجل من الأزد قتله بدر طرخان، فقام رجل من الأزد فقال:
أنا، قَالَ: اضرب عنقه، ففعل وغلب أسد على القلعة العظمى، وبقيت قلعة فوقها صغيرة فيها ولده وأمواله، فلم يوصل إليهم، وفرق أسد الخيل في أودية الختل.
قَالَ: وقدم أسد مرو، وعليها أيوب بْن أبي حسان التميمي، فعزله واستعمل خالد بْن شديد، ابن عمه فلما شخص إلى بلخ بلغه أن عمارة بْن حريم تزوج الفاضلة بنت يزيد بْن المهلب، فكتب إلى خالد بْن شديد:
احمل عمارة على طلاق ابنة يزيد، فإن أبى فاضربه مائة سوط، فبعث إليه فأتاه وعنده العذافر بْن زيد التميمي، فأمره بطلاقها، ففعل بعد إباء منه، وقال عذافر: عمارة والله فتى قيس وسيدها، وما بها عليه أبهة، أي ليست بأشرف منه فتوفي خالد بْن شديد، واستخلف الاشعث بن جعفر البجلي.
ظهور الصحارى بن شبيب الخارجي
وفيها شرى الصحاري بْن شبيب، وحكم بجبل ذكر خبره:
ذكر عن أبي عبيدة معمر بْن المثنى أن الصحاري بْن شبيب أتى خالدا يسأله الفريضة، فقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة! فودعه ابن شبيب، ومضى، وندم خالد وخاف أن يفتق عليه فتقا، فأرسل إليه يدعوه، فقال:
أنا كنت عنده آنفا، فأبوا أن يدعوه، فشد عليهم بسيفه، فتركوه فركب وسار حتى جاوز واسطا، ثم عقر فرسه وركب زورقا ليخفي مكانه، ثم قصد إلى نفر من بني تيم اللات بْن ثعلبة، كانوا بجبل، فأتاهم متقلدا سيفا فأخبرهم خبره وخبر خالد، فقالوا له: وما كنت ترجو بالفريضة! كنت لأن تخرج إلى ابن النصرانية فتضربه بسيفك أحرى فقال: إني والله ما اردت الفريضة، وما أردت إلا التوصل إليه لئلا ينكرني، ثم أقتل ابن النصرانية غيلة بقتله فلانا- وكان خالد قبل ذلك قد قتل رجلا من قعدة الصفرية صبرا- ثم دعاهم الصحاري إلى الوثوب معه فأجابه بعضهم، وقال بعضهم:
ننتظر، وأبى بعضهم وقالوا: نحن في عافية، فلما رأى ذلك قَالَ:
لم أرد منه الفريضة إلا *** طمعا في قتله أن أنالا
فأريح الأرض منه وممن *** عاث فيها وعن الحق مالا
كل جبار عنيد أراه *** ترك الحق وسن الضلالا
إنني شار بنفسي لربي *** تارك قيلا لديهم وقالا
بائع أهلي ومالي أرجو *** في جنان الخلد أهلا ومالا
قال: فبايعه نحو من ثلاثين، فشرى بجبل، ثم سار حتى أتى المبارك.
فبلغ ذلك خالدا، فقال: قد كنت خفتها منه ثم وجه اليه خالد جندا، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم انطووا عليه فقتلوه وقتلوا جميع أصحابه.
قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنه ابو شاكر مسلمه بن هشام ابن عبد الملك، وحج معه ابن شهاب الزهري في هذه السنة.
وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف محمد بْن هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بْن عبد الله القسري، وعامل خالد على خراسان أخوه أسد بْن عبد الله.
وقد قيل: إن أخا خالد أسدا هلك في هذه السنة، واستخلف عليها جعفر بْن حنظلة البهراني.
وقيل: إن أسدا أخا خالد بْن عبد الله إنما هلك في سنة عشرين ومائة.
وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بْن محمد.