خبر الحرب بين الحجاج وابن الاشعث بالزاوية
فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن مُحَمَّد من الحروب بالزاوية …
ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش، وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه:
فر البراء وابن عمه مصعب *** وفرت قريش غير آل سعيد
ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحوا من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لا يريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزة شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو فقال لي: قم فانظر، قال: فقمت فنظرت، فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر، قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقينا قد هزموا، فخر ساجدا، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة ابو سفيان النهمي، وقتل عقبه ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضمي، في أولئك القراء في ربضة واحدة، وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتي الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه، وبارز سعيد بن يحيى بن سعيد بن العاص رجلا يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعه بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعا يدعى نصيرا، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية ابدا.
وقتل الطفيل بن عامر بن واثله، وقد كان قال وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج:
ألا طرقتنا بالغريين بعد ما *** كللنا على شحط المزار جنوب
أتوك يقودون المنايا وإنما *** هدتها بأولانا إليك ذنوب
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له *** من الله في دار القرار نصيب
ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله *** عذاب بأيدي المؤمنين مصيب
متى نهبط المصرين يهرب مُحَمَّد *** وليس بمنجي ابن اللعين هروب
قال: منيتنا أمرا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.
ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب اهل البصره الى عبد الرحمن ابن عباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة- وكان جريحا- إلى سفوان فمات من جراحته، وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت:
وحامى زياد على رايتيه *** وفر جدي بني العنبر
فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال:
علام تلومين من لم يلم *** تطاول ليلك من معصر!
فإن كان أردى أباك السنان *** فقد تلحق الخيل بالمدبر
وقد تنطح الخيل تحت العجاج *** غير البري ولا المعذر
ونحن منعنا لواء الحريش *** وطاح لواء بني جحدر
فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا:
خلى طفيل علي الهم فانشعبا وهد ذلك ركني هدة عجبا وابني سمية لا أنساهما أبدا فيمن نسيت وكل كان لي نصبا وأخطأتني المنايا لا تطالعني حتى كبرت ولم يتركن لي نشبا وكنت بعد طفيل كالذي نضبت عنه المياه وفاض الماء فانقضبا فلا بعير له في الأرض يركبه وإن سعى إثر من قد فاته لغبا وسار من أرض خاقان التي غلبت أبناء فارس في أربائها غلبا ومن سجستان أسباب تزينها لك المنية حينا كان مجتلبا حتى وردت حياض الموت فانكشفت عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا وغادروك صريعا رهن معركة ترى النسور على القتلى بها عصبا تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا وأسلموا للعدو السبي والسلبا يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهمُ وهم كثير يرون الخزي والحربا قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقام بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصره أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عامر الحضرمى، حليف حرب ابن أمية على الكوفة.
قال أبو مخنف- كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: أنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام.
قال أبو مخنف: فحدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح بن يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائن، وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم.
قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فالقى جحلفته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها وأقبل ابن الأشعث منهزما إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها.
وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين.
ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها:
ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعد ما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق- فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى- فافعل فعدلت ودخل الناس، فلما دخل الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث الا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتي به عبد الرحمن بن مُحَمَّد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك واعظمهم عنك غناء، فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من اهل البصره عبد الرحمن ابن العباس بْن رَبِيعَة بْن الْحَارِث بْن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدي الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثا وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم وجاءت الحجاج أيضا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا فنزل فكان في عسكره مخندقا وابن مُحَمَّد في عسكره مخندقا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدني خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضا، وأدنى خندقه من صاحبه واشتد القتال بينهم فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماءهم فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه مُحَمَّد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعا جميعا عنده، كلاهما في جنديهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجرى على أهل الشام، وأن ينزل ابن مُحَمَّد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليا ما دام حيا، وكان عبد الملك واليا، فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان مُحَمَّد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال، ومُحَمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك:
يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك.
فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال:
يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا وقال مُحَمَّد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال قالوا:
نرجع العشية، فرجعوا فاجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد، فقد أعطيتم أمرا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم 2 1075 جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدا ما بقيتم.
فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل.
فأعادوا خلعه ثانيه وكان عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيحان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
فرجع مُحَمَّد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا:
شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة، وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها.
قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي مُحَمَّد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن مُحَمَّد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعني فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس- ومد بها صوته يسمع الناس- وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بْن عباس بْن ربيعة بْن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبى، وسعيد ابن جبيرع وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفه ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، قد غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلا ركينا وقورا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن مُحَمَّد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.
قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات، كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئا
ذكر الخبر عن وفاه المغيره بن المهلب
وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان.
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة، فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعا يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيدا، وكان المهلب يوم مات المغيره مقيما بكس وراء النهر لحرب أهلها قال: فسار يزيد في ستين فارسا- ويقال: سبعين- فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي، وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن المنخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم- وكان أسلم على يد المهلب- وأبو مُحَمَّد الزمى، وعطية- مولى لعتيك- فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار، قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها، قالوا: فأعطونا شيئا، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوبا وكرابيس وقوسا، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد، على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبقني، فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقد قتل رجلا، ثم كر فخالطهم حتى تقدمهم وقتل رجلا ثم رجع إلى يزيد وقتل يزيد عظيما من عظمائهم ورمي يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو مُحَمَّد الزمي، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعا أو تموتوا أو تعطونا شيئا، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئا، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم! قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدو أجلي فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو مُحَمَّد الزمي بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا مُحَمَّد، فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز:
يزيد يا سيف أبي سعيد *** قد علم الأقوام والجنود
والجمع يوم المجمع المشهود *** أنك يوم الترك صلب العود
وقال الأشقري:
والترك تعلم إذ لاقى جموعهمُ *** أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما
بفتية كأسود الغاب لم يجدوا *** غير التأسي وغير الصبر معتصما
نرى شرائج تغشى القوم من علق *** وما أرى نبوة منهم ولا كزما
وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا *** من الكريهة حتى ينتلعن دما
في حازة الموت حتى جن ليلهمُ *** كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما
وفي هذه السنه صالح المهلب اهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو
ذكر الخبر عن سبب انصراف المهلب عن كس
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن المهلب اتهم قوما من مضر فحبسهم وقفل من كس وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلي الرهن حتى تقدم ارض بلخ فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فأخبرته أن كتابه ورد، وقد استوفيت ما عليكم، ورددت عليكم الرهن، فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه فقال حريث: ولدتني إذا أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء، وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذا، فقال: يأنف العبد أن تلده رحمه! وغضب.
فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ما عليهم وخليتهم، قال: الم اكتب إليك الا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت، قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين سوطا فقال حريث: وددت انه ضربني ثلاثمائه سوط ولم يجردني، أنفا واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب.
فركب المهلب يوما وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال:
الاشفاق والله عليك، والله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته.
قال: فترك حريث إتيان المهلب، وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان مني إليه إلا نظرا له وأدبا، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعا، فخرجا في ثلاثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليهما من العرب خبر وفاه المهلب بن ابى صفره
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة.
ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته:
قال علي بن مُحَمَّد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة- وقوم يقولون: الشوكة- فدعا حبيبا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فان صله الرحم تنسئ في الأجل، وتشرى المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة، فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو.
وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج.
ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيبا قال: وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى *** ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذ رهنى ضريحه *** وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
إذا قيل أي الناس أولى بنعمة *** على الناس؟ قلناه ولم نتهيب
أباح لنا سهل البلاد وحزنها *** بخيل كأرسال القطا المتسرب
يعرضها للطعن حتى كأنما *** يجللها بالأرجوان المخضب
تطيف به قحطان قد عصبت به *** وأحلافها من حي بكر وتغلب
وحيا معد عوذ بلوائه *** يفدونه بالنفس الام والأب
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب.
وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة، قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.
قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها ابان ابن عثمان أقره على قضائها، وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.