فمن ذَلِكَ مقتل الْحُسَيْن رضوان اللَّه عَلَيْهِ، قتل فِيهَا فِي المحرم لعشر خلون مِنْهُ، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ ثَابِت، قَالَ: حَدَّثَنِي محدث، …
عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ وهشام بن الكلبي، وَقَدْ ذكرنا ابتداء أمر الْحُسَيْن فِي مسيره نحو العراق وما كَانَ مِنْهُ فِي سنة ستين، ونذكر الآن مَا كَانَ من أمره فِي سنة إحدى وستين وكيف كَانَ مقتله.
حُدِّثْتُ عَنْ هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا:
اقبل الحسين ع حَتَّى نَزَلَ شِرَافَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ فَاسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا، ثُمَّ سَارُوا مِنْهَا، فَرَسَمُوا صَدْرَ يَوْمِهِمْ حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ [ثُمَّ إِنَّ رَجُلا قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! فَقَالَ الْحُسَيْنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ مَا كَبَّرْتَ؟
قَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ، فَقَالَ لَهُ الأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ مَا رَأَيْنَا بِهِ نَخْلَةٍ قَطُّ، قَالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رَأَى؟ قُلْنَا: نَرَاهُ رَأَى هَوَادِيَ الْخَيْلِ، فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ أَرَى ذَلِكَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَلْجَأُ إِلَيْهِ، نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا، وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ؟] فَقُلْنَا لَهُ: بَلَى، هَذَا ذُو حُسَمَ إِلَى جَنْبِكَ، تَمِيلُ إِلَيْهِ عَنْ يَسَارِكَ، فَإِنْ سَبَقْتَ الْقَوْمَ إِلَيْهِ فهو كما تريد، قالا:
فاخذ اليه ذات اليسار، قالا: وَمِلْنَا مَعَهُ فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ طَلَعَتْ عَلَيْنَا هَوَادِيَ الْخَيْلِ، فَتَبَيَّنَّاهَا، وَعُدْنَا، فَلَمَّا رَأَوْنَا وَقَدْ عَدَلْنَا عَنِ الطَّرِيقِ عَدَلُوا إِلَيْنَا كَأَنَّ أَسِنَّتَهُمُ الْيَعَاسِيبُ، وَكَأَنَّ رَايَاتِهِمْ أَجْنَحَةُ الطَّيْرِ، قال: فَاسْتَبَقْنَا إِلَى ذِي حُسَمَ، فَسَبَقْنَاهُمْ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ، فَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ التَّمِيمِيِّ الْيَرْبُوعِيِّ حَتَّى وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ مُقَابِلَ الْحُسَيْنِ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ مُعَتَّمُونَ مُتَقَلِّدُو أسيافهم، [فقال الْحُسَيْنُ لِفِتْيَانِهِ: اسْقُوا الْقَوْمَ وَارْوُوهُمْ مِنَ الْمَاءِ وَرَشِّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا،] فَقَامَ فِتْيَانُهُ فَرَشَّفُوا الْخَيْلَ تَرْشِيفًا، فَقَامَ فِتْيَةٌ وَسَقَوُا الْقَوْمَ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى أَرْوَوْهُمْ، وَأَقْبَلُوا يَمْلَئُونَ الْقِصَاعَ وَالأَتْوَارَ وَالطِّسَاسَ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ يُدْنُونَهَا مِنَ الْفَرَسِ، فَإِذَا عَبَّ فِيهِ ثَلاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا عُزِلَتْ عَنْهُ، وَسَقَوْا آخَرَ حَتَّى سَقَوُا الْخَيْلَ كُلَّهَا.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي لقيط، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الطعان المحاربي: كنت مع الحر بن يَزِيدَ، فجئت فِي آخر من جَاءَ من أَصْحَابه، فلما رَأَى الْحُسَيْن مَا بي وبفرسي من العطش قَالَ: أنخ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثم قال:
يا بن أخ، أنخ الجمل، فأنخته، فَقَالَ: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فَقَالَ الْحُسَيْن: اخنث السقاء- أي اعطفه- قَالَ:
فجعلت لا أدري كيف أفعل! قَالَ: فقام الْحُسَيْن فخنثه، فشربت وسقيت فرسي قَالَ: وَكَانَ مجيء الحر بن يَزِيدَ ومسيره إِلَى الْحُسَيْن من القادسية، وَذَلِكَ أن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما بلغه اقبال الحسين بعث الحصين ابن تميم التميمي- وَكَانَ عَلَى شرطه- فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم مَا بين القطقطانة إِلَى خفان، وقدم الحر بن يَزِيدَ بين يديه فِي هَذِهِ الألف من القادسية، فيستقبل حسينا قَالَ: فلم يزل موافقا حسينا حَتَّى حضرت الصَّلاة صلاة الظهر، فأمر الْحُسَيْن الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الْحُسَيْن فِي إزار ورداء ونعلين، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إنها معذرة إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وإليكم، إني لم آتكم حَتَّى أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم: أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل اللَّه يجمعنا بك عَلَى الهدى، فإن كنتم عَلَى ذلك فقد جئتكم، فان تعطونى ما اطمان إِلَيْهِ من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إِلَى المكان الَّذِي أقبلت مِنْهُ إليكم قَالَ: فسكتوا عنه وَقَالُوا للمؤذن: أقم، فأقام الصَّلاة، فقال الحسين ع للحر: أتريد أن تصلي بأَصْحَابك؟ قَالَ: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك، قَالَ: فصلى بهم الْحُسَيْن، ثُمَّ إنه دخل واجتمع إِلَيْهِ أَصْحَابه، وانصرف الحر إِلَى مكانه الَّذِي كَانَ بِهِ، فدخل خيمة قَدْ ضربت لَهُ، فاجتمع إِلَيْهِ جماعة من أَصْحَابه، وعاد أَصْحَابه إِلَى صفهم الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فأعادوه، ثُمَّ أخذ كل رجل مِنْهُمْ بعنان دابته وجلس فِي ظلها، فلما كَانَ وقت العصر أمر الْحُسَيْن أن يتهيئوا للرحيل ثُمَّ إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الْحُسَيْن فصلى بالقوم ثُمَّ سلم، وانصرف إِلَى القوم بوجهه فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لِلَّهِ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هَذَا الأمر عَلَيْكُمْ من هَؤُلاءِ المدعين مَا ليس لَهُمْ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وَكَانَ رأيكم غير مَا أتتني كتبكم، وقدمت بِهِ علي رسلكم، انصرفت عنكم، فَقَالَ لَهُ الحر بن يَزِيدَ: إنا وَاللَّهِ مَا ندري مَا هَذِهِ الكتب الَّتِي تذكر! فَقَالَ الْحُسَيْن: يَا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فَقَالَ الحر: فإنا لسنا من هَؤُلاءِ الَّذِينَ كتبوا إليك، وَقَدْ أمرنا إذا نحن لقيناك الا نفارقك حَتَّى نقدمك عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: الموت أدنى إليك من ذَلِكَ،] ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: قوموا فاركبوا، فركبوا وانتظروا حَتَّى ركبت نساؤهم، فَقَالَ لأَصْحَابه: انصرفوا بنا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فَقَالَ الْحُسَيْن للحر: ثكلتك أمك! مَا تريد؟ قَالَ: أما وَاللَّهِ لو غيرك من العرب يقولها لي وَهُوَ عَلَى مثل الحال الَّتِي أنت عَلَيْهَا مَا تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كَانَ، ولكن وَاللَّهِ مَا لي إِلَى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن مَا يقدر عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: فما تريد؟ قَالَ الحر: أريد وَاللَّهِ أن أنطلق بك إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، قَالَ لَهُ الْحُسَيْن: إذن وَاللَّهِ لا أتبعك، فَقَالَ لَهُ الحر:
إذن وَاللَّهِ لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قَالَ لَهُ الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت الا أفارقك حَتَّى أقدمك الْكُوفَة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الْكُوفَة، وَلا تردك إِلَى المدينة، تكون بيني وبينك نصفا حَتَّى أكتب إِلَى ابن زياد، وتكتب أنت الى يزيد ابن مُعَاوِيَة إن أردت أن تكتب إِلَيْهِ، أو إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إن شئت، فلعل اللَّه إِلَى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فِيهِ العافية من أن أبتلى بشيء من امرك، قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا ثُمَّ إن الْحُسَيْن سار فِي أَصْحَابه والحر يسايره.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ، إِنَّ الْحُسَيْنَ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَأَصْحَابَ الْحَرِّ بِالْبَيْضَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلا لِحَرَمِ اللَّهِ، نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ، مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ الله، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلَهُ» أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ من غير، قَدْ أَتَتْنِي كُتُبُكُمْ، وَقَدِمَتْ عَلِيَّ رُسُلُكُمْ بِبَيْعَتِكُمْ، أَنَّكُمْ لا تُسْلِمُونِي وَلا تَخْذَلُونِي، فَإِنْ تَمَمْتُمْ عَلَى بَيْعَتِكُمْ تُصِيبُوا رُشْدَكُمْ، فَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ على، وابن فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، نَفْسِي مَعَ أَنْفُسِكُمْ، وَأَهْلِي مَعَ أَهْلِيكُمْ، فَلَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَنَقَضْتُمْ عَهْدَكُمْ، وَخَلَعْتُمْ بَيْعَتِي مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، فَلَعَمْرِي مَا هِيَ لَكُمْ بِنُكْرٍ، لَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا بِأَبِي وَأَخِي وَابْنِ عَمِّي مُسْلِمٍ، وَالْمَغْرُورُ مَنِ اغْتَرَّ بِكُمْ، فَحَظَّكُمْ أَخْطَأْتُمْ، وَنَصِيبَكُمْ ضَيَّعْتُمْ، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَقَالَ عقبة بن أبي العيزار: قام حسين ع بذي حسم، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنه قَدْ نزل من الأمر مَا قَدْ ترون، وإن الدُّنْيَا قَدْ تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت جدا، فلم يبق منها الا صبابه كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل أَلا ترون أن الحق لا يعمل بِهِ، وأن الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن فِي لقاء اللَّه محقا، فإني لا أَرَى الموت إلا شهادة، وَلا الحياة مع الظالمين إلا برما .
قَالَ: فقام زهير بن القين البجلي فَقَالَ لأَصْحَابه: تكلمون أم أتكلم؟ قَالُوا: لا، بل تكلم، فَحَمِدَ اللَّهَ فأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قال: قد سمعنا هداك الله يا بن رَسُول اللَّهِ مقالتك، وَاللَّهِ لو كَانَتِ الدُّنْيَا لنا باقية، وكنا فِيهَا مخلدين، إلا أن فراقها فِي نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك عَلَى الإقامة فِيهَا.
قَالَ: فدعا لَهُ الْحُسَيْن ثُمَّ قَالَ لَهُ خيرا، وأقبل الحر يسايره وَهُوَ يقول لَهُ:
يَا حُسَيْن، إني أذكرك اللَّه فِي نفسك، فإني أشهد لَئِنْ قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فِيمَا أَرَى، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: أفبالموت تخوفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! مَا أدري مَا أقول لك! ولكن أقول كما قَالَ أخو الأوس لابن عمه، ولقيه وَهُوَ يريد نصرة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ: أين تذهب؟ فإنك مقتول، فَقَالَ:
سأمضي وما بالموت عار عَلَى الفتى *** إذا مَا نوى حقا وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبورا يغش ويرغما
قَالَ: فلما سمع ذَلِكَ مِنْهُ الحر تنحى عنه، وَكَانَ يسير بأَصْحَابه فِي ناحية وحسين فِي ناحية أخرى، حَتَّى انتهوا إِلَى عذيب الهجانات، وَكَانَ بِهَا هجائن النُّعْمَان ترعى هنالك، فإذا هم بأربعة نفر قَدْ أقبلوا من الْكُوفَة عَلَى رواحلهم، يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال لَهُ الكامل، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي عَلَى فرسه، وَهُوَ يقول:
يَا ناقتي لا تذعري من زجري *** وشمري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفر *** حَتَّى تحلي بكريم النجر
الماجد الحر رحيب الصدر *** أتى بِهِ اللَّه لخير أمر
ثمت أبقاه بقاء الدهر.
قَالَ: فلما انتهوا إِلَى الْحُسَيْن أنشدوه هَذِهِ الأبيات، [فَقَالَ: أما وَاللَّهِ إني لأرجو أن يكون خيرا مَا أراد اللَّه بنا، قتلنا أم ظفرنا،] قَالَ: وأقبل إِلَيْهِم الحر بن يَزِيدَ فَقَالَ: إن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ من أهل الْكُوفَة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لأمنعنهم مما أمنع مِنْهُ نفسي، إنما هَؤُلاءِ أنصاري وأعواني، وَقَدْ كنت أعطيتني الا تعرض لي بشيء حَتَّى يأتيك كتاب من ابن زياد، فَقَالَ: أجل، لكن لم يأتوا معك، قَالَ: هم أَصْحَابي، وهم بمنزلة من جَاءَ معي، فإن تممت عَلَى مَا كَانَ بيني وبينك وإلا ناجزتك، قَالَ: فكف عَنْهُمُ الحر، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن:
أخبروني خبر الناس وراءكم، فَقَالَ لَهُ مجمع بن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، وَهُوَ أحد النفر الأربعة الَّذِينَ جاءوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص بِهِ نصيحتهم، فهم ألب واحد عَلَيْك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عَلَيْك، قَالَ: أخبروني، فهل لكم برسولي إليكم؟ قَالُوا: من هُوَ؟ قَالَ: قيس بن مسهر الصيداوي، فَقَالُوا: نعم، أخذه الحصين ابن تميم فبعث بِهِ إِلَى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عَلَيْك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إِلَى نصرتك، وأخبرهم بقدومك، فأمر بِهِ ابن زياد فألقي من طمار القصر، فترقرقت عينا حسين ع ولم يملك دمعه، ثم قال: {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] اللَّهُمَّ اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، وأجمع بيننا وبينهم فِي مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك!
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي جميل بن مرثد من بنى معن، عن الطرماح ابن عدي، أنه دنا من الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ إني لأنظر فما أَرَى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أراهم ملازميك لكان كفي بهم، وَقَدْ رأيت قبل خروجي من الْكُوفَة إليك بيوم ظهر الْكُوفَة وفيه مِنَ النَّاسِ مَا لم تر عيناي فِي صعيد واحد جمعا أكثر مِنْهُ، فسألت عَنْهُمْ، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثُمَّ يسرحون إِلَى الْحُسَيْن، فأنشدك الله ان قدرت على الا تقدم عَلَيْهِم شبرا إلا فعلت! فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك اللَّه بِهِ حَتَّى ترى من رأيك، ويستبين لك مَا أنت صانع، فسر حَتَّى أنزلك مناع جبلنا الَّذِي يدعى أجأ، امتنعنا وَاللَّهِ بِهِ من ملوك غسان وحمير ومن النُّعْمَان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، وَاللَّهِ إن دخل علينا ذل قط، فأسير معك حَتَّى أنزلك القرية، ثُمَّ نبعث إِلَى الرجال ممن بأجأ وَسَلمَى من طيّئ، فو الله لا ياتى عليك عشره ايام حتى تأتيك طيئ رجالا وركبانا، ثُمَّ أقم فينا مَا بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، وَاللَّهِ لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف، فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه وقومك خيرا! إنه قَدْ كَانَ بيننا وبين هَؤُلاءِ القوم قول لسنا نقدر مَعَهُ عَلَى الانصراف، وَلا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور فِي عاقبه!] قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي جميل بن مرثد، قال: حدثنى الطرماح ابن عدي، قَالَ: فودعته وقلت لَهُ: دفع اللَّه عنك شر الجن والإنس، إني قَدِ امترت لأهلي من الْكُوفَة ميرة، ومعي نفقة لَهُمْ، فآتيهم فأضع ذَلِكَ فِيهِمْ، ثُمَّ أقبل إليك ان شاء الله، فان الحقك فو الله لأكونن من أنصارك، قَالَ: فإن كنت فاعلا فعجل رحمك اللَّه، قَالَ: فعلمت أنه مستوحش إِلَى الرجال حَتَّى يسألني التعجيل، قَالَ: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم مَا يصلحهم، وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرتك هَذِهِ شَيْئًا مَا كنت تصنعه قبل الْيَوْم، فأخبرتهم بِمَا أريد، وأقبلت فِي طريق بني ثعل حَتَّى إذا دنوت من عذيب الهجانات، استقبلني سماعة بن بدر، فنعاه الى، فرجعت، قال: ومضى الحسين ع حَتَّى انتهى إِلَى قصر بني مقاتل، فنزل بِهِ، فإذا هُوَ بفسطاط مضروب.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيدٍ، عن عَامِر الشَّعْبِيّ، أن الْحُسَيْن بْن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لمن هَذَا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله ابن الحر الجعفي، قَالَ: ادعوه لي، وبعث إِلَيْهِ، فلما أتاه الرسول، قَالَ:
هَذَا الْحُسَيْن بن علي يدعوك، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن الحر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! وَاللَّهِ مَا خرجت من الْكُوفَة إلا كراهة أن يدخلها الْحُسَيْن وأنا بِهَا، وَاللَّهِ مَا أريد أن أراه وَلا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الْحُسَيْن نعليه فانتعل، ثُمَّ قام فجاءه حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فسلم وجلس، ثُمَّ دعاه إِلَى الخروج مَعَهُ، فأعاد إِلَيْهِ ابن الحر تِلَكَ المقاله، فقال: فالا تنصرنا فاتق اللَّه أن تكون ممن يقاتلنا، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثُمَّ لا ينصرنا إلا هلك، قَالَ: أما هَذَا فلا يكون أبدا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قام الْحُسَيْن ع من عنده حَتَّى دخل رحله.
قَالَ أَبُو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قَالَ: لما كَانَ فِي آخر الليل أمر الْحُسَيْن بالاستقاء من الماء، ثُمَّ أمرنا بالرحيل، ففعلنا، قَالَ: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الْحُسَيْن برأسه خفقة ثُمَّ انتبه وَهُوَ يقول: إنا لِلَّهِ وإنا إِلَيْهِ راجعون والحمد لِلَّهِ رب العالمين، قَالَ: ففعل ذَلِكَ مرتين أو ثلاثا، قَالَ: فأقبل إِلَيْهِ ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن عَلَى فرس لَهُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، والحمد لِلَّهِ رب العالمين، يَا أبت، جعلت فداك! مم حمدت اللَّه واسترجعت؟ قَالَ: يَا بني، إني خفقت برأسي خفقة فعن لي فارس عَلَى فرس فَقَالَ: القوم يسيرون والمنايا تسري إِلَيْهِم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، قَالَ لَهُ: يَا أبت، لا أراك اللَّه سوءا، ألسنا عَلَى الحق! [قَالَ: بلى والذي إِلَيْهِ مرجع العباد، قَالَ: يَا أبت، إذا لا نبالي، نموت محقين، فَقَالَ لَهُ: جزاك اللَّه من ولد خير مَا جزى ولدا عن والده،] قَالَ: فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثُمَّ عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأَصْحَابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يَزِيدَ فيردهم فيرده، فجعل إذا ردهم إِلَى الْكُوفَةِ ردا شديدا امتنعوا عَلَيْهِ فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حَتَّى انتهوا إِلَى نينوى، المكان الَّذِي نزل بِهِ الْحُسَيْن، قَالَ: فإذا راكب عَلَى نجيب لَهُ وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الْكُوفَة، فوقفوا جميعا ينتظرونه، فلما انتهى إِلَيْهِم سلم عَلَى الحر بن يَزِيدَ وأَصْحَابه، ولم يسلم عَلَى الْحُسَيْن ع وأَصْحَابه، فدفع إِلَى الحر كتابا من عُبَيْد الله ابن زياد فإذا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عَلَيْك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء فِي غير حصن وعلى غير ماء، وَقَدْ أمرت رسولي أن يلزمك وَلا يفارقك حَتَّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.
قَالَ: فلما قرأ الكتاب قَالَ لَهُمُ الحر: هَذَا كتاب الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد يأمرني فِيهِ أن أجعجع بكم فِي المكان الَّذِي يأتيني فِيهِ كتابه، وهذا رسوله، وَقَدْ امره الا يفارقني حَتَّى أنفذ رأيه وأمره، فنظر إِلَى رسول عبيد الله يزيد ابن زياد بن المهاصر أَبُو الشعثاء الكندي ثُمَّ البهدلي فعن لَهُ، فَقَالَ: أمالك بن النسير البدي؟ قَالَ: نعم- وَكَانَ أحد كندة- فَقَالَ له يزيد ابن زياد: ثكلتك أمك! ماذا جئت فِيهِ؟ قَالَ: وما جئت فِيهِ! أطعت إمامي، ووفيت ببيعتي، فَقَالَ لَهُ أَبُو الشعثاء: عصيت ربك، وأطعت إمامك فِي هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَيَوْمَ ٱلْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} [القصص: 41] ، فهو إمامك قَالَ: وأخذ الحر بن يَزِيدَ القوم بالنزول فِي ذَلِكَ المكان عَلَى غير ماء وَلا فِي قرية، فَقَالُوا: دعنا ننزل فِي هَذِهِ القرية، يعنون نينوى- أو هَذِهِ القرية- يعنون الغاضرية- أو هَذِهِ الاخرى- يعنون شفيه.
فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا أستطيع ذَلِكَ، هَذَا رجل قَدْ بعث إلي عينا، فَقَالَ لَهُ زهير بن القين: يا بن رَسُول اللَّهِ، إن قتال هَؤُلاءِ أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى مَا لا قبل لنا بِهِ، [فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: مَا كنت لأبدأهم بالقتال،] فَقَالَ لَهُ زهير بن القين: سر بنا الى هذه القرية حتى تنزلها فإنها حصينة، وَهِيَ عَلَى شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: وأية قرية هي؟ قَالَ: هي العقر، فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من العقر، ثُمَّ نزل، وَذَلِكَ يوم الخميس، وَهُوَ الْيَوْم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما كَانَ من الغد قدم عَلَيْهِم عُمَر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص من الْكُوفَة فِي أربعة آلاف قَالَ: وَكَانَ سبب خروج ابن سعد الى الحسين ع أن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد بعثه عَلَى أربعة آلاف من أهل الْكُوفَة يسير بهم إِلَى دَسْتَبَى، وكانت الديلم قَدْ خرجوا إِلَيْهَا وغلبوا عَلَيْهَا، فكتب إِلَيْهِ ابن زياد عهده عَلَى الري، وأمره بالخروج.
فخرج معسكرا بِالنَّاسِ بحمام أعين، فلما كَانَ من أمر الْحُسَيْن مَا كَانَ وأقبل إِلَى الْكُوفَةِ دعا ابن زياد عُمَر بن سَعْدٍ، فَقَالَ: سر إِلَى الْحُسَيْن، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إِلَى عملك، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: إن رأيت رحمك اللَّه أن تعفيني فافعل، فَقَالَ لَهُ عُبَيْد اللَّهِ: نعم، عَلَى أن ترد لنا عهدنا، قَالَ: فلما قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ عُمَر بن سَعْد: أمهلني الْيَوْم حتى انظر، قال: فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدا إلا نهاه، قَالَ: وجاء حمزه ابن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ- وَهُوَ ابن أخته- فَقَالَ: أنشدك اللَّه يَا خال أن تسير إِلَى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك! فو الله لان تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كَانَ لك، خير لك من أن تلقى اللَّه بدم الْحُسَيْن! فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: فإني أفعل إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة بن الحكم، عن عمار بن عَبْدِ اللَّهِ بن يسار الجهني، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دخلت عَلَى عُمَر بن سَعْد، وَقَدْ أمر بالمسير إِلَى الْحُسَيْن، فَقَالَ لي: إن الأمير أمرني بالمسير إِلَى الْحُسَيْن، فأبيت ذَلِكَ عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: أصاب اللَّه بك، أرشدك اللَّه، أحل فلا تفعل وَلا تسر إِلَيْهِ.
قَالَ: فخرجت من عنده، فأتاني آت وَقَالَ: هَذَا عُمَر بن سَعْد يندب الناس إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ: فأتيته فإذا هُوَ جالس، فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قَدْ عزم عَلَى المسير إِلَيْهِ، فخرجت من عنده، قال: فاقبل عمر ابن سَعْد إِلَى ابن زياد فَقَالَ: أصلحك اللَّه! إنك وليتني هَذَا العمل، وكتبت لي العهد، وسمع بِهِ الناس، فإن رأيت أن تنفذ لي ذَلِكَ فافعل وابعث إِلَى الْحُسَيْن فِي هَذَا الجيش من أشراف الْكُوفَة من لست بأغنى وَلا أجزأ عنك فِي الحرب مِنْهُ، فسمى لَهُ أناسا، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: لا تعلمني بأشراف أهل الْكُوفَة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا، فلما رآه قَدْ لج قَالَ: فإني سائر، قَالَ: فأقبل فِي أربعة آلاف حَتَّى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الْحُسَيْن نينوى.
قَالَ: فبعث عمر بن سعد الى الحسين ع عزره بن قيس الأحمسي، فَقَالَ: ائته فسله مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ وماذا يريد؟ وَكَانَ عزرة ممن كتب إِلَى الْحُسَيْن فاستحيا مِنْهُ أن يأتيه قَالَ: فعرض ذَلِكَ عَلَى الرؤساء الَّذِينَ كاتبوه، فكلهم أبى وكرهه قَالَ: وقام إِلَيْهِ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ- وَكَانَ فارسا شجاعا ليس يرد وجهه شَيْء- فَقَالَ: أنا أذهب إِلَيْهِ، وَاللَّهِ لَئِنْ شئت لأفتكن بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: مَا أريد أن يفتك بِهِ، ولكن ائته فسله مَا الَّذِي جَاءَ بِهِ؟ قَالَ: فأقبل إِلَيْهِ، فلما رآه أَبُو ثمامة الصائدي قَالَ للحسين:
أصلحك اللَّه أبا عَبْد اللَّهِ! قَدْ جاءك شر أهل الأرض وأجرؤه عَلَى دم وأفتكه، فقام إِلَيْهِ، فَقَالَ: ضع سيفك، قَالَ: لا وَاللَّهِ وَلا كرامة، إنما أنا رسول، فإن سمعتم مني أبلغتكم مَا أرسلت بِهِ إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم، فَقَالَ لَهُ: فإني آخذ بقائم سيفك، ثُمَّ تكلم بحاجتك، قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا تمسه فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي مَا جئت بِهِ وأنا أبلغه عنك، وَلا أدعك تدنو مِنْهُ، فإنك فاجر، قَالَ: فاستبا، ثُمَّ انصرف إِلَى عُمَر بن سَعْد فأخبره الخبر، قَالَ: فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فَقَالَ لَهُ: ويحك يَا قرة! الق حسينا فسله مَا جَاءَ بِهِ؟ وماذا يريد؟ قَالَ: فأتاه قرة بن قيس، فلما رآه الْحُسَيْن مقبلا قَالَ: أتعرفون هَذَا؟ فَقَالَ حبيب بن مظاهر: نعم، هَذَا رجل من حنظلة تميمي، وَهُوَ ابن أختنا، وَلَقَدْ كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هَذَا المشهد، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى سلم عَلَى الْحُسَيْن، وأبلغه رساله عمر بن سعد اليه له، [فقال الْحُسَيْن: كتب إلي أهل مصركم هَذَا إن اقدم، فاما إذ كرهوني فأنا أنصرف عَنْهُمْ،] قَالَ: ثُمَّ قَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: ويحك يَا قرة ابن قيس! أنى ترجع إِلَى القوم الظالمين! انصر هَذَا الرجل الَّذِي بآبائه أيدك اللَّه بالكرامة وإيانا معك، فَقَالَ لَهُ قرة: ارجع إِلَى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي، قَالَ: فانصرف إِلَى عُمَر بن سَعْد فأخبره الخبر، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: إني لأرجو أن يعافيني اللَّه من حربه وقتاله.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النضر بن صالح بن حبيب ابن زهير العبسي، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي، قَالَ: أشهد أن كتاب عُمَر بن سَعْد جَاءَ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد وأنا عنده فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ، فإني حَيْثُ نزلت بالحسين بعثت إِلَيْهِ رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فَقَالَ: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني به رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فاما إذ كرهوني فبدا لَهُمْ غير مَا أتتني بِهِ رسلهم فأنا منصرف عَنْهُمْ، فلما قرئ الكتاب عَلَى ابن زياد قَالَ:
الآن إذ علقت مخالبنا بِهِ *** يرجو النجاة ولات حين مناص!
قَالَ: وكتب إِلَى عُمَر بن سَعْد:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فقد بلغني كتابك، وفهمت مَا ذكرت، فاعرض عَلَى الْحُسَيْن أن يبايع ليزيد بن مُعَاوِيَة هُوَ وجميع أَصْحَابه، فإذا فعل ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا، والسلام قَالَ: فلما أتى عُمَر بن سَعْد الكتاب، قال: قد حسبت الا يقبل ابن زياد العافية.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: جَاءَ من عُبَيْد اللَّهِ بن زياد كتاب إِلَى عُمَر بن سَعْد: أَمَّا بَعْدُ، فحل بين الْحُسَيْن وأَصْحَابه وبين الماء، وَلا يذوقوا مِنْهُ قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان بن عَفَّانَ قَالَ: فبعث عُمَر بن سَعْد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا عَلَى الشريعة، وحالوا بين حُسَيْن وأَصْحَابه وبين الماء أن يسقوا مِنْهُ قطرة، وَذَلِكَ قبل قتل الْحُسَيْن بثلاث.
قَالَ: ونازله عَبْد اللَّهِ بن أبي حصين الأَزْدِيّ- وعداده فِي بجيلة- فَقَالَ:
يَا حُسَيْن، أَلا تنظر إِلَى الماء كأنه كبد السماء! وَاللَّهِ لا تذوق مِنْهُ قطرة حَتَّى تموت عطشا، فَقَالَ حُسَيْن: اللَّهُمَّ اقتله عطشا، وَلا تغفر لَهُ أبدا.
قَالَ حميد بن مسلم: وَاللَّهِ لعدته بعد ذلك في مرضه، فو الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ لقد رأيته يشرب حَتَّى بغر، ثُمَّ يقيء، ثُمَّ يعود فيشرب حَتَّى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دابه حتى لفظ عصبه يعني نفسه- قَالَ: ولما اشتد عَلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه العطش دعا العباس بن عَلِيّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه فِي ثَلاثِينَ فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حَتَّى دنوا من الماء ليلا واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الْجَمَلِيّ، فَقَالَ عَمْرو بن الحجاج الزبيدى: من الرجل؟ فجيء فقال: مَا جَاءَ بك؟ قَالَ: جئنا نشرب من هَذَا الماء الَّذِي حلأتمونا عنه، قَالَ: فاشرب هنيئا، قَالَ: لا وَاللَّهِ، لا أشرب مِنْهُ قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أَصْحَابه، فطلعوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: لا سبيل إِلَى سقي هَؤُلاءِ، إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء، فلما دنا مِنْهُ أَصْحَابه قَالَ لرجاله: املئوا قربكم، فشد الرجالة فملئوا قربهم، وثار إِلَيْهِم عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، فحمل عَلَيْهِم العباس بن علي ونافع بن هلال فكفوهم، ثُمَّ انصرفوا إِلَى رحالهم، فَقَالُوا: امضوا، ووقفوا دونهم، فعطف عَلَيْهِم عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه واطردوا قليلا ثُمَّ إن رجلا من صداء طعن من أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج، طعنه نافع بن هلال، فظن أنها ليست بشيء، ثُمَّ إنها انتقضت بعد ذَلِكَ، فمات منها، وجاء أَصْحَاب حُسَيْن بالقرب فأدخلوها عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب، عن هانئ بن ثبيت الحضرمي- وَكَانَ قَدْ شهد قتل الْحُسَيْن، قَالَ: بعث الحسين ع إِلَى عُمَر بن سَعْد عَمْرو بن قرظة بن كعب الأنصاري: ان القنى الليل بين عسكري وعسكرك.
قَالَ: فخرج عُمَر بن سَعْد فِي نحو من عشرين فارسا، وأقبل حُسَيْن فِي مثل ذَلِكَ، فلما التقوا أمر حُسَيْن أَصْحَابه أن يتنحوا عنه، وأمر عُمَر بن سَعْد أَصْحَابه بمثل ذَلِكَ، قَالَ: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما وَلا كلامهما، فتكلما فأطالا حَتَّى ذهب من الليل هزيع، ثُمَّ انصرف كل واحد منهما إِلَى عسكره بأَصْحَابه، وتحدث الناس فِيمَا بينهما، ظنا يظنونه أن حسينا قَالَ لعمر بن سَعْد: اخرج معي إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة وندع العسكرين، قَالَ عمر: إذن تهدم داري، قَالَ: أنا أبنيها لك، قَالَ: إذن تؤخذ ضياعي، قَالَ: إذن أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز قَالَ: فتكره ذَلِكَ عمر، قَالَ: فتحدث الناس بِذَلِكَ، وشاع فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أن يكونوا سمعوا من ذَلِكَ شَيْئًا وَلا علموه.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما مَا حَدَّثَنَا بِهِ الْمُجَالِدُ بن سَعِيدٍ والصقعب بن زهير الأَزْدِيّ وغيرهما من المحدثين، فهو مَا عَلَيْهِ جماعة المحدثين، قَالُوا: إنه قَالَ:
اختاروا مني خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إِلَى المكان الَّذِي أقبلت مِنْهُ، وإما أن أضع يدي فِي يد يَزِيد بن مُعَاوِيَة فيرى فِيمَا بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروني إِلَى أي ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ شئتم، فأكون رجلا من أهله، لي مَا لَهُمْ وعلي مَا عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو مخنف: فأما عبد الرَّحْمَن بن جندب فَحَدَّثَنِي عن عقبة بن سمعان قَالَ: صحبت حسينا فخرجت مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مكة، ومن مكة إِلَى العراق، ولم أفارقه حَتَّى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بِالْمَدِينَةِ وَلا بمكة وَلا فِي الطريق وَلا بِالْعِرَاقِ وَلا فِي عسكر إِلَى يوم مقتله إلا وَقَدْ سمعتها أَلا وَاللَّهِ مَا أعطاهم مَا يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده فِي يد يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَلا أن يسيروه إِلَى ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ، ولكنه قَالَ: دعوني فلأذهب فِي هَذِهِ الأرض العريضة حَتَّى ننظر مَا يصير أمر الناس.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سَعِيد الهمداني والصقعب بن زهير، أنهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا، حُسَيْن وعمر بن سَعْدٍ، قَالَ: فكتب عمر ابن سَعْد إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هَذَا حُسَيْن قَدْ أعطاني أن يرجع إِلَى المكان الَّذِي مِنْهُ أتى، أو أن نسيره إِلَى أي ثغر من ثغور الْمُسْلِمِينَ شئنا، فيكون رجلا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ، وعليه مَا عَلَيْهِم، أو أن يأتي يَزِيد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيضع يده فِي يده، فيرى فِيمَا بينه وبينه رأيه، وفي هَذَا لكم رضا، وللأمة صلاح قَالَ: فلما قرأ عُبَيْد اللَّهِ الكتاب قَالَ: هَذَا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق عَلَى قومه، نعم قَدْ قبلت قَالَ: فقام إِلَيْهِ شمر بن ذي الجوشن، فَقَالَ: أتقبل هَذَا مِنْهُ وَقَدْ نزل بأرضك إِلَى جنبك! وَاللَّهِ لَئِنْ رحل من بلدك، ولم يضع يده فِي يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هَذِهِ المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل عَلَى حكمك هُوَ وأَصْحَابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كَانَ ذَلِكَ لك، وَاللَّهِ لقد بلغني أن حسينا وعمر بن سَعْد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: نعم مَا رأيت! الرأي رأيك.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ:
ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فَقَالَ لَهُ: اخرج بهذا الكتاب إِلَى عُمَر بن سَعْد فليعرض عَلَى الْحُسَيْن وأَصْحَابه النزول عَلَى حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع لَهُ وأطع، وإن هُوَ أبى فقاتلهم، فأنت أَمِير الناس، وثب عَلَيْهِ فاضرب عنقه، وابعث إلي برأسه قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب الكلبي، قال: ثم كتب عبيد الله ابن زياد إِلَى عُمَر بن سَعْد: أَمَّا بَعْدُ، فإني لم أبعثك إِلَى حُسَيْن لتكف عنه وَلا لتطاوله، وَلا لتمنيه السلامة والبقاء، وَلا لتقعد لَهُ عندي شافعا انظر، فإن نزل حُسَيْن وأَصْحَابه عَلَى الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إِلَيْهِم حَتَّى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حُسَيْن فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري فِي هَذَا أن يضر بعد الموت شَيْئًا، ولكن علي قول لو قَدْ قتلته فعلت هَذَا بِهِ إن أنت مضيت لأمرنا فِيهِ جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قَدْ أمرناه بأمرنا، والسلام قَالَ أَبُو مخنف: عن الْحَارِث بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، قَالَ: لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هُوَ وعبد اللَّه بن أبي المحل- وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عِنْدَ على بن ابى طالب ع، فولدت لَهُ العباس وعبد اللَّه وجعفرا وعثمان- فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن أبي المحل بن حزام بن خَالِد بن رَبِيعَة بن الوحيد بن كعب بن عَامِر بن كلاب:
أصلح اللَّه الأمير! إن بني أختنا مع الْحُسَيْن، فإن رأيت أن تكتب لَهُمْ أمانا فعلت، قَالَ: نعم ونعمة عين فأمر كاتبه، فكتب لَهُمْ أمانا، فبعث بِهِ عَبْد اللَّهِ بن أبي المحل مع مولى لَهُ يقال لَهُ: كزمان، فلما قدم عَلَيْهِم دعاهم، فَقَالَ: هَذَا أمان بعث بِهِ خالكم، فَقَالَ لَهُ الفتية: أقرئ خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا فِي أمانكم، أمان اللَّه خير من أمان ابن سمية قَالَ: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الى عمر ابن سَعْد، فلما قدم بِهِ عَلَيْهِ فقرأه قَالَ لَهُ عمر: مَا لك ويلك! لا قرب اللَّه دارك، وقبح اللَّه مَا قدمت بِهِ علي! وَاللَّهِ إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل مَا كتبت بِهِ إِلَيْهِ، أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم وَاللَّهِ حُسَيْن، إن نفسا أبية لبين جنبيه، فَقَالَ لَهُ شمر: أَخْبِرْنِي مَا أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر، قَالَ: لا وَلا كرامة لك، وأنا أتولى ذَلِكَ، قَالَ: فدونك، وكن أنت عَلَى الرجال، قَالَ: فنهض إِلَيْهِ عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، قَالَ: وجاء شمر حَتَّى وقف عَلَى أَصْحَاب الْحُسَيْن، فَقَالَ: أين بنو أختنا؟
فخرج إِلَيْهِ العباس وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا له: مالك وما تريد؟ قَالَ:
أنتم يَا بني أختي آمنون، قَالَ لَهُ الفتية: لعنك اللَّه ولعن أمانك! لَئِنْ كنت خالنا أتؤمننا وابن رَسُول اللَّهِ لا أمان لَهُ! قَالَ: ثُمَّ إن عُمَر بن سَعْد نادى:
يَا خيل اللَّه اركبي وأبشري فركب فِي الناس، ثُمَّ زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه عَلَى ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها، فَقَالَتْ: يَا أخي، أما تسمع الأصوات قَدِ اقتربت! قَالَ: [فرفع الْحُسَيْن رأسه فَقَالَ: انى رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي المنام فَقَالَ لي: «إنك تروح إلينا»، قَالَ: فلطمت أخته وجهها وقالت: يَا ويلتا! فَقَالَ: ليس لك الويل يَا أخية، اسكني رحمك الرحمن! وَقَالَ العباس بن علي: يَا أخي، أتاك القوم، قَالَ: فنهض، ثُمَّ قَالَ: يَا عباس، اركب بنفسي أنت يَا أخي حَتَّى تلقاهم فتقول لَهُمْ: مَا لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جَاءَ بهم؟ فأتاهم العباس، فاستقبلهم فِي نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فَقَالَ لَهُمُ العباس: مَا بدا لكم؟ وما تريدون؟ قَالُوا: جَاءَ أمر الأمير بأن نعرض عَلَيْكُمْ أن تنزلوا عَلَى حكمه أو ننازلكم، قَالَ: فلا تعجلوا.
حَتَّى أرجع إِلَى أبي عَبْد اللَّهِ فأعرض عَلَيْهِ مَا ذكرتم، قَالَ: فوقفوا ثُمَّ قَالُوا:
القه فأعلمه ذَلِكَ، ثُمَّ القنا بِمَا يقول، قَالَ: فانصرف العباس راجعا يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أَصْحَابه يخاطبون القوم، فَقَالَ حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم، فَقَالَ لَهُ زهير: أنت بدأت بهذا، فكن أنت تكلمهم، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر:
أما وَاللَّهِ لبئس القوم عِنْدَ اللَّه غدا قوم يقدمون عَلَيْهِ قَدْ قتلوا ذرية نبيه عَلَيْهِ السلام وعترته واهل بيته صلى الله عليه وسلم وعباد أهل هَذَا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين اللَّه كثيرا، فَقَالَ لَهُ عزرة بن قيس: انك لتزكى نفسك مَا استطعت، فَقَالَ لَهُ زهير: يَا عزرة، إن اللَّه قَدْ زكاها وهداها، فاتق اللَّه يَا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك اللَّه يَا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال عَلَى قتل النفوس الزكية! قَالَ: يَا زهير، مَا كنت عندنا من شيعة أهل هَذَا البيت، إنما كنت عثمانيا، قَالَ: أفلست تستدل بموقفي هَذَا أني مِنْهُمْ! أما وَاللَّهِ مَا كتبت إِلَيْهِ كتابا قط، وَلا أرسلت إِلَيْهِ رسولا قط، وَلا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رايته ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه مِنْهُ، وعرفت مَا يقدم عَلَيْهِ من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون فِي حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظا لما ضيعتم من حق اللَّه وحق رسوله ع قَالَ: وأقبل العباس بن علي يركض حَتَّى انتهى إِلَيْهِم، فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، إن أبا عبد الله يسألكم ان تنصرفوا هَذِهِ العشية حَتَّى ينظر فِي هَذَا الأمر، فإن هَذَا أمر لم يجر بينكم وبينه فِيهِ منطق، فإذا أصبحنا التقينا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الَّذِي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بِذَلِكَ أن يردهم عنه تِلَكَ العشية حَتَّى يأمر بأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بِذَلِكَ قَالَ عُمَر بن سَعْد: مَا ترى يَا شمر؟ قَالَ: مَا ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك، قَالَ: قَدْ أردت الا أكون، ثُمَّ أقبل عَلَى الناس فَقَالَ: ماذا ترون؟ فَقَالَ عَمْرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان اللَّه! وَاللَّهِ لو كَانُوا من الديلم ثُمَّ سألوك هَذِهِ المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إِلَيْهَا، وَقَالَ قيس بن الأشعث: أجبهم إِلَى مَا سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، فَقَالَ: وَاللَّهِ لو أعلم أن يفعلوا مَا أخرجتهم العشية، قَالَ: وَكَانَ العباس بن علي حين أتى حسينا بِمَا عرض عَلَيْهِ عُمَر بن سَعْدٍ [قَالَ: ارجع إِلَيْهِم، فإن استطعت أن تؤخرهم إِلَى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قَدْ كنت أحب الصَّلاة لَهُ وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن حصيرة، عن عَبْد اللَّهِ بن شريك العامري، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن قَالَ: أتانا رسول من قبل عُمَر بن سَعْد فقام مثل حَيْثُ يسمع الصوت فَقَالَ: إنا قَدْ أجلناكم إِلَى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إِلَى أميرنا عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم] .
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم الفائشي، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي- بطن من همدان- ان الحسين بن على ع جمع أَصْحَابه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي أَيْضًا الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، [عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، قَالا: جمع الحسين اصحابه بعد ما رجع عُمَر بن سَعْد، وَذَلِكَ عِنْدَ قرب المساء، قَالَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن: فدنوت مِنْهُ لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وَهُوَ يقول لأَصْحَابه: أثني عَلَى اللَّه تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده عَلَى السراء والضراء، اللَّهُمَّ إني أحمدك عَلَى أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا فِي الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين، أَمَّا بَعْدُ، فإني لا أعلم أَصْحَابا أولى وَلا خيرا من أَصْحَابي، وَلا أهل بيت أبر وَلا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم اللَّه عني جميعا خيرا، أَلا وإني أظن يومنا من هَؤُلاءِ الأعداء غدا، أَلا وإني قَدْ رأيت لكم فانطلقوا جميعا فِي حل، ليس عَلَيْكُمْ مني ذمام، هَذَا ليل قَدْ غشيكم، فاتخذوه جملا] .
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن عاصم الفائشي- بطن من همدان- عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: قدمت ومالك بن النضر الأرحبي عَلَى الْحُسَيْن، فسلمنا عَلَيْهِ، ثُمَّ جلسنا إِلَيْهِ، فرد علينا، ورحب بنا، وسألنا عما جئنا لَهُ، فقلنا: جئنا لنسلم عَلَيْك، وندعو اللَّه لك بالعافية، ونحدث بك عهدا، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثك أَنَّهُمْ قَدْ جمعوا عَلَى حربك فر رأيك [فقال الحسين ع: حسبي اللَّه ونعم الوكيل!] قَالَ: فتذممنا وَسَلَّمنا عَلَيْهِ، ودعونا اللَّه لَهُ، قَالَ: فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك ابن النضر: عليّ دين، ولي عيال، فقلت لَهُ: إن علي دينا، وإن لي لعيالا، ولكنك إن جعلتني فِي حل من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك مَا كَانَ لك نافعا، وعنك دافعا! قَالَ: قَالَ: فأنت فِي حل، فأقمت مَعَهُ، فلما كَانَ الليل قَالَ: [هَذَا الليل قَدْ غشيكم، فاتخذوه جملا، ثُمَّ ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتى، تفرقوا فِي سوادكم ومدائنكم حَتَّى يفرج اللَّه، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قَدْ أصابوني لهوا عن طلب غيري،] فَقَالَ لَهُ إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عَبْد اللَّهِ بن جَعْفَر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا اللَّه ذَلِكَ أبدا، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثُمَّ إِنَّهُمْ تكلموا بهذا ونحوه، [فقال الحسين ع: يَا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم،] اذهبوا قَدْ أذنت لكم، قَالُوا: فما يقول الناس! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، وَلا ندري مَا صنعوا! لا وَاللَّهِ لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حَتَّى نرد موردك، فقبح اللَّه العيش بعدك! قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: فقام إِلَيْهِ مسلم بن عوسجة الأسدي فَقَالَ: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إِلَى اللَّهِ فِي أداء حقك! أما وَاللَّهِ حَتَّى أكسر فِي صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي مَا ثبت قائمه فِي يدي، وَلا أفارقك، ولو لَمْ يَكُنْ معي سلاح أقاتلهم بِهِ لقذفتهم بالحجارة دونك حَتَّى أموت معك.
قَالَ: وَقَالَ سَعِيد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي: وَاللَّهِ لا نخليك حَتَّى يعلم اللَّه أنا حفظنا غيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك، وَاللَّهِ لو علمت أني أقتل ثُمَّ أحيا ثُمَّ أحرق حيا ثُمَّ أذر، يفعل ذَلِكَ بي سبعين مرة مَا فارقتك حَتَّى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذَلِكَ! وإنما هي قتلة واحدة، ثُمَّ هي الكرامة الَّتِي لا انقضاء لها أبدا.
قَالَ: وَقَالَ زهير بن القين: وَاللَّهِ لوددت أني قتلت ثُمَّ نشرت ثُمَّ قتلت حَتَّى أقتل كذا ألف قتلة، وأن اللَّه يدفع بِذَلِكَ القتل عن نفسك وعن أنفس هَؤُلاءِ الفتية من أهل بيتك قَالَ: وتكلم جماعة أَصْحَابه بكلام يشبه بعضه بعضا فِي وجه واحد، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا مَا علينا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بن كعب وابو الضحاك، [عن على ابن الْحُسَيْن بن علي قَالَ: إني جالس فِي تِلَكَ العشية الَّتِي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأَصْحَابه فِي خباء لَهُ، وعنده حوي، مولى أبي ذر الْغِفَارِيّ، وَهُوَ يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
يَا دهر أف لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل *** والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إِلَى الجليل *** وكل حي سالك السبيل
قال: فأعادها مرتين او ثلاثا حَتَّى فهمتها، فعرفت مَا أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قَدْ نزل،] [فأما عمتي فإنها سمعت مَا سمعت، وَهِيَ امرأة، وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، وانها لحاسره حتى انتهت اليه، فقالت:
وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! الْيَوْم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي، يَا خليفة الماضي، وثمال الباقي، قَالَ: فنظر إِلَيْهَا الْحُسَيْن ع فَقَالَ: يَا أخية، لا يذهبن حلمك الشَّيْطَان،] قالت: بأبي أنت وأمي يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ! استقتلت نفسي فداك، فرد غصته، وترقرقت عيناه، وَقَالَ: لو ترك القطا ليلا لنام، قالت: يا ويلتى، افتغصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، وأشد عَلَى نفسي! ولطمت وجهها، وأهوت إِلَى جيبها وشقته، وخرت مغشيا عَلَيْهَا، فقام إِلَيْهَا الْحُسَيْن فصب عَلَى وجهها الماء، [وَقَالَ لها: يَا أخية، اتقي اللَّه وتعزي بعزاء اللَّه،، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلا وجه اللَّه الَّذِي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وَهُوَ فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول اللَّه أسوة، قَالَ: فعزاها بهذا ونحوه، وَقَالَ لها: يَا أخية، إني أقسم عَلَيْك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، وَلا تخمشي علي وجها، وَلا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت،] قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بِهَا حَتَّى أجلسها عندي، وخرج إِلَى أَصْحَابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها فِي بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الَّذِي يأتيهم مِنْهُ عدوهم.
قَالَ أَبُو مخنف: عن عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: فلما أمسى حُسَيْن وأَصْحَابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويدعون ويتضرعون، قَالَ: فتمر بنا خيل لَهُمْ تحرسنا، وإن حسينا ليقرأ: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ * مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ} [آل عمران:178-179] فسمعها رجل من تِلَكَ الخيل الَّتِي كَانَتْ تحرسنا، فَقَالَ: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا مِنْكُمْ.
قَالَ: فعرفته فقلت لبرير بن حضير: تدري من هَذَا؟ قَالَ: لا، قلت هَذَا أَبُو حرب السبيعي عَبْد اللَّهِ بن شهر- وَكَانَ مضحاكا بطالا، وَكَانَ شريفا شجاعا فاتكا، وَكَانَ سَعِيد بن قيس ربما حبسه فِي جناية- فَقَالَ لَهُ برير بن حضير: يَا فاسق، أنت يجعلك اللَّه فِي الطيبين! فَقَالَ لَهُ: من أنت؟ قَالَ: أنا برير بن حضير، قَالَ: إنا لِلَّهِ! عز علي! هلكت وَاللَّهِ، هلكت وَاللَّهِ يَا برير! قَالَ: يَا أَبَا حرب، هل لك أن تتوب إِلَى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون، قَالَ: وأنا عَلَى ذَلِكَ من الشاهدين، قلت: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قَالَ: جعلت فداك! فمن ينادم يَزِيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل! قال: ها هو ذا معي، قَالَ: قبح اللَّه رأيك عَلَى كل حال! أنت سفيه قَالَ: ثُمَّ انصرف عنا، وَكَانَ الَّذِي يحرسنا بالليل فِي الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وَكَانَ عَلَى الخيل، قَالَ: فلما صلى عُمَر بن سَعْد الغداة يوم السبت- وَقَدْ بلغنا أَيْضًا أنه كَانَ يوم الجمعة، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْم يوم عاشوراء- خرج فيمن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ.
قَالَ: وعبأ الْحُسَيْن أَصْحَابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وَكَانَ مَعَهُ اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين فِي ميمنة أَصْحَابه، وحبيب بن مظاهر فِي ميسرة أَصْحَابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت فِي ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كَانَ من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم قال: وكان الحسين ع أتي بقصب وحطب إِلَى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه فِي ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثُمَّ ألقوا فِيهِ ذَلِكَ الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فِيهِ النار كيلا نؤتى من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد ففعلوا، وَكَانَ لَهُمْ نافعا.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بشر، عن عَمْرو الحضرمي، قَالَ: لما خرج عُمَر بن سَعْد بِالنَّاسِ كَانَ عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ عَبْد اللَّهِ بن زهير بن سليم الأَزْدِيّ، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرَّحْمَن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع رَبِيعَة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يَزِيدَ الرياحي، فشهد هَؤُلاءِ كلهم مقتل الْحُسَيْن إلا الحر بن يَزِيدَ فإنه عدل إِلَى الْحُسَيْن، وقتل مَعَهُ وجعل عمر عَلَى ميمنته عَمْرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شُرَحْبِيل بن الأعور بن عُمَرَ بن مُعَاوِيَة- وَهُوَ الضباب بن كلاب- وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويدا مولاه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَمْرو بن مُرَّةَ الْجَمَلِيّ، عن أبي صالح الحنفي، عن غلام لعبد الرَّحْمَن بن عبد ربه الأَنْصَارِيّ، قَالَ: كنت مع مولاي، فلما حضر الناس وأقبلوا إِلَى الْحُسَيْن، أمر الْحُسَيْن بفسطاط فضرب، ثُمَّ أمر بمسك فميث فِي جفنة عظيمة أو صحفة، قَالَ: ثُمَّ دخل الْحُسَيْن ذَلِكَ الفسطاط فتطلى بالنورة قَالَ: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير ابن حضير الهمداني عَلَى باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلي عَلَى أثره، فجعل برير يهازل عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن:
دعنا، فو الله مَا هَذِهِ بساعة باطل، فَقَالَ لَهُ برير: وَاللَّهِ لقد علم قومي أني مَا أحببت الباطل شابا وَلا كهلا، ولكن وَاللَّهِ إني لمستبشر بِمَا نحن لاقون، وَاللَّهِ إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هَؤُلاءِ علينا بأسيافهم، ولوددت أَنَّهُمْ قَدْ مالوا علينا بأسيافهم قَالَ: فلما فرغ الْحُسَيْن دخلنا فاطلينا، قَالَ:
ثُمَّ إن الْحُسَيْن ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، قَالَ: فاقتتل أَصْحَابه بين يديه قتالا شديدا، فلما رأيت القوم قَدْ صرعوا أفلت وتركتهم قَالَ أَبُو مخنف، عن بعض أَصْحَابه، عن أبي خَالِد الكاهلي، قَالَ:
لما صبحت الخيل الْحُسَيْن رفع الْحُسَيْن يديه، فَقَالَ: [اللَّهُمَّ أنت ثقتي فِي كل كرب، ورجائي فِي كل شدة، وأنت لي فِي كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فِيهِ الفؤاد، وتقل فِيهِ الحيلة، ويخذل فِيهِ الصديق، ويشمت فِيهِ العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة] .
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عاصم، قَالَ: حَدَّثَنِي الضحاك المشرقي، قَالَ: لما أقبلوا نحونا فنظروا إِلَى النار تضطرم فِي الحطب والقصب الَّذِي كنا ألهبنا فِيهِ النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا مِنْهُمْ رجل يركض عَلَى فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حَتَّى مر عَلَى أبياتنا، فنظر إِلَى أبياتنا فإذا هُوَ لا يرى إلا حطبا تلتهب النار فِيهِ، فرجع راجعا، فنادى بأعلى صوته: يَا حُسَيْن، استعجلت النار فِي الدُّنْيَا قبل يوم الْقِيَامَة! [فَقَالَ الْحُسَيْن: من هَذَا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فَقَالُوا: نعم، أصلحك اللَّه! هُوَ هُوَ، فقال: يا بن راعية المعزى، أنت أولى بِهَا صليا،] فَقَالَ له مسلم بن عوسجة: يا بن رَسُول اللَّهِ، جعلت فداك! أَلا أرميه بسهم! فإنه قَدْ أمكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم، وَكَانَ مع الْحُسَيْن فرس لَهُ يدعى لاحقا حمل عَلَيْهِ ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قَالَ: فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثم نادى باعلى صوته دعاء يسمع جل الناس:
أَيُّهَا النَّاسُ، اسمعوا قولي، وَلا تعجلوني حَتَّى أعظكم بِمَا لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عَلَيْكُمْ، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بِذَلِكَ أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم {فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] ، {إِنَّ وَلِيِّـيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] قَالَ: فلما سمع أخواته كلامه هَذَا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليا ابنه، وَقَالَ لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن، قَالَ: فلما ذهبا ليسكتاهن قَالَ: لا يبعد ابن عَبَّاس، قَالَ: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قَدْ كَانَ نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، وذكر اللَّه بِمَا هو اهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذَلِكَ مَا اللَّه أعلم وما لا يحصى ذكره.
قَالَ: فو الله مَا سمعت متكلما قط قبله وَلا بعده أبلغ فِي منطق مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فانسبوني فانظروا من أنا، ثُمَّ ارجعوا إِلَى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم صلى الله عليه وسلم وابن وصيه وابن عمه، وأول الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والمصدق لِرَسُولِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ من عِنْدَ ربه! او ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أوليس جَعْفَر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمى! [او لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لي ولأخي: «هَذَانِ سيدا شباب أهل الجنة!» فإن صدقتموني بِمَا أقول- وَهُوَ الحق- فو الله مَا تعمدت كذبا مذ علمت أن اللَّه يمقت عَلَيْهِ أهله، ويضر بِهِ من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذَلِكَ أخبركم، سلوا جابر بن عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيّ، أو أبا سَعِيد الخدري، أو سَهْل بن سَعْد الساعدي، أو زَيْد بن أَرْقَمَ، أو أنس بن مالك، يخبروكم أَنَّهُمْ سمعوا هذه المقاله من رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولأخي.
أفما فِي هَذَا حاجز لكم عن سفك دمي! فَقَالَ لَهُ شمر بن ذي الجوشن:
هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ ان كان يدرى ما يقول! فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر:
وَاللَّهِ إني لأراك تعبد اللَّه عَلَى سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق مَا تدري مَا يقول، قَدْ طبع اللَّه عَلَى قلبك، ثُمَّ قَالَ لَهُمُ الْحُسَيْن: فإن كنتم فِي شك من هَذَا القول أفتشكون أثرا مَا أني ابن بنت نبيكم! فو الله مَا بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري مِنْكُمْ وَلا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة.
أخبروني، أتطلبوني بقتيل مِنْكُمْ قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قَالَ: فأخذوا لا يكلمونه، قَالَ: فنادى: يَا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يَزِيد بن الْحَارِث، ألم تكتبوا إلي أن قَدْ أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم عَلَى جند لك مجند، فأقبل! قَالُوا لَهُ: لم نفعل، فَقَالَ: سبحان اللَّه! بلى وَاللَّهِ، لقد فعلتم، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إِلَى مأمني من الأرض، قَالَ: فَقَالَ لَهُ قيس بن الاشعث:
او لا تنزل عَلَى حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا مَا تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الْحُسَيْن: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، [لا وَاللَّهِ لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، وَلا أقر إقرار العبيد عباد اللَّه، إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أعوذ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يؤمن بيوم الحساب، قَالَ:] ثُمَّ إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الْحُسَيْن حين قتل يقال لَهُ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: لما زحفنا قبل الحسين خرج إلينا زهير بن قين عَلَى فرس لَهُ ذنوب، شاك فِي السلاح، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، نذار لكم من عذاب اللَّه نذار! إن حقا عَلَى المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حَتَّى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، مَا لم يقع بيننا وبينكم السيف، وَأَنْتُمْ للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وَأَنْتُمْ أمة، إن اللَّه قَدِ ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لينظر مَا نحن وَأَنْتُمْ عاملون، إنا ندعوكم إِلَى نصرهم وخذلان الطاغية عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم عَلَى جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأَصْحَابه، وهانئ بن عروة وأشباهه، قَالَ: فسبوه، وأثنوا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، ودعوا لَهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نبرح حَتَّى نقتل صاحبك ومن مَعَهُ، أو نبعث بِهِ وبأَصْحَابه إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ سلما، فَقَالَ لَهُمْ: عباد اللَّه، إن ولد فاطمة رضوان اللَّه عَلَيْهَا أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بِاللَّهِ أن تقتلوهم، فخلوا بين الرجل وبين ابن عمه يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلعمري إن يَزِيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، قَالَ: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وَقَالَ: اسكت أسكت اللَّه نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فَقَالَ لَهُ زهير: يا بن البوال عَلَى عقبيه، مَا إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، وَاللَّهِ مَا أظنك تحكم من كتاب اللَّه آيتين، فأبشر بالخزي يوم الْقِيَامَة والعذاب الأليم، فَقَالَ لَهُ شمر: إن اللَّه قاتلك وصاحبك عن ساعة، قَالَ: أفبالموت تخوفني!
فو الله للموت مَعَهُ أحب إلي من الخلد معكم، قَالَ: ثُمَّ أقبل عَلَى الناس رافعا صوته، فَقَالَ: عباد اللَّه، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعه محمد صلى الله عليه وسلم قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم، قَالَ: فناداه رجل فَقَالَ لَهُ: إن أبا عَبْد اللَّهِ يقول لك: أقبل، فلعمري لَئِنْ كَانَ مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فِي الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ! قَالَ أَبُو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، قَالَ: ثُمَّ إن الحر بن يَزِيدَ لما زحف عُمَر بن سَعْدٍ قَالَ لَهُ: أصلحك اللَّه! مقاتل أنت هَذَا الرجل؟ قَالَ: إي وَاللَّهِ قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي، قَالَ: أفما لكم فِي واحدة من الخصال الَّتِي عرض عَلَيْكُمْ رضا؟
قَالَ عُمَر بن سَعْد: أما وَاللَّهِ لو كَانَ الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قَدْ أبى ذَلِكَ، قَالَ: فأقبل حَتَّى وقف مِنَ النَّاسِ موقفا، وَمَعَهُ رجل من قومه يقال لَهُ قرة بن قيس، فَقَالَ: يَا قرة، هل سقيت فرسك الْيَوْم؟ قَالَ: لا، قَالَ: إنما تريد أن تسقيه؟ قَالَ: فظننت وَاللَّهِ أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذَلِكَ، فيخاف أن أرفعه عَلَيْهِ، فقلت لَهُ:
لم أسقه، وأنا منطلق فساقيه، قَالَ: فاعتزلت ذَلِكَ المكان الَّذِي كَانَ فِيهِ، قَالَ: فو الله لو أنه أطلعني عَلَى الَّذِي يريد لخرجت مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ:
فأخذ يدنو من حُسَيْن قليلا قليلا، فَقَالَ لَهُ رجل من قومه يقال له المهاجر ابن أوس: ما تريد يا بن يَزِيدَ؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يَزِيدَ؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يَزِيدَ، وَاللَّهِ إن أمرك لمريب، وَاللَّهِ مَا رأيت مِنْكَ فِي موقف قط مثل شَيْء أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الْكُوفَة رجلا مَا عدوتك، فما هَذَا الَّذِي أَرَى مِنْكَ! قَالَ: إني وَاللَّهِ أخير نفسي بين الجنه والنار، وو الله لا أختار عَلَى الجنة شَيْئًا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بحسين ع، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رَسُول اللَّهِ! أنا صاحبك الَّذِي حبستك عن الرجوع، وسايرتك فِي الطريق، وجعجعت بك فِي هَذَا المكان، وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا ظننت أن القوم يردون عَلَيْك مَا عرضت عَلَيْهِم أبدا، وَلا يبلغون مِنْكَ هَذِهِ المنزلة فقلت فِي نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم فِي بعض أمرهم، وَلا يرون أني خرجت من طاعتهم وأما هم فسيقبلون من حُسَيْن هَذِهِ الخصال التي يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أَنَّهُمْ لا يقبلونها مِنْكَ مَا ركبتها مِنْكَ، وإني قَدْ جئتك تائبا مما كَانَ مني إِلَى ربي، ومواسيا لك بنفسي حَتَّى أموت بين يديك، أفترى ذَلِكَ لي توبة؟
قَالَ: نعم، يتوب اللَّه عَلَيْك، ويغفر لك، مَا اسمك؟ قَالَ: أنا الحر بن يَزِيدَ، [قَالَ: أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخرة، انزل، قَالَ: أنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم عَلَى فرسي ساعة، وإلى النزول مَا يصير آخر أمري قَالَ الْحُسَيْن: فاصنع يرحمك اللَّه مَا بدا لك] فاستقدم أمام أَصْحَابه ثُمَّ قَالَ: أيها القوم، أَلا تقبلون من حُسَيْن خصلة من هَذِهِ الخصال الَّتِي عرض عَلَيْكُمْ فيعافيكم اللَّه من حربه وقتاله؟ قَالُوا: هَذَا الأمير عُمَر بن سَعْد فكلمه، فكلمه بمثل مَا كلمه بِهِ قبل، وبمثل ما كلم بِهِ أَصْحَابه، قَالَ عمر: قَدْ حرصت، لو وجدت إِلَى ذَلِكَ سبيلا فعلت، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه، وزعمتم انكم قاتلو أنفسكم دونه، ثُمَّ عدوتم عَلَيْهِ لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم بِهِ من كل جانب، فمنعتموه التوجه فِي بلاد اللَّه العريضة حَتَّى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح فِي أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، وَلا يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأَصْحَابه عن ماء الفرات الجاري الَّذِي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فِيهِ خنازير السواد وكلابه، وها هم أولاء قَدْ صرعهم العطش، بئسما خلفتم مُحَمَّدا فِي ذريته! لا سقاكم اللَّه يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عَلَيْهِ من يومكم هَذَا فِي ساعتكم هَذِهِ فحملت عَلَيْهِ رجالة لَهُمْ ترميه بالنبل، فأقبل حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن.
قَالَ أَبُو مخنف، عن الصقعب بن زهير وسُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: وزحف عُمَر بن سَعْد نحوهم، ثم نادى: يا ذويد، أدن رايتك، قَالَ: فأدناها ثُمَّ وضع سهمه فِي كبد قوسه، ثُمَّ رمى فَقَالَ:
اشهدوا أني أول من رمى.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جناب، قَالَ: كَانَ منا رجل يدعى عَبْد اللَّهِ بن عمير، من بني عليم، كَانَ قَدْ نزل الْكُوفَة، واتخذ عِنْدَ بئر الجعد من همدان دارا، وكانت مَعَهُ امراه له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إِلَى الْحُسَيْن، قَالَ:
فسأل عَنْهُمْ، فقيل لَهُ: يسرحون إِلَى حُسَيْن بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَاللَّهِ لقد كنت عَلَى جهاد أهل الشرك حريصا، وإني لأرجو أَلا يكون جهاد هَؤُلاءِ الَّذِينَ يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عِنْدَ اللَّه من ثوابه إياي فِي جهاد المشركين، فدخل إِلَى امرأته فأخبرها بِمَا سمع، وأعلمها بِمَا يريد، فَقَالَتْ: أصبت أصاب اللَّه بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك، قَالَ: فخرج بِهَا ليلا حَتَّى أتى حسينا، فأقام مَعَهُ، فلما دنا مِنْهُ عُمَر بن سَعْدٍ ورمى بسهم ارتمى الناس، فلما ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أَبِي سُفْيَانَ وسالم مولى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم، قَالَ: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فَقَالَ لهما حُسَيْن: اجلسا، فقام عَبْد اللَّهِ بن عمير الكلبي فَقَالَ: أبا عَبْد اللَّهِ، رحمك اللَّه! ائذن لي فلأخرج إليهما، فرأى حُسَيْن رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد مَا بين المنكبين، فَقَالَ حُسَيْن: إني لأحسبه للأقران قتالا، اخرج إن شئت، قَالَ: فخرج إليهما، فقالا لَهُ: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير، ويسار مستنتل أمام سَالم، فَقَالَ لَهُ الكلبى: يا بن الزانية، وبك رغبة عن مبارزة أحد مِنَ النَّاسِ، وما يخرج إليك أحد مِنَ النَّاسِ الا وهو خير مِنْكَ، ثُمَّ شد عَلَيْهِ فضربه بسيفه حَتَّى برد، فإنه لمشتغل بِهِ يضربه بسيفه إذ شد عَلَيْهِ سَالم، فصاح بِهِ: قَدْ رهقك العبد، قَالَ: فلم يأبه لَهُ حَتَّى غشيه فبدره الضربة، فاتقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفه اليسرى، ثُمَّ مال عَلَيْهِ الكلبي فضربه حَتَّى قتله، وأقبل الكلبي مرتجزا وَهُوَ يقول، وَقَدْ قتلهما جميعا:
إن تنكروني فانا ابن كلب حسبي بيتى في عليم حسبي انى امرو ذو مرة وعصب ولست بالخوار عِنْدَ النكب إني زعيم لك أم وهب بالطعن فِيهِمْ مقدما والضرب ضرب غلام مؤمن بالرب.
فأخذت أم وهب امرأته عمودا، ثُمَّ أقبلت نحو زوجها تقول لَهُ: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية مُحَمَّد، فأقبل إِلَيْهَا يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثُمَّ قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، [فناداها حُسَيْن، فَقَالَ: جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي رحمك اللَّه إِلَى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس عَلَى النساء قتال، فانصرفت إليهن] .
قَالَ: وحمل عَمْرو بن الحجاج وَهُوَ عَلَى ميمنة الناس فِي الميمنة، فلما أن دنا من حُسَيْن جثوا لَهُ عَلَى الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم عَلَى الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل، فصرعوا مِنْهُمْ رجالا، وجرحوا مِنْهُمْ آخرين.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي حُسَيْن أَبُو جَعْفَر، قَالَ: ثُمَّ إن رجلا من بني تميم- يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن حوزة- جَاءَ حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن، فَقَالَ:
يَا حُسَيْن، يَا حُسَيْن! فَقَالَ حُسَيْن: مَا تشاء؟ قَالَ: أبشر بالنار، [قَالَ:
كلا، إني أقدم عَلَى رب رحيم، وشفيع مطاع، من هَذَا؟ قَالَ لَهُ أَصْحَابه:
هَذَا ابن حوزة، قَالَ: رب حزه إِلَى النار،] قَالَ: فاضطرب بِهِ فرسه فِي جدول فوقع فِيهِ، وتعلقت رجله بالركاب، ووقع راسه في الارض، ونفر الفرس، فاخذ يمر بِهِ فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حَتَّى مات.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما سويد بن حية، فزعم لي أن عَبْد اللَّهِ بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى فِي الركاب، وارتفعت اليمنى فطارت، وعدا بِهِ فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حَتَّى مات قَالَ أَبُو مخنف عن عطاء بن السَّائِب، عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، عن أخيه مسروق بن وائل، قَالَ: كنت فِي أوائل الخيل ممن سار إِلَى الْحُسَيْن، فقلت: أكون فِي أوائلها لعلي أصيب رأس الْحُسَيْن، فأصيب بِهِ منزلة عِنْدَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، قَالَ: فلما انتهينا إِلَى حُسَيْن تقدم رجل من القوم يقال لَهُ ابن حوزة، فَقَالَ: أفيكم حُسَيْن؟ قَالَ: فسكت حُسَيْن، فقالها ثانية، فأسكت حَتَّى إذا كَانَتِ الثالثة قَالَ: قولوا لَهُ: نعم، هَذَا حُسَيْن، فما حاجتك؟
قَالَ: يَا حُسَيْن، أبشر بالنار، قَالَ: كذبت، [بل أقدم عَلَى رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟] قَالَ: ابن حوزة، قَالَ، فرفع الْحُسَيْن يديه حَتَّى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حزه إِلَى النار، قَالَ:
فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إِلَيْهِ الفرس وبينه وبينه نهر، قَالَ: فعلقت قدمه بالركاب، وجالت بِهِ الفرس فسقط عنها، قَالَ: فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب قَالَ: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه، قَالَ: فسألته، فَقَالَ: لقد رأيت من أهل هَذَا البيت شَيْئًا لا أقاتلهم أبدا، قَالَ: ونشب القتال.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس- وَكَانَ قَدْ شهد مقتل الْحُسَيْن- قَالَ: وخرج يَزِيد بن معقل من بني عميرة بن رَبِيعَة وَهُوَ حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير ابن حضير، كيف ترى اللَّه صنع بك! قَالَ: صنع اللَّه وَاللَّهِ بي خيرا، وصنع اللَّه بك شرا، قَالَ: كذبت، وقبل الْيَوْم مَا كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك فِي بني لوذان وأنت تقول: إن عُثْمَان بن عَفَّانَ كَانَ عَلَى نفسه مسرفا، وإن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق عَلِيّ بن أبي طالب؟ فَقَالَ لَهُ برير: أشهد أن هَذَا رأيي وقولي، فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين، فَقَالَ لَهُ برير بن حضير:
هل لك فلا باهلك، ولندع اللَّه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثُمَّ اخرج فلأبارزك، قَالَ: فخرجا فرفعا أيديهما إِلَى اللَّهِ يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثُمَّ برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يَزِيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شَيْئًا، وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق، وان سيف ابن حضير لثابت فِي رأسه، فكأني أنظر إِلَيْهِ ينضنضه من رأسه، وحمل عَلَيْهِ رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريرا، فاعتركا ساعة ثُمَّ إن بريرا قعد عَلَى صدره فَقَالَ رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟ قَالَ: فذهب كعب بن جابر بن عَمْرو الأَزْدِيّ ليحمل عَلَيْهِ، فقلت: إن هَذَا برير بن حضير القارئ الَّذِي كَانَ يقرئنا القرآن فِي المسجد، فحمل عَلَيْهِ بالرمح حَتَّى وضعه فِي ظهره، فلما وجد مس الرمح برك عَلَيْهِ فعض بوجهه، وقطع طرف انفه، فطعنه كعب ابن جابر حَتَّى ألقاه عنه، وَقَدْ غيب السنان فِي ظهره، ثُمَّ أقبل عَلَيْهِ يضربه بسيفه حَتَّى قتله، قَالَ عفيف: كأني أنظر إِلَى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه، ويقول: أنعمت علي يَا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا، قَالَ: فقلت: أنت رأيت هَذَا؟ قَالَ: نعم، رأي عيني وسمع أذني. فلما رجع كعب بن جابر قالت لَهُ امرأته، أو أخته النوار بنت جابر:
أعنت عَلَى ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء، لقد أتيت عظيما من الأمر، وَاللَّهِ لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا.
وَقَالَ كعب بن جابر:
سلي تخبري عني وأنت ذميمة *** غداة حُسَيْن والرماح شوارع
ألم آت أقصى مَا كرهت ولم يخل *** علي غداة الروع مَا أنا صانع
معي يزني لم تخنه كعوبه *** وأبيض مخشوب الغرارين قاطع
فجردته فِي عصبة ليس دينهم *** بديني وإني بابن حرب لقانع
ولم تر عيني مثلهم فِي زمانهم *** وَلا قبلهم فِي الناس إذ أنا يافع
أشد قراعا بالسيوف لدى الوغى *** أَلا كل من يحمي الذمار مقارع
وَقَدْ صبروا للطعن والضرب حسرا *** وَقَدْ نازلوا لو أن ذَلِكَ نافع
فأبلغ عُبَيْد اللَّهِ إما لقيته *** بأني مطيع للخليفة سامع
قتلت بريرا ثُمَّ حملت نعمة *** أبا منقذ لما دعا: من يماصع؟
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب، قَالَ: سمعته فِي إمارة مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يقول: يَا رب إنا قَدْ وفينا، فلا تجعلنا يَا رب كمن قَدْ غدر، فَقَالَ لَهُ أبي: صدق، ولقد وفى وكرم، وكسبت لنفسك شرا، قَالَ: كلا، إني لم أكسب لنفسي شرا، ولكني كسبت لها خيرا.
قَالَ: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد عَلَى كعب بن جابر جواب قوله، فَقَالَ:
لو شاء ربي مَا شهدت قتالهم *** وَلا جعل النعماء عندي ابن جابر
لقد كَانَ ذاك الْيَوْم عارا وسبة *** يعيره الأبناء بعد المعاشر
فيا ليت أني كنت من قبل قتله *** ويوم حُسَيْن كنت فِي رمس قابر
قَالَ: وخرج عَمْرو بن قرظة الأَنْصَارِيّ يقاتل دون حُسَيْن وَهُوَ يقول:
قَدْ علمت كتيبة الأنصار *** أني سأحمي حوزة الذمار
ضرب غلام غير نكس شاري *** دون حُسَيْن مهجتي وداري
قَالَ أَبُو مخنف: عن ثَابِت بن هبيرة، فقتل عَمْرو بن قرظة بن كعب، وَكَانَ مع الْحُسَيْن، وَكَانَ علي أخوه مع عُمَر بن سعد، فنادى على بن قريظة:
يَا حُسَيْن، يَا كذاب ابن الكذاب، أضللت أخي وغررته حتى قتله [قَالَ:
إن اللَّه لم يضل أخاك، ولكنه هدى أخاك وأضلك،] قَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك أو أموت دونك، فحمل عَلَيْهِ، فاعترضه نافع بن هلال المرادي، فطعنه فصرعه، فحمله أَصْحَابه فاستنقذوه، فدووي بعد فبرأ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي النضر بن صالح أَبُو زهير العبسي أن الحر بن يَزِيدَ لما لحق بحسين قَالَ رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الْحَارِث بن تميم، يقال لَهُ يَزِيد بن سُفْيَان: أما وَاللَّهِ لو أني رأيت الحر بن يَزِيدَ حين خرج لأتبعته السنان، قَالَ: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يَزِيدَ يحمل عَلَى القوم مقدما ويتمثل قول عنترة:
مَا زلت أرميهم بثغرة نحره *** ولبانه حَتَّى تسربل بالدم
قَالَ: وإن فرسه لمضروب عَلَى أذنيه وحاجبه، وإن دماءه لتسيل، فَقَالَ الحصين بن تميم- وَكَانَ عَلَى شرطة عُبَيْد اللَّهِ، فبعثه إِلَى الْحُسَيْن، وَكَانَ مع عُمَر بن سَعْدٍ، فولاه عمر مع الشرطة المجففة- ليزيد بن سُفْيَان: هَذَا الحر بن يَزِيدَ الَّذِي كنت تتمنى، قَالَ: نعم فخرج إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: هل لك يَا حر بن يَزِيدَ فِي المبارزة؟ قَالَ: نعم قَدْ شئت، فبرز لَهُ، قَالَ: فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: وَاللَّهِ لأبرز لَهُ، فكأنما كَانَتْ نفسه فِي يده، فما لبثه الحر حين خرج إِلَيْهِ أن قتله.
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هانئ بن عروة، أن نافع بن هلال كَانَ يقاتل يَوْمَئِذٍ وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي.
قَالَ: فخرج إِلَيْهِ رجل يقال لَهُ مزاحم بن حريث، فَقَالَ: أنا عَلَى دين عُثْمَان، فَقَالَ لَهُ: أنت عَلَى دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله، فصاح عمرو ابن الحجاج بِالنَّاسِ: يَا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المصر، قوما مستميتين، لا يبرزن لَهُمْ منكم احد، فإنهم قليل، وقلما يبقون، وَاللَّهِ لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: صدقت، الرأي مَا رأيت، وأرسل إِلَى النَّاسِ يعزم عَلَيْهِم أَلا يبارز رجل مِنْكُمْ رجلا مِنْهُمْ.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: الزبيدي:
إنه سمع عَمْرو بن الحجاج حين دنا من أَصْحَاب الْحُسَيْن يقول: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، الزموا طاعتكم وجماعتكم، وَلا ترتابوا فِي قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: يَا عَمْرو بن الحجاج، أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا وَأَنْتُمْ ثبتم عَلَيْهِ؟ أما وَاللَّهِ لتعلمن لو قَدْ قبضت أرواحكم، ومتم عَلَى أعمالكم، أينا مرق من الدين، ومن هُوَ أولى بصلي النار! قَالَ: ثُمَّ إن عَمْرو بن الحجاج حمل عَلَى الْحُسَيْن فِي ميمنة عُمَر بن سَعْد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أَصْحَاب الْحُسَيْن، ثُمَّ انصرف عَمْرو بن الحجاج وأَصْحَابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم بِهِ صريع، فمشى إِلَيْهِ الْحُسَيْن فإذا بِهِ رمق، [فَقَالَ: رحمك ربك يَا مسلم بن عوسجة، {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] » .
ودنا مِنْهُ حبيب بن مظاهر فَقَالَ: عز علي مصرعك يَا مسلم، أبشر بالجنة، فَقَالَ لَهُ مسلم قولا ضعيفا: بشرك اللَّه بخير! فَقَالَ لَهُ حبيب: لولا أني أعلم أني فِي أثرك لاحق بك من ساعتي هَذِهِ لأحببت أن توصيني بكل مَا أهمك حَتَّى أحفظك فِي كل ذَلِكَ بِمَا أنت أهل لَهُ فِي القرابة والدين، قَالَ:
بل أنا أوصيك بهذا رحمك اللَّه- وأهوى بيده إِلَى الْحُسَيْن- أن تموت دونه، قَالَ: أفعل ورب الكعبة، قَالَ: فما كَانَ بأسرع من أن مات فِي أيديهم، وصاحت جارية له فقالت: يا بن عوسجتاه! يَا سيداه! فتنادى أَصْحَاب عَمْرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي، فَقَالَ شبث لبعض من حوله من أَصْحَابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت لَهُ لرب موقف لَهُ قَدْ رأيته فِي الْمُسْلِمِينَ كريم! لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول الْمُسْلِمِينَ، أفيقتل مِنْكُمْ مثله وتفرحون! قَالَ: وَكَانَ الَّذِي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عَبْدِ اللَّهِ الضبابي وعبد الرَّحْمَن بن أبي خشكارة البجلي قَالَ: وحمل شمر بن ذي الجوشن فِي الميسرة عَلَى أهل الميسرة فثبتوا لَهُ، فطاعنوه وأَصْحَابه، وحمل عَلَى حُسَيْن وأَصْحَابه من كل جانب، فقتل الكلبي وَقَدْ قتل رجلين بعد الرجلين الأولين، وقاتل قتالا شديدا، فحمل عَلَيْهِ هانئ بن ثبيت الحضرمى وبكير ابن حي التيمي من تيم اللَّه بن ثعلبة، فقتلاه، وَكَانَ القتيل الثاني من أَصْحَاب الْحُسَيْن، وقاتلهم أَصْحَاب الْحُسَيْن قتالا شديدا، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا، وأخذت لا تحمل عَلَى جانب من خيل أهل الْكُوفَة إلا كشفته، فلما رَأَى ذَلِكَ عزرة بن قيس- وَهُوَ عَلَى خيل أهل الْكُوفَة- أن خيله تنكشف من كل جانب، بعث الى عمر بن سعد عبد الرحمن ابن حصن، فَقَالَ: أما ترى مَا تلقى خيلي مذ الْيَوْم من هَذِهِ العدة اليسيرة! أبعث إِلَيْهِم الرجال والرماة، فَقَالَ لشبث بن ربعي: أَلا تقدم إِلَيْهِم! فَقَالَ: سبحان اللَّه! أتعمد الى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه فِي الرماة! لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيري! قَالَ: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله قَالَ: وَقَالَ أَبُو زهير العبسي: فأنا سمعته فِي إمارة مصعب يقول: لا يعطي اللَّه أهل هَذَا المصر خيرا أبدا، وَلا يسددهم لرشد، أَلا تعجبون أنا قاتلنا مع عَلِيّ بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سُفْيَان خمس سنين، ثُمَّ عدونا عَلَى ابنه وَهُوَ خير أهل الأرض نقاتله مع آل مُعَاوِيَة وابن سمية الزانية! ضلال يَا لك من ضلال! قَالَ: ودعا عُمَر بن سَعْد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حَتَّى إذا دنوا من الْحُسَيْن وأَصْحَابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجالة كلهم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كَانَ يقول: أنا وَاللَّهِ عقرت بالحر بن يَزِيدَ فرسه، حشأته سهما، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف فِي يده وَهُوَ يقول:
إن تعقروا بي فأنا ابن الحر *** أشجع من ذي لبد هزبر
قَالَ: فما رأيت أحدا قط يفري فريه، قَالَ: فَقَالَ لَهُ أشياخ من الحي:
أنت قتلته؟ قال: لا والله ما انا قتلته، ولكن قتله غيري، وما أحب أني قتلته، فَقَالَ لَهُ أَبُو الوداك: ولم؟ قَالَ: إنه كان زعموا من الصالحين، فو الله لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ إثما لأن ألقى اللَّه بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل أحد مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الوداك: مَا أراك إلا ستلقى اللَّه بإثم قتلهم أجمعين، أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا، ورميت آخر، ووقفت موقفا، وكررت عَلَيْهِم، وحرضت أَصْحَابك، وكثرت أَصْحَابك، وحمل عَلَيْك فكرهت أن تفر، وفعل آخر من أَصْحَابك كفعلك، وآخر وآخر، كَان هَذَا وأَصْحَابه يقتلون! أنتم شركاء كلكم فِي دمائهم، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الوداك، إنك لتقنطنا من رحمة اللَّه، إن كنت ولي حسابنا يوم الْقِيَامَة فلا غفر اللَّه لك إن غفرت لنا! قَالَ: هُوَ مَا أقول لك، قَالَ: وقاتلوهم حَتَّى انتصف النهار أشد قتال خلقه اللَّه، وأخذوا لا يقدرون عَلَى أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض قَالَ: فلما رَأَى ذَلِكَ عُمَر بن سَعْد أرسل رجالا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم، قَالَ: فأخذ الثلاثة والأربعة من أَصْحَاب الْحُسَيْن يتخللون البيوت فيشدون عَلَى الرجل وَهُوَ يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه فأمر بِهَا عُمَر بن سَعْد عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: أحرقوها بالنار، وَلا تدخلوا بيتا وَلا تقوضوه، فجاءوا بالنار، فأخذوا يحرقون، فَقَالَ حُسَيْن:
دعوهم فليحرقوها، فإنهم لو قَدْ حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها، وَكَانَ ذَلِكَ كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد قَالَ: وخرجت امرأة الكلبي تمشي إِلَى زوجها حَتَّى جلست عِنْدَ رأسه تمسح عنه التراب وتقول:
هنيئا لك الجنة! فَقَالَ شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود، فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها، قَالَ: وحمل شمر بن ذي الجوشن حَتَّى طعن فسطاط الْحُسَيْن برمحه، ونادى: علي بالنار حَتَّى أحرق هَذَا البيت عَلَى أهله، قَالَ: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، قَالَ: [وصاح به الحسين: يا بن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي عَلَى أهلي، حرقك اللَّه بالنار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان اللَّه! إن هَذَا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع عَلَى نفسك خصلتين تعذب بعذاب اللَّه، وتقتل الولدان والنساء! وَاللَّهِ إن فِي قتلك الرجال لما ترضي بِهِ أميرك، قَالَ: فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ:
قلت: لا أخبرك من أنا، قَالَ: وخشيت وَاللَّهِ أن لو عرفني أن يضرني عِنْدَ السلطان، قَالَ: فجاءه رجل كَانَ أطوع لَهُ مني، شبث بن ربعي فَقَالَ:
مَا رأيت مقالا أسوأ من قولك، وَلا موقفا أقبح من موقفك، أمرعبا للنساء صرت! قَالَ: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف وحمل عَلَيْهِ زهير ابن القين فِي رجال من أَصْحَابه عشرة، فشد عَلَى شمر بن ذي الجوشن وأَصْحَابه، فكشفهم عن البيوت حَتَّى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه، فكان من أَصْحَاب شمر، وتعطف الناس عَلَيْهِم فكثروهم، فلا يزال الرجل من أَصْحَاب الْحُسَيْن قَدْ قتل، فإذا قتل مِنْهُمُ الرجل والرجلان تبين فِيهِمْ، وأولئك كثير لا يتبين فِيهِمْ مَا يقتل مِنْهُمْ، قَالَ: فلما رَأَى ذَلِكَ أَبُو ثمامة عَمْرو بن عَبْدِ اللَّهِ الصائدي قَالَ للحسين: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، نفسي لك الفداء! إني أَرَى هَؤُلاءِ قَدِ اقتربوا مِنْكَ، وَلا وَاللَّهِ لا تقتل حَتَّى أقتل دونك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وأحب أن ألقى ربي وَقَدْ صليت هَذِهِ الصَّلاة الَّتِي دنا وقتها، قَالَ: [فرفع الْحُسَيْن رأسه ثُمَّ قَالَ: ذكرت الصَّلاة، جعلك اللَّه من المصلين الذاكرين! نعم، هَذَا أول وقتها، ثُمَّ قَالَ: سلوهم أن يكفوا عنا حَتَّى نصلي،] فَقَالَ لَهُمُ الحصين بن تميم: إنها لا تقبل، فَقَالَ لَهُ حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصَّلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل وتقبل مِنْكَ يَا حمار! قَالَ: فحمل عَلَيْهِم حصين بن تميم، وخرج إِلَيْهِ حبيب بن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشب ووقع عنه، وحمله أَصْحَابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول:
أقسم لو كنا لكم أعدادا أو شطركم وليتم أكتادا يَا شر قوم حسبا وآدا.
قَالَ: وجعل يقول يَوْمَئِذٍ:
أنا حبيب وأبي مظاهر فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكثر ونحن أوفى مِنْكُمُ وأصبر ونحن أعلى حجة وأظهر حقا وأتقى مِنْكُمُ وأعذر وقاتل قتالا شديدا، فحمل عَلَيْهِ رجل من بني تميم فضربه بالسيف عَلَى رأسه فقتله- وَكَانَ يقال لَهُ: بديل بن صريم من بني عقفان- وحمل عَلَيْهِ آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم عَلَى رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إِلَيْهِ التميمي فاحتز رأسه، فَقَالَ لَهُ الحصين:
إني لشريكك فِي قتله، فَقَالَ الآخر: وَاللَّهِ مَا قتله غيري، فَقَالَ الحصين:
أعطنيه أعلقه فِي عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت فِي قتله، ثُمَّ خذه أنت بعد فامض بِهِ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فلا حاجة لي فِيمَا تعطاه عَلَى قتلك إِيَّاهُ قَالَ: فأبى عَلَيْهِ، فأصلح قومه فِيمَا بينهما عَلَى هَذَا، فدفع إِلَيْهِ رأس حبيب بن مظاهر، فجال بِهِ فِي العسكر قَدْ علقه فِي عنق فرسه، ثُمَّ دفعه بعد ذَلِكَ إِلَيْهِ، فلما رجعوا إِلَى الْكُوفَةِ أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه فِي لبان فرسه، ثُمَّ أقبل بِهِ إِلَى ابن زياد فِي القصر فبصر بِهِ ابنه الْقَاسِم بن حبيب، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، كلما دخل القصر دخل مَعَهُ، وإذا خرج خرج مَعَهُ، فارتاب بِهِ، فَقَالَ: ما لك يَا بني تتبعني! قَالَ: لا شَيْء، قَالَ: بلى، يَا بني أَخْبِرْنِي، قَالَ لَهُ: إن هَذَا الرأس الَّذِي معك رأس أبي، أفتعطينيه حَتَّى أدفنه؟ قَالَ: يَا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير عَلَى قتله ثوابا حسنا، قَالَ لَهُ الغلام:
لكن اللَّه لا يثيبك عَلَى ذَلِكَ إلا أسوأ الثواب، أما وَاللَّهِ لقد قتلت خيرا مِنْكَ، وبكى فمكث الغلام حَتَّى إذا أدرك لَمْ يَكُنْ لَهُ همة إلا اتباع أثر قاتل أَبِيهِ ليجد مِنْهُ غرة فيقتله بأبيه، فلما كَانَ زمان مُصْعَب بن الزُّبَيْرِ وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أَبِيهِ فِي فسطاطه، فأقبل يختلف فِي طلبه والتماس غرته، فدخل عَلَيْهِ وَهُوَ قائل نصف النهار فضربه بسيفه حَتَّى برد.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قيس، قَالَ: [لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذَلِكَ حسينا وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: أحتسب نفسي وحماة أَصْحَابي،] قَالَ: فأخذ الحر يرتجز ويقول:
أليت لا أقتل حَتَّى أقتلا ولن أصاب الْيَوْم الا مقبلا أضربهم بالسيف ضربا مقصلا لا ناكلا عَنْهُمْ وَلا مهللا وأخذ يقول أَيْضًا:
أضرب فِي أعراضهم بالسيف عن خير من حل منى والخيف فقاتل هُوَ وزهير بن القين قتالا شديدا، فكان إذا شد أحدهما، فإن استلحم شد الآخر حَتَّى يخلصه، ففعلا ذَلِكَ ساعة ثُمَّ إن رجالة شدت عَلَى الحر بن يَزِيدَ فقتل، وقتل أَبُو ثمامة الصائدي ابن عم لَهُ كَانَ عدوا لَهُ، ثُمَّ صلوا الظهر، صلى بهم الْحُسَيْن صلاة الخوف، ثُمَّ اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم، ووصل إِلَى الْحُسَيْن، فاستقدم الحنفي أمامه، فاستهدف لَهُمْ يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه، فما زال يرمى حَتَّى سقط وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا، وأخذ يقول:
أنا زهير وأنا ابن القين أذودهم بالسيف عن حُسَيْن قَالَ: وأخذ يضرب عَلَى منكب حُسَيْن ويقول:
أقدم هديت هاديا مهديا فاليوم تلقى جدك النبيا وحسنا والمرتضى عَلِيًّا وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد اللَّه الشهيد الحيا.
قَالَ: فشد عَلَيْهِ كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ ومهاجر بن أوس فقتلاه، قَالَ: وَكَانَ نافع بن هلال الْجَمَلِيّ قَدْ كتب اسمه عَلَى أفواق نبله، فجعل يرمي بِهَا مسومة وَهُوَ يقول: أنا الْجَمَلِيّ، أنا عَلَى دين علي.
فقتل اثني عشر من أَصْحَاب عُمَر بن سَعْد سوى من جرح، قَالَ:
فضرب حَتَّى كسرت عضداه وأخذ أسيرا، قَالَ: فأخذه شمر بن ذي الجوشن وَمَعَهُ أَصْحَاب لَهُ يسوقون نافعا حَتَّى أتي بِهِ عُمَر بن سَعْدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بن سَعْد: ويحك يَا نافع! مَا حملك عَلَى مَا صنعت بنفسك! قَالَ: إن ربي يعلم مَا أردت، قَالَ: والدماء تسيل عَلَى لحيته وَهُوَ يقول: وَاللَّهِ لقد قتلت مِنْكُمُ اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي عَلَى الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد مَا أسرتموني، فَقَالَ لَهُ شمر: اقتله أصلحك اللَّه! قَالَ:
أنت جئت بِهِ، فإن شئت فاقتله، قَالَ: فانتضى شمر سيفه، فَقَالَ لَهُ نافع:
أما وَاللَّهِ إن لو كنت مِنَ الْمُسْلِمِينَ لعظم عَلَيْك أن تلقى اللَّه بدمائنا، فالحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل منايانا عَلَى يدي شرار خلقه، فقتله.
قَالَ: ثُمَّ أقبل شمر يحمل عَلَيْهِم وَهُوَ يقول:
خلوا عداة اللَّه خلوا عن شمر يضربهم بسيفه وَلا يفر وَهْوَ لكم صاب وسم ومقر.
قَالَ: فلما رَأَى أَصْحَاب الْحُسَيْن أنَّهُمْ قَدْ كثروا، وأنهم لا يقدرون عَلَى أن يمنعوا حسينا وَلا أنفسهم، تنافسوا فِي أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عَبْد اللَّهِ وعبد الرَّحْمَن ابنا عزرة الغفاريان، فقالا: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، عَلَيْك السلام، حازنا العدو إليك، فأحببنا أن نقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك، قَالَ: مرحبا بكما! ادنوا مني، فدنوا مِنْهُ، فجعلا يقاتلان قريبا مِنْهُ، وأحدهما يقول:
قَدْ علمت حقا بنو غفار وخندف بعد بني نزار لنضربن معشر الفجار بكل عضب صارم بتار يَا قوم ذودوا عن بني الأحرار بالمشرفي والقنا الخطار قَالَ: وجَاءَ الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عم، وأخوان لأم، فأتيا حسينا فدنوا مِنْهُ وهما يبكيان، فَقَالَ: أي ابني أخي، مَا يبكيكما؟ فو الله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين، قَالا: جعلنا اللَّه فداك! لا وَاللَّهِ مَا عَلَى أنفسنا نبكي، ولكنا نبكي عَلَيْك، نراك قَدْ أحيط بك، وَلا نقدر عَلَى ان نمنعك، فقال: جزاكما الله يا بنى أخي بوحدكما من ذَلِكَ ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين، قَالَ: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حُسَيْن، فأخذ ينادي: {يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ * وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 30-33] يا قوم تقتلوا حسينا {فَيُسْحِتَكُم} [طه: 61] اللَّه {بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ} [طه: 61] [فقال له حسين: يا بن اسعد، رحمك اللَّه، إِنَّهُمْ قَدِ استوجبوا العذاب حين ردوا عَلَيْك مَا دعوتهم إِلَيْهِ من الحق، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأَصْحَابك، فكيف بهم الآن وَقَدْ قتلوا إخوانك الصالحين! قَالَ: صدقت، جعلت فداك! أنت أفقه مني وأحق بِذَلِكَ، أفلا نروح إِلَى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فَقَالَ: رح إِلَى خير من الدُّنْيَا وما فِيهَا، وإلى ملك لا يبلى، فَقَالَ: السلام عَلَيْك أبا عَبْد اللَّهِ، صلى اللَّه عَلَيْك وعلى أهل بيتك، وعرف بيننا وبينك فِي جنته، فَقَالَ: آمين آمين، فاستقدم فقاتل حَتَّى قتل] .
قَالَ: ثُمَّ استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إِلَى حُسَيْن ويقولان: السلام عليك يا بن رَسُول اللَّهِ، فَقَالَ: وعَلَيْكُمَا السلام ورحمة اللَّه، فقاتلا حَتَّى قتلا، قَالَ: وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري وَمَعَهُ شوذب مولى شاكر، فَقَالَ: يَا شوذب، مَا فِي نفسك أن تصنع؟ قَالَ: مَا أصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أقتل، قَالَ: ذَلِكَ الظن بك، إما لا فتقدم بين يدي أبي عَبْد اللَّهِ حَتَّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أَصْحَابه، وحتى أحتسبك أنا، فإنه لو كَانَ معي الساعة أحد أنا أولى بِهِ مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حَتَّى أحتسبه، فإن هَذَا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فِيهِ بكل مَا قدرنا عَلَيْهِ، فإنه لا عمل بعد الْيَوْم، وإنما هُوَ الحساب، قَالَ: فتقدم فسلم عَلَى الحسين، ثم مضى فقاتل حتى قتل ثُمَّ قَالَ عابس بن أبي شبيب: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أما وَاللَّهِ مَا أمسى عَلَى ظهر الأرض قريب وَلا بعيد أعز علي وَلا أحب إلي مِنْكَ، ولو قدرت عَلَى أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عَلَيْك يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ، أشهد اللَّه أني عَلَى هديك وهدي أبيك، ثُمَّ مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة عَلَى جبينه.
قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن رجل من بني عبد من همدان يقال لَهُ ربيع بن تميم شهد ذَلِكَ الْيَوْم، قَالَ: لما رأيته مقبلا عرفته وَقَدْ شاهدته فِي المغازي، وَكَانَ أشجع الناس، فقلت: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا الأسد الأسود، هَذَا ابن أبي شبيب، لا يخرجن إِلَيْهِ أحد مِنْكُمْ، فأخذ ينادي:
أَلا رجل لرجل! فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: أرضخوه بالحجارة، قَالَ: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رَأَى ذَلِكَ ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، فو الله لرأيته يكرد أكثر من مائتين مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ تعطفوا عَلَيْهِ من كل جانب، فقتل، قَالَ: فرأيت رأسه فِي أيدي رجال ذوي عدة، هَذَا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عُمَر بن سَعْدٍ فَقَالَ:
لا تختصموا، هَذَا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بن عاصم، عن الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، قَالَ: لما رأيت أَصْحَاب الْحُسَيْن قَدْ أصيبوا، وَقَدْ خلص إِلَيْهِ وإلى أهل بيته، ولم يبق مَعَهُ غير سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع الخثعمى وبشير ابن عمرو الحضرمى، قلت له: يا بن رَسُول اللَّهِ، قَدْ علمت مَا كَانَ بيني وبينك، قلت لك: أقاتل عنك مَا رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا فِي حل من الانصراف، فقلت لي: نعم، قَالَ: فقال: صدقت، وكيف لك بالتجاء! إن قدرت عَلَى ذَلِكَ فأنت فِي حل، قَالَ: فأقبلت إِلَى فرسي وَقَدْ كنت حَيْثُ رأيت خيل أَصْحَابنا تعقر، أقبلت بِهَا حَتَّى أدخلتها فسطاطا لأَصْحَابنا بين البيوت، وأقبلت أقاتل معهم راجلا، [فقتلت يَوْمَئِذٍ بين يدي الْحُسَيْن رجلين، وقطعت يد آخر، وَقَالَ لي الْحُسَيْن يَوْمَئِذٍ مرارا: لا تشلل، لا يقطع اللَّه يدك، جزاك اللَّه خيرا عن أهل بيت نبيك صلى الله عليه وسلم!] فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثُمَّ استويت عَلَى متنها، ثُمَّ ضربتها حَتَّى إذا قامت عَلَى السنابك رميت بِهَا عرض القوم، فأفرجوا لي، واتبعني مِنْهُمْ خمسة عشر رجلا حَتَّى انتهيت إِلَى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات، فلما لحقوني عطفت عَلَيْهِم، فعرفني كثير بن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عَبْدِ اللَّهِ الصائدي، فَقَالُوا:
هَذَا الضحاك بن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي، هَذَا ابن عمنا، ننشدكم اللَّه لما كففتم عنه! فَقَالَ ثلاثة نفر من بني تميم كَانُوا معهم: بلى وَاللَّهِ لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إِلَى مَا أحبوا من الكف عن صاحبهم، قَالَ: فلما تابع التميميون أَصْحَابي كف الآخرون، قَالَ: فنجاني اللَّه.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي فضيل بن خديج الكندي أن يَزِيد بن زياد، وَهُوَ أَبُو الشعثاء الكندي من بني بهدلة جثا عَلَى ركبتيه بين يدي الْحُسَيْن، فرمى بمائة سهم مَا سقط منها خمسة أسهم، وَكَانَ راميا، فكان كلما رمى قَالَ:
أنا ابن بهدلة، فرسان العرجلة، ويقول حُسَيْن: [اللَّهُمَّ سدد رميته، واجعل ثوابه الجنة، فلما رمى] بِهَا قام فَقَالَ: مَا سقط منها إلا خمسة أسهم، وَلَقَدْ تبين لي أني قَدْ قتلت خمسة نفر، وَكَانَ فِي أول من قتل، وَكَانَ رجزه يَوْمَئِذٍ:
أنا يَزِيد وأبي مهاصر أشجع من ليث بغيل خادر يَا رب إني للحسين ناصر ولابن سعد تارك وهاجر وَكَانَ يَزِيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عُمَر بن سَعْد إِلَى الْحُسَيْن، فلما ردوا الشروط عَلَى الْحُسَيْن مال إِلَيْهِ فقاتل مَعَهُ حَتَّى قتل، فأما الصيداوي عُمَر بن خَالِدٍ، وجابر بن الْحَارِث السلماني، وسعد مولى عُمَر بن خَالِدٍ، ومجمع بن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، فإنهم قاتلوا فِي أول القتال، فشدوا مقدمين بأسيافهم عَلَى الناس، فلما وغلوا عطف عَلَيْهِم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أَصْحَابهم غير بعيد، فحمل عَلَيْهِم العباس بن علي فاستنقذهم، فجاءوا قَدْ جرحوا، فلما دنا مِنْهُمْ عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا فِي أول الأمر حَتَّى قتلوا فِي مكان واحد قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زهير الخثعمي، قَالَ:
كَانَ آخر من بقي مع الْحُسَيْن من أَصْحَابه سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع الخثعمي، قَالَ: وَكَانَ أول قتيل من بني أبي طالب يَوْمَئِذٍ علي الأكبر بن الْحُسَيْن بن علي، وأمه لَيْلَى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وَذَلِكَ أنه أخذ يشد عَلَى الناس وَهُوَ يقول:
أنا عَلِيّ بن حُسَيْن بن علي *** نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي.
قَالَ: ففعل ذَلِكَ مرارا، فبصر بِهِ مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ العبدي ثُمَّ اللَّيْثِيّ، فَقَالَ: علي آثام العرب إن مر بي يفعل مثل مَا كَانَ يفعل إن لم أثكله أباه، فمر يشد عَلَى الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ، فطعنه فصرع، واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأَزْدِيّ، قَالَ: [سماع أذني يَوْمَئِذٍ من الْحُسَيْن يقول: قتل اللَّه قوما قتلوك يَا بني! مَا أجرأهم عَلَى الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول! عَلَى الدُّنْيَا بعدك العفاء] .
قَالَ: وكأني أنظر إِلَى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعه تنادى:
يا اخياه! ويا بن أخياه! قَالَ: فسألت عَلَيْهَا، فقيل: هَذِهِ زينب ابنه فاطمه ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت حَتَّى أكبت عَلَيْهِ، فجاءها الْحُسَيْن فأخذ بيدها فردها إِلَى الفسطاط، [وأقبل الْحُسَيْن إِلَى ابنه، وأقبل فتيانه إِلَيْهِ، فَقَالَ: احملوا أخاكم،] فحملوه من مصرعه حَتَّى وضعوه بين يدي الفسطاط الَّذِي كَانُوا يقاتلون أمامه قَالَ: ثُمَّ إن عَمْرو بن صبيح الصدائي رمى عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه عَلَى جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه، ثُمَّ انتحى لَهُ بسهم آخر ففلق قلبه، فاعتورهم الناس من كل جانب، فحمل عَبْد اللَّهِ بن قطبة الطَّائِيّ ثُمَّ النبهاني عَلَى عون بن عَبْدِ الله ابن جَعْفَر بن أبي طالب فقتله، وحمل عَامِر بن نهشل التيمي عَلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فقتله، قال: وشد عثمان بن خالد ابن أسير الجهني، وبشر بن سوط الهمداني ثُمَّ القابضى على عبد الرحمن ابن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عَبْد الله بن عزره الخثعمى جعفر ابن عقيل بن أبي طالب فقتله.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر، فِي يده السيف، عَلَيْهِ قميص وإزار ونعلان قَدِ انقطع شسع أحدهما، مَا أنسى أنها اليسرى، فَقَالَ لي عمرو ابن سَعْدِ بْنِ نفيل الأَزْدِيّ: وَاللَّهِ لأشدن عَلَيْهِ، فقلت لَهُ: سبحان اللَّه! وما تريد إِلَى ذَلِكَ! يكفيك قتل هَؤُلاءِ الَّذِينَ تراهم قَدِ احتولوهم، قَالَ: فَقَالَ:
وَاللَّهِ لأشدن عَلَيْهِ، فشد عَلَيْهِ فما ولى حَتَّى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه، فَقَالَ: يَا عماه! قَالَ: فجلى الْحُسَيْن كما يجلى الصقر، ثُمَّ شد شده ليث غضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح، ثُمَّ تنحى عنه، وحملت خيل لأهل الْكُوفَة ليستنقذوا عمرا من حُسَيْن، فاستقبلت عمرا بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه، فوطئته حَتَّى مات، وانجلت الغبرة، [فإذا أنا بالحسين قائم عَلَى رأس الغلام، والغلام يفحص برجليه، وحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم الْقِيَامَة فيك جدك! ثُمَّ قَالَ: عز وَاللَّهِ عَلَى عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثُمَّ لا ينفعك! صوت وَاللَّهِ كثر واتره، وقل ناصره] ثُمَّ احتمله فكأني أنظر إِلَى رجلي الغلام يخطان فِي الأرض، وَقَدْ وضع حُسَيْن صدره عَلَى صدره، قَالَ: فقلت فِي نفسي: مَا يصنع بِهِ! فَجَاءَ بِهِ حَتَّى ألقاه مع ابنه عَلِيّ بن الْحُسَيْن وقتلى قَدْ قتلت حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل: هُوَ الْقَاسِم بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
قَالَ: ومكث الْحُسَيْن طويلا من النهار كلما انتهى إِلَيْهِ رجل مِنَ النَّاسِ انصرف عنه، وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عَلَيْهِ، قَالَ: [وإن رجلا من كندة يقال لَهُ مالك بن النسير من بني بداء، أتاه فضربه عَلَى رأسه بالسيف، وعليه برنس لَهُ، فقطع البرنس، وأصاب السيف رأسه، فأدمى رأسه، فامتلأ البرنس دما، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لا أكلت بِهَا وَلا شربت، وحشرك اللَّه مع الظالمين! قَالَ:] فألقى ذَلِكَ البرنس، ثُمَّ دعا بقلنسوة فلبسها، واعتم، وَقَدْ أعيا وبلد، وجاء الكندي حَتَّى أخذ البرنس- وَكَانَ من خز- فلما قدم بِهِ بعد ذَلِكَ عَلَى امرأته أم عَبْد اللَّهِ ابنة الحر أخت حُسَيْن بن الحر البدي، أقبل يغسل البرنس من الدم، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: أسلب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخل بيتي! أخرجه عني، فذكر أَصْحَابه أنه لم يزل فقيرا بشر حَتَّى مات قَالَ: ولما قعد الْحُسَيْن أتى بصبي لَهُ فأجلسه فِي حجره زعموا أنه عَبْد اللَّهِ بن الْحُسَيْن.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ عقبة بن بشير الأسدي: [قَالَ لي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابن عَلِيّ بن الْحُسَيْن: إن لنا فيكم يَا بني أسد دما، قَالَ: قلت: فما ذنبي أنا فِي ذَلِكَ رحمك اللَّه يَا أَبَا جَعْفَر! وما ذَلِكَ؟ قَالَ: أتي الْحُسَيْن بصبي لَهُ، فهو فِي حجره، إذ رماه أحدكم يَا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الْحُسَيْن دمه، فلما ملأ كفيه صبه فِي الأرض ثُمَّ قَالَ: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذَلِكَ لما هُوَ خير، وانتقم لنا من هَؤُلاءِ الظالمين،] قَالَ:
ورمى عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي أبا بكر بن الْحُسَيْن بن علي بسهم فقتله، فلذلك يقول الشاعر، وَهُوَ ابن أبي عقب:
وعند غني قطرة من دمائنا *** وفي أسد أخرى تعد وتذكر
قَالَ: وزعموا أن العباس بن علي قَالَ لإخوته من أمه: عَبْد الله، وجعفر وعثمان: يَا بني أمي، تقدموا حَتَّى أرثكم، فإنه لا ولد لكم، ففعلوا، فقتلوا.
وشد هانئ بن ثبيت الحضرمي عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ فقتله، ثُمَّ شد عَلَى جَعْفَر بن علي فقتله وجاء برأسه، ورمى خولي بن يَزِيدَ الأصبحي عُثْمَان بن عَلِيّ بن أبي طالب بسهم، ثُمَّ شد عَلَيْهِ رجل من بني أبان بن دارم فقتله، وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان بن دارم مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي أَبُو الهذيل- رجل من السكون- عن هانئ بن ثبيت الحضرمي، قَالَ: رأيته جالسا فِي مجلس الحضرميين فِي زمان خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ شيخ كبير، قَالَ: فسمعته وَهُوَ يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين، قال: فو الله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا عَلَى فرس، وَقَدْ جالت الخيل وتصعصعت، إذ خرج غلام من آل الْحُسَيْن وَهُوَ ممسك بعود من تِلَكَ الأبنية، عَلَيْهِ إزار وقميص، وَهُوَ مذعور، يتلفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إِلَى درتين فِي أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض، حَتَّى إذا دنا مِنْهُ مال عن فرسه، ثُمَّ اقتصد الغلام فقطعه بالسيف.
قَالَ هِشَام: قَالَ السكوني: هانئ بن ثبيت هُوَ صاحب الغلام، فلما عتب عَلَيْهِ كنى عن نفسه.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عَمْرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قَالَ: عطش الْحُسَيْن حَتَّى اشتد عَلَيْهِ العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع فِي فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي بِهِ إِلَى السماء، ثُمَّ حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ جمع يديه فَقَالَ: اللَّهُمَّ أحصهم عددا، واقتلهم بددا، وَلا تذر عَلَى الأرض مِنْهُمْ أحدا.
قَالَ هِشَام، عن أَبِيهِ مُحَمَّد بن السَّائِب، عَنِ القاسم بن الأصبغ بن نباته، قَالَ: حَدَّثَنِي من شهد الْحُسَيْن فِي عسكره أن حسينا حين غلب عَلَى عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قَالَ: فَقَالَ رجل من بنى ابان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتام إِلَيْهِ شيعته، قَالَ: وضرب فرسه، وأتبعه الناس حَتَّى حالوا بينه وبين الفرات، فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ أَظْمِهِ، قَالَ: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته فِي حنك الْحُسَيْن، قَالَ:
[فانتزع الْحُسَيْن السهم، ثُمَّ بسط كفيه فامتلأت دما، ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ إني أشكو إليك مَا يفعل بابن بنت نبيك، قَالَ:] فو الله إن مكث الرجل إلا يسيرا حَتَّى صب اللَّه عَلَيْهِ الظمأ، فجعل لا يروى.
قَالَ الْقَاسِم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد لَهُ فِيهِ السكر وعساس فِيهَا اللبن، وقلال فِيهَا الماء، وإنه ليقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ، فيعطى القلة أو العس كَانَ مرويا أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فِيهِ اضطجع الهنيهة ثُمَّ يقول: ويلكم! اسقونى قتلني الظما، قال: فو الله مَا لبث إلا يسيرا حَتَّى انقد بطنه انقداد بطن البعير.
قَالَ أَبُو مخنف فِي حديثه: ثُمَّ إن شمر بن ذي الجوشن أقبل فِي نفر نحو من عشرة من رجالة أهل الْكُوفَة قبل منزل الْحُسَيْن الَّذِي فِيهِ ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ويلكم! إن لَمْ يَكُنْ لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا فِي أمر دُنْيَاكُمْ أحرارا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم، فقال ابن ذي الجوشن] :
ذلك لك يا بن فاطمة، قَالَ: وأقدم عَلَيْهِ بالرجالة، مِنْهُمْ أَبُو الجنوب- واسمه عبد الرَّحْمَن الجعفي- والقشعم بن عَمْرو بن يَزِيدَ الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، فجعل شمر ابن ذي الجوشن يحرضهم، فمر بأبي الجنوب وَهُوَ شاك فِي السلاح فَقَالَ لَهُ:
أقدم عَلَيْهِ، قَالَ: وما يمنعك أن تقدم عَلَيْهِ أنت! فَقَالَ لَهُ شمر: ألي تقول ذا! قَالَ: وأنت لي تقول ذا! فاستبا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الجنوب- وَكَانَ شجاعا:
وَاللَّهِ لهممت أن أخضخض السنان فِي عينك، قَالَ: فانصرف عنه شمر وَقَالَ:
وَاللَّهِ لَئِنْ قدرت عَلَى أن أضرك لأضرنك قَالَ: ثُمَّ إن شمر بن ذي الجوشن أقبل فِي الرجالة نحو الْحُسَيْن، فأخذ الْحُسَيْن يشد عَلَيْهِم فينكشفون عنه.
ثُمَّ إِنَّهُمْ أحاطوا بِهِ إحاطة، وأقبل إِلَى الْحُسَيْن غلام من أهله، فأخذته أخته وعتب عَلَى عَبْد اللَّهِ بن عمار بعد ذَلِكَ مشهده قتل الْحُسَيْن، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عمار: إن لي عِنْدَ بني هاشم ليدا، قلنا لَهُ: وما يدك عندهم؟ قَالَ:
حملت على حسين بالرمح فانتهيت اليه، فو الله لو شئت لطعنته، ثُمَّ انصرفت عنه غير بعيد، وقلت: مَا أصنع بأن أتولى قتله! يقتله غيري قَالَ: فشد عَلَيْهِ رجالة ممن عن يمينه وشماله، فحمل عَلَى من عن يمينه حَتَّى ابذعروا، وعلى من عن شماله حَتَّى ابذعروا، وعليه قميص لَهُ من خز وهو معتم، قال: فو الله مَا رأيت مكسورا قط قَدْ قتل ولده وأهل بيته وأَصْحَابه أربط جأشا، وَلا أمضى جنانا وَلا أجرأ مقدما مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا رأيت قبله ولا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، قال: فو الله إنه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته، وكأني أنظر إِلَى قرطها يجول بين أذنيها وعاتقها وَهِيَ تقول: ليت السماء تطابقت عَلَى الأرض! وَقَدْ دنا عُمَر بن سَعْد من حُسَيْن، فَقَالَتْ: يَا عُمَر بن سَعْدٍ، أيقتل أَبُو عَبْد اللَّهِ وأنت تنظر إِلَيْهِ! قَالَ: فكأني أنظر إِلَى دموع عمر وَهِيَ تسيل عَلَى خديه ولحيته، قَالَ: وصرف بوجهه عنها.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم، قَالَ: كَانَتْ عَلَيْهِ جبة من خز، وَكَانَ معتما، وَكَانَ مخضوبا بالوسمة، قَالَ: وسمعته يقول قبل أن يقتل، وَهُوَ يقاتل عَلَى رجليه قتال الفارس الشجاع يتقى الرميه، ويفترض العورة، ويشد عَلَى الخيل، [وَهُوَ يقول:
أعلى قتلي تحاثون! أما وَاللَّهِ لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله اللَّه أسخط عَلَيْكُمْ لقتله مني، وايم اللَّه إني لأرجو أن يكرمني اللَّه بهوانكم، ثُمَّ ينتقم لي مِنْكُمْ من حَيْثُ لا تشعرون، أما وَاللَّهِ أن لو قَدْ قتلتموني لقد ألقى اللَّه بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثُمَّ لا يرضى لكم حَتَّى يضاعف لكم العذاب الأليم] قَالَ: وَلَقَدْ مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كَانَ يتقي بعضهم ببعض، ويحب هَؤُلاءِ أن يكفيهم هَؤُلاءِ، قَالَ: فنادى شمر فِي الناس: ويحكم، ماذا تنظرون بالرجل! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! قَالَ: فحمل عَلَيْهِ من كل جانب، فضربت كفه اليسرى ضربة، ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضرب عَلَى عاتقه، ثُمَّ انصرفوا وَهُوَ ينوء ويكبو، قَالَ: وحمل عَلَيْهِ فِي تِلَكَ الحال سنان بن أنس بن عَمْرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثُمَّ قَالَ لخولي بن يَزِيدَ الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل، فضعف فأرعد، فَقَالَ لَهُ سنان بن أنس: فت اللَّه عضديك، وأبان يديك! فنزل إِلَيْهِ فذبحه واحتز رأسه، ثُمَّ دفع إِلَى خولي بن يَزِيدَ، وَقَدْ ضرب قبل ذَلِكَ بالسيوف.
قَالَ أَبُو مخنف، [عن جَعْفَر بن مُحَمَّدِ بْنِ علي، قَالَ: وجد بالحسين ع حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة،] قَالَ:
وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الْحُسَيْن إلا شد عَلَيْهِ مخافة أن يغلب عَلَى رأسه، حَتَّى أخذ رأس الْحُسَيْن فدفعه إِلَى خولي، قَالَ: وسلب الْحُسَيْن مَا كَانَ عَلَيْهِ، فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته- وكانت من خز، وَكَانَ يسمى بعد قيس قطيفة- وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال لَهُ الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم، فوقع بعد ذَلِكَ إِلَى أهل حبيب بن بديل، قَالَ: ومال الناس عَلَى الورس والحلل والإبل وانتهبوها، قَالَ: ومال الناس عَلَى نساء الْحُسَيْن وثقله ومتاعه، فإن كَانَتِ المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حَتَّى تغلب عَلَيْهِ فيذهب بِهِ منها.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زهير بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الخثعمي، أن سويد بن عَمْرو بن أبي المطاع كَانَ صرع فأثخن، فوقع بين القتلى مثخنا، فسمعهم يقولون: قتل الْحُسَيْن، فوجد إفاقة، فإذا مَعَهُ سكين وَقَدْ أخذ سيفه، فقاتلهم بسكينه ساعة، ثُمَّ إنه قتل، قتله عروة بن بطار التغلبي، وزَيْد بن رقاد الجنبي، وَكَانَ آخر قتيل.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ، انتهيت إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن علي الأصغر وَهُوَ منبسط عَلَى فراش لَهُ، وَهُوَ مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن فِي رجالة مَعَهُ يقولون: أَلا نقتل هَذَا؟ قَالَ: فقلت: سبحان اللَّه! أنقتل الصبيان! إنما هَذَا صبي، قَالَ: فما زال ذَلِكَ دأبي أدفع عنه كل من جَاءَ حَتَّى جَاءَ عُمَر بن سَعْد، فَقَالَ:
أَلا لا يدخلن بيت هَؤُلاءِ النسوة أحد، وَلا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شَيْئًا فليرده عليهم قال: فو الله مَا رد أحد شَيْئًا، قَالَ: [فَقَالَ عَلِيّ بن الحسين: جزيت من رجل خيرا! فو الله لقد دفع اللَّه عني بمقالتك شرا،] قَالَ: فَقَالَ الناس لسنان بن أنس: قتلت حُسَيْن بن علي وابن فاطمة ابنة رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قتلت أعظم العرب خطرا، جَاءَ إِلَى هَؤُلاءِ يريد أن يزيلهم عن ملكهم، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم فِي قتل الْحُسَيْن كَانَ قليلا، فأقبل عَلَى فرسه، وَكَانَ شجاعا شاعرا، وكانت بِهِ لوثة، فأقبل حَتَّى وقف عَلَى باب فسطاط عُمَر بن سَعْدٍ، ثُمَّ نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضة وذهبا *** أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أما وأبا *** وخيرهم إذ ينسبون نسبا
فَقَالَ عُمَر بن سَعْد: أشهد إنك لمجنون مَا صححت قط، أدخلوه علي، فلما أدخل حذفه بالقضيب ثُمَّ قَالَ: يَا مجنون، أتتكلم بهذا الكلام! أما وَاللَّهِ لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك، قَالَ: وأخذ عُمَر بن سَعْد عقبة بن سمعان- وَكَانَ مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبية، وَهِيَ أم سكينة بنت الْحُسَيْن- فَقَالَ لَهُ: مَا أنت؟ قَالَ: أنا عبد مملوك، فخلي سبيله، فلم ينج مِنْهُمْ أحد غيره، إلا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كَانَ قَدْ نثر نبله وجثا عَلَى ركبتيه، فقاتل، فجاءه نفر من قومه، فَقَالُوا لَهُ: أنت آمن، أخرج إلينا، فخرج إِلَيْهِم، فلما قدم بهم عُمَر بن سَعْد عَلَى ابن زياد وأخبره خبره سيره إِلَى الزارة قَالَ: ثُمَّ إن عُمَر بن سَعْد نادى فِي أَصْحَابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة: مِنْهُمْ إِسْحَاق بن حيوة الحضرمي، وَهُوَ الَّذِي سلب قميص الْحُسَيْن- فبرص بعد- واحبش بن مرثد بن علقمه ابن سلامة الحضرمي، فأتوا فداسوا الْحُسَيْن بخيولهم حَتَّى رضوا ظهره وصدره، فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذَلِكَ بزمان أتاه سهم غرب، وَهُوَ واقف فِي قتال ففلق قلبه، فمات، قال: فقتل من اصحاب الحسين ع اثنان وسبعون رجلا، ودفن الْحُسَيْن وأَصْحَابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم، وقتل من أَصْحَاب عُمَر بن سَعْد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عَلَيْهِم عُمَر بن سَعْد ودفنهم، قَالَ: وما هُوَ إلا أن قتل الْحُسَيْن، فسرح برأسه من يومه ذَلِكَ مع خولي بن يَزِيدَ وحميد بن مسلم الأَزْدِيّ إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فأقبل بِهِ خولي فأراد القصر، فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة فِي منزله، وله امرأتان: امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تِلَكَ الليلة ليلة الحضرمية قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي أبي، عن النوار بنت مالك، قالت: أقبل خولي برأس الْحُسَيْن فوضعه تحت إجانة فِي الدار، ثُمَّ دخل البيت، فأوى إِلَى فراشه، فقلت لَهُ: مَا الخبر؟ مَا عندك؟ قَالَ: جئتك بغنى الدهر، هَذَا رأس الْحُسَيْن معك فِي الدار، قالت: فقلت: ويلك- جَاءَ الناس بالذهب والفضه وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا وَاللَّهِ لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشي، فخرجت إِلَى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إِلَيْهِ، وجلست أنظر، قالت: فو الله مَا زلت أنظر إِلَى نور يسطع مثل العمود من السماء إِلَى الإجانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف حولها.
قَالَ: فلما أصبح غدا بالرأس إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وأقام عُمَر بن سَعْد يومه ذَلِكَ والغد، ثُمَّ أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن فِي الناس بالرحيل إِلَى الْكُوفَةِ، وحمل مَعَهُ بنات الْحُسَيْن وأخواته ومن كَانَ مَعَهُ من الصبيان، وعلى ابن الْحُسَيْن مريض.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي أَبُو زهير العبسي، عن قرة بن قيس التميمي، قَالَ: نظرت إِلَى تِلَكَ النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن قَالَ: فاعترضتهن عَلَى فرس، فما رأيت منظرا من نسوة قط كَانَ أحسن من منظر رأيته منهن ذَلِكَ الْيَوْم، وَاللَّهِ لهن أحسن من مهايبرين.
قال: فما نسيت من الأشياء لا انس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الْحُسَيْن صريعا وَهِيَ تقول: يَا مُحَمَّداه، يَا مُحَمَّداه! صلى عَلَيْك ملائكة السماء، هَذَا الْحُسَيْن بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يَا مُحَمَّداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عَلَيْهَا الصبا قَالَ: فأبكت وَاللَّهِ كل عدو وصديق، قَالَ: وقطف رءوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حَتَّى قدموا بِهَا عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: دعاني عُمَر بن سَعْد فسرحني إِلَى أهله لأبشرهم بفتح اللَّه عَلَيْهِ وبعافيته، فأقبلت حَتَّى أتيت أهله، فأعلمتهم ذَلِكَ، ثُمَّ أقبلت حَتَّى أدخل فأجد ابن زياد قَدْ جلس لِلنَّاسِ، وأجد الوفد قَدْ قدموا عَلَيْهِ، فأدخلهم، وأذن لِلنَّاسِ، فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الْحُسَيْن موضوع بين يديه، وإذا هُوَ ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زَيْد بن أَرْقَمَ: لا ينجم عن نكته بالقضيب، قَالَ لَهُ: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى هاتين الشفتين يقبلهما، ثُمَّ انفضخ الشيخ يبكي، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: أبكى اللَّه عينيك! فو الله لولا أنك شيخ قَدْ خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قَالَ: فنهض فخرج، فلما خرج سمعت الناس يقولون: وَاللَّهِ لقد قَالَ زَيْد بن أَرْقَمَ قولا لو سمعه ابن زياد لقتله، قَالَ: فقلت: مَا قَالَ؟ قَالُوا: مر بنا وَهُوَ يقول: ملك عبد عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يَا معشر العرب العبيد بعد الْيَوْم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن رضي بالذل!
قَالَ: فلما دخل برأس حُسَيْن وصبيانه وأخواته ونسائه عَلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفت بِهَا إماؤها، فلما دخلت جلست، فَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد: من هَذِهِ الجالسة؟ فلم تكلمه، فَقَالَ ذَلِكَ ثلاثا، كل ذَلِكَ لا تكلمه، فَقَالَ بعض إمائها: هَذِهِ زينب ابنة فاطمة، قَالَ: فَقَالَ لها عُبَيْد اللَّهِ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فَقَالَتِ: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، قَالَ: فكيف رأيت صنع اللَّه بأهل بيتك! قالت: كتب عَلَيْهِم القتل، فبرزوا إِلَى مضاجعهم، وسيجمع اللَّه بينك وبينهم، فتحاجون إِلَيْهِ، وتخاصمون عنده، قَال: فغضب ابن زياد واستشاط، قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَمْرو ابن حريث: أصلح اللَّه الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها! إنها لا تؤاخذ بقول، وَلا تلام عَلَى خطل، فَقَالَ لها ابن زياد:
قَدْ أشفى اللَّه نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك، قَالَ:
فبكت ثُمَّ قالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هَذَا فقد اشتفيت، فَقَالَ لها عُبَيْد اللَّهِ:
هَذِهِ شجاعة، قَدْ لعمري كَانَ أبوك شاعرا شجاعا، قالت: مَا للمرأة والشجاعة! إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكن نفثي مَا أقول.
قَالَ أَبُو مخنف، عَنِ الْمُجَالِدِ بن سَعِيد: إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لما نظر إِلَى عَلِيّ بن الْحُسَيْن قَالَ لشرطي: انظر هل أدرك مَا يدرك الرجال؟ فكشط إزاره عنه، فَقَالَ: نعم، قَالَ انطلقوا بِهِ فاضربوا عنقه، فَقَالَ لَهُ على: إن كَانَ بينك وبين هَؤُلاءِ النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: تعال أنت، فبعثه معهن.
قَالَ أَبُو مخنف: وأما سُلَيْمَان بن أبي راشد، فَحَدَّثَنِي عن حميد بن مسلم [قَالَ: إني لقائم عِنْدَ ابن زياد حين عرض عَلَيْهِ عَلِيّ بن الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ:
مَا اسمك؟ قَالَ: أنا عَلِيّ بن الْحُسَيْن، قال: او لم يقتل اللَّه عَلِيّ بن الْحُسَيْن! فسكت، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: قَدْ كَانَ لي أخ يقال لَهُ أَيْضًا علي، فقتله الناس، قَالَ: إن اللَّه قَدْ قتله، قَالَ: فسكت علي، فَقَالَ لَهُ: مَا لك لا تتكلم! قَالَ: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا} [الزمر: 42] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللهِ} [آل عمران: 145] ، قَالَ: أنت وَاللَّهِ مِنْهُمْ، ويحك! انظروا هل أدرك؟ وَاللَّهِ إني لأحسبه رجلا، قَالَ: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، فَقَالَ: نعم قَدْ أدرك، فَقَالَ: اقتله، فَقَالَ عَلِيّ بن الْحُسَيْن:
من توكل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت بِهِ زينب عمته فقالت: يا بن زياد، حسبك منا، أما رويت من دمائنا! وهل أبقيت منا أحدا! قَالَ: فاعتنقته فَقَالَتْ: أسألك بِاللَّهِ إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني مَعَهُ! قَالَ: وناداه علي فَقَالَ: يا بن زياد، إن كَانَتْ بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإِسْلام،] قَالَ: فنظر إِلَيْهَا ساعة، ثُمَّ نظر إِلَى القوم فَقَالَ: عجبا للرحم! وَاللَّهِ إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها مَعَهُ، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.
قَالَ حميد بن مسلم: لما دخل عُبَيْد اللَّهِ القصر ودخل الناس، نودي:
الصَّلاة جامعة! فاجتمع الناس فِي المسجد الأعظم، فصعد الْمِنْبَر ابن زياد فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي أظهر الحق وأهله، ونصر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب، الْحُسَيْن بن علي وشيعته، فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حَتَّى وثب إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بن عفيف الأَزْدِيّ ثُمَّ الغامدي، ثُمَّ أحد بني والبة- وَكَانَ من شيعة علي كرم اللَّه وجهه، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كَانَ يوم صفين ضرب عَلَى رأسه ضربة، وأخرى عَلَى حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فِيهِ إِلَى الليل ثُمَّ ينصرف- قَالَ: فلما سمع مقاله ابن زياد، قال: يا بن مرجانة، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذى ولاك وأبوه، يا بن مرجانة، أتقتلون أبناء النبيين، وتكلمون بكلام الصديقين! فَقَالَ ابن زياد: علي بِهِ، قَالَ: فوثبت عَلَيْهِ الجلاوزة فأخذوه، قَالَ: فنادى بشعار الأزد: يَا مبرور- قَالَ: وعبد الرَّحْمَن بن مخنف الأَزْدِيّ جالس- فَقَالَ:
ويح غيرك! أهلكت نفسك، وأهلكت قومك، قَالَ: وحاضر الْكُوفَة يَوْمَئِذٍ من الأزد سبعمائة مقاتل، قَالَ: فوثب إِلَيْهِ فتية من الأزد فانتزعوه فأتوا بِهِ أهله، فأرسل إِلَيْهِ من أتاه بِهِ، فقتله وأمر بصلبه فِي السبخة، فصلب هنالك.
قَالَ أَبُو مخنف: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ بن زياد نصب رأس الْحُسَيْن بالكوفة، فجعل يدار بِهِ فِي الْكُوفَة، ثُمَّ دعا زحر بن قيس فسرح مَعَهُ برأس الْحُسَيْن ورءوس أَصْحَابه إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَكَانَ مع زحر أَبُو بردة بن عوف الأَزْدِيّ وطارق بن أبي ظبيان الأَزْدِيّ، فخرجوا حَتَّى قدموا بِهَا الشام عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة.
قَالَ هِشَام: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْن روح بْن زنباع الجذامي، عَنْ أَبِيهِ، عن الغاز بن رَبِيعَة الجرشي، من حمير، قال: والله انا لعند يزيد ابن مُعَاوِيَة بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حَتَّى دخل عَلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: ويلك! مَا وراءك؟ وما عندك؟ فَقَالَ: أبشر يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بفتح اللَّه ونصره، ورد علينا الْحُسَيْن بن علي فِي ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إِلَيْهِم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا عَلَى حكم الأمير عُبَيْد اللَّهِ بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال عَلَى الاستسلام، فعدونا عَلَيْهِم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حَتَّى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، يهربون إِلَى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ إلا جزر جزور أو نومة قائل حَتَّى أتينا عَلَى آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفى عَلَيْهِم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب قَالَ: فدمعت عين يَزِيد، وَقَالَ: قَدْ كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن، لعن اللَّه ابن سمية! أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم اللَّه الْحُسَيْن! ولم يصله بشيء.
قَالَ: ثُمَّ إن عُبَيْد اللَّهِ أمر بنساء الْحُسَيْن وصبيانه فجهزن، وامر بعلى ابن الْحُسَيْن فغل بغل إِلَى عنقه، ثُمَّ سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي، عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حَتَّى قدموا عَلَى يَزِيد، فلم يكن عَلِيّ بن الْحُسَيْن يكلم أحدا منهما فِي الطريق كلمة حَتَّى بلغوا، فلما انتهوا إِلَى باب يَزِيد رفع محفز بن ثعلبة صوته، فَقَالَ: هَذَا محفز بن ثعلبة أتى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ باللئام الفجرة، قَالَ: فأجابه يَزِيد بن مُعَاوِيَة: مَا ولدت أم محفز شر وألأم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي الصقعب بن زهير، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عبد الرَّحْمَن مولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، قَالَ: لما وضعت الرءوس بين يدي يَزِيد- رأس الْحُسَيْن وأهل بيته وأَصْحَابه- قَالَ يَزِيد:
يفلقن هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
أما وَاللَّهِ يَا حُسَيْن، لو أنا صاحبك مَا قتلتك.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَر العبسي، عن أبي عمارة العبسي، قَالَ:
فَقَالَ يَحْيَى بن الحكم أخو مَرْوَان بن الحكم:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة *** من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى *** وبنت رسول الله ليس لها نسل
قَالَ: فضرب يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي صدر يَحْيَى بن الحكم وَقَالَ: اسكت.
[قَالَ: ولما جلس يَزِيد بن مُعَاوِيَة دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثُمَّ دعا بعلي بن الْحُسَيْن وصبيان الْحُسَيْن ونسائه، فأدخلوا عَلَيْهِ والناس ينظرون، فَقَالَ يَزِيد لعلي: يَا علي، أبوك الَّذِي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع اللَّه بِهِ مَا قَدْ رأيت! قَالَ: فَقَالَ علي:
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22] ، فَقَالَ يَزِيد لابنه خَالِد: اردد عَلَيْهِ، قَالَ: فما درى خَالِد مَا يرد عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ يَزِيد: قل: {وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] ، ثُمَّ سكت عنه،] قَالَ: ثُمَّ دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فَقَالَ: قبح اللَّه ابن مرجانة! لو كَانَتْ بينه وبينكم رحم أو قرابة مَا فعل هَذَا بكم، وَلا بعث بكم هكذا.
قَالَ أَبُو مخنف، عن الْحَارِث بن كعب، عن فاطمة بنت علي، قالت:
لما أجلسنا بين يدي يَزِيد بن مُعَاوِيَة رق لنا، وأمر لنا بشيء، وألطفنا، قالت: ثُمَّ إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إِلَى يَزِيد فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ- يعنيني، وكنت جارية وضيئة- فأرعدت وفرقت، وظننت أن ذَلِكَ جائز لَهُمْ، وأخذت بثياب أختي زينب، قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذَلِكَ لا يكون، فَقَالَتْ:
كذبت وَاللَّهِ ولؤمت! مَا ذَلِكَ لك وله، فغضب يَزِيد، فَقَالَ: كذبت وَاللَّهِ، إن ذَلِكَ لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت، قالت: كلا وَاللَّهِ، مَا جعل اللَّه ذَلِكَ لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا، قالت: فغضب يزيد واستطار، ثُمَّ قَالَ: إياي تستقبلين بهذا! إنما خرج من الدين ابوك وأخوك، فَقَالَتْ زينب: بدين اللَّه ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك، قَالَ: كذبت يَا عدوة اللَّه، قالت: أنت أَمِير مسلط، تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك، قالت: فو الله لكأنه استحيا، فسكت، ثُمَّ عاد الشامي فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي هَذِهِ الجارية، قَالَ: اعزب، وهب اللَّه لك حتفا قاضيا! قالت: ثُمَّ قَالَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة: يَا نعمان بن بشير:
جهزهم بِمَا يصلحهم، وابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا، وابعث مَعَهُ خيلا وأعوانا فيسير بهم إِلَى الْمَدِينَة، ثُمَّ أمر بالنسوة أن ينزلن فِي دار عَلَى حدة، معهن مَا يصلحهن، وأخوهن معهن عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فِي الدار الَّتِي هن فِيهَا قَالَ: فخرجن حَتَّى دخلن دار يَزِيد فلم تبق من آل مُعَاوِيَة امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح عَلَى الْحُسَيْن، فأقاموا عَلَيْهِ المناحة ثلاثا، وَكَانَ يَزِيد لا يتغدى وَلا يتعشى إلا دعا عَلِيّ بن الْحُسَيْن إِلَيْهِ، قال: فدعاه ذات يوم، ودعا عمر بن الْحَسَن بن علي وَهُوَ غلام صغير، فقال لعمر بن الْحَسَن: أتقاتل هَذَا الفتى؟ يعني خالدا ابنه، قَالَ: لا، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا، ثُمَّ أقاتله، فَقَالَ لَهُ يَزِيد، وأخذه فضمه إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! قَالَ: ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يَزِيد عَلِيّ بن الْحُسَيْن ثُمَّ قَالَ: لعن اللَّه ابن مرجانة، أما وَاللَّهِ لو أني صاحبه مَا سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إِيَّاهُ، ولدفعت الحتف عنه بكل مَا استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّه قضى مَا رأيت، كاتبني وأنه كل حاجة تكون لك، قَالَ: وكساهم وأوصى بهم ذَلِكَ الرسول، قَالَ: فخرج بهم وَكَانَ يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حَيْثُ لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عَنْهُمْ وتفرق هُوَ وأَصْحَابه حولهم كهيئة الحرس لَهُمْ، وينزل مِنْهُمْ بحيث إذا أراد إنسان مِنْهُمْ وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلم يزل ينازلهم فِي الطريق هكذا، ويسألهم عن حوائجهم، ويلطفهم حَتَّى دخلوا الْمَدِينَة.
وَقَالَ الْحَارِث بن كعب: فَقَالَتْ لي فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: يَا أخية، لقد أحسن هَذَا الرجل الشامي إلينا فِي صحبتنا، فهل لك أن نصله؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا معنا شَيْء نصله بِهِ إلا حلينا، قالت لها: فنعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي وأخذت أختي سوارها ودملجها، فبعثنا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، واعتذرنا إِلَيْهِ، وقلنا لَهُ: هَذَا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل، قَالَ: فَقَالَ: لو كَانَ الَّذِي صنعت إنما هُوَ للدنيا كَانَ فِي حليكن مَا يرضيني ودونه، ولكن وَاللَّهِ مَا فعلته إلا لِلَّهِ، ولقرابتكم مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ هِشَام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي فإنه قَالَ: لما قتل الْحُسَيْن وجيء بالأثقال والأسارى حَتَّى وردوا بهم الْكُوفَة إِلَى عُبَيْد اللَّهِ، فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر فِي السجن، مَعَهُ كتاب مربوط، وفي الكتاب خرج البريد بأمركم فِي يوم كذا وكذا إِلَى يَزِيد بن مُعَاوِيَة، وَهُوَ سائر كذا وكذا يَوْمًا، وراجع فِي كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فلما كَانَ قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قَدْ ألقي فِي السجن، وَمَعَهُ كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا فَجَاءَ البريد ولم يسمع التكبير، وجاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي قَالَ: فدعا عُبَيْد الله ابن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن، فَقَالَ: انطلقوا بالثقل والرأس إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة، قَالَ: فخرجوا حَتَّى قدموا عَلَى يَزِيد، فقام محفز بن ثعلبة فنادى بأعلى صوته: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم، فَقَالَ يَزِيد: مَا ولدت أم محفز ألأم وأحمق، ولكنه قاطع ظالم، قَالَ: فلما نظر يَزِيد إِلَى رأس الْحُسَيْن، قَالَ:
يفلقن هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
ثُمَّ قَالَ: أتدرون من أين أتي هَذَا؟ قَالَ: أبي علي خير من أَبِيهِ، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير مِنْهُ وأحق بهذا الأمر مِنْهُ، فأما قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاج أبي أباه، وعلم الناس أيهما حكم لَهُ، وأما قوله: أمي خير من أمه، فلعمري فاطمة ابنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خير من أمي، وأما قوله: جدي خير من جده، فلعمري مَا أحد يؤمن بِاللَّهِ واليوم الآخر يرى لرسول اللَّه فينا عدلا وَلا ندا، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] ثُمَّ أدخل نساء الْحُسَيْن عَلَى يَزِيد، فصاح نساء آل يَزِيد وبنات مُعَاوِيَة وأهله وولولن.
ثُمَّ إنهن أدخلن عَلَى يَزِيد، فَقَالَتْ فاطمة بنت الْحُسَيْن- وكانت أكبر من سكينة: أبنات رَسُول اللَّهِ سبايا يَا يَزِيد! فَقَالَ يَزِيد: يَا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره، قالت: وَاللَّهِ مَا ترك لنا خرص، قَالَ: يا ابنه أخي ما آت إليك أعظم مما أخذ مِنْكَ، ثُمَّ أخرجن فأدخلن دار يَزِيد بن مُعَاوِيَة، فلم تبق امرأة من آل يَزِيد إلا أتتهن، وأقمن المأتم، وأرسل يَزِيد إِلَى كل امرأة: ماذا أخذ لك؟ وليس منهن امرأة تدعي شَيْئًا بالغا مَا بلغ إلا قَدْ أضعفه لها، فكانت سكينة تقول: مَا رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد ابن مُعَاوِيَة [ثُمَّ أدخل الأسارى إِلَيْهِ وفيهم عَلِيّ بن الْحُسَيْن، فَقَالَ لَهُ يَزِيد:
إيه يَا علي! فَقَالَ علي: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23] فَقَالَ يَزِيد: {وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ثُمَّ جهزه وأعطاه مالا، وسرحه إِلَى الْمَدِينَة قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حمزة الثمالي، عن عَبْد اللَّهِ الثمالي، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ بخيت، قَالَ: لما أقبل وفد أهل الْكُوفَة برأس الْحُسَيْن دخلوا مسجد دمشق، فَقَالَ لَهُمْ مَرْوَان بن الحكم: كيف صنعتم؟
قَالُوا: ورد علينا مِنْهُمْ ثمانية عشر رجلا، فأتينا وَاللَّهِ عَلَى آخرهم، وهذه الرءوس والسبايا، فوثب مَرْوَان فانصرف، وأتاهم أخوه يَحْيَى بن الحكم، فَقَالَ:
مَا صنعتم؟ فأعادوا عَلَيْهِ الكلام، فَقَالَ: حجبتم عن مُحَمَّد يوم الْقِيَامَة، لن أجامعكم عَلَى أمر أبدا ثُمَّ قام فانصرف، ودخلوا عَلَى يَزِيد فوضعوا الرأس بين يديه، وحدثوه الحديث قَالَ: فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله ابن عَامِر بن كريز- وكانت تحت يَزِيد بن مُعَاوِيَة- فتقنعت بثوبها، وخرجت فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أرأس الْحُسَيْن بن فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ! قَالَ: نعم فأعولي عَلَيْهِ، وحدي عَلَى ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصريحة قريش، عجل عَلَيْهِ ابن زياد فقتله قتله اللَّه! ثُمَّ أذن لِلنَّاسِ فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يَزِيد قضيب فهو ينكت بِهِ فِي ثغره، ثُمَّ قَالَ:
إن هَذَا وإيانا كما قَالَ الحصين بن الحمام المري:
يفلقن هاما من رجال أحبة *** إلينا وهم كَانُوا أعق وأظلما
قَالَ: فَقَالَ رجل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لَهُ أَبُو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين! اما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا، لربما رأيت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه، أما إنك يَا يَزِيد تجيء يوم الْقِيَامَة وابن زياد شفيعك، ويجيء هَذَا يوم القيامه ومحمد صلى الله عليه وسلم شفيعه، ثُمَّ قام فولى.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عوانة بن الحكم، قَالَ: لما قتل عُبَيْد اللَّهِ بن زياد الْحُسَيْن بن علي وجيء برأسه إِلَيْهِ، دعا عَبْد الْمَلِكِ بن أبي الْحَارِث السلمي فَقَالَ: انطلق حَتَّى تقدم الْمَدِينَة عَلَى عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ فبشره بقتل الْحُسَيْن- وَكَانَ عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ أَمِير الْمَدِينَة يَوْمَئِذٍ- قَالَ: فذهب ليعتل لَهُ، فزجره- وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ لا يصطلى بناره- فَقَالَ: انطلق حَتَّى تأتي الْمَدِينَة، وَلا يسبقك الخبر، وأعطاه دنانير، وَقَالَ: لا تعتل، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: فقدمت الْمَدِينَة، فلقيني رجل من قريش، فَقَالَ: مَا الخبر؟ فقلت: الخبر عِنْدَ الأمير، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتل الحسين بن على، فدخلت عَلَى عَمْرو بن سَعِيدٍ فَقَالَ:
مَا وراءك؟ فقلت: مَا سر الأمير، قتل الْحُسَيْن بن علي، فَقَالَ: ناد بقتله، فناديت بقتله، فلم أسمع وَاللَّهِ واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم فِي دورهن عَلَى الْحُسَيْن، فَقَالَ عَمْرو بن سَعِيد وضحك:
عجت نساء بني زياد عجة *** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
والأرنب: وقعة كَانَتْ لبني زبيد عَلَى بني زياد من بني الْحَارِث بن كعب، من رهط عبد المدان، وهذا البيت لعمرو بن معديكرب، ثُمَّ قَالَ عَمْرو:
هَذِهِ واعية بواعية عُثْمَان بن عَفَّانَ، ثُمَّ صعد الْمِنْبَر فأعلم الناس قتله.
قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، قَالَ: لما بلغ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مقتل ابنيه مع الْحُسَيْن، دخل عَلَيْهِ بعض مواليه والناس يعزونه- قَالَ: وَلا أظن مولاه ذَلِكَ إلا أبا اللسلاس- فَقَالَ: هَذَا مَا لقينا ودخل علينا من الْحُسَيْن! قَالَ: فحذفه عَبْد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا بن اللخناء، أللحسين تقول هَذَا! وَاللَّهِ لو شهدته لأحببت الا أفارقه حَتَّى أقتل مَعَهُ، وَاللَّهِ إنه لمما يسخي بنفسي عنهما، ويهون علي المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين لَهُ، صابرين مَعَهُ ثُمَّ أقبل عَلَى جلسائه فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مصرع الحسين، الا تكن آست حسينا يدي، فقد آساه ولدي قَالَ: ولما أتى أهل الْمَدِينَة مقتل الْحُسَيْن خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وَهِيَ حاسرة تلوي بثوبها وَهِيَ تقول: ماذا تقولون إن
قَالَ النَّبِيّ لكم *** ماذا فعلتم وَأَنْتُمْ آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي *** مِنْهُمْ أسارى ومنهم ضرجوا بدم!
قَالَ هِشَام: عن عوانة، قَالَ: قَالَ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد لعمر بن سَعْد بعد قتله الْحُسَيْن: يَا عمر، أين الكتاب الَّذِي كتبت بِهِ إليك فِي قتل الْحُسَيْن؟
قَالَ: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قَالَ: لتجيئن بِهِ، قَالَ: ضاع، قَالَ: وَاللَّهِ لتجيئني بِهِ، قَالَ: ترك وَاللَّهِ يقرأ عَلَى عجائز قريش اعتذارا إليهن بِالْمَدِينَةِ، أما وَاللَّهِ لقد نصحتك فِي حُسَيْن نصيحه لو نصحتها ابى سعد ابن أَبِي وَقَّاص كنت قَدْ أديت حقه، قَالَ عُثْمَان بن زياد أخو عُبَيْد اللَّهِ:
صدق وَاللَّهِ، لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إِلَى يوم القيامه وان حسينا لم يقتل، قال: فو الله مَا أنكر ذَلِكَ عَلَيْهِ عُبَيْد اللَّهِ.
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي بعض أَصْحَابنا، عن عَمْرو بن أبي المقدام، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَمْرو بن عِكْرِمَة، قَالَ: أصبحنا صبيحة قتل الْحُسَيْن بِالْمَدِينَةِ، فإذا مولى لنا يحدثنا، قَالَ: سمعت البارحة مناديا ينادي وَهُوَ يقول:
أيها القاتلون جهلا حسينا *** أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عَلَيْكُمْ *** من نبي وملاك وقبيل
قَدْ لعنتم عَلَى لسان ابن دَاوُد *** وموسى وحامل الإنجيل
قَالَ هِشَام: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حيزوم الكلبي، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سمعت هَذَا الصوت.
ذكر أسماء من قتل من بني هاشم مع الحسين ع وعدد من قتل من كل قبيلة من القبائل الَّتِي قاتلته
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: ولما قتل الحسين بن على ع جيء برءوس من قتل مَعَهُ من أهل بيته وشيعته وأنصاره إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأسا.
قَالَ: وقتل الحسين- وأمه فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله سنان بن أنس النخعي ثُمَّ الأصبحي وجاء برأسه خولي بن يَزِيدَ، وقتل العباس بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين ابنة حزام بن خَالِد بن رَبِيعَة بن الوحيد، قتله زَيْد بن رقاد الجنبي- وحكيم بن الطفيل السنبسي، وقتل جَعْفَر بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أيضا- وقتل عبد الله بن على ابن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أَيْضًا- وقتل عُثْمَان بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين أَيْضًا- رماه خولي بن يَزِيدَ بسهم فقتله، وقتل مُحَمَّد بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله رجل من بني أبان بن دارم، وقتل أَبُو بَكْر بن عَلِيّ بن أبي طالب- وأمه لَيْلَى ابنة مسعود بن خَالِد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، وَقَدْ شك فِي قتله- وقتل على ابن الْحُسَيْن بن علي- وأمه لَيْلَى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها مَيْمُونَة ابنة أبي سُفْيَان بن حرب- قتله مرة بن منقذ بن النُّعْمَانِ العبدي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الْحُسَيْن بن على- وأمه الرباب ابنه إمرئ القيس ابن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب- قتله هانئ ابن ثبيت الحضرمي، واستصغر عَلِيّ بن الْحُسَيْن بن علي فلم يقتل، وقتل أَبُو بَكْر بن الْحَسَن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله عَبْد اللَّهِ بن عُقْبَةَ الغنوي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن الْحَسَن بن عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد- قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم، وقتل الْقَاسِم بن الْحَسَن بن علي- وأمه أم ولد- قتله سعد بن عَمْرو بن نفيل الأزدي، وقتل عون بن عبد الله ابن جَعْفَر بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن رَبِيعَة بن رياح من بني فزارة- قتله عَبْد اللَّهِ بن قطبه الطائي ثم النبهاني، وقتل محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- وأمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن رَبِيعَة بن عائذ بن الْحَارِث بن تيم اللَّه بن ثعلبة من بكر بن وائل- قتله عامر ابن نهشل التيمي، وقتل جَعْفَر بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم البنين ابنة الشقر بن الهضاب- قتله بشر بن حوط الهمداني، وقتل عبد الرحمن ابن عقيل- وأمه أم ولد- قتله عُثْمَان بن خَالِد بن أسير الجهني، وقتل عَبْد اللَّهِ بن عقيل بن أبي طالب- وأمه أم ولد- رماه عَمْرو بن صبيح الصدائي فقتله، وقتل مسلم بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه أم ولد، ولد بالكوفة- وقتل عَبْد اللَّهِ بن مسلم بن عقيل بن أَبِي طَالِبٍ- وأمه رقية ابنة عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وأمها أم ولد- قتله عَمْرو بن صبيح الصدائي، وقيل: قتله اسيد بن مالك الحضرمي، وقتل مُحَمَّد بن أبي سَعِيد بن عقيل- وأمه أم ولد- قتله لقيط بن ياسر الجهني، واستصغر الْحَسَن بن الْحَسَن بن علي، وأمه خولة ابنة منظور بن زبان بن سيار الفزارى، واستصغر عمر بن الحسن بن على فترك فلم يقتل- وأمه أم ولد- وقتل من الموالي سُلَيْمَان مولى الْحُسَيْن بن علي، قتله سُلَيْمَان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الْحُسَيْن بن علي، وقتل عَبْد اللَّهِ بن بقطر رضيع الْحُسَيْن بن علي.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي عبد الرَّحْمَن بن جندب الأَزْدِيّ، أن عُبَيْد الله ابن زياد بعد قتل الْحُسَيْن تفقد أشراف أهل الْكُوفَة، فلم ير عُبَيْد اللَّهِ بن الحر، ثُمَّ جاءه بعد أيام حَتَّى دخل عَلَيْهِ، فقال: اين كنت يا بن الحر؟ قَالَ:
كنت مريضا، قَالَ: مريض القلب، أو مريض البدن! قَالَ: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من اللَّه علي بالعافية، فَقَالَ لَهُ ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا، قَالَ: لو كنت مع عدوك لرئى مكاني، وما كَانَ مثل مكاني يخفى، قَالَ: وغفل عنه ابن زياد غفلة، فخرج ابن الحر فقعد عَلَى فرسه، فَقَالَ ابن زياد: أين ابن الحر؟ قَالُوا: خرج الساعة، قَالَ:
علي بِهِ، فأحضرت الشرط فَقَالُوا لَهُ: أجب الأمير، فدفع فرسه ثُمَّ قَالَ:
أبلغوه أني لا آتيه وَاللَّهِ طائعا أبدا، ثُمَّ خرج حَتَّى أتى منزل أحمر بن زياد الطَّائِيّ فاجتمع إِلَيْهِ فِي منزله أَصْحَابه، ثُمَّ خرج حَتَّى أتى كربلاء فنظر إِلَى مصارع القوم، فاستغفر لَهُمْ هُوَ وأَصْحَابه، ثُمَّ مضى حَتَّى نزل المدائن، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
يقول أَمِير غادر حق غادر: *** أَلا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه!
فيا ندمي أَلا أكون نصرته *** أَلا كل نفس لا تسدد نادمه
وإني لأني لم أكن من حماته *** لذو حسرة مَا إن تفارق لازمه
سقى اللَّه أرواح الَّذِينَ تأزروا *** عَلَى نصره سقيا من الغيث دائمه
وقفت على أجداثهم ومجالهم *** فكاد الحشا ينفض والعين ساجمه
لعمري لقد كَانُوا مصاليت فِي الوغى *** سراعا إِلَى الهيجا حماة خضارمه
تآسوا عَلَى نصر ابن بنت نبيهم *** بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
فإن يقتلوا فكل نفس تقية *** عَلَى الأرض قَدْ أضحت لذلك واجمه
وما إن رَأَى الراءون أفضل مِنْهُمُ *** لدى الموت سادات وزهرا قماقمه
أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا *** فدع خطة ليست لنا بملائمه!
لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم *** فكم ناقم منا عَلَيْكُمْ وناقمه
أهم مرارا أن أسير بجحفل *** إِلَى فئة زاغت عن الحق ظالمه
فكفوا وإلا ذدتكم فِي كتائب *** أشد عَلَيْكُمْ من زحوف الديالمة.
ذكر خبر مقتل مرداس بن عمرو بن حدير
وفي هَذِهِ السنة قتل أَبُو بلال مِرْدَاس بن عَمْرو بن حدير، من رَبِيعَة بن حنظله
ذكر سبب مقتله:
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: قَدْ تقدم ذكر سبب خروجه، وما كَانَ من توجيه عُبَيْد اللَّهِ بن زياد إِلَيْهِ أسلم بن زرعة الكلابي فِي ألفي رجل، والتقائهم بآسك وهزيمة أسلم وجيشه مِنْهُ ومن أَصْحَابه فِيمَا مضى من كتابنا هَذَا.
ولما هزم مِرْدَاس أَبُو بلال أسلم بن زرعة، وبلغ عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، سرح إِلَيْهِ- فِيمَا حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مخنف، قال: حدثنى ابو المخارق الراسبى- ثلاثة آلاف، عَلَيْهِم عباد بن الأخضر التميمي، فأتبعه عباد يطلبه حَتَّى لحقه بتوج، فصف لَهُ، فحمل عَلَيْهِم أَبُو بلال وأَصْحَابه، فثبتوا وتعطف الناس عَلَيْهِم فلم يكونوا شَيْئًا وَقَالَ أَبُو بلال لأَصْحَابه: من كَانَ مِنْكُمْ إنما خرج للدنيا فليذهب، ومن كَانَ مِنْكُمْ إنما أراد الآخرة ولقاء ربه فقد سبق ذَلِكَ إِلَيْهِ، وقرأ: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى:20] ، فنزل ونزل أَصْحَابه مَعَهُ لم يفارقه مِنْهُمْ إنسان، فقتلوا من عِنْدَ آخرهم، ورجع عباد بن الأخضر، وَذَلِكَ الجيش الَّذِي كَانَ مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَة، وأقبل عبيدة بن هلال مَعَهُ ثلاثة نفر هُوَ رابعهم، فرصد عباد بن الأخضر، فأقبل يريد قصر الإمارة وَهُوَ مردف ابنا لَهُ غلاما، صغيرا، فَقَالُوا: يَا عَبْد اللَّهِ، قف حَتَّى نستفتيك، فوقف، فَقَالُوا: نحن إخوة أربعة، قتل أخونا، فما ترى؟ قَالَ: استعدوا الأمير، قَالُوا: قَدِ استعديناه فلم يعدنا، قَالَ: فاقتلوه، قتله اللَّه! فوثبوا عَلَيْهِ فحكموا، والقى ابنه فقتلوه
ذكر خبر ولايه سلم بن زياد على خراسان وسجستان
وفي هَذِهِ السنة ولى يَزِيد بن مُعَاوِيَة سلم بن زياد سجستان وخراسان.
ذكر سبب توليته إِيَّاهُ:
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بن مُحَمَّد، قال: حدثنا مسلمة بن مُحَارِبِ بْنِ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: وَفَدَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَبَا حَرْبٍ، أُوَلِّيكَ عَمَلَ أَخَوَيْكَ: عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَبَّادٍ؟ فَقَالَ: مَا أَحَبَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلاهُ خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَوَجَّهَ سَلْمٌ الْحَارِثَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْحَارِثِيَّ جَدَّ عِيسَى بْنَ شَبِيبٍ مِنَ الشَّامِ إِلَى خُرَاسَانَ، وقَدِمَ سَلْمٌ الْبَصْرَةَ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَخَذَ الْحَارِثَ بْنَ قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ فَحَبَسَهُ، وَضَرَبَ ابْنَهُ شَبِيبًا، وَأَقَامَهُ فِي سَرَاوِيلَ، وَوَجَّهَ أَخَاهُ يَزِيدَ بْنَ زِيَادٍ إِلَى سِجِسْتَانَ فَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ إِلَى عَبَّادٍ أَخِيهِ- وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا- يُخْبِرُهُ بِوِلايَةِ سَلْمٍ، فَقَسَّمَ عَبَّادٌ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَبِيدِهِ، وَفَضَلَ فَضْلٌ فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ أَرَادَ سَلَفًا فَلْيَأْخُذْ، فَأَسْلَفَ كُلَّ مَنْ أَتَاهُ، وَخَرَجَ عَبَّادٌ عَنْ سِجِسْتَانَ فَلَمَّا كَانَ بِجِيرُفْتَ بَلَغَهُ مَكَانُ سَلْمٍ- وَكَانَ بَيْنَهُمَا جَبَلٌ- فَعَدَلَ عَنْهُ، فَذَهَبَ لِعَبَّادٍ تِلَكَ اللَّيْلَةِ أَلْفُ مَمْلُوكٍ، أَقَلُّ مَا مَعَ أَحَدِهِمْ عَشَرَةُ آلافٍ قَالَ: فَأَخَذَ عَبَّادٌ عَلَى فَارِسَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَيْنَ الْمَالَ؟ قَالَ كُنْتُ صَاحِبَ ثَغْرٍ، فَقَسَّمْتُ مَا أَصَبْتُ بَيْنَ النَّاسِ قَالَ: وَلَمَّا شَخَصَ سَلْمٌ إِلَى خُرَاسَانَ شَخَصَ مَعَهُ عِمْرَانُ بْنُ الْفَصِيلِ الْبُرْجِمُيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وَالْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ، وَحَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ، وابو حزابه الْوَلِيدُ بْنُ نَهِيكٍ أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ الْعَدَوَانِيُّ حَلِيفُ هُذَيْلٍ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ فِرْسَانِ الْبَصْرَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، فَقَدِمَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ بِكِتَابِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِنُخْبَةِ أَلْفَيْ رَجُلٍ يَنْتَخِبُهُمْ- وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ نُخْبَةُ سِتَّةِ آلافٍ- قَالَ: فَكَانَ سَلْمٌ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ وَالْفِرْسَانَ وَرَغِبَ قَوْمٌ فِي الْجِهَادِ فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَخْرَجَهُ سَلْمٌ حَنْظَلَةُ بْنُ عَرَادَةَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ: دَعْهُ لِي، قَالَ: هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك، فَإِنِ اخْتَارَكَ فَهُوَ لَكَ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَهُوَ لِي، قَالَ: فَاخْتَارَ سَلْمًا، وَكَانَ النَّاسُ يُكَلِّمُونَ سَلْمًا وَيَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهُمْ مَعَهُ، وَكَانَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ يَأْتِي الدِّيوَانَ فَيَقُولُ لَهُ الْكَاتِبُ: يَا أَبَا الصَّهْبَاءِ، أَلا أُثْبِتُ اسمك، فانه وجه فيه جهاد وفضل؟ فَيَقُولُ لَهُ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ، فَلَمْ يَزَلْ يدافع حتى فَرَغَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مُعَاذَةُ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيَّةُ: أَلا تَكْتُبُ نَفْسَكَ؟ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ، ثُمَّ صَلَّى وَاسْتَخَارَ اللَّهَ، قَالَ: فَرَأَى فِي مَنَامِهِ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَإِنَّكَ تَرْبَحُ وَتُفْلِحُ وَتَنْجَحُ، فَأَتَى الْكَاتِبَ فَقَالَ لَهُ: أَثْبِتْنِي، قَالَ: قَدْ فَرَغْنَا وَلَنْ أَدَعَكَ، فَأَثْبَتَهُ وَابْنَهُ، فَخَرَجَ سَلْمٌ فَصَيَّرَهُ سَلْمٌ مَعَ يَزِيدَ بْنَ زِيَادٍ فَسَارَ إِلَى سِجِسْتَانَ.
قَالَ: وَخَرَجَ سَلْمٌ وَأَخْرَجَ مَعَهُ أُمَّ مُحَمَّدٍ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ، وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا النَّهْرُ.
قَالَ: وَذَكَرَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ وَأَبُو حَفْصٍ الأَزْدِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَفْصٍ الْكِرْمَانِيِّ أَنَّ عُمَّالَ خُرَاسَانَ كَانُوا يَغْزُونَ، فَإِذَا دَخَلَ الشِّتَاءُ قَفَلُوا مِنْ مَغَازِيهِمْ إِلَى مَرْوَ الشَّاهِجَانَ، فَإِذَا انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ اجْتَمَعَ مُلُوكُ خُرَاسَانَ فِي مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ خراسان مما يلى خارزم، فيتعاقدون الا يَغْزُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلا يُهَيِّجُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَيَتَشَاوَرُونَ فِي أُمُورِهِمْ، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ إِلَى أُمَرَائِهِمْ فِي غَزْوِ تِلَكَ الْمَدِينَةِ فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ خُرَاسَانَ غَزَا فَشَتَا فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَالَ: فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُوَجِّهَهُ إِلَى تِلَكَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَّهَهُ فِي سِتَّةِ آلافٍ- وَيُقَالُ أَرْبَعَةِ آلافٍ- فَحَاصَرَهُمْ، فَسَأَلَهُمْ أَنْ يُذْعِنُوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يُفْدُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَصَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، قَالَ: وَكَانَ فِي صُلْحِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُرُوضًا، فَكَانَ يَأْخُذُ الرَّأْسَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، وَالدَّابَةَ بِنِصْفِ ثَمَنِهَا، وَالْكَيْمَخْتَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَحَظِيَ بِهَا الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمٍ، وَاصْطَفَى سَلْمٌ مِنْ ذَلِكَ مَا أَعْجَبَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى يَزِيدَ مَعَ مَرْزُبَانَ مَرْوَ، وَأَوْفَدَ فِي ذَلِكَ وَفْدًا.
قَالَ مَسْلَمَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ: غَزَا سَلْمٌ سَمَرْقَنْدَ بِامْرَأَتِهِ أُمِّ مُحَمَّدٍ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَوَلَدَتْ لِسَلْمٍ ابْنًا، فَسَمَّاهُ صُغْدِي.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ: ذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ رُشَيْدٍ الْجُوزْجَانِيُّ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ خُزَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ خُوَارَزْمَ، فَصَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ عَبَرَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ فِي غَزَاتِهِ تِلَكَ ابْنًا، وَأَرْسَلَتْ إِلَى امْرَأَةِ صَاحِبِ الصُّغْدِ تَسْتَعِيرُ مِنْهَا حُلِيًّا، فَبَعَثَتْ إِلَيْهَا بِتَاجِهَا، وَقَفَلُوا، فَذَهَبَتْ بِالتَّاجِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلاهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: نزع يَزِيد بن مُعَاوِيَة عَمْرو بن سَعِيد، لهلال ذي الحجة، وأمر الْوَلِيد بن عتبة عَلَى الْمَدِينَة، فحج بِالنَّاسِ حجتين سنة إحدى وستين.
وسنة اثنتين وستين.
وَكَانَ عامل يَزِيد بن مُعَاوِيَة فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْبَصْرَة والكوفة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى الْمَدِينَة فِي آخرها الْوَلِيد بن عتبة، وعلى خُرَاسَان وسجستان سلم بن زياد، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح.
وفيها أظهر ابن الزُّبَيْر الخلاف عَلَى يَزِيد وخلعه وفيها بويع لَهُ
ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وتوليته عَلَيْهَا الْوَلِيد بن عتبة
وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ وسبب إظهار عَبْد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ الدعاء إِلَى نفسه- فِيمَا ذكر هِشَام، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل- قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، 4 قَالَ: لما قتل الحسين ع قام ابن الزُّبَيْر فِي أهل مكة وعظم مقتله، وعاب عَلَى أهل الْكُوفَة خاصة، ولام أهل العراق عامة، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم: إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الْكُوفَة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولوه عَلَيْهِم، فلما قدم عَلَيْهِم ثاروا إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: إما أن تضع يدك فِي أيدينا فنبعث بك إِلَى ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب، فراى وَاللَّهِ أنه هُوَ وأَصْحَابه قليل فِي كثير، وان كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لم يطلع عَلَى الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة عَلَى الحياة الذميمة، فرحم اللَّه حسينا، وأخزى قاتل حُسَيْن! لعمري لقد كَانَ من خلافهم إِيَّاهُ وعصيانهم مَا كَانَ فِي مثله واعظ وناه عَنْهُمْ، ولكنه مَا حم نازل، وإذا أراد اللَّه أمرا لن يدفع أفبعد الْحُسَيْن نطمئن إِلَى هَؤُلاءِ القوم ونصدق قولهم ونقبل لَهُمْ عهدا! لا، وَلا نراهم لذلك أهلا، أما وَاللَّهِ لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا فِي النهار صيامه، أحق بِمَا هم فِيهِ مِنْهُمْ وأولى بِهِ فِي الدين والفضل، أما وَاللَّهِ مَا كَانَ يبدل بالقرآن الغناء، وَلا بالبكاء من خشية اللَّه الحداء، وَلا بالصيام شرب الحرام، وَلا بالمجالس فِي حلق الذكر الركض فِي تطلاب الصيد- يعرض بيزيد- {فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59].
فثار إِلَيْهِ أَصْحَابه فَقَالُوا لَهُ: أيها الرجل أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك حُسَيْن ينازعك هَذَا الأمر وَقَدْ كَانَ يبايع الناس سرا، ويظهر أنه عائذ بالبيت، فَقَالَ لَهُمْ: لا تعجلوا- وعمرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ يَوْمَئِذٍ عامل مكة، وَقَدْ كَانَ أشد شَيْء عَلَيْهِ وعلى أَصْحَابه، وَكَانَ مع شدته عَلَيْهِم يداري ويرفق- فلما استقر عِنْدَ يَزِيد بن مُعَاوِيَة مَا قَدْ جمع ابن الزُّبَيْر من الجموع بمكة، أعطى اللَّه عهدا ليوثقنه فِي سلسلة، فبعث بسلسلة من فضة، فمر بِهَا البريد على مروان بن الحكم بالمدينة، فاخبر خبر مَا قدم لَهُ وبالسلسلة الَّتِي مَعَهُ، فَقَالَ مَرْوَان:
خذها فليست للعزيز بخطة *** وفيها مقال لامرئ متضعف
ثُمَّ مضى من عنده حَتَّى قدم عَلَى ابن الزُّبَيْر، فأتى ابن الزُّبَيْر فأخبره بممر البريد عَلَى مَرْوَان، وتمثل مَرْوَان بهذا البيت، فَقَالَ ابن الزُّبَيْر: لا وَاللَّهِ لا أكون أنا ذَلِكَ المتضعف، ورد ذَلِكَ البريد ردا رقيقا.
وعلا أمر ابن الزُّبَيْر بمكة، وكاتبه أهل الْمَدِينَة، وَقَالَ الناس: أما إذ هلك الْحُسَيْن ع فليس أحد ينازع ابن الزُّبَيْر حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ- وَاللَّفْظُ لِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ- قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بن معاويه بن عَضَاهٍ الأَشْعَرِيَّ وَمَسْعَدَةَ وَأَصْحَابَهُمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ لِيُؤْتَى بِهِ فِي جَامِعَةٍ لِتُبَرَّ يَمِينُ يَزِيدَ، بَعَثَ مَعَهُمْ بِجَامِعَةٍ مِنْ وَرَقٍ وَبُرْنُسِ خَزٍّ، فَأَرْسَلَنِي أَبِي وَأَخِي مَعَهُمْ وَقَالَ: إِذَا بَلَّغَتْهُ رُسُلُ يَزِيدَ الرِّسَالَةَ فَتَعَرَّضَا لَهُ، ثُمَّ لِيَتَمَثَّلَ أَحَدُكُمَا:
فَخُذْهَا فَلَيْسَتْ لِلْعَزِيزِ بخطة *** وفيها مقال لامرئ متذلل
أعامر إن الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً *** وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ بِمَغْزَلِ
أَرَاكَ إِذًا مَا كُنْتَ لِلْقَوْمِ نَاصِحًا *** يُقَالُ لَهُ بِالدِّلْوِ أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ
قَالَ: فَلَمَّا بلغته الرسل الرسالة تعرضنا، فقال لي أَخِي: اكْفِنِيهَا، فَسَمِّعْنِي، فَقَالَ: أَيِ ابْنَيْ مَرْوَانَ، قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتُمَا، وَعَلِمْتُ مَا سَتُقُولانِهِ، فَأَخْبِرَا أَبَاكُمَا:
إِنِّي لِمِنْ نَبَعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا *** إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ وَالْعُشَرَ
فَلا أَلْيَنَ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ *** حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرَ
قَالَ: فَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَعْجَبُ! زَادَ عَبْدُ اللَّهِ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ، قَالَ: فَذَاكَرْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُصْعَبَ بْنَ عَبْدِ الله بْن مصعب بْن ثابت بْن عبد اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ:
قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَهُ، وَلَمْ أَحْفَظْ إِسْنَادَهُ.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ لَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدِ اشْرَأَبُّوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَدُّوا إِلَيْهِ أَعْنَاقَهُمْ، ظَنَّ أَنَّ تِلَكَ الأُمُورَ تَامَّةٌ لَهُ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بن العاص- وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ بِمِصْرَ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ كُتُبَ دَانْيَالَ هُنَالِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إِذْ ذَاكَ تَعُدُّهُ عَالِمًا- فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، أَتَرَى مَا يَطْلُبُ تَامًّا لَهُ؟ وَأَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِي إِلَى مَا تَرَى أَمْرَهُ صَائِرًا إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لا أَرَى صَاحِبُكَ إِلا أَحَدَ الْمُلُوكِ الَّذِينَ تَتِمُّ لَهُمْ أُمُورُهُمْ حَتَّى يَمُوتُوا وَهُمْ مُلُوكٌ فَلَمْ يَزْدَدْ عِنْدَ ذَاكَ إِلا شِدَّةً عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابِهِ، مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ، وَالْمُدَارَاةِ لَهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ وَنَاسًا مَعَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ قَالُوا ليزيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
لَوْ شَاءَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لأَخَذَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَبَعَثَ بِهِ إِلَيْكَ، فَسَرَّحَ الوليد بن عتبة على الحجاز أميرا، وعزل عَمْرًا.
وَكَانَ عَزَلَ يَزِيدُ عَمْرًا عَنِ الْحِجَازِ وَتَأْمِيرِهِ عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، قَالَ أَبُو جَعْفَر: حدثت عن مُحَمَّد بن عُمَرَ قَالَ: نزع يَزِيد عَمْرو بن سَعِيد بن الْعَاصِ لهلال ذي الحجة سنة إحدى وستين وولى الْوَلِيد بن عتبة، فأقام الحجة سنة إحدى وستين بِالنَّاسِ، وأعاد ابن رَبِيعَة العامري عَلَى قضائه.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، قَالَ: حدثت عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قَالَ: حج بِالنَّاسِ فِي سنة إحدى وستين الْوَلِيد بن عتبة، وهذا مما لا اختلاف فِيهِ بين أهل السير.
وَكَانَ الوالي فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْكُوفَة والبصرة عُبَيْد اللَّهِ بن زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة هِشَام بن هبيرة، وعلى خُرَاسَان سلم بن زياد.