فمن ذلك ما كان من إغارة الكرك فيها في البحر على جدة، ذكر ذلك محمد بْن عمر. وفيها ولي عمر بْن حفص بْن عثمان بْن أبي صفرة إفريقية، …
وعزل عن السند وولي موضعه هشام بْن عمرو التغلبي.
ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور عمر بْن حفص عن السند وتوليته إياه إفريقيه واستعماله على السند هشام بْن عمرو
وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن محمد بْن سليمان بْن علي العباسي عن أبيه- أن المنصور ولى عمر بْن حفص الصفري الذي يقال له هزار مرد السند- فأقام بها حتى خرج محمد بْن عبد الله بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، فوجه محمد بْن عبد الله إليه ابنه عبد الله بْن محمد الذي يقال له الأشتر، في نفر من الزيدية إلى البصرة، وأمرهم أن يشتروا مهارة- خيل عتاق بها- ويمضوا بها معهم إلى السند، ليكون سببا له إلى الوصول إلى عمر بْن حفص، وإنما فعل ذلك به لأنه كان فيمن بايعه من قواد أبي جعفر، وكان له ميل إلى آل أبي طالب، فقدموا البصرة على إبراهيم بْن عبد الله، فاشتروا منها مهارة- وليس في بلاد السند والهند شيء أنفق من الخيل العتاق- ومضوا في البحر حتى صاروا إلى السند، ثم صاروا إلى عمر بْن حفص، فقالوا: نحن قوم نخاسون، ومعنا خيل عتاق، فأمرهم أن يعرضوا خيلهم، فعرضوها عليه، فلما صاروا إليه، قَالَ له بعضهم: ادنني منك أذكر لك شيئا، فأدناه منه، وقال له: إنا جئناك بما هو خير لك من الخيل، وما لك فيه خير الدنيا والآخرة، فأعطنا الأمان على خلتين: إما أنك قبلت ما أتيناك به، وإما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج من بلادك راجعين.
فأعطاهم الأمان، فقالوا: ما للخيل أتيناك، ولكن هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بْن حسن بْن حسن، أرسله أبوه إليك، وقد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة وغلب عليها، فقال: بالرحب والسعة، ثم بايعهم له، وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده وكبراء أهل البلد للبيعة، فأجابوه، فقطع الأعلام البيض والأقبية البيض والقلانس البيض، وهيأ لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم خميس، فلما كان يوم الأربعاء إذا حراقة قد وافت من البصرة، فيها رسول لخليدة بنت المعارك- امرأة عمر بْن حفص- بكتاب إليه تخبره بقتل محمد بْن عبد الله، فدخل على عبد الله فأخبره الخبر، وعزاه، ثم قَالَ له: إني كنت بايعت لأبيك، وقد جاء من الأمر ما ترى.
فقال له: إن أمري قد شهر، ومكاني قد عرف، ودمي في عنقك، فانظر لنفسك أودع قَالَ: قد رأيت رأيا، هاهنا ملك من ملوك السند، عظيم المملكة، كثير التبع، وهو على شركه أشد الناس تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقدا، وأوجهك إليه تكون عنده، فلست ترام معه قَالَ: افعل ما شئت، ففعل ذلك، فصار إليه، فأظهر إكرامه وبره برا كثيرا، وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان من أهل البصائر، فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم، فلما قتل محمد وإبراهيم انتهى خبر عبد الله الأشتر إلى المنصور، فبلغ ذلك منه، فكتب إلى عمر بْن حفص يخبره بما بلغه، فجمع عمر بْن حفص قرابته، فقرأ عليهم كتاب المنصور يخبرهم أنه إن أقر بالقصة لم ينظره المنصور أن يعزله، وإن صار إليه قتله، وإن امتنع حاربه فقال له رجل من أهل بيته: ألق الذنب علي، واكتب إليه بخبري، وخذني الساعة فقيدني واحبسني، فإنه سيكتب: احمله إلي، فاحملني إليه، فلم يكن ليقدم علي لموضعك في السند، وحال أهل بيتك بالبصرة قَالَ: إني أخاف عليك خلاف ما تظن، قَالَ: إن قتلت أنا فنفسي فداؤك فإني سخي بها فداء لنفسك، فإن حييت فمن الله فأمر به فقيد وحبس، وكتب إلى المنصور يخبره بذلك، فكتب إليه المنصور يأمره بحمله إليه، فلما صار إليه قدمه فضرب عنقه، ثم مكث يروي من يولي السند! فأقبل يقول: فلان فلان، ثم يعرض عنه، فبينا هو يوما يسير ومعه هشام بْن عمرو التغلبي، والمنصور ينظر إليه في موكبه، إذ انصرف إلى منزله، فلما ألقى ثوبه دخل الربيع فآذنه بهشام فقال: أو لم يكن معي آنفا! قَالَ: ذكر أن له حاجة عرضت مهمة فدعا بكرسي فقعد عليه، ثم أذن له، فلما مثل بين يديه قَالَ: يا أمير المؤمنين، إني انصرفت إلى منزلي من الموكب، فلقيتني أختي فلانة بنت عمرو، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين، فجئت لأعرضها عليه، فأطرق المنصور، وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده، وقال: أخرج يأتك أمري، فلما ولى قَالَ: يا ربيع، لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت أخته وهو قوله:
لا تطلبن خئولة في تغلب *** فالزنج أكرم منهم أخوالا
فأخاف أن تلد لي ولدا، فيعير بهذا البيت، ولكن اخرج إليه، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لو كانت لك لله حاجة إلي لم أعدل عنها غير التزويج، ولو كانت لي حاجة إلى التزويج لقبلت ما أتيتني به، فجزاك الله عما عمدت له خيرا، وقد عوضتك من ذلك ولاية السند وأمره أن يكاتب ذلك الملك، فإن أطاعه وسلم إليه عبد الله بْن محمد، وإلا حاربه وكتب إلى عمر بْن حفص بولايته إفريقية.
فخرج هشام بْن عمرو التغلبي إلى السند فوليها، وأقبل عمر بْن حفص يخوض البلاد حتى صار إلى إفريقية، فلما صار هشام بْن عمرو إلى السند كره أخذ عبد الله، وأقبل يري الناس أنه يكاتب الملك ويرفق به، فاتصلت الأخبار بأبي جعفر بذلك، فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببعض بلاد السند، فوجه إليهم أخاه سفنجا، فخرج يجر الجيش وطريقه بجنبات ذلك الملك، فبينا هو يسير إذا هو برهج قد ارتفع من موكب، فظن أنه مقدمة للعدو الذي يقصد، فوجه طلائعه فرجعت، فقالت: ليس هذا عدوك الذي تريد، ولكن هذا عبد الله بْن محمد الأشتر العلوي ركب متنزها، يسير على شاطئ مهران، فمضى يريده، فقال له نصاحة: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن أخاك تركه متعمدا، مخافة أن يبوء بدمه، ولم يقصدك، إنما خرج متنزها، وخرجت تريد غيره فأعرض عنه، وقال: ما كنت لأدع أحدا يحوزه، ولا أدع أحدا يحظى بالتقرب إلى المنصور بأخذه وقتله.
وكان في عشرة، فقصد قصده، وذمر أصحابه، فحمل عليه، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه بين يديه حتى قتل وقتلوا جميعا، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط بين القتلى، فلم يشعر به وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران لما قتل، لئلا يؤخذ رأسه، فكتب هشام بْن عمرو بذلك كتاب فتح إلى المنصور، يخبره أنه قصده قصدا فكتب إليه المنصور يحمد أمره، ويأمره بمحاربة الملك الذي آواه، وذلك أن عبد الله كان اتخذ جواري، وهو بحضرة ذلك الملك، فأولد منهن واحدة محمد بْن عبد الله- وهو أبو الحسن محمد العلوي الذي يقال له ابن الأشتر- فحاربه حتى ظفر به، وغلب على مملكته وقتله، ووجه بأم ولد عبد الله وابنه إلى المنصور، فكتب المنصور إلى واليه بالمدينة، يخبره بصحة نسب الغلام، وبعث به إليه، وأمره أن يجمع آل أبي طالب، وأن يقرأ عليهم كتابه بصحة نسب الغلام، ويسلمه إلى أقربائه.
وفي هذه السنة قدم على المنصور ابنه المهدي من خراسان، وذلك في شوال منها- فوفد إليه للقائه وتهنئة المنصور بمقدمه عامة أهل بيته، من كان منهم بالشام والكوفة والبصرة وغيرها، فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل مثل ذلك بهم المنصور، وجعل لابنه المهدي صحابة منهم، وأجرى لكل رجل منهم خمسمائة درهم
ذكر خبر بناء المنصور الرصافه
وفي هذه السنة ابتدأ المنصور ببناء الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه محمد المهدي.
ذكر الخبر عن سبب بنائه ذلك له:
ذكر عن أحمد بْن محمد الشروي، عن أبيه، أن المهدي لما قدم من خراسان أمره المنصور بالمقام بالجانب الشرقي، وبنى له الرصافه، وعمل لها سورا وخندقا وميدانا وبستانا، وأجرى له الماء، فكان يجري الماء من نهر المهدي إلى الرصافة.
وأما خالد بْن يزيد بْن وهب بْن جرير بْن خازم، فإنه ذكر أن محمد ابن موسى بْن محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عباس حدثه، أن أباه حدثه، أن الراوندية لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب، دخل عليه قثم بْن العباس بْن عبيد الله بْن العباس- وهو يومئذ شيخ كبير مقدم عند القوم- فقال له أبو جعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا! قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ قَالَ: يا أمير المؤمنين، عندي في هذا رأي إن أنا أظهرته لك فسد، وان تركتني امضيته، صلحت لك خلافتك، وهايك جندك.
فقال له: أفتمضي في خلافتي أمرا لا تعلمني ما هو! فقال له: إن كنت عندك متهما على دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأمونا عليها فدعني أمضي رأيي فقال له: فأمضه قَالَ: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاما له فقال له: إذا كان غدا فتقدمني، فاجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، فاستوقفني واستحلفني بحق رسول الله، وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك، وأغلظ لك القول، فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالمسألة فإني سأشتمك، فلا يروعنك ذلك، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بسوطي، فلا يشق ذلك عليك، فقل لي: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فخل عنان بغلتي وأنت حر.
قَالَ: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره من دار الخليفة، فلما جاء الشيخ فعل الغلام ما أمره به مولاه، وفعل المولى ما كان قاله له، ثم قَالَ له: قل، فقال: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ قَالَ: فقال قثم: مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله قَالَ: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيء من شرفها، فقال له قائد من قواد اليمن: ليس الأمر كذلك مطلقا بغير شرفة ولا فضيلة لليمن، ثم قَالَ لغلامه: قم فخذ بعنان بغله الشيخ، فاكبحها كبحا عنيفا تطامن به منه، قَالَ: ففعل الغلام ما أمره به مولاه حتى كاد أن يقعيها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك مضر، فقالت: أيفعل هذا بشيخنا! فأمر رجل منهم غلامه، فقال: اقطع يد العبد، فقام إلى غلام اليماني فقطع يده، فنفر الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، فصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، والخراسانية فرقة، وربيعة فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك، وجعلتهم أحزابا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثا، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، قَالَ: ما هي؟ قَالَ: اعبر بابنك فأنزله في ذلك الجانب قصرا، وحوله وحول معك من جيشك معه قوما فيصير ذلك بلدا، وهذا بلدا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخراسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها.
قَالَ: فقبل أمره ورأيه، فاستوى له ملكه، وكان ذلك سبب البناء في الجانب الشرقي وفي الرصافة وإقطاع القواد هناك.
قَالَ: وتولى صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، ففعل كفعل أبي العباس الطوسي في فضول القطائع في الجانب الغربي، فله بباب الجسر وسوق يحيى ومسجد خضير وفي الرصافة وطريق الزواريق على دجلة مواضع بناء، بما استوهب من فضل الإقطاع عن أهله، وصالح رجل من أهل خراسان.
وفي هذه السنة جدد المنصور البيعة لنفسه ولابنه محمد المهدي من بعده، ولعيسى بْن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم جمعة، وقد عمهم بالإذن فيه، فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثم يمسح على يد عيسى بْن موسى ولا يقبل يده.
وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الوهاب بْن إبراهيم بْن محمد
امر عقبه بن سلم
وفيها شخص عقبة بْن سلم من البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بْن عقبة إلى البحرين، فقتل سليمان بْن حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم وأسارى منهم إلى أبي جعفر، فقتل منهم عدة ووهب بقيتهم للمهدي، فمن عليهم وأعتقهم، وكسا كل إنسان منهم ثوبين من ثياب مرو ثم عزل عقبة بْن سلم عن البصرة، فذكر عن إفريك- جارية أسد بْن المرزبان- أنها قالت: بعث المنصور أسد بْن المرزبان إلى عقبة بْن سلم إلى البحرين حين قتل منهم من قتل، ينظر في أمره، فمايله ولم يستقص عليه، وورى عنه، فبلغ ذلك أبا جعفر، وبلغه أنه أخذ منه مالا، فبعث إليه أبا سويد الخراساني- وكان صديق أسد- وأخاه، فلما رآه مقبلا على البريد فرح، وكان ناحية من عسكر عقبة، فتطاول له، وقال: صديقي فوقف عليه فوثب ليقوم إليه، فقال له أبو سويد بنشين بنشين، فجلس فقال له: أنت سامع مطيع؟ قَالَ: نعم، قَالَ: مد يدك، فمد يده فضربها فأطنها، ثم مد رجله، ثم مد يده ثم رجله حتى قطع الأربع، ثم قَالَ: مد عنقك فمد فضرب عنقه قالت أفريك: فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فأخذه مني فحمله إلى المنصور فما أكلت إفريك لحما حتى ماتت.
وزعم الواقدي أن أبا جعفر ولى معن بْن زائدة في هذه السنة سجستان.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن إبراهيم بْن محمد بْن علي بْن عبد الله ابن عباس.
وكان العامل على مكة والطائف محمد بن ابراهيم، وعلى المدينة الحسن ابن زيد، وعلى الكوفة محمد بْن سليمان بْن علي، وعلى البصرة جابر بْن توبة الكلابي، وعلى قضائها سوار بْن عبد الله، وعلى مصر يزيد بْن حاتم.