فمما كَانَ فِيهَا مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أبي أرطاة الصائفة، ومقتل حجر بن عدى واصحابه …
ذكر مقتل حجر بن عدي وأَصْحَابه
ذكر سبب مقتله:
قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، عن المجالد بن سعيد، والصقعب ابن زهير، وفضيل بن خديج، والحسين بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجَتْمَعَ حديثهم فِيمَا سقت من حديث حجر ابن عدي الكندي وأَصْحَابه: أن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ لما ولي الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ الْكُوفَة فِي جمادى سنة إحدى وأربعين دعاه، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فإن لذي الحلم قبل الْيَوْم مَا تقرع العصا، وَقَدْ قَالَ المتلمس:
لذي الحلم قبل الْيَوْم مَا تقرع العصا *** وما علم الإنسان إلا ليعلما
وَقَدْ يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وَقَدْ أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادا عَلَى بصرك بِمَا يرضيني ويسعد سلطاني، ويصلح بِهِ رعيتي، ولست تاركا إيصاءك بخصلة: لا تتحم عن شتم علي وذمه، والترحم عَلَى عُثْمَانَ والاستغفار لَهُ، والعيب عَلَى أَصْحَاب علي، والإقصاء لَهُمْ، وترك الاستماع مِنْهُمْ، وبإطراء شيعة عُثْمَان رضوان اللَّه عَلَيْهِ، والإدناء لهم، والاسماع مِنْهُمْ فَقَالَ الْمُغِيرَة: قَدْ جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي دفع وَلا رفع وَلا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم قَالَ:
بل نحمد إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ الصقعب بن زهير: سمعت الشَّعْبِيّ يقول: مَا ولينا وال بعده مثله، وإن كَانَ لاحقا بصالح من كَانَ قبله من العمال.
وأقام الْمُغِيرَة عَلَى الْكُوفَة عاملا لمعاوية سبع سنين وأشهرا، وَهُوَ من أحسن شَيْء سيرة، وأشده حبا للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فِيهِ والعيب لقتلة عُثْمَان، واللعن لَهُمْ، والدعاء لِعُثْمَانَ بالرحمة والاستغفار لَهُ، والتزكية لأَصْحَابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذَلِكَ قَالَ: بل إياكم فذمم اللَّه ولعن! ثُمَّ قام فَقَالَ:
إن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يقول: {كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ} [النساء: 135]، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم فيقول الْمُغِيرَة: يَا حجر، لقد رمي بسهمك، إذ كنت أنا الوالي عَلَيْك، يَا حجر ويحك! اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضبة السلطان أحيانا مما يهلك أمثالك كثيرا ثُمَّ يكف عنه ويصفح.
فلم يزل حَتَّى كَانَ فِي آخر إمارته قام المغيرة فَقَالَ فِي علي وعثمان كما كَانَ يقول، وكانت مقالته: اللَّهُمَّ ارحم عُثْمَان بن عَفَّانَ وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنه نبيك صلى الله عليه وسلم، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقتل مظلوما، اللَّهُمَّ فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه! ويدعو عَلَى قتلته فقام حجر بن عدي فنعر نعرة بالْمُغِيرَة سمعها كل من كَانَ فِي المسجد وخارجا مِنْهُ، وَقَالَ: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك! أيها الإنسان، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنك قَدْ حبستها عنا، وليس ذَلِكَ لك، ولم يكن يطمع فِي ذَلِكَ من كَانَ قبلك، وَقَدْ أصبحت مولعا بذم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وتقريظ المجرمين قَالَ:
فقام مَعَهُ أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق وَاللَّهِ حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنا لا ننتفع بقولك هَذَا، وَلا يجدي علينا شَيْئًا، وأكثروا فِي مثل هَذَا القول ونحوه فنزل الْمُغِيرَة، فدخل واستأذن عَلَيْهِ قومه، فأذن لَهُمْ، فَقَالُوا: علام تترك هَذَا الرجل يقول هَذِهِ المقالة، ويجترئ عَلَيْك فِي سلطانك هَذِهِ الجرأة! إنك تجمع عَلَى نفسك بهذا خصلتين: أما أولهما فتهوين سلطانك، وأما الأخرى فإن ذَلِكَ إن بلغ مُعَاوِيَة كان اسخط له عليه- وَكَانَ أشدهم لَهُ قولا فِي أمر حجر والتعظيم عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ أبي عقيل الثقفي- فَقَالَ لَهُمُ الْمُغِيرَة: إني قَدْ قتلته، إنه سيأتي أَمِير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع بِهِ شبيها بِمَا ترونه يصنع بي، فيأخذه عِنْدَ أول وهلة فيقتله شر قتلة، إنه قَدِ اقترب أجلي، وضعف عملي، وَلا أحب أن أبتدئ أهل هَذَا المصر بقتل خيارهم، وسفك دمائهم، فيسعدوا بِذَلِكَ وأشقى، ويعز فِي الدُّنْيَا مُعَاوِيَة، ويذل يوم الْقِيَامَة الْمُغِيرَة، ولكني قابل من محسنهم، وعاف عن مسيئهم، وحامد حليمهم، وواعظ سفيههم، حَتَّى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكروننى لو قَدْ جربوا العمال بعدي قَالَ أَبُو مخنف: سمعت عُثْمَان بن عُقْبَةَ الكندي، يقول: سمعت شيخا للحي يذكر هَذَا الحديث يقول: قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم، احمدهم للبرىء، وأغفرهم للمسيء، وأقبلهم للعذر.
قَالَ هِشَام: قَالَ عوانة: فولي الْمُغِيرَة الْكُوفَة سنة إحدى وأربعين فِي جمادى، وهلك سنة إحدى وخمسين، فجمعت الْكُوفَة والبصرة لزياد بن أَبِي سُفْيَانَ، فأقبل زياد حَتَّى دخل القصر بالكوفة، ثُمَّ صعد المنبر فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإنا قَدْ جربنا وجربنا، وسسنا وساسنا السائسون، فوجدنا هَذَا الأمر لا يصلح آخره إلا بِمَا صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرها بعلانيتها، وغيب أهلها بشاهدهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لين فِي غير ضعف، وشدة فِي غير عنف، وإني وَاللَّهِ لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته عَلَى أذلاله، وليس من كذبة الشاهد عَلَيْهَا من اللَّه والناس أكبر من كذبة إمام عَلَى الْمِنْبَر ثُمَّ ذكر عُثْمَان وأَصْحَابه فقرظهم، وذكر قتلته ولعنهم فقام حجر ففعل مثل الَّذِي كَانَ يفعل بالْمُغِيرَة، وَقَدْ كَانَ زياد قَدْ رجع إِلَى الْبَصْرَة وولي الْكُوفَة عَمْرو بن الحريث، ورجع إِلَى الْبَصْرَة فبلغه أن حجرا يجتمع إِلَيْهِ شيعة علي، ويظهرون لعن مُعَاوِيَة والبراءة مِنْهُ، وأنهم حصبوا عَمْرو بن الحريث، فشخص إِلَى الْكُوفَةِ حَتَّى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثُمَّ خرج فصعد الْمِنْبَر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر، قَدْ فرق شعره، وحجر جالس فِي المسجد حوله أَصْحَابه أكثر مَا كَانُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فإن غب البغي والغي وخيم، إن هَؤُلاءِ جموا فأشروا، وأمنوني فاجترءوا علي، وايم اللَّه لَئِنْ لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم، وَقَالَ: مَا أنا بشيء إن لم أمنع باحة الْكُوفَة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده! ويل أمك يَا حجر! سقط العشاء بك عَلَى سرحان، ثُمَّ قَالَ:
أبلغ نصيحة أن راعي إبلها *** سقط العشاء بِهِ عَلَى سرحان
وأما غير عوانة، فإنه قَالَ فِي سبب أمر حجر مَا حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَسَنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: خَطَبَ زِيَادٌ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ: الصَّلاةَ! فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: الصَّلاةَ! فَمَضَى فِي خُطْبَتِهِ، فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرٌ فَوْتَ الصَّلاةِ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى كَفٍّ مِنَ الْحَصَا، وَثَارَ إِلَى الصَّلاةِ وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ، وَكَثَّرَ عَلَيْهِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ شُدَّهْ فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ احْمِلْهُ إِلَيَّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ قَوْمُ حُجْرٍ أَنْ يَمْنَعُوهَ، فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، فشد فِي الْحَدِيدِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! أَمَا وَاللَّهِ لا أُقِيلُكَ وَلا أَسْتَقِيلُكَ، أَخْرِجُوهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَأُخْرِجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ حُجْرٌ لِلَّذِينَ يَلُونَ أَمْرَهُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالُوا: صَلِّ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفَّفَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ: لَوْلا أَنْ تَظُنُّوا بِي غير الذى انا عليه لا حببت أَنْ تَكُونَا أَطْوَلَ مِمَّا كَانَتَا، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى مِنَ الصَّلاةِ خَيْرٌ فَمَا فِي هَاتَيْنِ خَيْرٌ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِهِ: لا تُطْلِقُوا عَنِّي حَدِيدًا، وَلا تَغْسِلُوا عَنِّي دَمًا، فَإِنِّي أُلاقِي مُعَاوِيَةَ غَدًا عَلَى الْجَادَّةِ ثُمَّ قَدِمَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
قَالَ مخلد: قَالَ هِشَام: كَانَ مُحَمَّد إذا سئل عن الشهيد يغسل، حدثهم حديث حجر.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فلقيت عَائِشَة أم الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة- قَالَ مخلد: أظنه بمكة- فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَة، أين كَانَ حلمك عن حجر! فَقَالَ لها: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، لم يحضرني رشيد! قَالَ ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ويقول:
يومي مِنْكَ يَا حجر يوم طويل! قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيل بن نعيم النمري، عن حُسَيْن بن عَبْدِ اللَّهِ الهمداني، قَالَ: كنت فِي شرط زياد، فَقَالَ زياد:
لينطلق بعضكم إِلَى حجر فليدعه، قَالَ: فَقَالَ لي أمير الشرطه- وهو شداد ابن الهيثم الهلالي: اذهب إِلَيْهِ فادعه، قَالَ: فأتيته، فقلت: أجب الأمير، فَقَالَ أَصْحَابه: لا يأتيه وَلا كرامة! قَالَ: فرجعت إِلَيْهِ فأخبرته، فأمر صاحب الشرطة أن يبعث معي رجالا، قَالَ: فبعث نفرا، قَالَ: فأتيناه فقلنا: أجب الأمير، قَالَ: فسبونا وشتمونا، فرجعنا إِلَيْهِ فأخبرناه الخبر، قَالَ: فوثب زياد بأشراف أهل الْكُوفَة، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أتشجون بيد وتأسون بأخرى! أبدانكم معي وأهواؤكم مع حجر! هَذَا الهجهاجة الأحمق المذبوب أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر! هَذَا وَاللَّهِ من دحسكم وغشكم! وَاللَّهِ لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم! فوثبوا إِلَى زياد، فَقَالُوا: معاذ اللَّه سُبْحَانَهُ ان يكون لنا فيما هاهنا رأي إلا طاعتك وطاعة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكل مَا ظننا أن فِيهِ رضاك، وما يستبين بِهِ طاعتنا وخلافنا لحجر فمرنا بِهِ، قَالَ: فليقم كل امرئ مِنْكُمْ إِلَى هَذِهِ الجماعة حول حجر فليدع كل رجل مِنْكُمْ أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حَتَّى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ففعلوا ذَلِكَ، فأقاموا جل من كَانَ مع حجر بن عدي، فلما رَأَى زياد أن جل من كَانَ مع حجر أقيم عنه، قَالَ لشداد بن الهيثم الهلالي- ويقال: هيثم بن شداد أَمِير شرطته-: انطلق إِلَى حجر، فإن تبعك فأتني بِهِ، وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق، ثُمَّ يشدوا بِهَا عَلَيْهِم حَتَّى يأتوني بِهِ ويضربوا من حال دونه فأتاه الهلالي فَقَالَ: أجب الأمير، قَالَ: فَقَالَ أَصْحَاب حجر: لا وَلا نعمة عين! لا نجيبه فَقَالَ لأَصْحَابه: شدوا عَلَى عمد السوق، فاشتدوا إِلَيْهَا، فأقبلوا بِهَا قَدِ انتزعوها، فَقَالَ عمير بن يَزِيدَ الكندي من بنى هند- وهو ابو العمر:
إنه ليس معك رجل مَعَهُ سيف غيري، وما يغني عنك! قَالَ: فما ترى؟
قَالَ: قم من هَذَا المكان فالحق بأهلك يمنعك قومك فقام زياد ينظر إِلَيْهِم وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر، فغشوا بالعمد، فضرب رجل من الحمراء- يقال له بكر ابن عبيد- رأس عَمْرو بن الحمق بعمود فوقع، وأتاه أَبُو سُفْيَان بن عويمر والعجلان بن رَبِيعَة- وهما رجلان من الأزد- فحملاه، فأتيا بِهِ دار رجل من الأزد- يقال لَهُ عُبَيْد اللَّهِ بن مالك- فخبأه بِهَا، فلم يزل بِهَا متواريا حَتَّى خرج منها.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي يُوسُف بن يَزِيدَ، عن عَبْد اللَّهِ بن عوف بن الأحمر، قَالَ: لما انصرفنا من غزوة باجميرا قبل مقتل مصعب بعام، فإذا انا باحمرى يسايرنى- وو الله مَا رأيته من ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي ضرب فِيهِ عَمْرو بن الحمق، وما كنت أَرَى لو رأيته أن أعرفه- فلما رأيته ظننت أنه هُوَ هُوَ، وذاك حين نظرنا إِلَى أبيات الْكُوفَة، فكرهت أن أسأله: أنت الضارب عَمْرو بن الحمق؟ فيكابرني، فقلت لَهُ: مَا رأيتك من الْيَوْم الَّذِي ضربت فِيهِ رأس عَمْرو بن الحمق بالعمود فِي المسجد إِلَى يومي هَذَا، وَلَقَدْ عرفتك الآن حين رأيتك، فَقَالَ لي: لا تعدم بصرك، مَا أثبت نظرك! كَانَ ذَلِكَ أمر الشَّيْطَان، أما إنه قَدْ بلغني أنه كَانَ امرأ صالحا، وَلَقَدْ ندمت عَلَى تِلَكَ الضربة، فأستغفر اللَّه فقلت له: الا ترى وَاللَّهِ لا أفترق أنا وأنت حَتَّى أضربك عَلَى رأسك مثل الضربة الَّتِي ضربتها عَمْرو بن الحمق أو أموت أو تموت! فناشدني اللَّه وسألني اللَّه، فأبيت عَلَيْهِ، ودعوت غلاما لي يدعى رشيدا من سبي أصبهان مَعَهُ قناة لَهُ صلبة، فأخذتها مِنْهُ، ثُمَّ أحمل عَلَيْهِ بِهَا، فنزل عن دابته، وألحقه حين استوت قدماه بالأرض، فأصفع بِهَا هامته، فخر لوجهه، ومضيت وتركته، فبرأ بعد، فلقيته مرتين من الدهر، كل ذَلِكَ يقول: اللَّه بيني وبينك! وأقول: اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بينك وبين عَمْرو بن الحمق! ثُمَّ رجع إِلَى أول الحديث قَالَ: فلما ضرب عمرا تِلَكَ الضربة وحمله ذانك الرجلان، انحاز أَصْحَاب حجر إِلَى أبواب كندة، ويضرب رجل من جذام كَانَ فِي الشرطة رجلا يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ بعمود، فضربه ضربة فصرعه، فَقَالَ وَهُوَ يرتجز:
قَدْ علمت يوم الهياج خلتي *** أني إذا مَا فِئتي تولت
وكثرت عداتها أو قلت *** أنيَ قتال غداة بلت
وضربت يد عائذ بن حملة التميمي وكسرت نابه، فَقَالَ:
إن تكسروا نابي وعظم ساعدي *** فإن فيّ سورة المناجد
وبعض شغب البطل المبالد.
وينتزع عمودا من بعض الشرطة، فقاتل بِهِ وحمى حجرا وأَصْحَابه، حَتَّى خرجوا من تلقاء أبواب كندة، وبغلة حجر موقوفة، فأتى بِهَا أَبُو العمرطة إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اركب لا أب لغيرك! فو الله مَا أراك إلا قَدْ قتلت نفسك، وقتلتنا معك، فوضع حجر رجله فِي الركاب، فلم يستطع أن ينهض، فحمله أَبُو العمرطة عَلَى بغلته، ووثب أَبُو العمرطة عَلَى فرسه، فما هُوَ إلا أن استوى عَلَيْهِ حَتَّى انتهى إِلَيْهِ يَزِيد بن طريف المسلي- وَكَانَ يغمز- فضرب أبا العمرطة بالعمود عَلَى فخذه، ويخترط أَبُو العمرطة سيفه، فضرب بِهِ رأس يَزِيد بن طريف، فخر لوجهه ثُمَّ إنه برأ بعد، فله يقول عَبْد اللَّهِ بن همام السلولي:
الؤم ابن لؤم مَا عدا بك حاسرا *** إِلَى بطل ذي جراه وشكيم!
معاود ضرب الدار عين بسيفه *** عَلَى الهام عِنْدَ الروع غير لئيم
إِلَى فارس الغارين يوم تلاقيا *** بصفين قرم خير نجل قروم
حسبت ابن برصاء الحتار قتاله *** قتالك زَيْدا يوم دار حكيم
وَكَانَ ذَلِكَ السيف أول سيف ضرب بِهِ فِي الْكُوفَة فِي الاختلاف بين الناس ومضى حجر وأبو العمرطة حَتَّى انتهيا إِلَى دار حجر، واجتمع إِلَى حجر ناس كثير من أَصْحَابه، وخرج قيس بن فهدان الكندي عَلَى حمار لَهُ يسير فِي مجالس كندة، يقول:
يَا قوم حجر دافعوا وصاولوا *** وعن أخيكم ساعة فقاتلوا
لا يلفيا مِنْكُمْ لحجر خاذل *** أليس فيكم رامح ونابل
وفارس مستلئم وراجل *** وضارب بالسيف لا يزايل!
فلم يأته من كندة كثير أحد وَقَالَ زياد وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَر: ليقم همدان وتميم وهوازن وأبناء أعصر ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة، فليمضوا من ثمَّ إِلَى حجر فليأتوني بِهِ ثُمَّ إنه كره أن يسير طائفة من مضر مع طائفة من أهل اليمن فيقع بينهم شغب واختلاف، وتفسد مَا بينهم الحمية، فَقَالَ: لتقم تميم وهوازن وأبناء أعصر وأسد وغطفان، ولتمض مذحج وهمدان إِلَى جبانة كندة، ثُمَّ لينهضوا إِلَى حجر فليأتوني بِهِ، وليسر سائر أهل اليمن حَتَّى ينزلوا جبانة الصائديين فليمضوا إِلَى صاحبهم، فليأتوني بِهِ فخرجت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وقضاعة، فنزلوا جبانة الصائديين، ولم تخرج حضرموت مع أهل اليمن لمكانهم من كندة، وَذَلِكَ أن دعوة حضرموت مع كندة، فكرهوا الخروج فِي طلب حجر.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيد بن مخنف، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مخنف، قَالَ: إني لمع أهل اليمن فِي جبانة الصائديين إذ اجتمع رءوس أهل اليمن يتشاورون فِي أمر حجر، فَقَالَ لَهُمْ عبد الرَّحْمَن بن مخنف: أنا مشير عَلَيْكُمْ برأي إن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم، أَرَى لكم أن تلبثوا قليلا فإن سرعان شباب همدان ومذحج يكفونكم مَا تكرهون أن تلوا من مساءة قومكم فِي صاحبكم قَالَ: فأجمع رأيهم عَلَى ذلك، قال: فو الله مَا كَانَ إلا كلا وَلا حَتَّى أتينا، فقيل لنا: إن مذحج وهمدان قَدْ دخلوا فأخذوا كل من وجدوا من بني جبلة قَالَ: فمر أهل اليمن فِي نواحي دور كنده معذره، فبلغ ذَلِكَ زيادا، فأثنى عَلَى مذحج وهمدان وذم سائر أهل اليمن وإن حجرا لما انتهى إِلَى داره فنظر إِلَى قلة من مَعَهُ من قومه، وبلغه أن مذحج وهمدان نزلوا جبانة كندة وسائر أهل اليمن جبانة الصائديين قال لأصحابه: انصرفوا فو الله ما لكم طاقة بمن قَدِ اجتمع عَلَيْكُمْ من قومكم، وما أحب أن أعرضكم للهلاك، فذهبوا لينصرفوا، فلحقتهم أوائل خيل مذحج وهمدان فعطف عَلَيْهِم عمير بن يَزِيدَ وقيس بن يَزِيدَ وعبيدة بن عَمْرو البدي وعبد الرَّحْمَن بن محرز الطمحي وقيس ابن شمر، فتقاتلوا معهم، فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا، وأسر قيس بن يَزِيدَ، وأفلت سائر القوم، فَقَالَ لَهُمْ حجر: لا أبا لكم! تفرقوا لا تقاتلوا فإني آخذ فِي بعض السكك ثُمَّ آخذ طريقا نحو بني حرب، فسار حَتَّى انتهى إِلَى دار رجل مِنْهُمْ يقال لَهُ سليم بن يَزِيدَ، فدخل داره، وجاء القوم فِي طلبه حَتَّى انتهوا إِلَى تِلَكَ الدار، فأخذ سليم بن يَزِيدَ سيفه، ثُمَّ ذهب ليخرج إِلَيْهِم، فبكت بناته، فَقَالَ لَهُ حجر: مَا تريد؟ قَالَ: أريد وَاللَّهِ أسألهم أن ينصرفوا عنك، فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هَذَا مَا ثبت قائمه فِي يدي دونك، فَقَالَ حجر: لا أبا لغيرك! بئس مَا دخلت بِهِ إذا عَلَى بناتك! قَالَ: انى والله ما اموتهن، وَلا رزقهن إلا عَلَى الحي الَّذِي لا يموت، وَلا أشتري العار بشيء أبدا، وَلا تخرج من داري أسيرا أبدا وأنا حي أملك قائم سيفي، فإن قتلت دونك فاصنع مَا بدا لك قَالَ حجر: أما فِي دارك هَذِهِ حائط أقتحمه، أو خوخة أخرج منها، عسى أن يسلمني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ ويسلمك، فإذا القوم لم يقدروا علي عندك لم يضروك! قَالَ:
بلى هَذِهِ خوخة تخرجك إِلَى دور بني العنبر وإلى غيرهم من قومك، فخرج حَتَّى مر ببني ذهل، فَقَالُوا لَهُ: مر القوم آنفا فِي طلبك يقفون أثرك.
فَقَالَ: مِنْهُمْ أهرب، قَالَ: فخرج وَمَعَهُ فتية مِنْهُمْ يتقصون بِهِ الطريق، ويسلكون بِهِ الأزقة حَتَّى أفضى إِلَى النخع، فَقَالَ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: انصرفوا رحمكم اللَّه! فانصرفوا عنه، وأقبل إِلَى دار عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث أخي الأَشْتَر فدخلها، فإنه لكذلك قَدْ ألقى لَهُ الفرش عَبْد اللَّهِ، وبسط لَهُ البسط، وتلقاه ببسط الوجه، وحسن البشر، إذ أتى فقيل لَهُ: إن الشرط تسأل عنك فِي النخع- وَذَلِكَ أن أمة سوداء يقال لها: أدماء، لقيتهم، فَقَالَتْ: من تطلبون؟ قالوا: نطلب حجرا، قالت: ها هو ذا قَدْ رأيته فِي النخع، فانصرفوا نحو النخع- فخرج من عِنْدَ عَبْد اللَّهِ متنكرا، وركب مَعَهُ عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث ليلا حَتَّى أتى دار رَبِيعَة بن ناجد الأَزْدِيّ فِي الأزد، فنزلها يَوْمًا وليلة، فلما أعجزهم أن يقدروا عَلَيْهِ دعا زياد بمُحَمَّد بن الأشعث فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا ميثاء، أما وَاللَّهِ لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها، وَلا دارا إلا هدمتها ثُمَّ لا تسلم مني حَتَّى أقطعك إربا إربا، قَالَ: أمهلني حَتَّى أطلبه، قَالَ:
قَدْ أمهلتك ثلاثا، فإن جئت بِهِ وإلا عد نفسك مع الهلكى وأخرج مُحَمَّد نحو السجن منتقع اللون يتل تلا عنيفا، فَقَالَ حجر بن يَزِيدَ الكندي لزياد: ضمنيه وخل سبيله يطلب صاحبه، فإنه مخلى سربه- أحرى أن يقدر عَلَيْهِ مِنْهُ إذا كَانَ محبوسا فَقَالَ أتضمنه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أما وَاللَّهِ لَئِنْ حاص عنك لأزيرنك شعوب، وإن كنت الآن علي كريما.
قَالَ: إنه لا يفعل، فخلي سبيله ثُمَّ إن حجر بن يَزِيدَ كلمه فِي قيس بن يَزِيدَ، وَقَدْ أتي بِهِ أسيرا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا عَلَى قيس بأس، قَدْ عرفنا رأيه فِي عُثْمَان، وبلاءه يوم صفين مع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ: إني قَدْ علمت إنك لم تقاتل مع حجر، أنك ترى رأيه، ولكن قاتلت مَعَهُ حمية قَدْ غفرتها لك لما أعلم من حسن رأيك، وحسن بلائك، ولكن لن أدعك حَتَّى تأتيني بأخيك عمير، قَالَ: أجيئك بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فهات من يضمنه لي معك، قَالَ: هَذَا حجر بن يَزِيدَ يضمنه لك معي، قَالَ حجر بن يَزِيدَ:
نعم أضمنه لك، عَلَى أن تؤمنه عَلَى ماله ودمه، قَالَ: ذَلِكَ لك، فانطلقا فأتيا بِهِ وَهُوَ جريح، فأمر بِهِ فأوقر حديدا، ثُمَّ أخذته الرجال ترفعه، حتى إذا بلغ سررها ألقوه، فوقع عَلَى الأرض، ثُمَّ رفعوه وألقوه، ففعلوا بِهِ ذَلِكَ مرارا، فقام إِلَيْهِ حجر بن يَزِيدَ فَقَالَ: ألم تؤمنه عَلَى ماله ودمه أصلحك اللَّه! قَالَ: بلى، قَدْ آمنته عَلَى ماله ودمه، ولست أهريق لَهُ دما، ولا آخذ لَهُ مالا قَالَ: أصلحك اللَّه! يشفى بِهِ عَلَى الموت، ودنا مِنْهُ وقام من كَانَ عنده من أهل اليمن، فدنوا مِنْهُ وكلموه، فَقَالَ: أتضمنونه لي بنفسه، فمتى مَا أحدث حدثا أتيتموني بِهِ؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: وتضمنون لي أرش ضربة المسلي، قَالُوا: ونضمنها، فخلي سبيله.
ومكث حجر بن عدي فِي منزل رَبِيعَة بن ناجد الأَزْدِيّ يَوْمًا وليلة، ثُمَّ بعث حجر إِلَى مُحَمَّد بن الأشعث غلاما لَهُ يدعى رشيدا من أهل أصبهان:
إنه قَدْ بلغني مَا استقبلك بِهِ هَذَا الجبار العنيد، فلا يهولنك شَيْء من أمره، فإني خارج إليك، أجمع نفرا من قومك ثُمَّ أدخل عَلَيْهِ فأسأله أن يؤمنني حَتَّى يبعث بي إِلَى مُعَاوِيَةَ فيرى فِي رأيه.
فخرج ابن الأشعث إِلَى حجر بن يَزِيدَ وإلى جرير بن عَبْدِ اللَّهِ وإلى عَبْد اللَّهِ بن الْحَارِث أخي الأَشْتَر، فأتاهم فدخلوا إِلَى زياد فكلموه وطلبوا إِلَيْهِ أن يؤمنه حَتَّى يبعث بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ فيرى فِيهِ رأيه، ففعل، فبعثوا إِلَيْهِ رسوله ذَلِكَ يعلمونه أن قَدْ أخذنا الَّذِي تسأل، وأمروه أن يأتي، فأقبل حَتَّى دخل عَلَى زياد فَقَالَ زياد: مرحبا بك أبا عبد الرَّحْمَن! حرب فِي أيام الحرب، وحرب وَقَدْ سَالم الناس! عَلَى أهلها تجني براقش قَالَ: مَا خالعت طاعة، وَلا فارقت جماعة، وإني لعلى بيعتي، فَقَالَ: هيهات هيهات يَا حجر! تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكن اللَّه مِنْكَ أن نرضى! كلا وَاللَّهِ.
قَالَ: ألم تؤمني حَتَّى آتى مُعَاوِيَة فيرى فِي رأيه! قَالَ: بلى قَدْ فعلنا، انطلقوا بِهِ إِلَى السجن، فلما قفي بِهِ من عنده قَالَ زياد: أما وَاللَّهِ لولا أمانة مَا برح أو يلفظ مهجة نفسه.
قَالَ هِشَام بن عروة: حَدَّثَنِي عوانة، قَالَ: قَالَ زياد: والله لا حرصن عَلَى قطع خيط رقبته.
قَالَ هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد بن سعيد، عن الشَّعْبِيِّ وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق، أن حجرا لما قفي بِهِ من عِنْدَ زياد نادى بأعلى صوته: اللَّهُمَّ إني عَلَى بيعتي، لا أقيلها وَلا أستقيلها، سماع اللَّه والناس وَكَانَ عَلَيْهِ برنس فِي غداة باردة، فحبس عشر ليال، وزياد ليس لَهُ عمل إلا طلب رؤساء أَصْحَاب حجر، فخرج عَمْرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حَتَّى نزلا المدائن، ثُمَّ ارتحلا حَتَّى أتيا أرض الموصل، فأتيا جبلا فكمنا فِيهِ، وبلغ عامل ذَلِكَ الرستاق أن رجلين قَدْ كمنا فِي جانب الجبل، فاستنكر شأنهما- وَهُوَ رجل من همدان يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بن أبي بلتعة- فسار إليهما فِي الخيل نحو الجبل وَمَعَهُ أهل البلد، فلما انتهى إليهما خرجا، فأما عَمْرو بن الحمق فكان مريضا، وَكَانَ بطنه قَدْ سقى، فلم يكن عنده امتناع، وأما رفاعة بن شداد- وَكَانَ شابا قويا- فوثب عَلَى فرس لَهُ جواد، فَقَالَ لَهُ: أقاتل عنك؟ قَالَ: وما ينفعني أن تقاتل! انج بنفسك إن استطعت، فحمل عَلَيْهِم، فأفرجوا لَهُ، فخرج تنفر بِهِ فرسه، وخرجت الخيل فِي طلبه- وَكَانَ راميا- فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره، فانصرفوا عنه، وأخذ عَمْرو بن الحمق، فسألوه:
من أنت؟ فَقَالَ: من إن تركتموه كَانَ أسلم لكم، وإن قتلتموه كَانَ أضر لكم، فسألوه: فأبى أن يخبرهم، فبعث بِهِ ابن أبي بلتعة إِلَى عامل الموصل- وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الثقفي- فلما رَأَى عَمْرو بن الحمق عرفه، وكتب إِلَى مُعَاوِيَةَ بخبره، فكتب إِلَيْهِ مُعَاوِيَة: أنه زعم انه طعن عثمان ابن عَفَّانَ تسع طعنات بمشاقص كَانَتْ مَعَهُ، وإنا لا نريد أن نعتدي عَلَيْهِ، فأطعنه تسع طعنات كما طعن عُثْمَان، فأخرج فطعن تسع طعنات، فمات فِي الأولى منهن أو الثانية قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي الْمُجَالِد، عَنِ الشَّعْبِيِّ وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق قَالَ: وجه زياد فِي طلب أَصْحَاب حجر، فأخذوا يهربون مِنْهُ، ويأخذ من قدر عَلَيْهِ مِنْهُمْ، فبعث إِلَى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب الشرطة- وَهُوَ شداد بن الهيثم- فدعا قبيصة فِي قومه، وأخذ سيفه، فأتاه ربعي بن خراش بن جحش العبسي ورجال من قومه ليسوا بالكثير، فاراد ان يقاتل، فقال له صاحب الشرطة: أنت آمن عَلَى دمك ومالك، فلم تقتل نفسك؟ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: قَدْ أومنت، فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك! قَالَ: ويحكم! إن هَذَا الدعي ابن العاهرة، وَاللَّهِ لَئِنْ وقعت فِي يده لا أفلت مِنْهُ أبدا أو يقتلني، قَالُوا: كلا، فوضع يده فِي أيديهم، فأقبلوا بِهِ إِلَى زياد، فلما دخلوا عليه قال زياد: وحى عبس تعزوني عَلَى الدين، أما وَاللَّهِ لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن، والتوثب عَلَى الأمراء، قَالَ: إني لم آتك إلا عَلَى الأمان، قَالَ: انطلقوا بِهِ إِلَى السجن، وجاء قيس بن عباد الشيباني إِلَى زياد فَقَالَ لَهُ: إن امرأ منا من بني همام يقال لَهُ: صيفي بن فسيل من رءوس أَصْحَاب حجر، وَهُوَ أشد الناس عَلَيْك، فبعث إِلَيْهِ زياد، فأتي بِهِ، فَقَالَ لَهُ زياد: يَا عدو اللَّه، مَا تقول فِي أبي تراب؟ قَالَ: مَا أعرف أبا تراب، قَالَ: مَا أعرفك بِهِ! قَالَ: مَا أعرفه، قَالَ: أما تعرف عَلِيّ بن أبي طالب؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فذاك أَبُو تراب، قَالَ: كلا، ذاك أَبُو الحسن والحسين، فَقَالَ لَهُ صاحب الشرطة:
يقول لك الأمير: هُوَ أَبُو تراب، وتقول أنت: لا! قَالَ: وإن كذب الأمير أتريد أن أكذب وأشهد لَهُ عَلَى باطل كما شهد! قَالَ لَهُ زياد: وهذا أَيْضًا مع ذنبك! علي بالعصا، فاتى بها، فقال: ما قولك في على؟، قَالَ: أحسن قول أنا قائله فِي عبد من عباد الله اقوله فِي الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: اضربوا عاتقه بالعصا حَتَّى يلصق بالأرض، فضرب حَتَّى لزم الأرض ثُمَّ قَالَ: اقلعوا عنه، إيه، مَا قولك في على؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسي والمدى مَا قلت إلا مَا سمعت مني، قَالَ لتلعننه أو لأضربن عنقك، قَالَ:
إذا تضربها وَاللَّهِ قبل ذَلِكَ، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بِاللَّهِ، وشقيت أنت، قَالَ: ادفعوا فِي رقبته، ثُمَّ قَالَ: أوقروه حديدا، وألقوه فِي السجن.
ثُمَّ بعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ- وَكَانَ شهد مع حجر وقاتلهم قتالا شديدا- فبعث إِلَيْهِ زياد بكير بن حمران الأحمري- وَكَانَ تبيع العمال- فبعثه فِي أناس من أَصْحَابه، فأقبلوا فِي طلبه فوجدوه فِي مسجد عدي بن حاتم، فأخرجوه، فلما أرادوا أن يذهبوا بِهِ- وَكَانَ عزيز النفس- امتنع مِنْهُمْ فحاربهم وقاتلهم، فشجوه ورموه بالحجارة حَتَّى سقط، فنادت ميثاء أخته:
يَا معشر طيئ، أتسلمون ابن خليفة لسانكم وسنانكم! فلما سمع الأحمري نداءها خشي أن تجتمع طيئ فيهلك، فهرب وخرج نسوة من طيئ فأدخلنه دارا، وينطلق الأحمري حَتَّى أتى زيادا فَقَالَ: إن طيئا اجتمعت إلي فلم أطقهم، فأتيتك، فبعث زياد إِلَى عدي- وَكَانَ فِي المسجد- فحبسه وَقَالَ: جئني بِهِ- وَقَدْ أخبر عدي بخبر عَبْد اللَّهِ- فَقَالَ عدي:
كيف آتيك برجل قَدْ قتله القوم؟ قَالَ: جئني حَتَّى أَرَى أن قَدْ قتلوه، فاعتل لَهُ وَقَالَ: لا أدري أين هُوَ، وَلا مَا فعل! فحبسه، فلم يبق رجل من أهل المصر من أهل اليمن وربيعة ومضر إلا فزع لعدي، فأتوا زيادا فكلموه فِيهِ، وأخرج عَبْد اللَّهِ فتغيب فِي بحتر، فأرسل إِلَى عدي: إن شئت أن أخرج حَتَّى أضع يدي فِي يدك فعلت، فبعث إِلَيْهِ عدي: وَاللَّهِ لو كنت تحت قدمي مَا رفعتهما عنك فدعا زياد عديا، فَقَالَ لَهُ: إني أخلي سبيلك عَلَى ان تجعل لي لتنفيه من الْكُوفَة، ولتسير بِهِ إِلَى الجبلين، قَالَ: نعم، فرجع وأرسل إِلَى عَبْد اللَّهِ بن خليفة: اخرج، فلو قَدْ سكن غضبه لكلمته فيك حَتَّى ترجع إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فخرج إِلَى الجبلين.
وأتي زياد بكريم بن عفيف الخثعمي فقال: ما اسمك؟ قال: انا كريم ابن عفيف، قَالَ: ويحك، أو ويلك! مَا أحسن اسمك واسم أبيك، وأسوأ عملك ورأيك! قَالَ: أما وَاللَّهِ إن عهدك برأيي لمنذ قريب، ثُمَّ بعث زياد إِلَى أَصْحَاب حجر حَتَّى جمع اثني عشر رجلا فِي السجن ثُمَّ إنه دعا رءوس الأرباع، فَقَالَ: اشهدوا عَلَى حجر بِمَا رأيتم مِنْهُ- وَكَانَ رءوس الأرباع يَوْمَئِذٍ: عَمْرو بن حريث عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة، وخالد بن عرفطة عَلَى ربع تميم وهمدان، وقيس بن الْوَلِيد بن عبد شمس بن الْمُغِيرَة عَلَى ربع رَبِيعَة وكندة، وأبو بردة بن أبي مُوسَى عَلَى مذحج وأسد- فشهد هَؤُلاءِ الأربعة أن حجرا جمع إِلَيْهِ الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إِلَى حرب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وزعم أن هَذَا الأمر لا يصلح إلا فِي آل أبي طالب، ووثب بالمصر وأخرج عامل أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عَلَيْهِ، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ مَعَهُ هم رءوس أَصْحَابه، وعلى مثل رأيه وأمره ثُمَّ أمر بهم ليخرجوا، فأتاه قيس بن الْوَلِيد فَقَالَ: إنه قَدْ بلغني أن هَؤُلاءِ إذا خرج بهم عرض لَهُمْ فبعث زياد إِلَى الكناسة فابتاع إبلا صعابا، فشد عَلَيْهَا المحامل، ثُمَّ حملهم عَلَيْهَا فِي الرحبة أول النهار، حَتَّى إذا كَانَ العشاء قَالَ زياد: من شاء فليعرض، فلم يتحرك مِنَ النَّاسِ أحد، ونظر زياد فِي شهادة الشهود فَقَالَ: مَا أظن هَذِهِ الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي الْحَارِث بن حصيرة، عن أبي الكنود- وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن عبيد- وأبو مخنف، عن عبد الرَّحْمَن بن جندب وسُلَيْمَان بن أبي راشد، عن أبي الكنود بأسماء هَؤُلاءِ الشهود: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا شهد عَلَيْهِ أَبُو بردة بن أبي مُوسَى لِلَّهِ رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إِلَى الحرب والفتنة، وجمع إِلَيْهِ الجموع يدعوهم إِلَى نكث البيعة وخلع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة، وكفر بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كفرة صلعاء.
فَقَالَ زياد: عَلَى مثل هَذِهِ الشهادة فاشهدوا، أما وَاللَّهِ لأجهدن عَلَى قطع خيط عنق الخائن الأحمق، فشهد رءوس الارباع الثلاثة الآخرون عَلَى مثل شهادته- وكانوا أربعة- ثُمَّ إن زيادا دعا الناس فَقَالَ: اشهدوا عَلَى مثل شهادة رءوس الأرباع فقرأ عَلَيْهِم الكتاب، فقام أول الناس عناق بن شُرَحْبِيل بن أبي دهم التيمي تيم اللَّه بن ثعلبة، فَقَالَ: بينوا اسمي، فَقَالَ زياد: ابدءوا بأسامي قريش، ثُمَّ اكتبوا اسم عناق فِي الشهود، ومن نعرفه ويعرفه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بالنصيحة والاستقامة.
فشهد إِسْحَاق بن طَلْحَة بن عُبَيْد اللَّهِ، وموسى بن طلحه، واسماعيل بن طلحه ابن عُبَيْد اللَّهِ، والمنذر بن الزُّبَيْرِ، وعمارة بن عقبه بن ابى معيط، وعبد الرحمن ابن هناد، وعمر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، وعامر بن مسعود بن أُمَيَّة بن خلف، ومحرز بن جارية بن رَبِيعَة بن عبد العزى بن عبد شمس، وعبيد اللَّه بن مسلم ابن شُعْبَةَ الحضرمي، وعناق بن شُرَحْبِيل بن أبي دهم، ووائل بن حجر الحضرمي، وكثير بن شهاب بن حصين الحارثي، وقطن بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حصين، والسري بن وَقَّاص الحارثي- وكتب شهادته وَهُوَ غائب فِي عمله- والسائب بن الأقرع الثقفى، وشبث بن ربعي، وعبد اللَّه بن أبي عقيل الثقفي، ومصقلة بن هبيرة الشيباني، والقعقاع بن شور الذهلي، وشداد بن المنذر بن الْحَارِث بن وعلة الذهلي- وَكَانَ يدعى ابن بزيعة، فَقَالَ:
مَا لهذا أب ينسب إِلَيْهِ! ألقوا هَذَا من الشهود، فقيل لَهُ: إنه أخو الحضين، وَهُوَ ابن المنذر، قَالَ: فانسبوه إِلَى أَبِيهِ، فنسب إِلَى أَبِيهِ، فبلغت شدادا، فَقَالَ: ويلي على ابن الزانية! او ليست أمه أعرف من أَبِيهِ! وَاللَّهِ مَا ينسب إلا إِلَى أمه سمية وحجار بن أبجر العجلي فغضبت رَبِيعَة عَلَى هَؤُلاءِ الشهود الَّذِينَ شهدوا من رَبِيعَة وَقَالُوا لَهُمْ: شهدتم عَلَى أوليائنا وحلفائنا! فَقَالُوا:
مَا نحن إلا مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ شهد عَلَيْهِم ناس من قومهم كثير- وعمرو بن الحجاج الزبيدي ولبيد بن عطارد التميمي، ومُحَمَّد بن عمير بن عطارد التميمي، وسويد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ التميمي من بني سعد، وأسماء بن خارجة الفزاري- كَانَ يعتذر من أمره- وشمر بن ذي الجوشن العامري، وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان، ومحفز بن ثعلبة من عائذة قريش، والهيثم بن الأَسْوَدِ النخعي- وَكَانَ يعتذر إِلَيْهِم- وعبد الرَّحْمَن بن قيس الأسدي، والحارث وشداد ابنا الأزمع الهمدانيان، ثُمَّ الوادعيان، وكريب بن سلمة بن يَزِيدَ الجعفي، وعبد الرَّحْمَن بن أبي سبرة الجعفي، وزحر بن قيس الجعفي، وقدامة بن العجلان الأَزْدِيّ وعزرة بن عزرة الأحمسي- ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن الْمُغِيرَة بن شُعْبَةَ ليشهدوا عَلَيْهِ، فراغا- وعمر بن قيس ذي اللحية وهانئ بن أبي حية الوادعيان.
فشهد عَلَيْهِ سبعون رجلا، فَقَالَ زياد: ألقوهم إلا من قَدْ عرف بحسب وصلاح فِي دينه، فألقوا حَتَّى صيروا إِلَى هَذِهِ العدة، وألقيت شهادة عَبْد اللَّهِ بن الحجاج الثعلبى، وكتبت شهادة هَؤُلاءِ الشهود فِي صحيفة، ثُمَّ دفعها إِلَى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي، وبعثهما عَلَيْهِم، وأمرهما أن يخرجا بهم وكتب في الشهود شريح ابن الْحَارِث القاضي وشريح بن هانئ الحارثي، فأما شريح فَقَالَ: سألني عنه، فأخبرته أنه كَانَ صواما قواما، واما شريح بن هاني الحارثي فكان يقول: مَا شهدت، وَلَقَدْ بلغني أن قَدْ كتبت شهادتي، فأكذبته ولمته، وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرج القوم عشية، وسار معهم صاحب الشرطة حَتَّى أخرجهم من الْكُوفَة.
فلما انتهوا إِلَى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إِلَى داره وَهِيَ فِي جبانة عرزم، فإذا بناته مشرفات، فَقَالَ لوائل وكثير: ائذنا لي فأوصي أهلي، فأذنا لَهُ، فلما دنا منهن وهن يبكين، سكت عنهن ساعة ثُمَّ قَالَ: اسكتن، فسكتن، فَقَالَ: اتقين اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واصبرن، فإني أرجو من ربي فِي وجهي هَذَا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إما الشهادة، وَهِيَ السعادة، وإما الانصراف إليكن فِي عافية، وإن الذى كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هُوَ اللَّه تعالى- وَهُوَ حي لا يموت- أرجو أَلا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ثُمَّ انصرف فمر بقومه، فجعل القوم يدعون اللَّه لَهُ بالعافية، فَقَالَ: إنه لمما يعدل عندي خطر مَا أنا فِيهِ هلاك قومي يقول: حيث لا ينصرونني، وكان رجاء ان يتخلصوه.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح العبسي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الحر الجعفي، قَالَ: وَاللَّهِ إني لواقف عِنْدَ باب السري بن أَبِي وَقَّاص حين مروا بحجر وأَصْحَابه، قَالَ: فقلت: أَلا عشرة رهط استنقذ بهم هَؤُلاءِ! أَلا خمسة! قَالَ: فجعل يتلهف، قَالَ: فلم يجبني أحد مِنَ النَّاسِ، قَالَ:
فمضوا بهم حَتَّى انتهوا بهم إِلَى الغريين، فلحقهم شريح بن هانئ مَعَهُ كتاب، فَقَالَ لكثير: بلغ كتابي هَذَا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا فِيهِ؟
قَالَ: لا تسألني فِيهِ حاجتي، فأبى كثير وَقَالَ: مَا أحب أن آتي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بكتاب لا أدري مَا فِيهِ، وعسى الا يوافقه! فأتى بِهِ وائل بن حجر فقبله مِنْهُ ثُمَّ مضوا بهم حَتَّى انتهوا بهم إِلَى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلا.
تسمية الَّذِينَ بعث بهم إِلَى مُعَاوِيَةَ
حجر بن عدي بن جبلة الكندي، والأرقم بن عَبْدِ اللَّهِ الكندي من بني الأرقم، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، من بني عَامِر بن شهران ثُمَّ من قحافة، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرَّحْمَن بن حسان العنزيان من بني هميم، ومحرز بن شهاب التميمي من بني منقر، وعبد اللَّه بن حوية السعدي من بني تميم، فمضوا بهم حَتَّى نزلوا مرج عذراء، فحبسوا بها ثم ان زيادا أتبعهم برجلين آخرين مع عَامِر بن الأَسْوَدِ العجلي، بعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسعيد بن نمران الهمداني ثُمَّ الناعطي، فتموا أربعة عشر رجلا، فبعث مُعَاوِيَة إِلَى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما، وفض كتابهما، فقرأه عَلَى أهل الشام، فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لعبد اللَّه مُعَاوِيَة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من زياد بن أَبِي سُفْيَانَ أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه قَدْ أحسن عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ البلاء، فكاد لَهُ عدوه، وكفاه مؤنة من بغى عليه ان طواغيت من هذه الترابية السبئيه، رأسهم حجر بن عدي خالفوا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وفارقوا جماعة الْمُسْلِمِينَ، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا اللَّه عَلَيْهِم، وأمكننا مِنْهُمْ، وَقَدْ دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي السن والدين مِنْهُمْ، فشهدوا عَلَيْهِم بِمَا رأوا وعملوا، وَقَدْ بعثت بهم إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم فِي أسفل كتابي هَذَا.
فلما قرأ الكتاب وشهادة الشهود عَلَيْهِم، قَالَ: ماذا ترون فِي هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ شهد عَلَيْهِم قومهم بِمَا تستمعون؟ فَقَالَ لَهُ يَزِيد بن أسد البجلي: أَرَى أن تفرقهم فِي قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها.
ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هانئ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فقرأه فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لعبد اللَّه مُعَاوِيَة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ من شريح بن هانئ أَمَّا بَعْدُ، فإنه بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي عَلَى حجر بن عدي، وأن شهادتي عَلَى حجر أنه ممن يقيم الصَّلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه فقرأ كتابه عَلَى وائل بن حجر وكثير، فَقَالَ:
مَا أَرَى هَذَا إلا قَدْ أخرج نفسه من شهادتكم فحبس القوم بمرج عذراء، وكتب مُعَاوِيَة إِلَى زياد: أَمَّا بَعْدُ، فقد فهمت مَا اقتصصت بِهِ من أمر حجر وأَصْحَابه، وشهادة من قبلك عَلَيْهِم، فنظرت فِي ذَلِكَ، فأحيانا أَرَى قتلهم أفضل من تركهم، وأحيانا أَرَى العفو عَنْهُمْ أفضل من قتلهم والسلام.
فكتب إِلَيْهِ زياد مع يَزِيد بن حجية بن رَبِيعَة التيمي: أَمَّا بَعْدُ، فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك فِي حجر وأَصْحَابه، فعجبت لاشتباه الأمر عَلَيْك فِيهِمْ، وَقَدْ شهد عَلَيْهِم بِمَا قَدْ سمعت من هُوَ أعلم بهم، فإن كَانَتْ لك حاجة فِي هَذَا المصر فلا تردن حجرا وأَصْحَابه إلي.
فأقبل يَزِيد بن حجية حَتَّى مر بهم بعذراء فَقَالَ: يَا هَؤُلاءِ، أما وَاللَّهِ مَا أَرَى براءتكم، وَلَقَدْ جئت بكتاب فِيهِ الذبح، فمروني بِمَا أحببتم مما ترون أنه لكم نافع أعمل بِهِ لكم وأنطق بِهِ فَقَالَ حجر: أبلغ مُعَاوِيَة أنا عَلَى بيعتنا، لا نستقيلها وَلا نقيلها، وأنه إنما شهد علينا الأعداء والأظناء.
فقدم يَزِيد بالكتاب إِلَى مُعَاوِيَةَ فقرأه، وبلغه يَزِيد مقالة حجر، فَقَالَ مُعَاوِيَة: زياد أصدق عندنا من حجر، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أم الحكم الثقفي- ويقال: عُثْمَان بن عمير الثقفي: جذاذها جذاذها، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: لا تعن أبرا فخرج أهل الشام وَلا يدرون مَا قَالَ مُعَاوِيَة وعبد الرَّحْمَن، فأتوا النُّعْمَان بن بشير فَقَالُوا لَهُ مقالة ابن أم الحكم، فَقَالَ النُّعْمَان: قتل القوم، وأقبل عَامِر بن الأَسْوَدِ العجلي وَهُوَ بعذراء يريد مُعَاوِيَة ليعلمه علم الرجلين اللذين بعث بهما زياد، فلما ولى ليمضي قام إِلَيْهِ حجر بن عدي يرسف فِي القيود، فَقَالَ: يَا عَامِر، اسمع مني، أبلغ مُعَاوِيَة أن دماءنا عَلَيْهِ حرام، وأخبره أنا قَدْ أومنا وصالحناه، فليتق اللَّه، ولينظر فِي أمرنا فَقَالَ لَهُ نحوا من هَذَا الكلام، فأعاد عَلَيْهِ حجر مرارا، فكان الآخر عرض، فَقَالَ قَدْ فهمت لك- أكثرت، فَقَالَ لَهُ حجر: إني مَا سمعت بعيب، وعلى أية تلوم! إنك وَاللَّهِ تحبى وتعطى، وأن حجرا يقدم ويقتل، فلا ألومك ان تستقل كلامي، اذهب عنك، فكأنه استحيا، فَقَالَ: لا والله ما ذلك بي، ولابلغن ولا جهدن، وكأنه يزعم أنه قَدْ فعل، وأن الآخر ابى فدخل عَامِر عَلَى مُعَاوِيَة فأخبره بأمر الرجلين قَالَ: وقام يَزِيد بن أسد البجلي فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي ابني عمي- وَقَدْ كَانَ جرير بن عَبْدِ اللَّهِ كتب فيهما: ان امرءين من قومي من أهل الجماعة والرأي الْحَسَن، سعى بهما ساع ظنين إِلَى زياد، فبعث بهما فِي النفر الكوفيين الَّذِينَ وجه بهم زياد إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وهما ممن لا يحدث حدثا فِي الإِسْلام وَلا بغيا عَلَى الخليفة، فلينفعهما ذَلِكَ عِنْدَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ- فلما سألهما يَزِيد ذكر مُعَاوِيَة كتاب جرير، فَقَالَ: قَدْ كتب إلي ابن عمك فيهما جرير، محسنا عليهما الثناء، وَهُوَ أهل أن يصدق قوله، وتقبل نصيحته، وَقَدْ سألتني ابني عمك، فهما لك وطلب وائل بن حجر فِي الأرقم فتركه لَهُ، وطلب أَبُو الأعور السلمي فِي عتبة بن الأخنس فوهبه لَهُ، وطلب حمرة بن مالك الهمدانى في سعيد ابن نمران الهمداني فوهبه لَهُ، وكلمه حبيب بن مسلمة فِي ابن حوية، فخلى سبيله.
وقام مالك بن هبيرة السكوني، فَقَالَ لمعاوية: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دع لي ابن عمي حجرا، فَقَالَ: إن ابن ابن عمك حجرا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصري، فيضطرنا غدا إِلَى أن نشخصك وأَصْحَابك إِلَيْهِ بِالْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ مَا أنصفتني يَا مُعَاوِيَة، قاتلت معك ابن عمك فتلقاني مِنْهُمْ يوم كيوم صفين، حَتَّى ظفرت كفك، وعلا كعبك ولم تخف الدوائر، ثُمَّ سألتك ابن عمي فسطوت وبسطت من القول بِمَا لا أنتفع بِهِ، وتخوفت فِيمَا زعمت عاقبة الدوائر! ثُمَّ انصرف فجلس فِي بيته، فبعث مُعَاوِيَة هدبة بن فياض القضاعي من بنى سلامان بن سعد والحصين ابن عَبْدِ اللَّهِ الكلابي وأبا شريف البدي، فأتوهم عِنْدَ المساء، فَقَالَ الخثعمي حين رَأَى الأعور مقبلا: يقتل نصفنا وينجو نصفنا، فَقَالَ سَعِيد بن نمران:
اللَّهُمَّ اجعلني ممن ينجو وأنت عني راض، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حسان العنزي: اللهم اجعلنى ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راض، فطالما عرضت نفسي للقتل، فأبى اللَّه إلا مَا أراه! فَجَاءَ رسول مُعَاوِيَة إِلَيْهِم بتخلية ستة وبقتل ثمانية، فَقَالَ لَهُمْ رسول مُعَاوِيَة: إنا قَدْ أمرنا أن نعرض عَلَيْكُمُ البراءة من علي واللعن لَهُ، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يزعم أن دماءكم قَدْ حلت لَهُ بشهادة أهل مصركم عَلَيْكُمْ، غير أنه قَدْ عفا عن ذَلِكَ، فابرءوا من هَذَا الرجل نخل سبيلكم قَالُوا: اللَّهُمَّ إنا لسنا فاعلي ذَلِكَ فأمر بقبورهم فحفرت، وأدنيت أكفانهم، وقاموا الليل كله يصلون، فلما أصبحوا قَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة: يَا هَؤُلاءِ، لقد رأيناكم البارحة قَدْ أطلتم الصَّلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا مَا قولكم فِي عُثْمَان؟ قَالُوا: هُوَ أول من جار فِي الحكم، وعمل بغير الحق، فَقَالَ أَصْحَاب مُعَاوِيَة: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كَانَ أعلم بكم، ثُمَّ قاموا إِلَيْهِم فَقَالُوا: تبرءون من هَذَا الرجل! قَالُوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ مِنْهُ، فأخذ كل رجل مِنْهُمْ رجلا ليقتله، ووقع قبيصة بن ضبيعة فِي يدي أبي شريف البدي، فَقَالَ لَهُ قبيصة: ان الشربين قومي وقومك أمن، فليقتلني سواك، فَقَالَ لَهُ: برتك رحم! فأخذ الحضرمي فقتله، وقتل القضاعي قبيصة بن ضبيعة.
قَالَ: ثُمَّ إن حجرا قَالَ لَهُمْ: دعوني أتوضأ، قَالُوا لَهُ: توضأ، فلما أن توضأ قَالَ لَهُمْ: دعوني أصل ركعتين فايمن اللَّه مَا توضأت قط إلا صليت ركعتين، قالوا: لتصل، فصلى، ثُمَّ انصرف فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا صليت صلاة قط أقصر منها، ولولا أن تروا أن مَا بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنا نستعديك عَلَى أمتنا، فإن أهل الْكُوفَة شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما وَاللَّهِ لَئِنْ قتلتموني بِهَا إني لأول فارس مِنَ الْمُسْلِمِينَ هلك فِي واديها، وأول رجل مِنَ الْمُسْلِمِينَ نبحته كلابها فمشى إِلَيْهِ الأعور هدبة بن فياض بالسيف، فأرعدت خصائله، فَقَالَ: كلا، زعمت أنك لا تجزع من الموت، فأنا أدعك فابرأ من صاحبك، فَقَالَ: ما لي لا أجزع وأنا أَرَى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا، وإني وَاللَّهِ إن جزعت من القتل لا أقول مَا يسخط الرب فقتله، وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حَتَّى قتلوا ستة فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي: ابعثوا بنا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فنحن نقول فِي هَذَا الرجل مثل مقالته، فبعثوا إِلَى مُعَاوِيَةَ يخبرونه بمقالتهما، فبعث إِلَيْهِم أن ائتوني بهما.
فلما دخلا عَلَيْهِ قَالَ الخثعمي: اللَّه اللَّه يَا مُعَاوِيَة، فإنك منقول من هَذِهِ الدار الزائلة إِلَى الدار الآخرة الدائمة، ثُمَّ مسئول عما أردت بقتلنا، وفيم سفكت دماءنا، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا تقول فِي علي؟ قَالَ: أقول فِيهِ قولك، قَالَ: أتبرأ من دين علي الَّذِي كَانَ يدين اللَّه بِهِ؟ فسكت، وكره مُعَاوِيَة أن يجيبه وقام شمر بن عَبْدِ اللَّهِ من بني قحافة، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هب لي ابن عمي، قَالَ: هُوَ لك، غير أني حابسه شهرا، فكان يرسل إِلَيْهِ بين كل يومين فيكلمه، وَقَالَ لَهُ: إني لأنفس بك عَلَى العراق أن يكون فِيهِمْ مثلك.
ثُمَّ إن شمرا عاوده فِيهِ الكلام، فَقَالَ: نمرك عَلَى هبة ابن عمك، فدعاه فخلى سبيله على الا يدخل إِلَى الْكُوفَةِ مَا كَانَ لَهُ سلطان، فَقَالَ: تخير أي بلاد العرب أحب إليك أن أسيرك إِلَيْهَا، فاختار الموصل، فكان يقول:
لو قَدْ مات مُعَاوِيَة قدمت المصر، فمات قبل مُعَاوِيَة بشهر.
ثُمَّ أقبل عَلَى عبد الرَّحْمَن العنزي فَقَالَ: إيه يَا أخا رَبِيعَة! مَا قولك فِي علي؟ قَالَ: دعني وَلا تسألني فإنه خير لك، قَالَ: وَاللَّهِ لا أدعك حَتَّى تخبرني عنه، قَالَ: أشهد أنه كَانَ من الذاكرين اللَّه كثيرا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس، قَالَ: فما قولك فِي عُثْمَان؟ قَالَ: هُوَ أول من فتح باب الظلم، وأرتج أبواب الحق، قَالَ:
قتلت نفسك، قَالَ: بل إياك قتلت، وَلا رَبِيعَة بالوادي- يقول حين كلم شمر الخثعمي فِي كريم بن عفيف الخثعمي، ولم يكن لَهُ أحد من قومه يكلمه فِيهِ- فبعث بِهِ مُعَاوِيَة إِلَى زياد، وكتب إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فإن هَذَا العنزي شر من بعثت، فعاقبه عقوبته الَّتِي هُوَ أهلها واقتله شر قتلة.
فلما قدم بِهِ عَلَى زياد بعث بِهِ زياد إِلَى قس الناطف، فدفن بِهِ حيا.
قَالَ: ولما حمل العنزي والخثعمي إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ العنزي لحجر:
يَا حجر، لا يبعدنك اللَّه، فنعم أخو الإِسْلام كنت! وَقَالَ الخثعمي:
لا تبعد وَلا تفقد، فقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ثُمَّ ذهب بهما وأتبعهما بصره، وَقَالَ: كفى بالموت قطاعا لحبل القرائن! فذهب بعتبة بن الأخنس وسعيد بن نمران بعد حجر بأيام، فخلى سبيلهما
تسمية من قتل من أَصْحَاب حجر رحمه اللَّه
حجر بن عدي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي ثُمَّ المنقري، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرَّحْمَن بن حسان العنزي، فبعث بِهِ إِلَى زياد فدفن حيا بقس الناطف، فهم سبعة قتلوا وكفنوا وصلى عَلَيْهِم.
[قَالَ: فزعموا أن الْحَسَن لما بلغه قتل حجر وأَصْحَابه، قَالَ: صلوا عَلَيْهِم، وكفنوهم، واستقبلوا بهم القبلة، قَالُوا: نعم، قَالَ: حجوهم ورب الكعبة!]
تسمية من نجا مِنْهُمْ
كريم بن عفيف الخثعمي، وعبد اللَّه بن حوية التميمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، والأرقم بن عَبْدِ اللَّهِ الكندي، وعتبة بن الأخنس، من بني سَعِيد بن بكر، وسعيد بن نمران الهمداني فهم سبعة.
وَقَالَ مالك بن هبيرة السكوني حين أبى مُعَاوِيَة أن يهب لَهُ حجرا وَقَدِ اجتمع إِلَيْهِ قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لنحن أغنى عن مُعَاوِيَة من مُعَاوِيَة عنا، وإنا لنجد فِي قومه مِنْهُ بدلا، وَلا يجد منا فِي الناس خلفا، سيروا إِلَى هَذَا الرجل فلنخله من أيديهم، فأقبلوا يسيرون ولم يشكوا أَنَّهُمْ بعذراء لم يقتلوا، فاستقبلتهم قتلتهم قَدْ خرجوا منها، فلما رأوه فِي الناس ظنوا إنما جَاءَ بهم ليخلص حجرا من أيديهم، فَقَالَ لَهُمْ: مَا وراءكم؟ قَالَ: تاب القوم، وجئنا لنخبر مُعَاوِيَة.
فسكت عَنْهُمْ، ومضى نحو عذراء، فاستقبله بعض من جَاءَ منها فأخبره أن القوم قَدْ قتلوا، فَقَالَ: علي بالقوم! وتبعتهم الخيل وسبقوهم حَتَّى دخلوا عَلَى مُعَاوِيَة فأخبروه خبر مَا أتى لَهُ مالك بن هبيرة ومن مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُمْ مُعَاوِيَة: اسكنوا، فإنما هي حرارة يجدها فِي نفسه، وكأنها قَدْ طفئت، ورجع مالك حَتَّى نزل فِي منزله، ولم يأت مُعَاوِيَة، فأرسل إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فأبى أن يأتيه، فلما كَانَ الليل بعث إِلَيْهِ بمائة ألف درهم، وَقَالَ لَهُ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لم يمنعه أن يشفعك فِي ابن عمك إلا شفقة عَلَيْك وعلى أَصْحَابك أن يعيدوا لكم حربا أخرى، وأن حجر بن عدي لو قَدْ بقي خشيت أن يكلفك وأَصْحَابك الشخوص إِلَيْهِ، وأن يكون ذَلِكَ من البلاء عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ أعظم من قتل حجر، فقبلها، وطابت نفسه، وأقبل إِلَيْهِ من غده فِي جموع قومه حَتَّى دخل عَلَيْهِ ورضي عنه.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الملك بن نوفل بن مساحق، أن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعثت عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي حجر وأَصْحَابه، فقدم عَلَيْهِ وَقَدْ قتلهم، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قَالَ: غاب عني حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل: كَانَتْ عَائِشَة تقول: لولا أنا لم تغير شَيْئًا إلا آلت بنا الأمور إِلَى أشد مما كنا فِيهِ لغيرنا قتل حجر، أما وَاللَّهِ إن كَانَ مَا علمت لمسلما حجاجا معتمرا قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْد الْمَلِكِ بن نوفل، عن سَعِيد المقبري، أن مُعَاوِيَة حين حج مر عَلَى عَائِشَة- رضوان اللَّه عَلَيْهَا- فاستأذن عَلَيْهَا، فأذنت لَهُ، فلما قعد قالت لَهُ: يَا مُعَاوِيَة، أأمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟
قَالَ: بيت الأمن دخلت، قالت: يَا مُعَاوِيَة، أما خشيت اللَّه فِي قتل حجر وأَصْحَابه؟ قَالَ: لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عَلَيْهِم.
قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إِسْحَاق، قَالَ:
أدركت الناس وهم يقولون: إن أول ذل دخل الْكُوفَة موت الْحَسَن بن علي وقتل حجر بن عدي، ودعوة زياد.
قَالَ أَبُو مخنف: وزعموا أن مُعَاوِيَة قَالَ عِنْدَ موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل! ثلاث مرات- يعني حجرا.
قَالَ أَبُو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن الْحَسَن، قَالَ: أربع خصال كن فِي مُعَاوِيَة، لو لَمْ يَكُنْ فِيهِ منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه عَلَى هَذِهِ الأمة بالسفهاء حَتَّى ابتزها أمرها بغير مشورة مِنْهُمْ وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة، واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر،] وقتله حجرا، ويلا لَهُ من حجر! مرتين وقالت هند ابنة زَيْد بن مخرمة الأنصارية، وكانت تشيع ترثي حجرا:
ترفع أيها القمر المنير *** تبصر هل ترى حجرا يسير
يسير إِلَى مُعَاوِيَةَ بن حرب *** ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجبابر بعد حجر *** وطاب لها الخورنق والسدير
واصبحت البلاد بها محولا *** كأن لم يحيها مزن مطير
أَلا يَا حجر حجر بني عدي *** تلقتك السلامة والسرور
أخاف عَلَيْك مَا أردى عديا *** وشيخا فِي دمشق لَهُ زئير
يرى قتل الخيار عَلَيْهِ حقا *** لَهُ من شر أمته وزير
أَلا يَا ليت حجرا مات موتا *** ولم ينحر كما نحر البعير!
فان تهلك فكل زعيم قوم *** من الدُّنْيَا إِلَى هلك يصير
وقالت الكندية ترثي حجرا- ويقال: بل قائلها هَذِهِ الأنصارية:
دموع عيني ديمة تقطر *** تبكي عَلَى حجر وما تفتر
لو كَانَتِ القوس عَلَى أسره *** مَا حمل السيف لَهُ الأعور
وَقَالَ الشاعر يحرض بني هند من بني شيبان عَلَى قيس بن عباد حين سعى بصيفي بن فسيل:
دعا ابن فسيل يال مرة دعوة *** ولاقى ذباب السيف كفا ومعصما
فحرض بني هند إذا مَا لقيتهم *** وقل لغياث وابنه يتكلما
لتبك بني هند قتيلة مثل مَا *** بكت عرس صيفي وتبعث مأتما
غياث بن عِمْرَان بن مُرَّةَ بن الْحَارِث بن دب بن مُرَّةَ بن ذهل بن شيبان، وَكَانَ شريفا، وقتيلة أخت قيس بن عباد، فعاش قيس بن عباد حَتَّى قاتل مع ابن الأشعث فِي مواطنه، فَقَالَ حوشب للحجاج بن يُوسُفَ: إن منا امرأ صاحب فتن ووثوب عَلَى السلطان، لم تكن فتنة فِي العراق قط إلا وثب فِيهَا، وَهُوَ ترابي، يلعن عُثْمَان، وَقَدْ خرج مع ابن الأشعث فشهد مَعَهُ فِي مواطنه كلها، يحرض الناس حَتَّى إذا أهلكهم اللَّه، جَاءَ فجلس فِي بيته، فبعث إِلَيْهِ الحجاج فضرب عنقه، فَقَالَ بنو أَبِيهِ لآل حوشب: إنما سعيتم بنا سعيا، فَقَالُوا لَهُمْ: وَأَنْتُمْ إنما سعيتم بصاحبنا سعيا.
فَقَالَ أَبُو مخنف: وَقَدْ كَانَ عَبْد اللَّهِ بن خليفة الطَّائِيّ شهد مع حجر ابن عدي، فطلبه زياد فتوارى، فبعث إِلَيْهِ الشرط، وهم أهل الحمراء يَوْمَئِذٍ، فأخذوه، فخرجت أخته النوار فَقَالَتْ: يَا معشر طيئ، أتسلمون سنانكم ولسانكم عَبْد اللَّهِ بن خليفة! فشد الطائيون عَلَى الشرط فضربوهم وانتزعوا مِنْهُمْ عَبْد اللَّهِ بن خليفة، فرجعوا إِلَى زياد، فأخبروه، فوثب على عدى ابن حاتم وَهُوَ فِي المسجد، فَقَالَ: ائتني بعبد اللَّه بن خليفة، قَالَ: وما لَهُ! فأخبره، قَالَ: فهذا شَيْء كَانَ فِي الحي لا علم لي بِهِ، قَالَ: وَاللَّهِ لتأتيني بِهِ، قَالَ: لا، وَاللَّهِ لا آتيك بِهِ أبدا، أجيئك بابن عمي تقتله! وَاللَّهِ لو كان تحت قدمي مَا رفعتهما عنه قَالَ: فأمر بِهِ إِلَى السجن، قَالَ: فلم يبق بالكوفة يماني وَلا ربعي إلا أتاه وكلمه، وَقَالُوا: تفعل هَذَا بعدي بن حاتم صاحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم! قَالَ: فإني أخرجه عَلَى شرط، قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الْكُوفَة مَا دام لي بِهَا سلطان فأتى عدي فأخبر بِذَلِكَ، فَقَالَ: نعم، فبعث عدى الى عبد الله ابن خليفه فقال: يا بن أخي، إن هَذَا قَدْ لج فِي أمرك، وَقَدْ أبى إلا إخراجك عن مصرك مَا دام لَهُ سلطان، فالحق بالجبلين، فخرج، فجعل عبد الله ابن خليفة يكتب إِلَى عدي، وجعل عدي يمنيه، فكتب إِلَيْهِ:
تذكرت لَيْلَى والشبيبة أعصرا *** وذكر الصبا برح عَلَى من تذكرا
وولى الشباب فافتقدت غضونه *** فيا لك من وجد بِهِ حين ادبرا!
فدع عنك تذكار الشباب وفقده *** وآثاره إذ بان مِنْكَ فأقصرا
وبك عَلَى الخلان لما تخرموا *** ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا
دعتهم مناياهم ومن حان يومه *** مِنَ النَّاسِ فاعلم أنه لن يؤخرا
أُولَئِكَ كَانُوا شيعة لي وموئلا *** إذا الْيَوْم ألفي ذا احتدام مذكرا
وما كنت أهوى بعدهم متعللا *** بشيء من الدُّنْيَا وَلا أن أعمرا
أقول وَلا وَاللَّهِ أنسى ادكارهم *** سجيس الليالي أو أموت فأقبرا
عَلَى أهل عذراء السلام مضاعفا *** من اللَّه وليسق الغمام الكنهورا
ولاقى بِهَا حجر من اللَّه رحمة *** فقد كَانَ أرضى اللَّه حجر وأعذرا
وَلا زال تهطال ملث وديمة *** عَلَى قبر حجر أو ينادى فيحشرا
فيا حجر من للخيل تدمى نحورها *** وللملك المغزي إذا مَا تغشمرا
ومن صادع بالحق بعدك ناطق *** بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا
فنعم أخو الإِسْلام كنت وإنني *** لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا
وَقَدْ كنت تعطي السيف فِي الحرب حقه *** وتعرف معروفا وتنكر منكرا
فيا أخوينا من هميم عصمتما *** ويسرتما للصالحات فأبشرا
ويا أخوي الخندفيين أبشرا *** فقد كنتما حييتما أن تبشرا
ويا إخوتا من حضرموت وغالب *** وشيبان لقيتم حسابا ميسرا
سعدتم فلم أسمع بأصوب مِنْكُمْ *** حجاجا لدى الموت الجليل وأصبرا
سأبكيكم مَا لاح نجم وغرد *** الحمام ببطن الواديين وقرقرا
فقلت ولم أظلم أغوث بن طيئ *** متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا!
هبلتم أَلا قاتلتم عن أخيكم *** وَقَدْ ذب حَتَّى مال ثُمَّ تجورا
ففرجتم عني فغودرت مسلما *** كأني غريب فِي إياد وأعصرا
فمن لكم مثلي لدى كل غارة *** ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا
ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت *** وأوضع فيها المستميت وشمرا
فها انا ذا داري بأجبال طيئ *** طريدا ولو شاء الإله لغيرا
نفاني عدوي ظالما عن مهاجري *** رضيت بِمَا شاء الإله وقدرا
وأسلمني قومي لغير جناية *** كأن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا
فإن ألف فِي دار بأجبال طيئ *** وَكَانَ معانا من عصير ومحضرا
فما كنت أخشى أن أَرَى متغربا *** لحا اللَّه من لاحى عَلَيْهِ وكثرا
لحا اللَّه قتل الحضرميين وائلا *** ولاقى الفنا من السنان الموفرا
ولاقى الردى القوم الَّذِينَ تحزبوا *** علينا وَقَالُوا قول زور ومنكرا
فلا يدعني قوم لغوث بن طيئ *** لأن دهرهم أشقى بهم وتغيرا
فلم اغزهم فِي المعلمين ولم أثر *** عَلَيْهِم عجاجا بالكويفة أكدرا
فبلغ خليلي أن رحلت مشرقا *** جديلة والحيين معنا وبحترا
ونبهان والأفناء من جذم طيئ *** ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا!
الم تذكروا يوم العذيب أليتي *** امامكم الا أَرَى الدهر مدبرا!
وكري عَلَى مهران والجمع حاسر *** وقتلي الهمام المستميت المسورا
ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم *** ويوم نهاوند الفتوح وتسترا
وتنسونني يوم الشريعة والقنا *** بصفين فِي أكتافهم قَدْ تكسرا
جزى ربه عني عدي بن حاتم *** برفضي وخذلاني جزاء موفرا
أتنسى بلائي سادرا يا بن حاتم *** عشية مَا أغنت عديك حزمرا!
فدافعت عنك القوم حَتَّى تخاذلوا *** وكنت أنا الخصم الألد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما *** رأوني ليثا بالأباءة مخدرا
نصرتكم إذ خام القريب وأبعط *** البعيد وَقَدْ أفردت نصرا مؤزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم *** سجينا وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدة لي مِنْكَ انك راجعي *** فلم تعن بالميعاد عني حبترا
فأصبحت أرعى النيب طورا وتارة *** أهرهر إن راعي الشويهات هرهرا
كأنيَ لم أركب جوادا لغارة *** ولم أترك القرن الكمي مقطرا
ولم أعترض بالسيف خيلا مغيرة *** إذا النكس مشى القهقرى ثُمَّ جرجرا
ولم أستحث الركض فِي إثر عصبة *** ميممة عُليا سجاس وأبهرا
ولم أذعر الإبلام مني بغارة *** كورد القطا ثُمَّ انحدرت مظفرا
ولم أر فِي خيل تطاعن بالقنا *** بقزوين أو شروين أو أغز كندرا
فذلك دهر زال عني حميده *** وأصبح لي معروفه قَدْ تنكرا
فلا يبعدن قومي وإن كنت غائبا *** وكنت المضاع فِيهِمْ والمكفرا
وَلا خير فِي الدُّنْيَا وَلا العيش بعدهم *** وإن كنت عَنْهُمْ نائي الدار محصرا
فمات بالجبلين قبل موت زياد.
وَقَالَ عبيدة الكندي ثُمَّ البدي، وَهُوَ يعير مُحَمَّد بن الأشعث بخذلانه حجرا:
أسلمت عمك لم تقاتل دونه *** فرقا ولولا أنت كَانَ منيعا
وقتلت وافد آل بيت مُحَمَّد *** وسلبت أسيافا لَهُ ودروعا
لو كنت من أسد عرفت كرامتي *** ورأيت لي بيت الحباب شفيعا
ذكر استعمال الربيع بن زياد على خراسان
وفي هَذِهِ السنة وجه زياد الربيع بن زياد الحارثي أميرا عَلَى خُرَاسَان بعد موت الحكم بن عَمْرو الْغِفَارِيّ، وَكَانَ الحكم قَدِ استخلف عَلَى عمله بعد موته أنس بن أبي أناس، وأنس هُوَ الَّذِي صلى عَلَى الحكم حين مات فدفن فِي دار خَالِد بن عَبْدِ اللَّهِ أخي خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي، وكتب بِذَلِكَ الحكم إِلَى زياد، فعزل زياد أنسا، وولى مكانه خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قَالَ: لما عزل زياد أنسا وولي مكانه خليد بن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي قَالَ أنس:
أَلا من مبلغ عني زيادا *** مغلغلة يخب بِهَا البريد
أتعزلني وتطعمها خليدا *** لقد لاقت حنيفة مَا تريد
عَلَيْكُمْ باليمامة فاحرثوها *** فأولكم وآخركم عبيد
فولى خليدا شهرا ثُمَّ عزله، وولى خُرَاسَان ربيع بن زياد الحارثي فِي أول سنة إحدى وخمسين، فنقل الناس عيالاتهم إِلَى خُرَاسَان، ووطنوا بِهَا، ثُمَّ عزل الربيع.
فَحدثني عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، عَنْ مَسْلَمَةَ بن محارب وعبد الرحمن ابن أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، قَالا: قَدِمَ الرَّبِيعُ خُرَاسَانَ فَفَتَحَ بَلْخَ صُلْحًا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوهَا بَعْدَ مَا صَالَحَهُمُ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَفَتَحَ قُهُسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَتْ بِنَاحِيَتِهَا أَتْرَاكٌ، فَقَتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ نَيْزَكُ طَرْخَانَ، فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي وِلايَتِهِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا علي، قَالَ: غزا الربيع فقطع النهر وَمَعَهُ غلامه فروخ وجاريته شريفة، فغنم وَسَلَّمَ، فأعتق فروخا، وَكَانَ قَدْ قطع النهر قبله الحكم بن عَمْرو فِي ولايته ولم يفتح.
فَحَدَّثَنِي عمر، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ أول الْمُسْلِمِينَ شرب من النهر مولى للحكم، اغترف بترسه فشرب، ثُمَّ ناول الحكم فشرب، وتوضأ وصلى من وراء النهر ركعتين، وَكَانَ أول الناس فعل ذَلِكَ، ثُمَّ قفل.
وحج بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السنة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، حَدَّثَنِي بِذَلِكَ أَحْمَد بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قَالَ الْوَاقِدِيُّ.
وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق كله زياد، وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة عميرة بن يثربي